الروض المربع - كتاب الصلاة [12]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

اللهم انفعنا بما علمتنا, وعلمنا ما ينفعنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم! اللهم اجعلنا ممن رسخت في العلم قدمه, وجبل على اتباع الكتاب والسنة لحمه ودمه يا رب العالمين, وبعد:

فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً, وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.

وحمداً لله على نعمة توفيق العبد على الفقه في الدين, فإن الفقه في الدين من أعظم ما يمن به الله سبحانه وتعالى على عبده, ونحمد الله سبحانه وتعالى أولاً وآخر. هذا هو يوم السبت الخامس والعشرون من شهر ذي الحجة لعام 1430هـ.‏

تحديد وقت صلاة العشاء الاضطراري والاختياري

كنا قد وصلنا في شرحنا على كتاب الروض المربع إلى أواخر مسألة وقت العشاء, وقد ذكرنا أن أهل العلم اختلفوا هل للعشاء وقت واحد أم وقتان, وبم ينتهي الوقت سواء كان وقتاً واحداً أو وقتين؟ هل بثلث الليل الآخر, أم بمنتصف الليل، أم بوقت آخر.

وقد ذكرنا أن الذي يظهر والله أعلم أن العشاء له وقتان: وقت اختيار، ووقت ضرورة, وأن وقت الضرورة ينتهي في الفجر, وقلنا: إن هذا هو قول أكثر أهل العلم كما حكى ذلك غير واحد من أهل العلم كـابن المنذر , وأن هذا هو قول أكثر الصحابة كما حكى ذلك أبو العباس بن تيمية في كتابه القواعد النورانية, واستدللنا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى نام أهل المسجد -ومعنى أعتم: أي ذهب عامة الليل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بأصحابه وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي), فقول عائشة : (حتى ذهب عامة الليل), دليل على أنه قد ذهب ما زاد عن النصف, فهذا يدل على أنه وقتها, وكذلك ما أشار إليه الإمام ابن المنذر , وحكاه أكثر من واحد من أهل المصنفات عن أبي هريرة و ابن عباس و عبد الرحمن بن عوف في المرأة التي طهرت قبل الفجر أنها تصلي المغرب والعشاء, وهذا دليل على أن العشاء لم ينته وقته, والله تبارك وتعالى أعلم.

وقلنا: إن وقت الاختيار ينتهي إلى منتصف الليل لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم : ( ووقت صلاة العشاء إلى أن ينتصف الليل ).

وقد ذكرنا آثار الصحابة في هذا الباب منها أثر ابن عباس الذي رواه ابن المنذر عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: ( وقت المغرب إلى العشاء, ووقت العشاء إلى الفجر ), وقلنا: إن في سنده ضعفاً، حيث أن فيه ليث بن أبي سليم .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويليه وقت العشاء إلى طلوع الفجر الثاني وهو الصادق, وهو البياض المعترض بالمشرق ولا ظلمة بعده، والأول مستطيل أزرق له شعاع ثم يظلم, وتأخيرها إلى أن يصليها في آخر الوقت المختار وهو ثلث الليل أفضل إن سهل، فإن شق ولو على بعض المأمومين كره, ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها إلا يسيراً أو لشغل، أو مع أهل، ونحوه ].

المؤلف هنا ذكر أن الحنابلة ذهبوا إلى أن للعشاء وقتين: وقت مختار، ويرون أنه ينتهي إلى ثلث الليل وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة, وهو قول جديد عن الشافعية, واستدلوا بما جاء في حديث عمر : ( حتى نام الناس والصبيان ), وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة عند ثلث الليل الآخر ), وثلث الليل الآخر أزيد من النصف, وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم ) دليل على أن الأفضل تأخيرها إلى ذلك الوقت, وقلنا: إن هذا هو مذهب المالكية, وأنه قول جديد عند الشافعية, وذهب ابن حزم وبعض مشايخنا المعاصرين إلى أنه ينتهي إلى منتصف الليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( ووقت صلاة العشاء إذا انتصف الليل ).

وفي حديث عبد الله بن قيس وهو أبو موسى الأشعري (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة قال: فلم يجبه, ثم أمر بلالاً أن يؤذن في أول الأوقات, فلما كان من الغد أمره أن يؤذن في آخر أوقات الصلاة), وقال: ( عند ثلث الليل ), ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يكون ثلث الليل الأول؛ لأنه لو كان كذلك لكان أول وقت العشاء, إن لم يكن في بعض الأوقات بعده.

وعلى هذا فالذي يظهر أنه أول ثلث الليل الآخر؛ ولهذا قال: (عند ثلث الليل الآخر), فإذا انتهى الثلث الثاني انتهى الوقت؛ لذا قال: (عند ثلث الليل الآخر).

والذي يظهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عند ثلث الليل الآخر), وقوله: (عند منتصف الليل), أن وقت الأفضلية هو ما بينهما, حتى نجمع بين الأحاديث ولعل القول بوقت الاختيار هو آخر منتصف الليل وعند ثلث الليل الآخر هو الأقرب؛ لأنه يصدق عليه أن يقال له: عند ثلث الليل الآخر, والله تبارك وتعالى أعلم.

لكنه ليس في ثلث الليل الآخر.

أما وقت الضرورة فالحنابلة والأئمة الثلاثة يرون أنه إلى طلوع الفجر, وهذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم, وقد كنت أرى قول ابن حزم لسنين عديدة إلى أن ظهر لي والله تبارك وتعالى أعلم قبل سنين قليلة ثلاث أو أربع قول الأئمة الأربعة, وكنت دائماً أقول: إذا كان للصحابة أو للأئمة الأربعة قول, فإن الحق لا يكاد يعدوهم, بل إذا ثبت عندي أن الصحابة أفتوا بذلك, ولم يخالفهم أحد علمت أن ذلك حجة ظنية, فلم أتركها ما حييت, لكن الذي جعلني أقول بخلاف ذلك في السابق أن الأحاديث الواردة عن الصحابة فيها ضعف, كحديث أبي هريرة و عبد الرحمن بن عوف و ابن عباس , وإلا فلو صحت هذه لم أكن لأعدوها, وقد يشكل على ذلك مع ضعفه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: ( ووقت صلاة العشاء إذا انتصف الليل ), ولكن الجمهور في كتبهم كالحنابلة والشافعية والمالكية يستدلون بحديث أبي قتادة : ( أما إنه ليس في النوم تفريط, إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى ), قالوا: فهذا دليل على أن الأوقات متصلة ولم يخرج بالإجماع إلا ما بين الفجر إلى الظهر, ولكن هذا الدليل فيه نظر؛ لأنه ليس بظاهر, لكن حينما علمنا بحديث عائشة رضي الله عنها, كما في صحيح مسلم : ( أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام من في المسجد, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ثم قال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي ).

قال ابن المنذر : فكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في هذا الوقت هذا دليل على أنه أكثر من الثلثين؛ ولأنه حينما صلى فيه دل على أنه وقتها, وهذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم, وقلنا: إنه ظاهر قول الصحابة حينما أفتوا في المرأة التي طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء, فكونهم أمروها أن تصلي العشاء دل على أنه وقتها وإن كانت الأحاديث الواردة في هذا الباب فيها ضعف, فيما بلغنا من الأسانيد.

قول المؤلف: (وهو البياض المعترض في المشرق ولا ظلمة بعده، والأول), يعني: البياض الأول وهو الفجر الكاذب, (مستطيل أزرق له شعاع ثم يظلم), الفرق بين: البياض الأول، والبياض الثاني أن البياض الثاني يسمى الفجر الصادق, والبياض الأول يسمى الفجر الكاذب.

إذاً البياض الأول شكل وطريقة بياضه مثل ذنب السرحان وهو ذنب الثعلب, وذنب الثعلب طويل على شكل بيضاوي ما بين الشرق والغرب, ولهذا يعقبه بعد ذلك ظلمة. أما البياض الصادق أو الفجر الصادق فهو بياض عام ما بين الشمال إلى الجنوب من جهة الشرق؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث سمرة: ( لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال , ولا البياض المعترض هكذا وأشار بيده جهة أمام ), أي: مد كفه عليه الصلاة والسلام أمامه, مشيراً إلى القبلة.

قال: ( حتى يكون هكذا ), وأشار سفيان الراوي بيديه ثم ضمهما جهة القبلة ثم فرشهما ذات اليمين وذات الشمال، يعني: يكون البياض من الشمال إلى الجنوب من جهة الشرق, وهذا دليل على أنه طويل.

الفرق الثالث: البياض الأول تكون بعده ظلمة, وأما الثاني فيكون بياض وإشراق صبح بعده دون ظلمة.

حكم تأخير صلاة العشاء إذا شق على المأمومين

قال المؤلف رحمه الله: (فإن شق ولو على بعض المأمومين كره), يعني: المذهب أن الأفضل التأخير, إلا إن شق على المأمومين فيكره, واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي ), وعلى هذا فالذي يظهر أن الأفضل في صلاة العشاء مطلقاً هو التأخير لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة ), وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب تأخير العشاء.

وأما إذا شق على المأمومين فيراعيهم, إذا اجتمعوا عجل, وإذا تأخروا أخر, لحديث جابر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم أنه قال: ( وأما العشاء فكان يؤخرها أحياناً وأحياناً يعجل, كان إذا رآهم اجتمعوا عجل, وإذا رآهم تأخروا أخر ), ولكن في زماننا هذا الذي يظهر أن الصلاة على حسب الاتفاق من وزارة الشئون الإسلامية حتى يعلم الناس صلاتهم؛ لأن الناس اكتنفتهم مشاغل وأمور تختلف عن الزمن السابق, فإنهم في الزمن السابق كانوا إذا صلوا المغرب انتهت أعمالهم, كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10-11], أما اليوم فأصبحت عامة معاشات الناس في الليل, والله المستعان.

فعلى هذا فالأصل التأخير إلا إذا كان هناك مشقة على المأمومين, أو اتفاق من قبل ولي الأمر، أو المصلين.

الحكمة من النهي عن النوم قبل صلاة العشاء

قال المؤلف رحمه الله: [ ويكره النوم قبلها والحديث بعدها ], يكره أن ينام الإنسان قبل العشاء وبعد المغرب لأمور:

أولاً: لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لقول أبي برزة الأسلمي: ( وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها ), والحكمة هي الخوف من أن يغلبه نومه عن صلاة العشاء فيتركها ولا يصليها إلا بعد الفجر، أو في وقت الضرورة.

الثاني: لعل من الحكم أيضاً: أن هذا الوقت وقت ذكر لله تعالى, وإقبال عليه, ولا ينبغي للإنسان أن يضيع هذا الوقت في غير العبادة والذكر والتسبيح, لما روى الإمام أحمد من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فلما صلى ذهب في ناحية المسجد فما زال يصلي حتى أذن العشاء ), وهذا الحديث إسناده لا بأس به إن شاء الله.

فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أحياناً ما بين المغرب والعشاء, وقد فسر كثير من السلف كـالحسن البصري و علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وغيرهما وجاء في ذلك حديث ولكنه لا يصح, قول الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16], هي الصلاة ما بين المغرب والعشاء.

حكم الكلام اليسير بعد العشاء

قال المؤلف رحمه الله: [إلا يسيرا], يعني: يكره الحديث بعد العشاء إلا يسيرا؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ( رقدت في بيت ميمونة ليلة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ), يعني: أتيت, وقت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها؛ ( لأنظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل ) فقبل أن يبلغ ذهب لينظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل, وهذا لكي نعلم همة الصحابة فهذه همتهم وهم صغار، فكيف كانت همتهم وهم كبار والله المستعان.

قال: ( فتحدث مع أهله ساعة ثم رقد ) -وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث بعد العشاء مع أهله ويسمر معهم يسيرا.

الحكمة من النهي عن كثرة الحديث بعد صلاة العشاء

إنما نهي عن كثرة الحديث بعد العشاء لأمور:

أولاً: خوفاً من أن يدع صلاة الفجر, وكثير من الذين ينامون بعد العشاء متأخرين لا يستيقظون لصلاة الفجر, ولهذا جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له الرجل ينام حتى يصبح), يعني: حتى يطلع وقت الإصباح فلا يصلي إلا بعد طلوع الشمس قال: ( ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ), ولو رأيت كثرة ما يبول الشيطان في أذني بعض الناس والله المستعان لأحزنك ذلك.

ثانياً: خوفاً من أن يترك الإنسان الصلاة في وقت الفضائل وتوزيع الأرزاق هي صلاة قبل الفجر بسويعات, ومن سهر حرم ذلك.

وقد كان كثير من السلف كما حكى ابن رجب في فتح الباري منهم أبو بكر و أبو هريرة و أبو ذر و أبو الدرداء و سعيد بن المسيب و الحسن البصري و محمد بن سيرين وخلق كثير غيرهم، يصلون الليل ويوترون قبل أن يناموا، وهذا أفضل لطالب العلم, فإن قام بعد ذلك قبل الفجر بساعة أو أقل أو أكثر استطاع أن يصلي ركعتين, ركعتين فيأخذ بالحزم, فهذا هو السبب في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحدث مع أحد بعد العشاء إلا مع أهله, أو للضيف كما بوب على ذلك البخاري في صحيحه, فقال: باب كراهة الحديث بعد العشاء إلا مع أهله أو للضيف, وكأنه أشار إلى ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر بعد العشاء وأنا معه في أمر من أمور المسلمين ), وهذا الحديث رواه الإمام أحمد و الترمذي وإن كان في سنده بعض الكلام.

حكم تأخير صلاة العشاء إلى بعد ثلث الليل الآخر

قال المؤلف رحمه الله: [ ويحرم تأخيرها بعد الثلث بلا عذر ]؛ لأنه وقت ضرورة هذا هو الراجح والله أعلم؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص و عائشة : ( إنه لوقتها ), وقوله: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة عند ثلث الليل الآخر ).

كنا قد وصلنا في شرحنا على كتاب الروض المربع إلى أواخر مسألة وقت العشاء, وقد ذكرنا أن أهل العلم اختلفوا هل للعشاء وقت واحد أم وقتان, وبم ينتهي الوقت سواء كان وقتاً واحداً أو وقتين؟ هل بثلث الليل الآخر, أم بمنتصف الليل، أم بوقت آخر.

وقد ذكرنا أن الذي يظهر والله أعلم أن العشاء له وقتان: وقت اختيار، ووقت ضرورة, وأن وقت الضرورة ينتهي في الفجر, وقلنا: إن هذا هو قول أكثر أهل العلم كما حكى ذلك غير واحد من أهل العلم كـابن المنذر , وأن هذا هو قول أكثر الصحابة كما حكى ذلك أبو العباس بن تيمية في كتابه القواعد النورانية, واستدللنا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى نام أهل المسجد -ومعنى أعتم: أي ذهب عامة الليل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بأصحابه وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي), فقول عائشة : (حتى ذهب عامة الليل), دليل على أنه قد ذهب ما زاد عن النصف, فهذا يدل على أنه وقتها, وكذلك ما أشار إليه الإمام ابن المنذر , وحكاه أكثر من واحد من أهل المصنفات عن أبي هريرة و ابن عباس و عبد الرحمن بن عوف في المرأة التي طهرت قبل الفجر أنها تصلي المغرب والعشاء, وهذا دليل على أن العشاء لم ينته وقته, والله تبارك وتعالى أعلم.

وقلنا: إن وقت الاختيار ينتهي إلى منتصف الليل لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم : ( ووقت صلاة العشاء إلى أن ينتصف الليل ).

وقد ذكرنا آثار الصحابة في هذا الباب منها أثر ابن عباس الذي رواه ابن المنذر عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: ( وقت المغرب إلى العشاء, ووقت العشاء إلى الفجر ), وقلنا: إن في سنده ضعفاً، حيث أن فيه ليث بن أبي سليم .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويليه وقت العشاء إلى طلوع الفجر الثاني وهو الصادق, وهو البياض المعترض بالمشرق ولا ظلمة بعده، والأول مستطيل أزرق له شعاع ثم يظلم, وتأخيرها إلى أن يصليها في آخر الوقت المختار وهو ثلث الليل أفضل إن سهل، فإن شق ولو على بعض المأمومين كره, ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها إلا يسيراً أو لشغل، أو مع أهل، ونحوه ].

المؤلف هنا ذكر أن الحنابلة ذهبوا إلى أن للعشاء وقتين: وقت مختار، ويرون أنه ينتهي إلى ثلث الليل وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة, وهو قول جديد عن الشافعية, واستدلوا بما جاء في حديث عمر : ( حتى نام الناس والصبيان ), وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة عند ثلث الليل الآخر ), وثلث الليل الآخر أزيد من النصف, وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم ) دليل على أن الأفضل تأخيرها إلى ذلك الوقت, وقلنا: إن هذا هو مذهب المالكية, وأنه قول جديد عند الشافعية, وذهب ابن حزم وبعض مشايخنا المعاصرين إلى أنه ينتهي إلى منتصف الليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( ووقت صلاة العشاء إذا انتصف الليل ).

وفي حديث عبد الله بن قيس وهو أبو موسى الأشعري (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة قال: فلم يجبه, ثم أمر بلالاً أن يؤذن في أول الأوقات, فلما كان من الغد أمره أن يؤذن في آخر أوقات الصلاة), وقال: ( عند ثلث الليل ), ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يكون ثلث الليل الأول؛ لأنه لو كان كذلك لكان أول وقت العشاء, إن لم يكن في بعض الأوقات بعده.

وعلى هذا فالذي يظهر أنه أول ثلث الليل الآخر؛ ولهذا قال: (عند ثلث الليل الآخر), فإذا انتهى الثلث الثاني انتهى الوقت؛ لذا قال: (عند ثلث الليل الآخر).

والذي يظهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عند ثلث الليل الآخر), وقوله: (عند منتصف الليل), أن وقت الأفضلية هو ما بينهما, حتى نجمع بين الأحاديث ولعل القول بوقت الاختيار هو آخر منتصف الليل وعند ثلث الليل الآخر هو الأقرب؛ لأنه يصدق عليه أن يقال له: عند ثلث الليل الآخر, والله تبارك وتعالى أعلم.

لكنه ليس في ثلث الليل الآخر.

أما وقت الضرورة فالحنابلة والأئمة الثلاثة يرون أنه إلى طلوع الفجر, وهذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم, وقد كنت أرى قول ابن حزم لسنين عديدة إلى أن ظهر لي والله تبارك وتعالى أعلم قبل سنين قليلة ثلاث أو أربع قول الأئمة الأربعة, وكنت دائماً أقول: إذا كان للصحابة أو للأئمة الأربعة قول, فإن الحق لا يكاد يعدوهم, بل إذا ثبت عندي أن الصحابة أفتوا بذلك, ولم يخالفهم أحد علمت أن ذلك حجة ظنية, فلم أتركها ما حييت, لكن الذي جعلني أقول بخلاف ذلك في السابق أن الأحاديث الواردة عن الصحابة فيها ضعف, كحديث أبي هريرة و عبد الرحمن بن عوف و ابن عباس , وإلا فلو صحت هذه لم أكن لأعدوها, وقد يشكل على ذلك مع ضعفه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: ( ووقت صلاة العشاء إذا انتصف الليل ), ولكن الجمهور في كتبهم كالحنابلة والشافعية والمالكية يستدلون بحديث أبي قتادة : ( أما إنه ليس في النوم تفريط, إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى ), قالوا: فهذا دليل على أن الأوقات متصلة ولم يخرج بالإجماع إلا ما بين الفجر إلى الظهر, ولكن هذا الدليل فيه نظر؛ لأنه ليس بظاهر, لكن حينما علمنا بحديث عائشة رضي الله عنها, كما في صحيح مسلم : ( أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام من في المسجد, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ثم قال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي ).

قال ابن المنذر : فكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في هذا الوقت هذا دليل على أنه أكثر من الثلثين؛ ولأنه حينما صلى فيه دل على أنه وقتها, وهذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم, وقلنا: إنه ظاهر قول الصحابة حينما أفتوا في المرأة التي طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء, فكونهم أمروها أن تصلي العشاء دل على أنه وقتها وإن كانت الأحاديث الواردة في هذا الباب فيها ضعف, فيما بلغنا من الأسانيد.

قول المؤلف: (وهو البياض المعترض في المشرق ولا ظلمة بعده، والأول), يعني: البياض الأول وهو الفجر الكاذب, (مستطيل أزرق له شعاع ثم يظلم), الفرق بين: البياض الأول، والبياض الثاني أن البياض الثاني يسمى الفجر الصادق, والبياض الأول يسمى الفجر الكاذب.

إذاً البياض الأول شكل وطريقة بياضه مثل ذنب السرحان وهو ذنب الثعلب, وذنب الثعلب طويل على شكل بيضاوي ما بين الشرق والغرب, ولهذا يعقبه بعد ذلك ظلمة. أما البياض الصادق أو الفجر الصادق فهو بياض عام ما بين الشمال إلى الجنوب من جهة الشرق؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث سمرة: ( لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال , ولا البياض المعترض هكذا وأشار بيده جهة أمام ), أي: مد كفه عليه الصلاة والسلام أمامه, مشيراً إلى القبلة.

قال: ( حتى يكون هكذا ), وأشار سفيان الراوي بيديه ثم ضمهما جهة القبلة ثم فرشهما ذات اليمين وذات الشمال، يعني: يكون البياض من الشمال إلى الجنوب من جهة الشرق, وهذا دليل على أنه طويل.

الفرق الثالث: البياض الأول تكون بعده ظلمة, وأما الثاني فيكون بياض وإشراق صبح بعده دون ظلمة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2626 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2583 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2542 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2541 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2516 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2448 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2382 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2370 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2351 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2349 استماع