مفاتيح الرزق


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، رواه أبو نعيم في الحلية، وحسنه الألباني .

فهذا الحديث يدل على أن المرء يرزق رغم أنفه، وإذا كتب الله سبحانه وتعالى له الرزق فلن يفوته ولن يضيع عليه ما دام قد ضمنه الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد ضمن لنا الرزق حين قال: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، ثم لم يكتف بالضمان حتى أقسم على ذلك فقال عز وجل: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23] قال: الحسن البصري رحمه الله تعالى: لعن الله أقواماً أقسم لهم ربهم فلم يصدقوه.

والموضوع الذي نتعرض له اليوم هو استعراض لرسالة مباركة نافعة من تصنيف الدكتور فضل إلهي كما سبق أن درسنا له أيضاً رسالة أخرى في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرسالة هي (مفاتيح الرزق في ضوء الكتاب والسنة)، جمع فيها كثيراً من الأسباب التي هي أسباب حقيقية لاستجلاب الرزق والبركة فيه.

لقد ضمن الله سبحانه وتعالى الرزق وسبق به قلم المقادير، إلا أن كثيراً من المسلمين يشتغلون بهذا المضمون على حساب غير المضمون، فالرزق مضمون، وأما النجاة في الآخرة ودخول الجنة فليست مضمونة؛ لأنها متوقفة على سعي العبد، وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فنعجب أن كثيراً من الناس إذا طلب منه بأن يكف عن اللهث وراء الدنيا التي تشغله عن الطاعة وعن العبادة؛ فإنه يتحدث عن الرزق والكسب، وضرورة أن يسعى الإنسان في طلب رزقه، مع أن الرزق مضمون، والنجاة في الآخرة غير مضمونة، بل النجاة متوقفة على الاجتهاد في العمل الصالح.

وبعض الناس يرون أن تمسكهم بدينهم قد ينقص من أرزاقهم، بل إن بعض الملتزمين الذين يحافظون على الفرائض الإسلامية ربما يظنون أيضاً أنه لا بد أن يغضوا الطرف عن بعض الأحكام الإسلامية من أجل المحافظة على الرخاء المالي، فينسون أو يتناسون أن الله سبحانه وتعالى حينما شرع دينه فإنما يريد إرشاد العباد إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، وليس في الآخرة فقط، فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، فالله سبحانه وتعالى لم يتركنا نتخبط في الظلام ونبقى في حيرة من أمرنا عندما نسعى إلى طلب المعيشة، بل شرعت أسباب الرزق وبينت، ولو فهمتها الأمة ووعتها وتمسكت بها وأحسنت استخدامها ليسر الله سبحانه وتعالى لها الرزق، والله هو الرزاق ذو القوة المتين.

الاستغفار والتوبة

ونحن لن نتكلم عن الأسباب المادية الأخرى؛ لأنه يستوي في العمل بها المؤمن والكافر والبر والفاجر، بل فتنة الناس إلا ما رحم الله هي في انشغالهم بطلب الدنيا إلى حد يلهيهم عن الآخرة، فنحن لن نتكلم عن الأسباب الطبيعية؛ لأن الناس ليسوا محتاجين إلى من يحثهم على هذه الأسباب، وهي معلومة للجميع، ويحرص عليها الجميع، لكننا سنقف عند الأسباب الحقيقية القلبية والدينية التي يجهلها أكثر الناس، بل لا يعتقدون تأثيرها في باب طلب الرزق، فنحن هنا نثبت السبب أولاً ثم نذكر الأدلة على أنه مفتاح من مفاتيح الزرق.

يبدأ المصنف بعد المقدمة في ذكر أول أسباب الرزق، فمن أراد أن يستجلب الرزق الحلال المبارك فأول ما يستنزل به ذلك الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى:

فالاستغفار والتوبة من أسباب الرزق، وليس المراد مجرد الاستغفار والتوبة باللسان كتوبة الكذابين، لكن الاستغفار والتوبة لا بد أن يكونا من القلب، وينعكس أثرهما بعد ذلك على الجوارح.

يقول الراغب الأصفهاني : التوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزم على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل فرائض التوبة.

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله -لا تتعلق بحق آدمي- فلها ثلاثة شروط:

أحدها: أن يقلع عن المعصية وألا يتمادى على الذنب، يعني: فمن لم يترك المعصية فأين التوبة وحاله يكذب مقاله؟!

الثاني: أن يندم على فعلها.

الثالث: أن يعزم -يعني: في المستقبل- على ألا يعود إليها.

فإذا فقد أحد هذه الثلاثة الشروط لم تصح هذه التوبة.

وإذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فيضاف إلى هذه الشروط شرط رابع، وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كان مالاً رده إليه، وإن كانت مظلمة ونحوها مكنه من القصاص أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحلها منه.

أما الاستغفار فهو طلب المغفرة بالمقال والفعال، يقول تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، فلم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان فقط، بل بالقول وبالقلب، قيل: الاستغفار باللسان من دون الفعال من فعل الكذابين، فاستغفار الكذاب أن يستغفر بلسانه وهو متماد في معصية الله تبارك وتعالى.

الأدلة على أن الاستغفار والتوبة من الأسباب التي يستنزل بها رزق الله سبحانه وتعالى كثيرة منها:

قوله عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وهذه الأفعال كلها واقعة في جواب الأمر: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، والمعنى: إن استغفرتم ربكم يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً.

فلابد أولاً أن يتحقق الاستغفار، (استغفروا ربكم) أي: اسألوه العفو والمغفرة، (إنه كان غفاراً)، فسوف يقبل توبتكم ويغفر لكم (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)، أي: ينزل عليكم المطر يتبع بعضه بعضاً، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ)، أي: يكثر لكم أموالكم وأولادكم، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)، أي: بساتين وأنهاراً.

يقول القرطبي رحمه الله تعالى: في هذه الآية والتي في هود، وهي قوله تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود:52] دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار.

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: إذا تبتم إلى الله تعالى واستغفرتموه وأطعتموه كثّر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأخرج لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين: أي: أعطاكم الأموال والبنين والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمر، وخللها بالأنهار الجارية بينها.

وقد تنفس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما جاء في هذه الآيات حينما صلى بالمسلمين صلاة الاستسقاء، فقد روى مصرف عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما سمعناك استسقيت! -يعني: ما قلت: اللهم اسقنا، وهي صلاة استسقاء، فلماذا اقتصرت على الاستغفار؟- فقال: طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر).

المجاديح: أنواء معينة من النجوم كانوا يعتقدون أنها من الأنواء الدالة على المطر، فهو هنا يخاطبهم بما يعرفون، لا أنه يعتقد أن الأمطار تكون بالأنواء.

ثم قرأ عمر رضي الله تعالى عنه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [نوح:10-11].. إلى آخر الآيات.

كذلك أمر الحسن البصري رحمه الله تعالى بالاستغفار كل من جاء إليه شاكياً الجدب أو الفقر أو قلة النسل أو جفاف البستان، قال الربيع بن صبيح : شكا رجل إلى الحسن القحط والجفاف، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله! قال: فقلنا له في ذلك.

يعني: سألوه ما سر هذا؟! لماذا لا تنصح هؤلاء إلا بالاستغفار مع تنوع حاجاتهم؟! قال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أنواعاً من البلاء فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].

ومثل هذه الآيات قوله تبارك وتعالى حينما قص علينا دعوة هود عليه السلام قومه: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52] فأمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير ما مضى من الذنوب، والتوبة عما يستقبلون، فمن اتصف بهاتين الصفتين يسر الله سبحانه وتعالى له رزقه، وسهل أمره، وحفظ فعله، ولهذا قال: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52].

ومثلها أيضاً قوله تبارك وتعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:3]، (يمتعكم متاعاً حسناً)، أي: يتفضل عليكم بسعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم. وقد رتب الله هذا الجزاء على الاستغفار والتوبة.

ومما يدل أيضاً على كون الاستغفار والتوبة من مفاتيح الرزق: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكثر الاستغفار، وفي رواية: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء وحسنه بعضهم.

(من أكثر الاستغفار): من غلب عليه كثرة طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى عند صدور معصية أو ظهور بلية.

أو: (لزم الاستغفار): داوم عليه فإنه في كل وقت محتاج إليه، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) يعني في الآخرة، وكأنه عليه السلام لم يقل: طوبى لمن استغفر كثيراً؛ لأنه يشترط في الاستغفار حتى ينفع الإنسان أن يكون مخلصاً، ولا يثبت في الصحيفة إلا الاستغفار الذي صدر عن إخلاص وعن صدق وعن توافق بين القول والعمل، فلذلك قيده بأن يجد ذلك في صحيفته، وليس بمجرد صدور الاستغفار عنه، فقوله هنا: (من أكثر الاستغفار أو من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً)، أي: جعل له من كل غم يغمه خلاصاً، (ومن كل ضيق مخرجاً)، أي: من كل شدة ومحنة طريقاً واسعاً يخرجه إلى سعة وفسحة، (ورزقه من حيث لا يحتسب) يعني: رزقاً حلالاً طيباً من حيث لا يظن ولا يرجو ولا يخطر بباله.

التقوى

تقوى الله عز وجل من الأسباب التي يستنزل بها رزق الله سبحانه وتعالى، وقد كثرت تعاريف العلماء للتقوى، قال الراغب الأصفهاني : التقوى حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات.

وعرف الإمام النووي تقوى الله بقوله: امتثال أمره ونهيه، فهي الوقاية من سخطه وعذابه سبحانه وتعالى، وذلك بأن يفعل الإنسان أفعالاً تكون وقاية وحائلة بينه وبين النار.

أما الجرجاني فعرفها بقوله: الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك.

فمن لم يحفظ نفسه عما يؤثمه فليس بمستقيم، فمن شاهد بعينيه ما حرمه الله تعالى فمعنى ذلك أنه أزال الحجاب بينه وبين النار، واستحق عذاب الله؛ لأنه لم يتق الله، ولم يكف عينه عن ارتكاب الذنب الذي يسخط الله، فمن ارتكب المعصية فقد أزاح هذا الحجاب واقتحم بنفسه النار.

وهكذا من سمع بأذنيه ما يغضب الله تعالى، أو بطش بيديه فيما لا يرضى الله تعالى، أو مشى إلى ما يمقت الله تعالى، فهذا لم يعصم نفسه من الإثم ولم يتق الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين، قال الله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، حتى الأنبياء أمروا بالتقوى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1].

أما كون التقوى من أسباب الرزق فدليل ذلك قوله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3].

فنريد أن نرسخ هذه المفاهيم في قلوبنا، فالناس الذين يهجمون على الحرام خشية أن يفوتهم الزرق أو يتعاطون الحرام خشية قلة المال، لم يعلموا أن الحرام ليس في الحقيقة سبباً من أسباب سعة الرزق، بل هو فتنة وبلاء.

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، فمن أراد المخرج فليتق الله، وبالتالي ليسأل عن الطاعات والمحرمات والشبهات، فإذا اتقى الله سبحانه وتعالى وصدق في التقوى فإن الله وعده وعداً لا يخلف أن يجعلَ له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب، فإذا ادعى أنه اتقى الله ولم يجعل له مخرجاً فنقول له: راجع نفسك فإنك لم تتق الله حق تقاته، فعد إلى نفسك وصحح التوبة؛ فإن الله لا يخلف الميعاد.

وقوله تعالى: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2] أي: ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3] يعني: من حيث لا يؤمل ولا يرجو.

ومن الأدلة قوله تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، أي: لو أنهم اتقوا لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب.

والبركات جمع بركة، والبركة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والخير الإلهي الذي يجعله الله سبحانه وتعالى في الشيء يبقى فيه فلا يمحق ولا يذهب عنه، فيستفاد من كلمة البركة أن الله سبحانه وتعالى يعطيهم بسبب الإيمان والتقوى الخير المستمر الذي لا شر فيه ولا تبعة، وأحسن الأحوال أن يثبت النعيم الذي يرزقه الله سبحانه وتعالى العبد، ثم لا يجعل عليه تبعة في الآخرة، ولا يحاسبه عليه.

وقال تبارك وتعالى: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]ولم يقل: بركة، فيدل على تعدد هذه البركات باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة، وبركات السماء بالمطر، وبركات الأرض بالنبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ومنهما تحصل جميع المنافع والخيرات لخلق الله تعالى.

ومن الآيات التي تدل على أن التقوى من أسباب استنزال الرزق قوله عز وجل: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:66]، فيخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم لو عملوا بالتوراة والإنجيل، وعملوا أيضاً بالقرآن الكريم؛ لأكثر الله تعالى بذلك الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض، ولأسبغ عليهم نعم الدنيا إسباغاً.

وقال الله سبحانه وتعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن:16]، يعني: لو استقاموا على الطريقة التي يرضاها الله لكافأهم على ذلك بأن يسقيهم ماءً غدقاً.

إذاً: التقوى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ومن شكر نعمة الله عز وجل بطاعته، فقد تكفل الله له بالزيادة، كما قال الله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].

فمن يرغب في سعة الرزق ورغد العيش فليحفظ نفسه عما يؤثم، وليمتثل أوامر الله تعالى، وليجتنب نواهيه.

التوكل على الله

ومن أسباب الرزق: التوكل على الله سبحانه وتعالى.

قال الغزالي : التوكل هو اعتماد القلب على الله سبحانه وتعالى الذي يفوض المؤمن إليه أمره.

وقال: المناوي : التوكل إظهار العجز والاعتماد على المتوكل عليه.

فتظهر العجز والضعف لله سبحانه وتعالى، وتعتمد عليه وحده عز وجل، فتؤمن بأنه لا فاعل في الوجود إلا الله سبحانه وتعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، ونفع وضر، وفقر وغنى، ومرض وصحة، وموت وحياة، وكل ما يطلق عليه اسم الوجود فهو من الله سبحانه وتعالى.

ومن الأدلة على كون التوكل سبباً من أسباب إدرار الرزق ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).

والطير جمع طائر يذكر ويؤنث.

(تغدو): تذهب أول النهار.

(خماصاً) جمع خميص، يعني جياعاً.

(وتروح): ترجع آخر النهار وقد امتلأت حواصلها (بطاناً): جمع بطين وهو عظيم البطن، والمراد شباعاً، فما بين ذلك تسعى والله سبحانه وتعالى هو الذي يتكفل برزقها.

ففي هذا الحديث يبين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن المتوكل على الله حق التوكل مرزوق كما ترزق الطير؛ لأنه توكل على الحي الذي لا يموت، وأن من توكل على الله فهو حسبه، كما قال عز وجل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: فهو كافيه، فإذا توكلت واعتمدت على الله وحده، فإنه يكفيك، ولن تحتاج إلى وكيل غيره، فهو عز وجل يتولى كل أمرك، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3].

ومن المقرر والمعلوم أن التوكل على الله سبحانه وتعالى لا يستلزم ترك الكسب، كما يعتقد الجاهلون بحقيقة التوكل، وقد يستدل بعضهم بهذا الحديث، والحديث فيه ما يرد عليهم؛ لأن الرسول عليه السلام لما ضرب لنا هذا المثل، فينبغي أن نأخذ بكل أركانه، فقوله: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، دليل على أنها تغدو وتروح، فعندها حركة وسعي مع التوكل على الله سبحانه وتعالى، فكذلك على الإنسان أن يسعى إلى الرزق احتراماً للشرع؛ لأن الشرع أمر بفعل الأسباب، لكن لا يتعلق بالأسباب بل بخالق الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه هو الرازق في الحقيقة.

فنحن نأخذ بالأسباب لأن الله أمرنا بالأخذ بالأسباب.

قال العلماء: ترك الأسباب قدح في الشرع، والتعلق بالأسباب قدح في التوحيد. فنحن نأخذ بالأسباب لكن لا نعلق قلوبنا بالأسباب؛ لأنها مخلوقة، وإنما يجب أن تتعلق القلوب بالله عز وجل، فالطيور تخرج وتروح وتسعى وتتوكل على الله سبحانه وتعالى، فالله يكفيها أمرها مع أنها لا تعقل ولا تعي ولا تخطط ولا تفهم ولا تدبر، وإنما الله عز وجل هو الذي يرزقها.

يقول الإمام أحمد : ليس في الحديث ما يدل على ترك الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده، لم ينطلقوا إلا غانمين سالمين كالطير.

وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي! فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي).

والأخذ بالأسباب أمر مشهور ومعروف في الشريعة، ومواطنه في القرآن الكريم كثيرة جداً منها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25]، كان يمكن أنها بمجرد أن ترفع رأسها يسقط الرطب بقدرة الله، لكن هذا إشارة إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع التعلق بخالق الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى.

وقال سبحانه عن موسى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، فموسى عليه السلام أخذ بأسباب النجاة من فرعون، فإنه لما علم أنهم يتآمرون على قتله خرج منها خائفاً يترقب.

وقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسباب في رحلة الهجرة، وهي مواقف مشهورة لا نحتاج إلى ذكرها.

والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يتجرون ويعملون في نخيلهم.

قال الإمام أبو حامد : قد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، أو كلحمة على وضم، وهذا ظن الجهال، فإن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على المتوكل، فيكف يُنالُ مقامٌ من مقامات الدين بمحظور من محظورات الدين؟!

يعني أن التوكل محمود في الشريعة، وترك الأسباب محرم في الشريعة، فهؤلاء الذين يتركون الأسباب ويزعمون أن ذلك من التوكل آثمون، وهل يوصل إلى مقام من المقامات المحمودة في الدين بوسيلة محرمة؟!

لا يمكن أن تكون الوسيلة إلى الواجب أو المستحب محرمة، فالوسائل والأسباب تأخذ حكم المقاصد، ليس عندنا مبدأ: الغاية تبرر الوسيلة، بل لا بد أن تكون الوسيلة مشروعة والغاية مشروعة كذلك.

وقال القشيري : اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل في القلب؛ لأن التوكل عبادة قلبية مثل التوبة والإخلاص والإنابة واليقين.

وكل هذه العبادات تؤدى بالقلب، فالتوكل عبادة محلها القلب، أما الحركة في الظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب بعدما يعتقد العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعثر شيء فبتقديره، وإن تيسر شيء فبتيسيره، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل فقال له: اعقلها وتوكل)، أما أن تترك الناقة مطلقة دون أن تربطها بخطام ولا زمام ثم تقول: أتوكل على الله؛ فهذا ليس بتوكل، وهكذا لا ينبغي لمن جاء المسجد ومعه متاع أن يتركه عند الباب ويقول: أتوكل على الله! خاصة وقد كثر الخونة الذين يخونون المصلين أثناء الصلاة، ويسرقون منهم المتاع، فهل خولك المسجد سيشفع لك إذا استحمقت وفرطت في الأسباب؟

لا، بل اعقلها وتوكل، ولا تتركها للصوص في الطريق ثم تقول: أتوكل، فخذ بالأسباب وتوكل.

بعضهم قد يترك السيارة مفتوحة ثم يسرق منها شيء، فهذا لم يعقل الناقة، بل تركها مفتوحة، وكان عليه أن يأخذ بالأسباب، ولا يتعلق بها، وهذا من التوكل على الله سبحانه وتعالى.

وفي رواية عند الإمام القضاعي أن عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أقيد راحلتي وأتوكل على الله أو أرسلها وأتوكل؟ قال: قيدها وتوكل).

إذاً: التوكل لا يقتضي ترك التكسب، بل يكد الإنسان ويجد ويسعى في طلب العيش، لكنه لا يعتمد على كده وجده وسعيه، بل يعتقد أن الأمر كله لله، وأن الرزق من الله سبحانه وتعالى وحده.

التفرغ لطاعة الله

ومن أسباب الرزق التفرغ لطاعة الله سبحانه وتعالى:

وليس المقصود من التفرغ لطاعة الله عز وجل أن يترك السعي لكسب العيش، ويمكث في المسجد ليل نهار، وإنما المقصود أن يظل قلبه موصولاً بالله سبحانه وتعالى في كل أحواله دون انقطاع، فالمؤمن لا يعرف: ساعة لربك وساعة لشيطانك وساعة لقلبك المريض؛ كما هو حال بعض الناس، حيث يصلي في المسجد ثم يرتكب المعاصي والمحرمات خارج المسجد، ويقول: ساعة لقلبك وساعة لربك، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:22] لأن قلب المؤمن موصولٌ بالله عز وجل في كل أحواله، لا يقطع هذه الصلة أبداً، سئل بعض السلف: هل القلب يسجد؟ قال: يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها أبداً، أي: إذا تاب وأناب ثبت على الخضوع لله سبحانه وتعالى، ولا يزول عن صفة السجود، فيظل ساجداً دائماً، فقلب المؤمن في كل أحواله يكون موصولاً بالله عز وجل، حتى وهو يلهو اللهو المباح أو يعمل في الدنيا.

فمعنى التفرغ لطاعة الله سبحانه وتعالى: أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله عز وجل يراه.

والدليل على كون التفرغ لعبادة الله عز وجل من مفاتيح الرزق ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك.

(يا ابن آدم تفرغ لعبادتي) أي: بالغ في تفريغ قلبك لعبادتي.

(أملأ صدرك غنى) أي: أملأ قلبك الذي في صدرك غنى؛ لأن الغنى غنى النفس كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أعلى درجات الغنى، يقول الشاعر:

غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإن الغنى العالي عن الشيء لا به

واستغناؤك عن الشيء هو عين الغنى، وليس الغنى بما تملكه في يديك من عرض الدنيا، وإنما الغنى غنى النفس وغنى القلب.

وقوله: (وأسد فقرك) أي: أسد باب حاجتك إلى الناس، (وإلا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك) ذكر اليدين لأن الإنسان يزاول الاكتساب دائماً باليدين، وأغلب التصرفات تكون باليدين.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

وعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً.

المتابعة بين الحج والعمرة

ومن أسباب الرزق: المتابعة بين الحج والعمرة:

ومعنى المتابعة أن يجعل أحدهما تابعاً للآخر وواقعاً عقبه، أي: إذا حججتم فاعتمروا وإذا اعتمرتم فحجوا، هذا معنى التتابع بين الحج وبين العمرة.

الإنسان الذي لا يلتفت إلى هذه الأسباب إيمانه ضعيف أو ناقص؛ لأن الذي يخبرنا بهذه الحقائق هو الوحي المعصوم، سواء في القرآن الكريم أم على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه من بركات الوحي، فإن عقولنا لا تستقل لتوصلنا إليها، بل بعض هذه الأسباب قد يستغربها بعض الناس، فإنفاق المال في الحج والعمرة ينفي الفقر، هكذا يخبر الصادق صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

والذي يخرج من ماله ويتصدق فقد فعل سبباً من أسباب سعة الرزق؛ لأنه هكذا أخبر من لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة).

الكير هو كير الحداد الذي ينفخ به النار، والظاهر أن المراد هنا نفخ النار.

وخبث الحديد والذهب والفضة هو الشوائب التي تكون في الحديد والذهب والفضة.

والحجة المبرورة هي التي وفيت أحكامها، فوقع الحج موافقاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، هذا معنى الحج المبرور.

فهنا يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من ثمرات المتابعة بين الحج والعمرة نفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، ولذلك ترجم الإمام ابن حبان لهذا الحديث فقال: ذكر نفي الحج والعمرة الذنوب والفقر عن المسلمين بهما.

وقال الإمام الطيبي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنهما ينفيان الفقر والذنوب): إزالته للفقر كزيادة الصدقة للمال، أي: كما أن الصدقة تزيد المال ولا تنقصه، بل حلف النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك حينما قال: (ما نقصت صدقة من مال)، فكذلك النفقة التي تنفقها في الحج والعمرة تنفي عنك الفقر.

وروى الإمام النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد).

صلة الرحم

ومن أسباب استنزال رزق الله سبحانه وتعالى صلة الرحم:

وقد كان السلف يحافظون على صلة الرحم، فيكافئون على ذلك بأن تنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا، وما تجد أهل بيت يتواصلون فيحتاجون.

وصلة الرحم لا تنحصر في صلتهم بالمال، بل مفهومها أوسع من ذلك، فإنها تكون بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والقول الجامع في معنى صلة الرحم: إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة.

والإسلام لا يمنع صلة الأرحام حتى مع الكافرين، فمن كان له أقارب كفار فإنه يؤمر بالإحسان إليهم، كما دل على ذلك قوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].

وسبب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما جاءتها أمها المشركة ترغب في صلتها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك).

وهذه الصلة لا تعني مودة الكافر أو مداهنته؛ لأن الله تعالى يقول: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، فلا يجتمع في قلب رجل الإيمان مع مودة أعداء الله؛ وذلك لأن من أحب أحداً امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، فلا يمكن حب المؤمنين مع حب أعداء الله عز وجل.

والإمام مالك استدل بهذه الآية الكريمة على معاداة المبتدعة وترك مجالستهم، وقال الإمام القرطبي معلقاً على ذلك: وفي معنى أهل البدع جميع أهل الظلم والعدوان. يعني أنهم يستحقون المقاطعة أيضاً.

وقال ابن كثير : أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين.

فالإنسان يصل رحمه ولو كانوا كافرين أو عصاة، مع دعوتهم إلى الإنابة وإلى الطاعة بقدر استطاعته، ويبذل كل جهده في ذلك، فإن أصروا على ما هم عليه بعد النصيحة فمقاطعة أحدهم في الله هي صلته، بشرط بذل الجهد في نصحهم ثم إعلامهم بأنهم إن أصروا على ما هم عليه فإنه سيقاطعهم بسبب ذلك، ولا بد أن يعلمهم أن سبب المقاطعة ما هم عليه من محاربة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يكف عن صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب عسى أن يعودوا إلى الطريقة المثلى.

الإنفاق في سبيل الله

ومن هذه الأسباب أيضاً: الإنفاق في سبيل الله تبارك وتعالى:

فهذا أحد مفاتيح الرزق التي يستنزل بها رزق الله عز وجل، يقول الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، فالإنفاق المرغب فيه في الدين كالإنفاق على الفقراء، والإنفاق لنصرة دين الله عز وجل، والإنفاق في الطاعات وعلى العيال والضيوف.

والأدلة على كون النفقة في سبيل الله عز وجل من أسباب استنزال رزق الله عز وجل كثيرة، منها قوله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] يعني: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث، ولا يقتصر على الثواب في الآخرة، لكن يخلفه عليكم أيضاً في الدنيا، فالنفقة إذاً سبب لاستنزال الرزق.

ذبحت إحدى زوجات النبي عليه الصلاة والسلام شاة، (فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة فقالت: ذهبت كلها وبقي الذراع لك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل بقيت كلها وذهب هذا الذراع) أي أن الذي تنفقه في سبيل الله باق لك، ومدخر ثوابه عند الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (ثلاث أقسم عليهن أو أحلف عليهن: -وذكر- ما نقصت صدقة من مال)، فالصدقة سبب للبركة فيما بقي من مال، ويخلف الله على الإنسان بدلها في الدنيا بجانب الأجر الذي يبقى له في الآخرة، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39].

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إل