الروض المربع - كتاب الصلاة [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو، أي: الأذان المختار خمس عشرة جملة؛ لأنه أذان بلال رضي الله تعالى عنه، من غير ترجيع الشهادتين، فإن رجعهما فلا بأس، يرتلها، أي: يُستحب أن يتمهل في ألفاظ الأذان، ويقف على كل جملة، وأن يكون قائماً على علو كالمنارة؛ لأنه أبلغ في الإعلام، وأن يكون متطهراً من الحدث الأصغر والأكبر، ويكره أذان جنب وإقامة محدث، وفي الرعاية: يُسن أن يؤذن متطهراً من نجاسة بدنه وثوبه].

قوله: (وهو أي الأذان المختار خمس عشرة جملة)، هذا هو مذهب الحنابلة فهم يرون أن أفضل الأذان هو أذان بلال ، وإن أذن بأذان أبي محذورة جاز، وذهب الإمام الشافعي و مالك إلى أن أفضل الأذان أذان أبي محذورة ، وأذان أبي محذورة تسع عشرة جملة، وهو مثل أذان بلال إلا أن فيه زيادة أربع جمل، وهي الشهادتان أربع مرات، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، سراً، ثم يرفع، ثم يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، سراً، ثم يرفع فهذه أربع جمل.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن أفضل الأذان أذان بلال ، فيكون الإمام أبو حنيفة و أحمد رحمه الله يرون أن الأذان الأفضل أذان بلال ، قال أحمد رحمه الله: الرسول صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة أذانه، فلما رجع إلى المدينة ما زال يؤذن بلال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأمرين.

والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم هو مذهب بعض السلف الذي اختاره محمد بن إسحاق بن خزيمة ، و أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة الأفضل فيها أن يفعلها الإنسان جميعاً، فيفعل هذا تارة على حسب الزمان والأحوال، ويفعل هذا تارة على حسب الزمان والأحوال، يقول ابن تيمية : "لأن ذلك أقرب إلى تمام السنة، ولأجل أن هجر بعض السنن وفعل بعضها ربما يأتي بعد زمن يقال للسنة بدعة.

ولأن فعل بعض السنن مرة تلو مرة أدعى لحضور القلب، فهو أفضل من أن يتعود اللسان على لفظ ربما لا يستشعره حين يقوله، مثال ذلك: دعاء الاستفتاح فإن أحمد رحمه الله يرى أن أفضل أدعية الاستفتاح استفتاح عمر بن الخطاب : ( سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك )، وأنت تجد أن الإنسان إذا تعود على هذا الدعاء فبمجرد أنه يكبر يقوله وربما لا يستشعر هل قاله أم لا، فلأجل أنه يتعود على ترك هذا الإلف ويستشعر ما يقول يفعل هذا تارة، ويفعل الدعاء الوارد عن أبي هريرة تارة وهو: ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي )، وغير ذلك.

والذي ذهب إليه أبو العباس بن تيمية رحمه الله هو الأفضل وهو رواية عند الإمام أحمد كما ذكر ذلك ابن رجب في القاعدة الثانية عشرة من قواعده الفقهية، وقد كنت قلت من قبل: إن إقامة أبي محذورة خمس عشرة جملة وهذا وهم مني، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التسديد في القول والعمل، والذي يظهر أن إقامة أبي محذورة سبع عشرة جملة، وكان وهماً من عندي قطعاً؛ لأن إقامة أبي محذورة مثل أذان بلال لكن فيه زيادة: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، فتكون سبع عشرة جملة؛ ولهذا روى النسائي و أبو داود و ابن ماجه و الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة جملة والإقامة سبع عشرة جملة )، زاد أبو داود و ابن ماجه و النسائي في رواية: ( فيقول في الأذان الله أكبر الله أكبر )، فذكر جميع أذان أبي محذورة ثم ذكر جميع إقامته للصلاة.

ترجيع الأذان

قال المؤلف رحمه الله: (فإن رجعهما فلا بأس) وهذا دليل عند أحمد أن العبادات الواردة بوجوه متنوعة تُفضل إحداها وتجوز الأُخر، وهذه قاعدة أحمد في المشهور عنه، فيُفضل استفتاح عمر ويجوز الاستفتاحات الأخرى، ويُفضل تشهد ابن مسعود ويُجوز التشهدات الأُخر، ويُفضل أذان بلال ويجوز أذان أبي محذورة ، وقلنا: إن الراجح أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، وإن كان المشهور في بلد أن يؤذن بأذان بلال مثلاً فإذا كان مع جماعته في مدرسة يريد أن يعلم الطلاب فلا بأس، أما تعليم العوام فلا يتأتى إلا من شخص له قيمته، وله تأثيره ويقتدي الناس به؛ حتى لا تقع بلبلة في المسجد.

التأني في الأذان

قال المؤلف رحمه الله: (يرتلها أي: يُستحب أن يتمهل في ألفاظ الأذان) فلا يحدرها حدراً، بخلاف الإقامة؛ لأن المقصود الدعاء والنداء إلى الصلاة، فإذا ذكرها حدراً لربما لم يسمعوه، ولو سمعوه ما فهموا قوله، ولأنه شُرع رفع الصوت فيه فناسب أن يتمهل فيه.

قال المؤلف رحمه الله: (ويقف على كل جملة) فيقول: الله أكبر ثم يقف، ويقول بعد ذلك: الله أكبر، وفي الشهادتين يقول: أشهد أن لا إله إلا الله ثم يقف، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وهكذا في شهادة أن محمداً رسول الله وفي كل جمل الأذان أما وقفه على كل جملة من غير التكبير فهذا لا أعلم خلافاً في استحبابه، أما التكبير فقد وقع فيه خلاف، فذهب بعضهم إلى أن الأفضل أن يقول: الله أكبر الله أكبر، ثم يقول بعد ذلك: الله أكبر الله أكبر، فيجمع بين التكبيرين، واستدلوا على ذلك بما جاء في صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله )، ثم قال في آخر الحديث، ( من قلبه دخل الجنة )، قالوا: فهذا يدل على أن المؤذن كان يجمع بين الجملتين في التكبير.

وقال بعضهم: إن الأفضل أن يذكر كل تكبير في جملة، فيقول: الله أكبر، ثم بعد ذلك يقول جملة أخرى، قالوا: لأن التكبير الثاني إنشاء وليس توكيداً، ولو كان توكيداً لكُرر كما تقول: جاء القوم أجمعون أجمعون، فلم تكن الجملة الثانية توكيداً حتى يقال تُكرر.

وقالوا أيضاً: قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: التكبير جزم، وهذا فسره ابن المبارك و البغوي في شرح السنة و المحب الطبري و ابن الأثير أنه لا يُمد ولا يُعرب، فيقف عند الراء مسكنة من غير ضم، وعلى هذا فيقولها جملة جملة؛ لأنه لو جعلها جملتين لقال: الله أكبرُ الله أكبرْ، فجعل الراء من غير تسكين، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم وهو موافق للقاعدة -التي تقول: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزل منزلة العموم في المقال- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُبين لـبلال ولم يُبين لـأبي محذورة هل يجمع أم يُفرد مع أن الدواعي متوفرة لبيان ذلك، وإنما علمهم جُمل الأذان وكل واحد صاغ ذلك بأسلوبه، وأن عدم تفصيل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك يدل على أن الأمر فيه سعة فإن شاء جمع وإن شاء أفرد..

القيام فالأذان

قال المؤلف رحمه الله: (وأن يكون قائماً) أجمع أهل العلم على أن الأفضل في حق المؤذن والمقيم القيام، ذكر الإجماع ابن المنذر رحمه الله، وقد جاء في قصة الأذان أن عبد الله بن زيد بن عبد ربه رأى الملك فعلمه الأذان، وفي رواية: ( أنه علمه وهو قائم )، وعند أبي داود رضي الله عنه: ( فقام فعلمني الأذان، ثم قعد قعدة، ثم قام فعلمني الإقامة )، فهذا يدل على استحباب القيام في الأذان؛ بل نُقل عن بعض الأصحاب أنه يتوجه ألا يُجزئ الأذان لغير القائم.

والذي يظهر والله أعلم أن ذلك خلاف السنة، ولكنه يصح؛ لأن المقصود من الأذان هو الدعاء والنداء إلى الصلاة، أو الإعلام بدخول وقت الصلاة على خلاف بين الفقهاء، وهذا حاصل خاصة في زماننا فلو جلس أمام الميكرفون وأذن فإن ذلك يؤدي المقصود.

الأذان في مكان مرتفع

قال المؤلف رحمه الله: (على علو كالمنارة لأنه أبلغ في الإعلام) يعني: أنه يؤذن في مكان عال، وقد روى أبو داود في قصة امرأة من بني النجار أنها قالت: ( كان بيتنا أرفع بيت في المدينة، وكان بلال يأتي فيؤذن فيه لصلاة الفجر )، وهذا يدل على أن بلالاً كان يتقصد المكان المرتفع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم منه ذلك فلربما أمره بذلك عليه الصلاة والسلام أو أقره عليه، والتقرير نوع من أنواع ثبوت السنة.

الأذان على طهارة

قال المؤلف رحمه الله: (وأن يكون متطهراً) فيُكره للإنسان خاصة في الأذكار المشروعة أن يذكر الله فيها على غير طُهر بخلاف الأذكار المطلقة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يذكر الله على كل أحيانه )، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أما الأذكار المخصوصة فإن السنة أن يقولها الإنسان متطهراً، وقد جاء عند أبي داود بسند جيد من حديث ابن عمر : ( أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى أتى إلى جدار فتيمم، ثم قال بعدما رد عليه السلام: إني كرهت أن أذكر الله وأنا على غير طُهر )، فدل ذلك على أن الأفضل أن يكون متطهراً، والتطهر هنا من الحدث الأصغر والحدث الأكبر.

أذان الجنب

قال المؤلف رحمه الله: (ويُكره أذان جُنب) يُكره أذان الجُنب لأمور:

أولاً: لأنه ليس أمراً معتاداً، أما المحدث حدثاً أصغر فربما شق عليه خاصة بعض المؤذنين الذين يأتون في أول الوقت فيخشون لو توضئوا أن يتأخروا، فهذا له مندوحة، أما الجُنب فلا، ثم إنه لو قيل: يحرم على الجنب الأذان ليس ببعيد خاصة وأن المؤذنين يدخلون المسجد، وتكون الحرمة هنا لأجل المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع دخول المسجد للجنب، وهذا قول جمهور أهل العلم خلافاً لـابن حزم ، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، ومعنى لا تقربوا الصلاة، يعني: مواضع الصلاة، كما ورد عن السلف رضي الله عنهم.

حكم إقامة المحدث

قال المؤلف رحمه الله: (وإقامة مُحدث)؛ لأن المحدث لو أقام سيتأخر عن تكبيرة الإحرام، وفوت تكبيرة الإحرام فيه فوت لفضيلة عظيمة، فقد جاء عن أنس مرفوعاً ولا يصح: ( من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كانت له براءتان: براءة من النفاق وبراءة من النار )، وصححه الألباني مرفوعاً، والذي يظهر أنه إلى الوقف أقرب.

وعلى هذا فلا ينبغي للمؤذن أن يقيم وهو محدث، والقول بالكراهة ليس ببعيد؛ لأنه وإن لم يثبت بخصوصه شيء لكننا نقول: إن بلالاً ما كان يقيم إلا وهو طاهر، وهذا أمر اعتاد المسلمون عليه، وسيؤدي إلى تأخر المؤذن عن تكبيرة الإحرام وربما عن الركعة الأولى.

قال المؤلف رحمه الله: (في الرعاية: يُسن أن يكون متطهراً من نجاسة بدنه وثوبه)، يعني: لا يلبس ثياباً نجسة، وهذه السنية أخذت بالأصل، والذي يظهر أن هذا على سبيل الأولوية.

استقبال القبلة في الأذان

قال المؤلف رحمه الله: [مستقبل القبلة؛ لأنها أشرف الجهات، جاعلاً أصبعيه السبابتين في أذنيه؛ لأنه أرفع للصوت، غير مستدير، فلا يزيل قدميه في منارة ولا غيرها، ملتفتاً في الحيعلة يميناً وشمالاً، أي: يُسن أن يلتفت يميناً لحي على الصلاة وشمالاً لحي على الفلاح، ويرفع وجهه إلى السماء فيه كله؛ لأنه حقيقة التوحيد، قائلاً بعدهما، أي: يُسن أن يقول بعد الحيعلتين في أذان الصبح ولو أذن قبل الفجر: الصلاة خير من النوم مرتين؛ لحديث أبي محذورة رواه أحمد وغيره، ولأنه وقت ينام الناس فيه غالباً، ويكره في غير أذان الفجر وبين الأذان والإقامة].

قول المؤلف: (مستقبل القبلة) يعني: يستحب للمؤذن إذا أراد أن يؤذن أن يستقبل القبلة، وهذا أمر مُجمع عليه. قال ابن المنذر : وأجمعوا على أن من السنة أن يستقبل القبلة في الأذان.

ومما يدل على استحباب ذلك ما ورد عند أبي داود و البيهقي أن الملك الذي جاء إلى عبد الله بن زيد بن عبد ربه في المنام: ( حين علمه الأذان استقبل به القبلة )، وهذا يدل على أن كل إجماع له مستند من الشرع.

وضع الأصبعين في الأذنين عند الأذان

قال المؤلف رحمه الله: (جاعلاً أصبعيه السبابتين في أذنيه؛ لأنه أرفع للصوت)، ذكر المؤلف استحباب أن يجعل المؤذن أصبعيه السبابتين في أذنيه، يعني: في صماخ أذنيه؛ لأجل أن ذلك أرفع للصوت.

أما وضع الأصبعين في الأذنين فقد جاء فيه حديث عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه: ( أنه رأى بلالاً يؤذن وأصبعيه السبابتين في أذنيه وجعلت أتتبع فاه يميناً وشمالاً )، يعني: بالحيعلتين، وهذا الحديث ظاهره الصحة، ولهذا قال عنه الترمذي : وهذا حديث حسن صحيح، وصححه البيهقي ، وقال ابن رجب : ورواه وكيع عن الثوري عن رجل عن أبي جُحيفة، فجعل بدل عون بن أبي جُحيفة رجلاً، وهذا يدل على أن بعض الرواة أحياناً يسير على الجادة، والجادة هي: أن أكثر الرواة عن أبي جُحيفة الصحابي هو ابنه، فـسفيان الثوري مرة يروي عن ابنه ومرة يروي عن رجل عن أبي جُحيفة ، فيأتي بعض الرواة بسبب كثرة المحفوظ فيذكر هذا على الجادة فيقول: حدثنا سفيان عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه، ثم يأتي بعض الرواة وهم ربما أوثق أو أكثر صلة أو مثلهم فيروونه بطريقة ليست على الجادة، فيرى الأئمة الكبار أن الرواية التي ليست على الجادة أدعى للقبول؛ لأن هذا عنده زيادة علم.

ولهذا يقول ابن رجب : ورواه وكيع عن الثوري عن رجل عن أبي جُحيفة ، وهذا إشعار بتضعيف رواية عبد الرزاق ؛ لأن عبد الرزاق روى عن عون ، ولهذا لم يخرجها البخاري ولا مسلم مع أن البخاري و مسلم أخرجا حديث أبي جُحيفة من حديث عون عن أبيه، فلم يذكروا هذه اللفظة، ورواها البخاري معلقة بصيغة التمريض فقال: ويُذكر عن بلال أنه أذن وأُصبعاه في أذنيه، وهذا يدل على أن البخاري أشار إلى هذا التعليل، وهذا من دقته وعنايته بالبحث في العلل؛ ولهذا جاء عند أحمد رواية: أن السنة أن يضع المؤذن يديه في أذنيه، بأن يجمع أصابعه الأربع من غير الإبهام فيضعها في أذنيه ويؤذن، وهذا جاء في بعض الروايات ولعل ذلك أظهر، والله أعلم، وعلى هذا فالسنة أن يضع يديه، وليس أصبعيه.

وأما قول المؤلف: (لأنه أرفع للصوت) فقد جاء ذلك صريحاً عند ابن ماجه عن أولاد سعد بن القرظ عن جدهم سعد : ( أنه رأى بلالاً يؤذن وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يضع أصبعيه في أذنيه وقال: لأنه أرفع لصوتك )، وهذا الحديث في سنده ضعف، لكن من باب بيان الحكمة من وضع الأصبعين.

الالتفات والاستدارة في الأذان عند الحيعلتين

قال المؤلف رحمه الله: (غير مستدير فلا يُزيل قدميه في منارة ولا في غيرها) جاء في بعض الروايات كما روى ذلك الترمذي : ( أن بلالاً أذن وجعل يدور )، ومعنى الاستدارة: استدارة الرأس دون الرقبة؛ لأن الرأس يسهل تحريكه يميناً وشمالاً، أما تحريك الرقبة فيقال عنه يدور، مثل ما يفعله بعض المؤذنين، فإنك تجد أن كتفه الأيمن يستقبل القبلة ثم إذا التفت للحيعلتين جعل كتفه الأيمن إلى غير القبلة وهذا ليس من السنة، وما جاء في حديث أبي جُحيفة فإن في سنده الحجاج بن أرطأة ولا يصح، ولهذا أجاد المؤلف حين قال: (غير مستدير)، فإن السنة أن يستقبل القبلة فإذا قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح، حرك رأسه فقط.

ولهذا قال المؤلف: (مُلتفتاً في الحيعلة يميناً وشمالاً) وفي رواية وكيع عن سفيان يُحرك رأسه يميناً وشمالاً، هذا هو السنة، يُحرك يميناً وشمالاً.

هل هناك حكمة الظاهرة للالتفات؛ فإذا وجدت الحكمة وجد الالتفات، وإذا انتفت الحكمة في زمن انتفى الالتفات؟ فنقول: إن المقصود من الالتفات أن يُسمع من عن يمينه ومن عن شماله، وعلى هذا فإذا كان هناك ميكرفون فإنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ لأن التفاته يقلل من صوته. لكن هل الحكمة تعبدية؟ الذي يظهر والله أعلم أن الحكمة هي أن يسمع من عن يمينه ومن عن شماله، وعلى هذا فإذا وجد ميكرفون فإنه لا يلتفت، ومما يدل على ذلك ما ذكره الشوكاني أنه جاء في بعض الروايات: ( أن جماعة كانوا في سفر وأراد المؤذن أن يُبين لهم دخول وقت الصلاة فانطلق إلى أعلى الوادي وأذن لهم من غير التفات )، وهذا الذي يظهر والله أعلم.

وإذا لم يكن عندهم ميكرفون وكانوا في البر فإن السنة للمؤذن أن يلتفت؛ لكي يسمع جماعته ولأجل أن يشهد له كل بر وفاجر، فقد ورد في بعض الروايات: ( فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة ).

وهل يلتفت في (حي على الصلاة) مرة عن يمينه ومرة عن شماله، ثم في (حي على الفلاح) مرة عن يمينه ومرة عن شماله، أم في (حي على الصلاة) يلتفت عن يمينه وفي (حي على الفلاح) يلتفت عن شماله؟

نقول: لم يُذكر في طريقة الأذان فدل ذلك على أن المقصود أن يُسمع من عن يمنيه ومن عن شماله، سواء جعل حي على الصلاة كلها عن يمينه، وحي على الفلاح كلها عن شماله، أو جعل حي على الصلاة يميناً وشمالاً، وحي على الفلاح يميناً وشمالاً، فكل ذلك جائز من غير استحباب شيء والله أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم بلالاً و أبا محذورة جُمل الأذان ولم يعلمهم كيف يؤدونه، فقد ورد أنه قال لـعبد الله بن زيد : ( اذهب إلى بلال فعلمه الأذان فإنه أندى صوتاً منك )، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما علم بلالاً جُمل الأذان ولكن أقره على ذلك بتقريره عبد الله بن زيد بن عبد ربه ، والله أعلم.

رفع المؤذن وجهه إلى السماء

قال المؤلف رحمه الله: (ويرفع وجهه إلى السماء فيه كله)، يعني: إذا أراد أن يؤذن يرفع رأسه وفمه إلى السماء وقد استحب ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، يقول ابن تيمية مقرراً هذا ومستدلاً له: لأن التهليل والتكبير إعلان بذكر الله لا يصلح إلا له، فاستُحب له الإشارة إليه وهذا بخلاف الصلاة والدعاء إذ المستحب فيه خفض الصوت فلأجل هذا لا يرفع بصره إلى السماء.

وهذه المسألة ما دام أنه لم يثبت فيها سنة، نقول: إن رفع جاز وإن ترك جاز أيضاً؛ لعدم ورود أدلة في ذلك، والله أعلم.

قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر

قال المؤلف رحمه الله: (قائلاً بعدهما، أي: يُسن أن يقول بعد الحيعلتين في أذان الصبح ولو أذن قبل الفجر: الصلاة خير من النوم مرتين)، أي: يُستحب للإنسان إذا أذن لأذان الفجر أن يقول بعد الحيعلتين وقبل التكبير: الصلاة خير من النوم مرتين؛ لما روى البيهقي بإسناد صحيح وصححه من حديث أنس أنه قال: من السنة إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أن يقول: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، وقول الصحابي: من السنة دليل على أن الحديث مرفوع، وروى الإمام أحمد و أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة ذلك فقال له: ( وإذا أذنت بالأول من الصبح فقل: الصلاة خير من النوم ).

وإذا ثبت هذا هل يقوله في الأذان الأول الذي قبل دخول الوقت أم يقوله في الأذان الثاني الذي بعد دخول الوقت؟

ذهب بعض أهل العلم إلى أن السنة أن يقوله في الأذان الأول الذي قبل دخول الوقت، وهذا رجحه الألباني رحمه الله في كتابه تمام المنة ونصره، واستدل على ذلك بحديث ابن عمر أنه قال: ( إذا أذنت بالأول من الصبح فقل: الصلاة خير من النوم ).

وذهب بعض أهل العلم -وهو الذي يظهر- إلى أنها تقال في الأذان الثاني الذي بعد دخول الوقت، وذلك لأمور:

أولاً: أنه جاء في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر و عائشة : ( إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم )، وفي رواية لـابن مسعود : (إن بلالاً يؤذن ليرجع قائمكم، وينبه نائمكم )، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يتناسب أن يقول ذلك في الأذان الأول.

ثانياً: أن حديث ابن عمر : ( إذا أذنت بالأول من الصبح )، إنما قاله لـأبي محذورة وقد علم أبا محذورة أن يؤذن أذاناً واحداً، وأما الأذان الذي قبل دخول الوقت فإنما هو لـبلال ، فيكون أذان أبي محذورة إنما هو في الأذان المعتاد الذي يكون بعد دخول الوقت فيكون قوله: ( أذنت بالأول من الصبح ) يقصد بالأول مقارنة بالإقامة؛ لأن الإقامة تسمى أذاناً، وهذا الذي يظهر والله أعلم.

ولهذا قال المؤلف: (ولأنه وقت ينام الناس فيه غالباً، ويُكره في غير أذان الفجر وبين الأذان والإقامة)، ولكنه قال: (ولو أذن قبل الفجر)، والصحيح والراجح أنه لو أذن قبل الفجر فإنه لا يقول: الصلاة خير من النوم.

الاكتفاء بأذان واحد قبل دخول الوقت في الفجر

قال المؤلف رحمه الله: (ولو أذن قبل الفجر) أفادنا أنه لو أذن قبل الفجر أذاناً واحداً أجزأ ذلك عن الأذان الذي بعد دخول الفجر، وهذا محل توقف، وهذا في صلاة الفجر خاصة.

ولكن الذي يظهر أن الأذان قبل الفجر لا يُكتفى به، وهذه رواية عند الإمام أحمد واختارها ابن سعدي وهذا هو الراجح والله أعلم، وسوف يأتي بيانه إن شاء الله.

وأما في غير أذان الفجر كما لو تعود الناس أن يناموا بعد الظهر فلا يقل المؤذن في العصر: الصلاة خير النوم؛ لأن هذا غير مشروع، والله أعلم.

حكم من قال شيئاً بين الأذان والإقامة

هنا مسألة هل يُشرع أن يقول شيئاً بين الأذان والإقامة؟ مثل إذا تأخر الناس عن الحضور يقول: الصلاة الصلاة! يا جماعة الصلاة! أم لا؟ وهذا يوجد في بعض القرى، وهذا بلا شك غير مشروع، وقد روى أبو داود عن مجاهد أن ابن عمر كان بالمسجد فجاء المؤذن فجعل ينادي: الصلاة يا أمير المؤمنين! فخرج ابن عمر وقال: أخرجتني البدعة، أخرجتني البدعة.

أسأل الله أن يرزقنا وإياكم التوفيق والتسديد، وأن يجعلنا على هدي محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.