شرح أخصر المختصرات [16]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ومن أدخل إلى جوفه، أو مجوف في جسده كدماغ وحلق شيئاً من أي موضع كان غير إحليله، أو ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه، أو استقاء فقاء، أو استمنى، أو باشر دون الفرج فأمنى، أو ‏أمذى، أو كرر النظر فأمنى، أو نوى الإفطار، أو حجم، أو احتجم عامداً مختاراً ذاكراً ‏لصومه؛ أفطر، لا إن فكر فأنزل، أو دخل ماء مضمضة أو استنشاق حلقه، ولو بالغ أو زاد على ‏ثلاث.

ومن جامع برمضان نهاراً بلا عذر شبق ونحوه فعليه القضاء والكفارة مطلقاً، ولا ‏كفارة عليها مع العذر: كنوم، وإكراه، ونسيان، وجهل، وعليها القضاء، وهي: عتق رقبة، فإن لم يجد ‏فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت.‏

وكره أن يجمع ريقه فيبتلعه، وذوق طعام، ومضغ علك لا يتحلل، وإن وجد طعمهما في ‏حلقه أفطر، والقبلة ونحوها ممن تحرك شهوته.

ويحرم إن ظن إنزالاً، ومضغ علك يتحلل، وكذب وغيبة ونميمة وشتم ونحوه بتأكد.

وسن تعجيل فطر، وتأخير سحور، وقول ما ورد عند فطر، وتتابع القضاء فوراً.

وحرم ‏تأخيره إلى آخر بلا عذر، فإن فعل وجب مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم، وإن مات ‏المفرط ولو قبل آخر أطعم عنه كذلك من رأس ماله، ولا يصام، وإن كان على الميت نذر من ‏حج، أو صوم، أو صلاة ونحوها سن لوليه قضاؤه، ومع تركة يجب، لا مباشرة ولي .

فصل: يسن صوم أيام البيض، والخميس والإثنين، وست من شوال، وشهر الله المحرم، وآكده ‏العاشر ثم التاسع، وتسع ذي الحجة، وآكده يوم عرفة لغير حاج بها.

‏وأفضل الصيام صوم يوم وفطر يوم.

وكره إفراد رجب والجمعة والسبت والشك، وكل عيد ‏للكفار، وتقدم رمضان بيوم أو بيومين ما لم يوافق عادة في الكل.

وحرم صوم العيدين مطلقاً، وأيام التشريق إلا عن دم متعة وقران.

ومن دخل في فرض موسع حرم ‏قطعه بلا عذر، أو نفل غير حج وعمرة كره بلا عذر]. ‏

يتكلم الفقهاء في كتاب الصوم على من يلزمه الصيام، ثم بماذا يلزم؟ ثم يتكلمون عن المفطرات، وعن غير المفطرات مما يظن أنه مفطر أو نحوه، ويتكلمون أيضاً عن المكروهات في حال الصيام، ثم يتكلمون عن صيام التطوع، وما يلزم فيه وآكده ونحو ذلك، ثم بعدما ينتهون من باب الصيام يتبعونه بالاعتكاف؛ لما له من الصلة بالصيام.

ذكر هاهنا ما يفطر به الصائم، الصيام في الأصل يكون: عن الأكل والشرب وعن الجماع، ولذلك قال الله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ [البقرة:187] فأباح بالليل المباشرة والأكل والشرب إلى أن يتبين الفجر، ثم أمر بالإمساك عن هذه الأشياء -الأكل والشرب والوطء- إلى الليل: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، لكن لما كان الأكل هو إدخال الطعام إلى الجوف تكلم الفقهاء على ما يلحق به مما يدخل إلى الجوف، فقالوا: إن من أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان فإنه يفطر؛ وذلك لأنه شبيه بالتغذي، ولأن الغذاء هو إدخال الطعام إلى الجوف عن طريق الفم عادة أو عن طريق الأنف أو غير ذلك.

أمور مختلف في وقوع الإفطار بها

قوله: (ومن أدخل إلى جوفه، أو مجوف في جسده كدماغ وحلق) يعني: إذا جرح أو شج في رأسه فداوى الجرح، ودخل الدواء إلى دماغه في رأسه؛ فقد دخل هذا الدواء إلى مجوف فهل يفطر بذلك أم لا؟

هناك أسباب متفق على الفطر بها وأسباب مختلف فيها، وهذا من المختلف فيه، فقيل: يفطر؛ لأنه أدخل شيء إلى مجوف وهو الدماغ فإنه جوف الرأس، وقيل: لا يفطر، ولعل الأقرب أن هذا معالجة جرح، وليس بغذاء، ولا يسمى آكلاً ولا شارباً إذا أدخل إلى دماغه دواء.

قوله: (كدماغ أو حلق) لا شك أن الحلق يوصل إلى الجوف؛ لأن الطعام يدخل عن طريق الحلق إلى المريء الذي هو مدخل الطعام والشراب، فإذا وصل إلى حلقه فإنه يعتبر داخلاً في جوفه، فيفطر ولو بقطرة أو قطرات من ماء أو نحوه.

قوله: (من أي موضع كان غير إحليله) الإحليل: هو مخرج البول، يعني: الثقب الذي في رأس الذكر، فإذا أدخل منه شيئاً فإنه لا يفطر به، لماذا؟ لأنه لا يصل إلى الجوف، والبول الذي يخرج من الإحليل (من هذا الثقب) ليس من الجوف، وإنما هو من المثانة، والمثانة ليس لها منفذ، وإنما يأتي إليها البول عن طريق الرشح، بمعنى أنه يجتمع البول في أسفل البطن، ثم تمتصه هذه المثانة، فيدخل إليها عن طريق الرشح، مثل رشح القربة التي في جوفها ماء وليس فيها خروق، ولكن لابتلالها يرشح الماء من ظاهرها.

فعلى هذا لا يكون الإحليل منفذاً، فإذا أدخل منه شيئاً فليس داخلاً إلى الجوف، بخلاف ما إذا أدخل من دبره.

أما الإدخال من الأذن ففيه أيضاً خلاف، وكذلك الإدخال من العين، ذكر الأطباء أن في العين عرقاً يتصل بالخياشيم، ولذلك إذا اكتحل في عينه فإنه يحس بأثر الكحل في خياشيمه، وكذلك إذا قطر في عينه قطرة حارة أو حامضة أو مالحة أحس بطعمها أو أحس بحرارتها في خياشيمه؛ فتصل إلى الفم، ولكن هل يسمى هذا أكلاً أو شرباً؟

لا يسمى أكلاً ولا شرباً إذا جاء عن طريق العين أو عن طريق الأذن، ومع ذلك فإن أكثر الفقهاء قالوا: إذا أحس بطعم القطرات -التي في عينه أو في أذنه- في خياشيمه فإنه يفطر إذا كان متعمداً، ورجح شيخ الإسلام أنه لا يفطر؛ لأن العين والأذن ليستا منفذاً محسوساً للأكل والشرب بخلاف الفم والأنف، فإنه منفذ محسوس، ومعلوم أن الماء إذا دخل في الخياشيم (المنخرين) دخل إلى الجوف، وقد ثبت في حديث لقيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).

قوله: (أو ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه) النخامة تارة تخرج من الرئة (من الجوف) فتصل إلى حلقه، فإذا أخرجها فوصلت إلى لسانه ثم عاد وابتلعها فقد ابتلع شيئاً له جرم فيفطر، وكذلك لو نزلت من رأسه ثم أخرجها عن طريق الفم فوصلت إلى فمه ثم أعاد ابتلاعها؛ لأنه ابتلع شيئاً له جرم.

حكم القيء والاستمناء للصائم

القيء ورد فيه حديث صححه جمع من العلماء، وضعفه بعضهم، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من استقاء فقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه) فإذا استقاء متعمداً بأن أدخل يده في حلقه حتى أخرج الطعام أو الشراب من جوفه فعليه القضاء، فأما إذا غلبه القيء وخرج قهراً فإنه معذور، فلا قضاء عليه.

وكذلك إذا استمنى بيده -وهو ما يسمى بالعادة السرية- فإنه يجب عليه القضاء؛ وذلك لأنه عالج شهوته بيده، فيكون بذلك متسبباً لقضاء شهوة، والصائم يجب أن يتجنب ذلك، قال الله في الحديث القدسي: (ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي).

وكذلك إذا باشر فأمنى أو أمذى، والمباشرة هي: مباشرة الزوجة ولو من وراء ثوب أو من وراء إزار، فإذا باشرها فحضرت شهوته فأمذى أو أنزل -يعني: خرج منه مذي أو مني- فإنه يعتبر قد فعل الشهوة، فيكون عليه القضاء.

وكذلك إذا كرر النظر إلى امرأة أو إلى صورة في أفلام أو نحو ذلك فحصل منه الإمناء (المني) فإنه عليه القضاء.

وقد اختلف في خروج المذي، ولعل الأقرب أنه لا يقضي إذا وقع منه المذي؛ وذلك لأن الكثير من الشباب الذين معهم قوة شهوة يحصل من أحدهم المذي بمجرد نظرة، أو بمجرد فكرة، أو بمجرد رؤية لما يثير الشهوة؛ فيشق عليهم التحفظ من ذلك، فأما إذا خرج المني فإنه يفطر، وهو الذي يخرج دفقاً بلذة، ويكون لونه أصفر بخلاف المذي، فالمذي رقيق أبيض معروف.

ومما يفطر أيضاً: النية، ولو لم يتناول شيئاً، فإذا نوى الإفطار، ونوى قطع الصيام بالنهار، وعزم على أن يفطر ولو لم يتناول، ثم عزم على أن يتم؛ بطل صومه؛ لأن الصيام نية، فإذا نوى تركه بطل الصوم.

حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) وخلاف العلماء في ذلك

قوله: (أو حجم أو احتجم) الحجامة فيها خلاف طويل، فأكثر الأئمة لا يرون الفطر بالحجامة، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يفطر بها؛ وذلك لكثرة الأحاديث التي وردت فيها، فقد ذكر بعض العلماء أن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه أحد عشر صحابياً، وبعضهم جمع رواة حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) إلى سبعة عشر صحابياً، وتلك الأحاديث لا تخلو من الضعف، وذكر الإمام أحمد منها عدة أحاديث صحيحة كحديث شداد وحديث ثوبان، وأنها معتبرة وصحيحة، فالإمام أحمد ذهب إلى أنه يفطر بالحجامة: الحاجم والمحجوم عملاً بهذا الحديث، وذهب الأئمة الباقون إلى عدم الإفطار بالحجامة، وقالوا: لأنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم، هكذا في صحيح البخاري ، وأكثر الروايات على أن اللفظ: (احتجم وهو محرم صائم)، ولكن الإمام أحمد رحمه الله يقول: إن ذكر الصيام خطأ من بعض الرواة، فإن أصحاب ابن عباس الملازمين له لم يذكروا فيه الصيام، وإنما ذكروا فيه الإحرام.

وبكل حال إذا احتجم فالاحتياط أنه يفطر ويقضي، وكان كثير من الصحابة يؤخرون الحجامة إلى الليل، فإذا أراد أحدهم أن يحتجم أخر حجامته إلى الليل، وفي هذا دليل على اعتبارهم أن الحجامة من المفطرات.

والذين قالوا: إنها لا تفطر قالوا: إنما الفطر بما أدخله لا بما أخرجه، والدم إنما هو شيء يخرج من الإنسان، والجواب: أن الفطر قد يكون أيضاً بما يخرج، كفطر الحائض بدم الحيض، مع أنه شيء خارج، ومع ذلك لا يصح صومها، وليس لها عذر إلا هذا الخارج، فكذلك أيضاً إخراج الدم بالحجامة، ويلحق بها أيضاً جميع أنواع إخراج الدم: كالفصد والشرط وما أشبهه.

وفي هذه الأزمنة يقام بإخراج الدم للتبرع، فإذا أخرج دماً كثيراً للتبرع لمريض أو نحوه ألحق بالحجامة، وكذلك إذا أخرج دماً كثيراً للتحليل، أما إذا كان يسيراً فلا يلحق بالحجامة، والذي يخرج بالتحليل عادة يكون شيئاً يسيراً يمكن أن يقدر بأنه أقل من فنجان الشاي، فإذا كان أقل من ذلك فإنه لا يعتبر ملحقاً بالحجامة.

وفطر الحاجم؛ لأنه كان يمص الدم، كانت المحجمة مثل القعب، ولها طرف دقيق، فيلصقها بالبشرة بعدما يجرحها جروحاً، فيخرج منها الدم لامتصاصه الهواء الذي في داخلها، ومع امتصاصه يخرج منه دم يختلط بريقه، فيكون ذلك سبباً في إفطاره، حيث إنه لابد أن يختلط بريقه ولو مجه، وأما فطر المحجوم فلإخراجه لهذا الدم.

وفي هذه الأزمنة توجد حجامة بدون امتصاص، يعني: كالإبر التي يستخرج بها الدم، أو آلات تمسك بدون أن يمصها، فلذلك نقول: إذا احتاج إنسان إلى حجامة لمرض أو نحوه فالحاجم إذا لم يمتص بمحجمه فلا قضاء عليه.

واشترطوا في هذه الأشياء كلها -يعني: في إدخال شيء إلى جوفه أو في ابتلاع النخامة، أو القيء أو الاستمناء أو المباشرة أو تكرير النظر أو الحجامة- أن يكون عامداً، فإذا كان مخطئاً فلا يفطر، هذا الشرط الأول.

الشرط الثاني: أن يكون مختاراً بخلاف ما إذا كان مكرهاً، بأن يدخل إلى جوفه قهراً عليه كالمريض المغمى عليه.

الشرط الثالث: لابد أن يكون ذاكراً لصومه، فإذا كان ناسياً فلا يفطر.

الداخل إلى الجسم عن طريق الإبر هل يعد مفطراً؟

الإبر الموجودة في زماننا هذا هل يفطر بها الصائم أم لا؟

كان مشايخنا الأولون يمنعون منها، فكان المرضى إنما يعالجون في الليل، ويضربون الإبر في الليل، وقد عهدنا من سنة أربع وسبعين إلى خمس وتسعين أنهم لا يضربون الإبر لأحد إلا بالليل، ويمنعون منها بالنهار، كالشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، والشيخ عبد الله بن حميد ، وكذلك الشيخ ابن باز كان يمنع منها، ولما كثرت الشكايات، وذكر الأطباء أن كثيراً من الإبر لا يحصل منها وصول إلى الجوف، وإنما هي إبر موضعية؛ فلذلك رخصوا في الإبر إلا أن تكون مما يصل إلى الجوف، كالإبر التي في الوريد (في العروق) فإنها تنتشر بسرعة، وكذلك إبر التغذية والتقوية، فأما التي في طرف البدن أو في طرف الجلد لتهدئة أو نحوها فرخصوا فيها بعد ذلك.

مما ذكروا أنه لا يفطر: لو تصور المرأة، وفكر فيها، فثارت شهوته؛ فأنزل، فهذا شيء قهري لا يفطر به، وكذلك إذا طار إلى حلقه ذباب أو غبار غير متعمد له فلا يفطر، وكذلك إذا تمضمض أو استنشق ومع ذلك دخل شيء من ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى حلقه وهو غير متعمد فلا يفطر، مع أنه منهي عن المبالغة، ولكن لو قدر أنه بالغ أو قدر أنه زاد على ثلاث في المضمضة أو في الاستنشاق فدخل إلى جوفه أو حس بطعمه فابتلعه فلا يفطر بذلك؛ لأن الممضمضة مأمور بها شرعاً.

تحريم الجماع في نهار رمضان وكفارته

من المفطرات الوطء (الجماع)، فإذا جامع في نهار رمضان بلا عذر فعليه القضاء والكفارة، ولابد أن يكون نهاراً، وأن يكون ذاكراً، وأن يكون بلا عذر، فإذا كان بعذر كأن يغلبه الشبق الذي هو شدة الشهوة، ولم يستطع أن يتمالك نفسه، ففي هذه الحال ليس عليه إلا القضاء، فأما إذا كان يقدر أن يملك نفسه، ولو مع وجود الشهوة فإن عليه القضاء والكفارة.

والذي تجب فيه الكفارة هو الوطء الحقيقي الذي يوجب الحد في الزنا، ويوجب الغسل في الجماع، ولو لم يحصل به إنزال.

والكفارة مثل كفارة الظهار على الترتيب:

أولاً: عتق رقبة، والصحيح أنها لابد أن تكون مؤمنة؛ لأن الله اشترط الإيمان في كفارة القتل، وأطلق في كفارة الظهار، فيحمل المطلق على المقيد.

ثانياً: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4] فلابد من التتابع.

ثالثاً: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4] لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من شعير أو غيره، وقيل: بل نصف صاع من الجميع: من الأرز أو البر أو نحوه، وهو الأحوط.

قوله: (فإن لم يجد سقطت) استدلوا بقصة ذلك الرجل الذي قال: (هلكت! وقعت على أهلي في رمضان، فقال: هل تجد رقبة؟ قال: لا، قال: هل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق الزنبيل- فيه تمر فقال: أين الهالك؟ خذ هذا وتصدق به، فقال: أعلى أفقر مني؟! ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فقال: أطعمه أهلك) ولم يأمره بالقضاء إذا أيسر، فدل على أنها سقطت عنه.

أما المرأة فاختلف في الكفارة عليها، فإن كانت معذورة كأن يطأها وهي نائمة، أو أكرهها وقهرها، أو كانت ناسية أو جاهلة؛ فلا كفارة عليها، وإن كانت مختارة ومطاوعة وعالمة ومتعمدة وعارفة بالحكم فعليها كفارة مثله، ويلزمهما قضاء ذلك اليوم الذي أفسداه.

قوله: (ومن أدخل إلى جوفه، أو مجوف في جسده كدماغ وحلق) يعني: إذا جرح أو شج في رأسه فداوى الجرح، ودخل الدواء إلى دماغه في رأسه؛ فقد دخل هذا الدواء إلى مجوف فهل يفطر بذلك أم لا؟

هناك أسباب متفق على الفطر بها وأسباب مختلف فيها، وهذا من المختلف فيه، فقيل: يفطر؛ لأنه أدخل شيء إلى مجوف وهو الدماغ فإنه جوف الرأس، وقيل: لا يفطر، ولعل الأقرب أن هذا معالجة جرح، وليس بغذاء، ولا يسمى آكلاً ولا شارباً إذا أدخل إلى دماغه دواء.

قوله: (كدماغ أو حلق) لا شك أن الحلق يوصل إلى الجوف؛ لأن الطعام يدخل عن طريق الحلق إلى المريء الذي هو مدخل الطعام والشراب، فإذا وصل إلى حلقه فإنه يعتبر داخلاً في جوفه، فيفطر ولو بقطرة أو قطرات من ماء أو نحوه.

قوله: (من أي موضع كان غير إحليله) الإحليل: هو مخرج البول، يعني: الثقب الذي في رأس الذكر، فإذا أدخل منه شيئاً فإنه لا يفطر به، لماذا؟ لأنه لا يصل إلى الجوف، والبول الذي يخرج من الإحليل (من هذا الثقب) ليس من الجوف، وإنما هو من المثانة، والمثانة ليس لها منفذ، وإنما يأتي إليها البول عن طريق الرشح، بمعنى أنه يجتمع البول في أسفل البطن، ثم تمتصه هذه المثانة، فيدخل إليها عن طريق الرشح، مثل رشح القربة التي في جوفها ماء وليس فيها خروق، ولكن لابتلالها يرشح الماء من ظاهرها.

فعلى هذا لا يكون الإحليل منفذاً، فإذا أدخل منه شيئاً فليس داخلاً إلى الجوف، بخلاف ما إذا أدخل من دبره.

أما الإدخال من الأذن ففيه أيضاً خلاف، وكذلك الإدخال من العين، ذكر الأطباء أن في العين عرقاً يتصل بالخياشيم، ولذلك إذا اكتحل في عينه فإنه يحس بأثر الكحل في خياشيمه، وكذلك إذا قطر في عينه قطرة حارة أو حامضة أو مالحة أحس بطعمها أو أحس بحرارتها في خياشيمه؛ فتصل إلى الفم، ولكن هل يسمى هذا أكلاً أو شرباً؟

لا يسمى أكلاً ولا شرباً إذا جاء عن طريق العين أو عن طريق الأذن، ومع ذلك فإن أكثر الفقهاء قالوا: إذا أحس بطعم القطرات -التي في عينه أو في أذنه- في خياشيمه فإنه يفطر إذا كان متعمداً، ورجح شيخ الإسلام أنه لا يفطر؛ لأن العين والأذن ليستا منفذاً محسوساً للأكل والشرب بخلاف الفم والأنف، فإنه منفذ محسوس، ومعلوم أن الماء إذا دخل في الخياشيم (المنخرين) دخل إلى الجوف، وقد ثبت في حديث لقيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).

قوله: (أو ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه) النخامة تارة تخرج من الرئة (من الجوف) فتصل إلى حلقه، فإذا أخرجها فوصلت إلى لسانه ثم عاد وابتلعها فقد ابتلع شيئاً له جرم فيفطر، وكذلك لو نزلت من رأسه ثم أخرجها عن طريق الفم فوصلت إلى فمه ثم أعاد ابتلاعها؛ لأنه ابتلع شيئاً له جرم.

القيء ورد فيه حديث صححه جمع من العلماء، وضعفه بعضهم، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من استقاء فقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه) فإذا استقاء متعمداً بأن أدخل يده في حلقه حتى أخرج الطعام أو الشراب من جوفه فعليه القضاء، فأما إذا غلبه القيء وخرج قهراً فإنه معذور، فلا قضاء عليه.

وكذلك إذا استمنى بيده -وهو ما يسمى بالعادة السرية- فإنه يجب عليه القضاء؛ وذلك لأنه عالج شهوته بيده، فيكون بذلك متسبباً لقضاء شهوة، والصائم يجب أن يتجنب ذلك، قال الله في الحديث القدسي: (ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي).

وكذلك إذا باشر فأمنى أو أمذى، والمباشرة هي: مباشرة الزوجة ولو من وراء ثوب أو من وراء إزار، فإذا باشرها فحضرت شهوته فأمذى أو أنزل -يعني: خرج منه مذي أو مني- فإنه يعتبر قد فعل الشهوة، فيكون عليه القضاء.

وكذلك إذا كرر النظر إلى امرأة أو إلى صورة في أفلام أو نحو ذلك فحصل منه الإمناء (المني) فإنه عليه القضاء.

وقد اختلف في خروج المذي، ولعل الأقرب أنه لا يقضي إذا وقع منه المذي؛ وذلك لأن الكثير من الشباب الذين معهم قوة شهوة يحصل من أحدهم المذي بمجرد نظرة، أو بمجرد فكرة، أو بمجرد رؤية لما يثير الشهوة؛ فيشق عليهم التحفظ من ذلك، فأما إذا خرج المني فإنه يفطر، وهو الذي يخرج دفقاً بلذة، ويكون لونه أصفر بخلاف المذي، فالمذي رقيق أبيض معروف.

ومما يفطر أيضاً: النية، ولو لم يتناول شيئاً، فإذا نوى الإفطار، ونوى قطع الصيام بالنهار، وعزم على أن يفطر ولو لم يتناول، ثم عزم على أن يتم؛ بطل صومه؛ لأن الصيام نية، فإذا نوى تركه بطل الصوم.

قوله: (أو حجم أو احتجم) الحجامة فيها خلاف طويل، فأكثر الأئمة لا يرون الفطر بالحجامة، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يفطر بها؛ وذلك لكثرة الأحاديث التي وردت فيها، فقد ذكر بعض العلماء أن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه أحد عشر صحابياً، وبعضهم جمع رواة حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) إلى سبعة عشر صحابياً، وتلك الأحاديث لا تخلو من الضعف، وذكر الإمام أحمد منها عدة أحاديث صحيحة كحديث شداد وحديث ثوبان، وأنها معتبرة وصحيحة، فالإمام أحمد ذهب إلى أنه يفطر بالحجامة: الحاجم والمحجوم عملاً بهذا الحديث، وذهب الأئمة الباقون إلى عدم الإفطار بالحجامة، وقالوا: لأنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم، هكذا في صحيح البخاري ، وأكثر الروايات على أن اللفظ: (احتجم وهو محرم صائم)، ولكن الإمام أحمد رحمه الله يقول: إن ذكر الصيام خطأ من بعض الرواة، فإن أصحاب ابن عباس الملازمين له لم يذكروا فيه الصيام، وإنما ذكروا فيه الإحرام.

وبكل حال إذا احتجم فالاحتياط أنه يفطر ويقضي، وكان كثير من الصحابة يؤخرون الحجامة إلى الليل، فإذا أراد أحدهم أن يحتجم أخر حجامته إلى الليل، وفي هذا دليل على اعتبارهم أن الحجامة من المفطرات.

والذين قالوا: إنها لا تفطر قالوا: إنما الفطر بما أدخله لا بما أخرجه، والدم إنما هو شيء يخرج من الإنسان، والجواب: أن الفطر قد يكون أيضاً بما يخرج، كفطر الحائض بدم الحيض، مع أنه شيء خارج، ومع ذلك لا يصح صومها، وليس لها عذر إلا هذا الخارج، فكذلك أيضاً إخراج الدم بالحجامة، ويلحق بها أيضاً جميع أنواع إخراج الدم: كالفصد والشرط وما أشبهه.

وفي هذه الأزمنة يقام بإخراج الدم للتبرع، فإذا أخرج دماً كثيراً للتبرع لمريض أو نحوه ألحق بالحجامة، وكذلك إذا أخرج دماً كثيراً للتحليل، أما إذا كان يسيراً فلا يلحق بالحجامة، والذي يخرج بالتحليل عادة يكون شيئاً يسيراً يمكن أن يقدر بأنه أقل من فنجان الشاي، فإذا كان أقل من ذلك فإنه لا يعتبر ملحقاً بالحجامة.

وفطر الحاجم؛ لأنه كان يمص الدم، كانت المحجمة مثل القعب، ولها طرف دقيق، فيلصقها بالبشرة بعدما يجرحها جروحاً، فيخرج منها الدم لامتصاصه الهواء الذي في داخلها، ومع امتصاصه يخرج منه دم يختلط بريقه، فيكون ذلك سبباً في إفطاره، حيث إنه لابد أن يختلط بريقه ولو مجه، وأما فطر المحجوم فلإخراجه لهذا الدم.

وفي هذه الأزمنة توجد حجامة بدون امتصاص، يعني: كالإبر التي يستخرج بها الدم، أو آلات تمسك بدون أن يمصها، فلذلك نقول: إذا احتاج إنسان إلى حجامة لمرض أو نحوه فالحاجم إذا لم يمتص بمحجمه فلا قضاء عليه.

واشترطوا في هذه الأشياء كلها -يعني: في إدخال شيء إلى جوفه أو في ابتلاع النخامة، أو القيء أو الاستمناء أو المباشرة أو تكرير النظر أو الحجامة- أن يكون عامداً، فإذا كان مخطئاً فلا يفطر، هذا الشرط الأول.

الشرط الثاني: أن يكون مختاراً بخلاف ما إذا كان مكرهاً، بأن يدخل إلى جوفه قهراً عليه كالمريض المغمى عليه.

الشرط الثالث: لابد أن يكون ذاكراً لصومه، فإذا كان ناسياً فلا يفطر.

الإبر الموجودة في زماننا هذا هل يفطر بها الصائم أم لا؟

كان مشايخنا الأولون يمنعون منها، فكان المرضى إنما يعالجون في الليل، ويضربون الإبر في الليل، وقد عهدنا من سنة أربع وسبعين إلى خمس وتسعين أنهم لا يضربون الإبر لأحد إلا بالليل، ويمنعون منها بالنهار، كالشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، والشيخ عبد الله بن حميد ، وكذلك الشيخ ابن باز كان يمنع منها، ولما كثرت الشكايات، وذكر الأطباء أن كثيراً من الإبر لا يحصل منها وصول إلى الجوف، وإنما هي إبر موضعية؛ فلذلك رخصوا في الإبر إلا أن تكون مما يصل إلى الجوف، كالإبر التي في الوريد (في العروق) فإنها تنتشر بسرعة، وكذلك إبر التغذية والتقوية، فأما التي في طرف البدن أو في طرف الجلد لتهدئة أو نحوها فرخصوا فيها بعد ذلك.

مما ذكروا أنه لا يفطر: لو تصور المرأة، وفكر فيها، فثارت شهوته؛ فأنزل، فهذا شيء قهري لا يفطر به، وكذلك إذا طار إلى حلقه ذباب أو غبار غير متعمد له فلا يفطر، وكذلك إذا تمضمض أو استنشق ومع ذلك دخل شيء من ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى حلقه وهو غير متعمد فلا يفطر، مع أنه منهي عن المبالغة، ولكن لو قدر أنه بالغ أو قدر أنه زاد على ثلاث في المضمضة أو في الاستنشاق فدخل إلى جوفه أو حس بطعمه فابتلعه فلا يفطر بذلك؛ لأن الممضمضة مأمور بها شرعاً.

من المفطرات الوطء (الجماع)، فإذا جامع في نهار رمضان بلا عذر فعليه القضاء والكفارة، ولابد أن يكون نهاراً، وأن يكون ذاكراً، وأن يكون بلا عذر، فإذا كان بعذر كأن يغلبه الشبق الذي هو شدة الشهوة، ولم يستطع أن يتمالك نفسه، ففي هذه الحال ليس عليه إلا القضاء، فأما إذا كان يقدر أن يملك نفسه، ولو مع وجود الشهوة فإن عليه القضاء والكفارة.

والذي تجب فيه الكفارة هو الوطء الحقيقي الذي يوجب الحد في الزنا، ويوجب الغسل في الجماع، ولو لم يحصل به إنزال.

والكفارة مثل كفارة الظهار على الترتيب:

أولاً: عتق رقبة، والصحيح أنها لابد أن تكون مؤمنة؛ لأن الله اشترط الإيمان في كفارة القتل، وأطلق في كفارة الظهار، فيحمل المطلق على المقيد.

ثانياً: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4] فلابد من التتابع.

ثالثاً: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4] لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من شعير أو غيره، وقيل: بل نصف صاع من الجميع: من الأرز أو البر أو نحوه، وهو الأحوط.

قوله: (فإن لم يجد سقطت) استدلوا بقصة ذلك الرجل الذي قال: (هلكت! وقعت على أهلي في رمضان، فقال: هل تجد رقبة؟ قال: لا، قال: هل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -والعرق الزنبيل- فيه تمر فقال: أين الهالك؟ خذ هذا وتصدق به، فقال: أعلى أفقر مني؟! ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فقال: أطعمه أهلك) ولم يأمره بالقضاء إذا أيسر، فدل على أنها سقطت عنه.

أما المرأة فاختلف في الكفارة عليها، فإن كانت معذورة كأن يطأها وهي نائمة، أو أكرهها وقهرها، أو كانت ناسية أو جاهلة؛ فلا كفارة عليها، وإن كانت مختارة ومطاوعة وعالمة ومتعمدة وعارفة بالحكم فعليها كفارة مثله، ويلزمهما قضاء ذلك اليوم الذي أفسداه.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح أخصر المختصرات [21] 2740 استماع
شرح أخصر المختصرات [28] 2718 استماع
شرح أخصر المختصرات [72] 2608 استماع
شرح أخصر المختصرات [87] 2572 استماع
شرح أخصر المختصرات [37] 2486 استماع
شرح أخصر المختصرات [68] 2350 استماع
شرح أخصر المختصرات [81] 2341 استماع
شرح أخصر المختصرات [58] 2334 استماع
شرح أخصر المختصرات [9] 2321 استماع
شرح أخصر المختصرات [22] 2271 استماع