شرح العقيدة الطحاوية [72]


الحلقة مفرغة

نحمد الله على ما أولى من النعم، ودفع من النقم، نحمد الله على أن من علينا بفضله ومنّ علينا بعطائه ومد في آجالنا، وبلغنا آمالنا، ونحمده على أن هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونحمده سبحانه أن من علينا بالفطرة الحسنة، وبالشريعة الإسلامية، وبالعقيدة السنية، وبالطريقة المحمدية، وبالهداية إلى الصراط المستقيم، الذي من سلكه فاز ونجا، ومن حاد عنه تردى وهلك، نحمد الله أن جعلنا من أهل السنة، وأن حمانا وحفظنا من البدع والمنكرات والمحدثات التي تخالف السنة وتنافي الشريعة الدينية.

لا شك أنها نعمة عظيمة، لا شك أنها من أكبر النعم، حيث وفقنا الله تعالى أن كنا من أهل السنة، أن عرفنا طريق النجاة، سبل السلام، الطريق السوي، الصراط المستقيم، وحرم ذلك خلقاً كثيراً، هناك الكثير من الدول ومن القبائل ومن الأمم لا يعرفون الإسلام، ولا يدينون به، بل يرونه عائقاً قاطعاً لهم عن السير في هذه الحياة التي هي غاية مطلبهم، والتي هي نهاية مقصدهم.

وهناك فئام من الناس يدينون بعقائد ضالة يدعون أنها أهدى سبيلاً، وأقوم طريقاً، وأنهم على سبيل النجاة، وأنهم تفوقوا على المسلمين، ودانوا بطريقة وبسنة وشريعة أهدى من الشريعة الدينية.

وهناك فئام ودول وقبائل وخلق كثير ينتسبون إلى الإسلام، ولكن ما معهم من الإسلام إلا مجرد الاسم؛ لأن عقائدهم تخالف العقيدة الإسلامية، وكذلك أعمالهم تخالف ما يدعو إليه الإسلام، فهم على شفا جرف هار، فهؤلاء حريٌ أن يموتوا وهم على تلك البدع وتلك المعاصي والمنكرات، فيكونون من أهل العذاب والعياذ بالله.

وهناك فئام وأمم كثيرة يتسمون بأنهم مسلمون، ولكن معهم محدثات ومنكرات وبدع يصور لهم الشيطان ويملي لهم، ويزين لهم أنهم على الحق والهدى، وأنهم أهدى سبيلاً من أهل السنة والجماعة، ويفتخرون بتلك الأسماء التي ينتحلونها وينتمون إلى قادتهم وأئمتهم، وهم يعتقدون أنهم على حق، ولكنهم على باطل، ولم يقبلوا هدى الله، ولم يقبلوا الدليل، ولم ينيبوا إلى الشريعة، بل زين لهم أن تلك النحل وتلك البدع هي التي من تمسك بها فهو على السنة، فجعل السنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً.

وهذا بلا شك من انتكاس البصائر، ومن عمى القلوب والعياذ بالله.

وهناك الكثير ممن يدينون بالسنة وينتسبون إلى أهل السنة والجماعة، ولكن زين لهم الشيطان بعض الذنوب، فوقعوا في المعاصي، ووقعوا في المخالفات وإن لم تكن مكفرات ولا بدعيات، ولكنها في الحقيقة ذنوب عظيمة، أصروا واستمروا عليها، واستحلوها وأتوا بها جهاراً وإسراراً، فقضوا أعمارهم وهم على تلك المعاصي وعلى ارتكاب تلك الكبائر، ولا شك أنهم إذا لم يتوبوا ولم يتب الله عليهم، استحقوا من العذاب بقدر ذنوبهم وسيئاتهم، وأنهم على خطر عظيم.

وهناك أيضاً آخرون لم يخالفونا في المعتقد، ولم يرتكبوا كبائر الذنوب، ولكنهم استمروا على الصغائر، فاحتقروها وتهاونوا بها، واستمروا عليها طوال حياتهم، والاستمرار على الصغيرة والإصرار عليها يصيرها كبيرة.

لا شك أن هذه الأقسام كلها موجودة، ولكن أشدها الذين ليسوا على دين ولا شريعة، بل لا يعترفون بالله رباً، ولا بالشريعة الإسلامية أو غيرها ديناً.

فإذاً ما دام أن الله قد نجانا من هذه الأخطار كلها، وهدانا إلى الحق، فليكن ذلك حافزاً على أن نتعلم الطريقة السنية، نتعلم السنة النبوية، حتى إذا عرفناها تمسكنا بها حق التمسك، وحتى نرد على كل من يخالفنا سواء كانت المخالفة في الأصول أو الفروع، وهذا هو -والحمد لله- ما نقوم به، وما نتلقاه في الخطب وفي الإذاعات وفي القراءات وفي الحلقات العلمية، وفي المحاضرات وفي الدروس اليومية والأسبوعية، كل ذلك إن شاء الله من الأسباب التي يفتح الله بها على عباده وينجيهم.

وكذلك ما يمر علينا في هذا الكتاب الذي نقرؤه على عقيدة أهل السنة الذين ألفوها واجتهدوا في تأليفها، ونصحوا بها الأمة حتى يبينوا لهم ما هم عليه وما يفعلونه وما يحذرونه.

وقد وصلنا إلى مباحث القضاء والقدر، ومباحث الأمر والنهي، والتكاليف، وقدرة العباد على أفعالهم، أو ما أشبه ذلك.

وهي لا شك من المسائل الصعبة، من المسائل العسيرة التي تحتاج إلى تعقل، والتي خالف فيها الخلق الكثير، والتي ولدوا فيها شبهاً، وولدوا فيها تشكيكات تبرر لهم بزعمهم ما هم عليه من القول بالجبر، أو من القول بإنكار القدرة الإلهية، ولكن قيض الله لهم أهل السنة فبينوا لهم ما هم فيه من الحيرة، وأجابوا عما ولدوه من الشبه، وبينوا الجواب الصحيح لمن انحرف عن السنة والجماعة.

وإذا تأمل القارئ هذه الشبهات التي يولدونها، وعرف جوابها الصحيح من أهل السنة قنع بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمر العباد ونهاهم، وقنع بأنه ما أمرهم إلا وهم قادرون على تنفيذ ما أمر به.

وقنع بأنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، وأنه تعالى أعطاهم ومكنهم وقواهم وجعل لهم استطاعة يزاولون بها الأعمال من طاعات ومعاص، كما يتسببون بها في تحصيل أسباب الرزق، وكل ذلك لا يخرج عن قدرة الخالق.

فله القدرة وله الاستطاعة الغالبة لكل قدرة، ولكنه سبحانه لما أعطاهم هذه القدرة نسبت إليهم، وأصبحوا هم المزاولين للأعمال، فهم الذين يصلون ويصومون ويزكون ويتصدقون، وهم الذين يؤمنون ويسلمون ويحسنون ويقبلون ويتعبدون، ويثابون عليها، كما أنهم الذين يسرقون ويزنون ويسكرون ويرابون ويرشون ويعصون ويفعلون المحرمات ويعاقبون عليها.

وإن كان الله تعالى هو الذي قدر ذلك كله في هذا الكون، وهو الذي مكن لهؤلاء وأعطاهم هذه القدرة التي زاولوا بها الطاعات، أو زاولوا بها المعاصي: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد، فإذاً لا فعل للعبد أصلاً، قيل: العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة حقيقة، قال الله تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] وقال تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [هود:36] وأمثال ذلك.

وإذا ثبت كون العبد فاعلاً، فأفعاله نوعان:

نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته، فيكون صفة له ولا يكون فعلاً، كحركات المرتعش.

ونوع يكون منه مقارناً لإيجاد قدرته واختياره، فيوصف بكونه صفة وفعلاً وكسباً للعبد، كالحركات الاختيارية.

والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلاً مختاراً، وهو الذي يقدر على ذلك وحده لا شريك له، ولهذا أنكر السلف الجبر، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز، فلا يكون إلا مع الإكراه، يقال: للأب ولاية إجبار البكر الصغيرة على النكاح، وليس له إجبار الثيب البالغ، أي: ليس له أن يزوجها مكرهة.

والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار؛ لأنه سبحانه خالق الإرادة والمراد، قادر أن يجعله مختاراً، بخلاف غيره.

ولهذا جاء في ألفاظ الشارع: (الجبل) دون (الجبر) كما قال صلى الله عليه وسلم لـأشج عبد القيس : (إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة. قال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما؟ قال: بل خلقين جبلت عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله).

والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الاختياري، والفرق بين العقاب على الفعل الاختياري وغير الاختياري مستقر في الفطر والعقول.

وإذا قيل: خلق الفعل مع العقوبة عليه ظلم، كان بمنزلة أن يقال: خلق أكل السم، ثم حصول الموت به ظلم، فكما أن هذا سبب للموت، فهذا سبب للعقوبة، ولا ظلم فيهما.

فالحاصل أن فعل العبد فعل له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله تعالى، ليس هو نفس فعل الله، ففرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق.

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد)، أثبت للعباد فعلاً وكسباً، وأضاف الخلق إلى الله تعالى، والكسب: هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفع أو ضرر، كما قال تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]].

نسبة الأفعال بأنواعها للعبد وقدرته عليها

وهذا الكلام قد تكرر وقد اتضح معناه والحمد لله، وهو معرفة أن الله سبحانه وتعالى أثبت للعباد أفعالاً، قال الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] وأثبت أيضاً جزاءهم على تلك الأفعال، فيقول مثلاً: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، نسب الفعل إليهم، فهم الذين يفعلون، وهم الذين يعملون، وهم المؤمنون والمسلمون والمحسنون، كما أنهم إذا خالفوا وصفوا بأنهم الفاسقون، والكافرون، والخاسرون، والظالمون، فتنسب المعاصي إليهم، وتنسب الطاعات إليهم، لماذا؟ لأنهم هم الذين زاولوها؛ لأنهم الذين باشروا فعلها ظاهراً.

فأنت تشاهد المصلي فتقول: هذا يصلي، هذا يركع ويسجد، ولا تقول: هذا مجبور على الصلاة، ولا تقول: هذا مجبور على النفقة، بل تقول: هذا ينفق أو يتصدق باختياره، فالصدقة منه تنسب إليه ويطيع ويمتثل أمر الله له في الآيات كما في قوله: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7] وفي قوله: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254].

كما ينسب إليه فعل العبادات في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ [البقرة:21] أليس ذلك دليلاً على أنهم قادرون؟! أيأمر الله العجزة؟! لا يمكن أن يأمر من لا يقدر؛ فإنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.

والناس بعقولهم يعرفون الفرق بين العاجز والقادر، فلا يقال مثلاً للمقعد احمل هذا الكيس إلى البيت الفلاني؛ لأنه مقعد لا يستطيع أن يقوم فضلاً عن أن يحمل، ولا يقال مثلاً للأعمى: اكتب هذه الرسالة؛ لأنه معذور لا يستطيع، وليس في إمكانه أن يكتبها كغيره، كما لا يقال مثلاً لكل عاجز: افعل هذا الفعل وهو ليس من أهله.

إذاً فالله تعالى عندما قال: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة:105] لا شك أنه أمرمهم لكونهم قادرين على أن يعملوا، ولأجل ذلك يثابون على أعمالهم وعلى تنافسهم وعلى مسابقاتهم، وتنسب إليهم خلافاً للمجبرة؛ لأنهم باشروها، ويوصفون بها، الله تعالى يقول مثلاً: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57]، ويقول مثلاً: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].

أليس ذلك نسبة للأفعال إليهم؟

هذه صفات أمر الله بها، ومدح أهلها، وجعلها مقدورة للمخاطبين.

وعلى هذا فالعباد أعطاهم الله تعالى هذه القوة وهذه القدرة.

دخول قدرة العبد تحت مشيئة الله وقدرته

نحن نعتقد أنه لو شاء الله لما فعلوا، لولا مشيئة الله وإعطاؤهم هذه القوة وهذا التمكن لما حصلت منهم هذه القوة، ولذلك يقول الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37].

فأخبر بأنه هو الذي هداهم ووفقهم وأعانهم، وهو الذي أمرهم ونهاهم، وهو الذي خلقهم وقواهم، وهو الذي مكن لهم وأعطاهم، وهو الذي سخر لهم وهداهم، كما أنه الذي يعاقب ويثيب، ويعطي ويمنع، ويهدي ويضل، ولكن لا يأمرهم إلا بما في إمكانهم فعله.

ولذلك يقول الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، ويقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] يعني: أنه ما أمرهم إلا بما يستطيعونه وبما يقدرون عليه، ولو كان الأمر كما يقوله المجبرة، لكان أمرهم بما لا يقدرون عليه، وذلك بلا شك من تكليف ما لا يطاق.

عقيدة الجبرية في أفعال العبد بأنواعها والرد عليهم

فالمجبرة يقولون: العبد مجبور على فعله، ليس له أية فعل، ولا ينسب إليه بل حركته كحركة المرتعش.

بعض الناس مثلاً عند الكبر يكون غير قادر على إمساك يده، فترى يده تضطرب وتتحرك بدون اختياره، إلا أن يرفعها ويخفضها، لكن إذا وقف ومدها رأيتها ترتعد، هذا هو الارتعاش.

فالمجبرة يزعمون أن العباد كلهم ليس لهم أدنى قدرة ولا أدنى حركة، وإنما حركاتهم وركوعهم وسجودهم وكسبهم وعطاؤهم ومنعهم، وصلاتهم وصومهم، وحجهم وعمرتهم، وطوافهم وسعيهم، وجهادهم ونفقاتهم، كلها ليست اختيارية بل قهرية!

وكذلك المعاصي يعتبرونها قهرية، فهم يعذرون من زنى، ومن سرق، ومن قتل، ومن شرب الخمر، ومن نهب، ومن سلب؛ لأنهم في زعمهم ليس لهم فعل، بل هم مجبورون على هذا الفعل!

لا شك أن قولهم هذا تبطل به الأحكام، وتعطل الشرائع، ولا حاجة إلى إرسال الرسل، مادام المطيع مجبوراً على الطاعة، والعاصي مجبوراً على المعصية، إذاً فلماذا أمر الله ونهى؟!

لا شك أن هذا تجرؤ على الله جل وعلا، ثم هو أيضاً مخالفة للعقول والبداهة، الإنسان بفطرته يعرف أن عنده قدرة على المزاولة، إذا رأيت مثلاً إنساناً نشيطاً، ومع ذلك رأيته جالساً ليس له عمل، وليس له حرفة، مع أنه مفكر وعارف وقادر وقوي البنية وقوي التركيز وقوي الأعضاء ومع ذلك لا يعمل، ألست تلومه على هذه البطالة؟ وتقول له: إن الله يبغض الفارغ البطال، لماذا هذه البطالة؟ لماذا هذا الكسل؟ أتريد أن يأتيك رزقك ويدخل عليك بيتك؟ أتريد أن ينزل عليك الطعام والشراب من السماء؟ فأنت تلومه؛ لأنه مستحق لأن يلام؛ وذلك لأن الله سبحانه كما أمر بالطاعات، أمر بالكسب وأباحه في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15] وفي قوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13].

فمادام كذلك فإنه سبحانه أمرنا بأن نبتغي الرزق، وأن نتطلبه، وكل عاقل يتطلب ذلك بفطرته، فإذا تمكن وقويت بنيته، وكملت أعضاؤه وكمل نموه، ما بقي عليه إلا أن يتكسب كما يتكسب آباؤه وأعمامه وأجداده، ويطلب ما يطلبون، ويعف نفسه ويغني نفسه.

فإذا كان ذلك جبلة وطبيعة، فكذلك في القوة الإيمانية والأوامر الشرعية يقال: إن الله أمرك بأن تطلب النجاة، وأن تعمل الأعمال التي تكون سبباً في سعادتك عاجلاً وآجلاً.

نقول بعد ذلك: لا شك أن الإنسان قد جبل على بعض الصفات، ويسمى ذلك جبلة ولا يسمى إجباراً، كما سمعنا من الشارح أنه فرق الجبر والجبل، فقال: لا يقال: هذا مجبور على فعله، بل يقال: مجبول على هذه الأخلاق، الجبلة: هي الطبيعة والخلقة، يقال: طبيعة فلان وجبلته الصدق، طبيعته الحلم، طبيعته اللين، أو طبيعته الكرم، السخاء، الاهتداء، النصيحة، وكذلك يقال: هذا جبل على البخل، وعلى الشح، وجبل على الجبن وعلى الخوف، وجبل على الكذب وعلى الخيانة وعلى الغش، وما أشبهها، يعني: أنها صفات جبلية مغروسة في نفسه، وأن نفسه الشريرة تميل إليها، أو نفسه الخيرة تميل إلى الصفات الخيرية.

أما الجبر الذي تقول به الجبرية فإنه الإكراه والإلزام على الفعل بدون اختيار، وبدون قدرة، فيقال مثلاً: الأمير أجبر فلاناً على القتل، أو فلاناً على السكر، يعني: أكرهه وألزمه به، وفلانة أجبرت على الزنا، يعني: أجبرها هذا وفعل بها، وهكذا، ففرق بين هذا وبين هذا.

فالصفات الجبلية أخلاق وليس فيها إكراه، بل يفعلها باختياره سواء كانت طاعات أو معاصي، وأما الجبر فالله منزه عن أن يجبر أحداً أو يكره أحداً، بل قال: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] وإنما هي بالاختيارات وبالجبلات وما أشبهها.

وهذا الكلام قد تكرر وقد اتضح معناه والحمد لله، وهو معرفة أن الله سبحانه وتعالى أثبت للعباد أفعالاً، قال الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] وأثبت أيضاً جزاءهم على تلك الأفعال، فيقول مثلاً: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، نسب الفعل إليهم، فهم الذين يفعلون، وهم الذين يعملون، وهم المؤمنون والمسلمون والمحسنون، كما أنهم إذا خالفوا وصفوا بأنهم الفاسقون، والكافرون، والخاسرون، والظالمون، فتنسب المعاصي إليهم، وتنسب الطاعات إليهم، لماذا؟ لأنهم هم الذين زاولوها؛ لأنهم الذين باشروا فعلها ظاهراً.

فأنت تشاهد المصلي فتقول: هذا يصلي، هذا يركع ويسجد، ولا تقول: هذا مجبور على الصلاة، ولا تقول: هذا مجبور على النفقة، بل تقول: هذا ينفق أو يتصدق باختياره، فالصدقة منه تنسب إليه ويطيع ويمتثل أمر الله له في الآيات كما في قوله: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7] وفي قوله: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254].

كما ينسب إليه فعل العبادات في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ [البقرة:21] أليس ذلك دليلاً على أنهم قادرون؟! أيأمر الله العجزة؟! لا يمكن أن يأمر من لا يقدر؛ فإنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.

والناس بعقولهم يعرفون الفرق بين العاجز والقادر، فلا يقال مثلاً للمقعد احمل هذا الكيس إلى البيت الفلاني؛ لأنه مقعد لا يستطيع أن يقوم فضلاً عن أن يحمل، ولا يقال مثلاً للأعمى: اكتب هذه الرسالة؛ لأنه معذور لا يستطيع، وليس في إمكانه أن يكتبها كغيره، كما لا يقال مثلاً لكل عاجز: افعل هذا الفعل وهو ليس من أهله.

إذاً فالله تعالى عندما قال: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة:105] لا شك أنه أمرمهم لكونهم قادرين على أن يعملوا، ولأجل ذلك يثابون على أعمالهم وعلى تنافسهم وعلى مسابقاتهم، وتنسب إليهم خلافاً للمجبرة؛ لأنهم باشروها، ويوصفون بها، الله تعالى يقول مثلاً: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57]، ويقول مثلاً: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].

أليس ذلك نسبة للأفعال إليهم؟

هذه صفات أمر الله بها، ومدح أهلها، وجعلها مقدورة للمخاطبين.

وعلى هذا فالعباد أعطاهم الله تعالى هذه القوة وهذه القدرة.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2714 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2630 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2590 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2564 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2408 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2386 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2300 استماع