شرح أخصر المختصرات [75]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [كتاب الجنايات

.

القتل: عمدٌ, وشبه عمدٍ, وخطأٌ.

فالعمد يختصّ القود به، وهو أن يقصد من يعلمه آدميًّا معصومًا، فيقتله بما يغلب على الظّنّ موته ‏به، كجرحه بما له نفوذٌ في البدن، وضربه بحجرٍ كبيرٍ.

وشبه العمد أن يقصد جنايةً لا تقتل غالبًا. ولم يجرحه بها، كضرب سوط أو عصا.

والخطأ أن يفعل ما له فعله كرمي صيدٍ ونحوه، فيصيب آدميًّا. وعمد صبيٍّ ومجنونٍ خطأٌ، ويقتل ‏عددٌ بواحدٍ، ومع عفوٍ يجب ديةٌ واحدةٌ.

ومن أكره مكلفاً على قتل معين أو على أن يكره عليه ففعل فعلى كل القود أو الدية، وإن أمر به غير مكلف أو من يجهل تحريمه، أو سلطان ظلماً من جهل ظلمه فيه لزم الآمر].

كتاب الجنايات هو القسم الرابع والأخير من أقسام الفقه؛ حيث إن الفقهاء قسموه إلى أربعة أقسام، فبدؤوا بقسم العبادات لأنه حق الله على عباده، ثم بعد ذلك بقسم المعاملات؛ لأن الإنسان بحاجة إلى تحصيل الحلال من المال لقوته وغذائه، ثم بقسم عقد النكاح وما يستلزمه؛ لأنه بعد تحصيله للقوت والغذاء يشتاق إلى النكاح، ثم بعد ذلك بقسم الجنايات؛ لأن الغالب أن من تمت عليه النعمة يتعدى ضرره إلى غيره بالقتل، أو بما دون القتل من الجنايات.

والجناية: هي التعدي، يقال: جنى على غيره أي: تعدى بقتل، أو نهب، أو جرح، أو قدح، أو غير ذلك. ولا شك أنه من المحرمات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، فالله تعالى جعل المؤمنين إخوة، وحرم الاعتداء من بعضهم على بعض، وأمر المسلم بأن يذب عن عرض أخيه المسلم، وأمره بأن ينصره بقوله: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم)، فإذا كنت مأموراً أن تنصره فإنك منهي عن أن تضره.

وأشد الضرر الاعتداء على بدنه بقتل أو جرح أو بقطع طرف أو غير ذلك، وهو أعظم الاعتداء، ولذلك ورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) يعني: أول ما يقضى بينهم من الاعتداءات في الدماء، أي: في القتل أو الجراح أو نحو ذلك. فإن من أعظم الاعتداءات أن يعتدي على مسلم بإراقة دمه.

تحريم القتل في القرآن

جاء في القرآن تحريم القتل في مواضع، كقوله تعالى في سورة الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151] يعني: إذا كانت مستحقة القتل. وقال تعالى في سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً [الإسراء:33] أي: لا يزيد ويقتل أكثر من القاتل، بل لا يقتل إلا نفساً واحدة.

حكم توبة القاتل

كون القتل ظلماً ذنباً كبيراً اختلف في توبة القاتل:

فروي عن ابن عباس أنه قال: ليس له توبة؛ لأن الله تعالى قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، وعيد شديد لمن يقتل مؤمناً متعمداً، ولا يدخل النسخ في هذا؛ لأنه من الأخبار، والنسخ إنما يدخل في الأوامر لا في الأخبار، فلذلك قال: إنه لا توبة له، ولابد أن يعذب ويخلد في النار تحقيقاً لهذه الآية.

القول الثاني: له توبة، والدليل أنه ذكر الله تعالى كبائر الذنوب في قوله في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:68-70]، فأخبر بأنه يقبل توبتهم، وإذاكان الله تعالى يقبل توبة المشرك فالقاتل من باب الأولى؛ لأن القتل دون الشرك، فهذا دليل من يقول: إنها تقبل توبته.

الجواب على آية النساء المخلدة للقاتل في النار

ذكر ابن القيم أن القاتل تتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله؛ لأن القاتل تعدى حرمات الله، وهذا الحق يسقط بالتوبة الصادقة.

الثاني: حق للأولياء؛ لأن القاتل قتل أباهم أو قتل ابنهم أو قتل موليهم، وهذا الحق يسقط بالعفو، أو يسقط بالقصاص، أو يسقط بأخذ الدية.

الحق الثالث: هو حق المقتول الذي قطع عليه حياته، يعني: أماته واعتدى عليه، فله حق على ذلك القاتل، فإذا كان القاتل قد تاب توبة نصوحاً فإن الله تعالى يتحمل حقه ويعطيه من فضله ويعفو عن ذلك القاتل.

وقد استدل أيضاً بقول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:53-54]، فأمرهم بأن ينيبوا، أي: يتوبون ولو كانت ذنوبهم كثيرة، وأخبر بأنه يغفر الذنوب جميعاً، يعني: لمن تاب. وإذا كان كذلك فكيف الجواب عن آية النساء التي أخبر تعالى فيها بأن من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً؟!

قال بعض العلماء: هذا في حق المستحل الذي يقتل مستحلاً ويعتقد أنه حلال؛ فإن من استحل ما حرم الله فقد كفر، إذا استحل شيئاً قد حرمه الله معلوم تحريمه بالضرورة فإنه يعتبر ضالاً أو كافراً، كذلك أيضاً قال بعضهم: إن هذا الوعيد معلق، يعني: كأن الجزاء ليس دائماً. يقول ابن جرير : المختار أن قوله: (فجزاؤه) معلق بشرط. يعني: إن جازاه. فجزاؤه جهنم إن جازاه، وإلا فإن الله تعالى قد يعفو ويصفح، ولا يجازيه بهذا الجزاء الكبير، سيما إذا ندم وتاب، وقالوا: إنه يمدح بالعفو عن الذنب ونحوه، ولا يمدح بترك الخير، يقول الشاعر العربي:

وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فالوعد: هو الوعد بالخير. والإيعاد: هو التوعد بالشر. يقول: إذا توعدته أخلفت وعيدي، وإذا وعدته فلا أخلف وعدي. وعلى كل حال فإن هذا دليل على عظم الذنب الذي هو إراقة دم مسلم بغير حق، أما إذا كان بحق فإنه جائز؛ لأن في القرآن: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151].

متى يحل دم المرء المسلم؟

ولإباحة قتله ثلاث حالات، هي المذكورة في حديث ابن مسعود المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذا دليل على أن الذي يفعل واحداًمن هذا يحل دمه.

فالثيب الزاني هو الذي زنى وهو محصن، فهذا يقتل حداً ولا يكفر بقتله، ولهذا يصلى عليه ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين، والنفس بالنفس أي: قتل القاتل؛ فإنه من جملة ما أمر الله به، بل قد جاء ما يدل على وجوبه عند طلب أولياء القتيل، واستدل بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] (كتب) يعني: فرض عليكم. ولكن هذا فيما إذا طلب الأولياء القصاص، ولهذا قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] أي أن من طلب القتل طلب قصاص فله، فإذا عفا فأجره على الله. ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ظن بعض الأعراب أن حرمتها قد زالت، فقتل بعضهم بالثأر الجاهلي، فقتلت هذيل رجلاً بثأر قديم، وقالوا: زالت حرمة مكة. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب وأخبر بحرمة مكة، ثم قال: (فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يدى، فإن أراد الثانية فخذوا على يديه)، فإذا قتل له قتيل فلا يقتل إلا القاتل، أو يأخذ الدية إذا لم يعف مطلقاً، فإذا قال: أريد ما نحن عليه في الجاهلية إذ بعض القبائل التي لها عز ومكانة لا يقتلون بالمقتول واحداً منهم، بل يقتلون أكثر من واحد، وكم قتل المهلهل بأخيه كليب حتى كاد أن يفني بكر بن وائل، ولما أرسل بعض بني بكر ابناً له إلى المهلهل وقال: اقتله وتنتهي هذه الحرب قام وقتله وقال: هذا بشسع نعل كليب. يعني أنه ليس فداء لـ كليب ، وإنما هو بشسع نعل كليب ، فغضب أبوه وأنشأ قصيدة طويلة، وهي التي يقول فيها:

قربا مربط النعامة مني إن قتل الرجال بالشسع غالي

قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن عيالي

يقول فيها: (قربا مربط النعامة مني) في خمسين بيتاً، وحميت الحرب بينهم حتى أنهكت كلاً من القبيلتين بكر وتغلب، والواقع أنهم يجتمعون في وائل، فبكر هو ابن وائل وتغلب أيضاً ابن وائل، فقتل خلقاً كثيراً في أخيه كليب ، فجاء الإسلام وقرر أنه لا يقتل إلا واحد، فالنفس بالنفس في هذه الآية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] ، وكذلك في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس) أي: لا زيادة، فلا يقتل اثنان في واحد، ولا يقتل غير القاتل ولو كان القاتل، وضيعاً فلا يقولون: نقتل به شريفاً، قتيلنا من الأشراف فلا نقتل إلا من له مكانة. فالله تعالى جعلهم على حد سواء لا فضل لهذا على هذا، (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) هكذا جاء الحديث.

فالنفس بالنفس، فلا يقتل إلا من قتله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه) يعني: المرتد؛ لقوله: (من بدل دينه فاقتلوه) (التارك لدينه المفارق للجماعة)، فأما بقية المسلمين فلا يجوز استحلال دم امرئ مسلم بغير حق، ففي الحديث: (لا يحل إراقة قدر محجمة دم إلا بحقه).

ذكروا أن القصاص واجب عند اليهود، والعفو إلى دية أو نحوه واجب عند النصارى، وجاء في هذه الشريعة أنه ليس بواجب ولكن مخير، إن شاء قتل، وإن شاء عفا مطلقاً، وإن شاء عفا إلى الدية؛ لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] يعني: عفي له إلى الدية: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178] والعفو مطلقاً أفضل كما سيأتي.

والحاصل أن هذا القصاص يتعلق بالاعتداء الذي هو في النفس أو فيما دون النفس، وجاء الإسلام بشرعيته، ثم إن الدول التي تحكم بالقوانين أبطلت هذا الحكم، يقول قائلهم: إذا قتل منا واحد نقص شعبنا، فكيف نقتل الثاني فإنه ينقص شعبنا أكثر؟! ولكن ما علموا أن ترك قتله سبب لكثرة القتل، كان العرب يقولون: (القتل أنفى للقتل) أي: قتل القاتل أقل لوقوع القتل، فجاء في القرآن قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، فالقصاص سبب للحياة كيف؟

الذي يريد أن يقتل أو يهم بالقتل يأتيه التفكير ويقول: إذا قتلته قتلت، فما فائدتي من هذا القتل كوني أني أقتله؟ هذا لا يفيدني، ولو أني شفيت غيظي في هذه اللحظة فسوف يقتلونني غداً أو بعد غد. فيقلع ويترك القتل، فيكون خوفه من القتل سبب تركه للقتل، فهذا معنى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، وقول العرب: (القتل أنفى للقتل) يعني: أقل للقتل.

فالدول التي لا تحكم بهذا القصاص يكثر فيها القتل، يقتل إنسان واحداً وعدداً ويقول: لا ضرر علي، سوف يدخلونني في السجن مدة طويلة أو قصيرة ثم بعد ذلك يخلى سبيلي. فيقدم على القتل، وكثر القتل في كثير من الدول، وصار قتل الرجل كأنه قتل نعجة، لا يحصل عليه تبعات، مع ما ورد من الإثم الكبير في قتل مسلم بغير حق، أو قتل أية نفس عدواناً، بذلك نعرف أن الشريعة ما جاءت إلا بالأحكام الشرعية التي تناسب المقام، والتي فيها الخير والمصلحة.

جاء في القرآن تحريم القتل في مواضع، كقوله تعالى في سورة الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151] يعني: إذا كانت مستحقة القتل. وقال تعالى في سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً [الإسراء:33] أي: لا يزيد ويقتل أكثر من القاتل، بل لا يقتل إلا نفساً واحدة.

كون القتل ظلماً ذنباً كبيراً اختلف في توبة القاتل:

فروي عن ابن عباس أنه قال: ليس له توبة؛ لأن الله تعالى قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، وعيد شديد لمن يقتل مؤمناً متعمداً، ولا يدخل النسخ في هذا؛ لأنه من الأخبار، والنسخ إنما يدخل في الأوامر لا في الأخبار، فلذلك قال: إنه لا توبة له، ولابد أن يعذب ويخلد في النار تحقيقاً لهذه الآية.

القول الثاني: له توبة، والدليل أنه ذكر الله تعالى كبائر الذنوب في قوله في سورة الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان:68-70]، فأخبر بأنه يقبل توبتهم، وإذاكان الله تعالى يقبل توبة المشرك فالقاتل من باب الأولى؛ لأن القتل دون الشرك، فهذا دليل من يقول: إنها تقبل توبته.

ذكر ابن القيم أن القاتل تتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله؛ لأن القاتل تعدى حرمات الله، وهذا الحق يسقط بالتوبة الصادقة.

الثاني: حق للأولياء؛ لأن القاتل قتل أباهم أو قتل ابنهم أو قتل موليهم، وهذا الحق يسقط بالعفو، أو يسقط بالقصاص، أو يسقط بأخذ الدية.

الحق الثالث: هو حق المقتول الذي قطع عليه حياته، يعني: أماته واعتدى عليه، فله حق على ذلك القاتل، فإذا كان القاتل قد تاب توبة نصوحاً فإن الله تعالى يتحمل حقه ويعطيه من فضله ويعفو عن ذلك القاتل.

وقد استدل أيضاً بقول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:53-54]، فأمرهم بأن ينيبوا، أي: يتوبون ولو كانت ذنوبهم كثيرة، وأخبر بأنه يغفر الذنوب جميعاً، يعني: لمن تاب. وإذا كان كذلك فكيف الجواب عن آية النساء التي أخبر تعالى فيها بأن من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً؟!

قال بعض العلماء: هذا في حق المستحل الذي يقتل مستحلاً ويعتقد أنه حلال؛ فإن من استحل ما حرم الله فقد كفر، إذا استحل شيئاً قد حرمه الله معلوم تحريمه بالضرورة فإنه يعتبر ضالاً أو كافراً، كذلك أيضاً قال بعضهم: إن هذا الوعيد معلق، يعني: كأن الجزاء ليس دائماً. يقول ابن جرير : المختار أن قوله: (فجزاؤه) معلق بشرط. يعني: إن جازاه. فجزاؤه جهنم إن جازاه، وإلا فإن الله تعالى قد يعفو ويصفح، ولا يجازيه بهذا الجزاء الكبير، سيما إذا ندم وتاب، وقالوا: إنه يمدح بالعفو عن الذنب ونحوه، ولا يمدح بترك الخير، يقول الشاعر العربي:

وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فالوعد: هو الوعد بالخير. والإيعاد: هو التوعد بالشر. يقول: إذا توعدته أخلفت وعيدي، وإذا وعدته فلا أخلف وعدي. وعلى كل حال فإن هذا دليل على عظم الذنب الذي هو إراقة دم مسلم بغير حق، أما إذا كان بحق فإنه جائز؛ لأن في القرآن: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151].