الفهم الصحيح للإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أيتها الأخوات! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته.

فالموضوع الذي اختار الأخوات الحديث فيه، هو الفهم الصحيح للإسلام، وهذا الموضوع إذ كما يعلمه الكثير منا، موضوع واسع له شعب كثيرة، سنتناول في هذه الكلمة بعض تلك الشعب على أن يكون لنا بقية الدروس إن شاء الله تعالى، كلها مكلمة لما ستسمعن في هذا الدرس إن شاء الله.

إن هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، هو الدين الحق الذي لا يرضي الله تعالى سواه، وفي ذلك قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، هذا الدين كانت كل الأديان التي سبقته إعداداً له؛ لتأخذ البشرية تطورها في ظل دين ظل متطوراً حسب مقتضيات الظروف، إلى أن وصلت البشرية إلى نضجها، وأكملت مسار حياتها، فلما وصلت إلى القوقعة والرجوع عما عهدته من قبل، وكانت في أزمة؛ بأنها قد أكملت كل التجارب وخاضتها، ووقفت تنتظر الخلاص، أرسل الله إليها محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الخاتم الشامل، ففتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأنقذ به من الضلالة إلى الهدى.

أخذه الرعيل الأول من هذه الأمة، فوجدهم أهل جاهلية، يعبدون الأحجار والأشجار، ولا يقيمون أي اعتبارٍ لأي قيم، وليست لديهم أي أخلاق، يدس الرجل منهم ابنته في الأرض، ويقتل أخاه ليأخذ ماله، ويتزوج زوجة أبيه، أو يحبسها عنده حتى يزوجها لغيره، وإذا طلقت المرأة أو ماتت بقيت في بيتها سنة كاملة، في أخس ملبس، ولا تمس ماءً ولا تستحم في تلك السنة كلها، وتقع الحرب الضروس الشديدة مدة أربعين سنة، بسبب جري حصل بين فرسين، فسبقت إحداهما الأخرى.

كانت هذه هي عادة هذه المجتمعات، ولكنه بين عشية وضحاها جاءهم هذا الإسلام ففهموه الفهم الصحيح، فانقلب بهم حتى أصبح المجتمع الذي كان يمارس هذه الأمور التي ذكرنا، أصبح تخرج منه الفتاة الصغيرة جداً، فتخرج في آخر الليل فتتسلق قمم الجبال الطويلة؛ لتذهب إلى غار ناءٍ موحش، فتكتم أشد الأسرار خطورةً، وتأتي إلى رجلين اختفيا في ذلك الغار الله ثالثهما، وتأتيهما بالأخبار ثم ترجع، ثم بعد ذلك تعد لهما زادهما فتقسم نطاقها إلى نطاقين، وتجعله سفرةً لهذين الرجلين. وجعل الشيوخ الكبار الذين تربوا في الجاهلية وعاشوا فيها كل الأعمار من المجاهدين في سبيل الله، يبذلون أنفسهم وأموالهم، حتى أن أحدهم لما قطعت ساقه يوم بدر، التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيناه تدمعان، وهو يبتسم، فقال: يا رسول الله! إني لأحق من أبي طالب بقوله:

ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فحتى جعل الذين اقتنعوا بهذه الدعوة، والتزموا هذا المنهج وفهموه الفهم الصحيح، يستطيع أحدهم أن يفتح أزرار قميصه، مستعداً للرشق بالنبل في سبيل هذه الدعوة، ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، وجعلت أحدهم وكان راعي غنم، وكان خرج لتعليم الناس، لما استقبل السيف فأحس بحرارته، استقبل الدم بيديه ولطخ به وجهه، وقال: فزت ورب الكعبة.

وجعل منهم من يتجرأ على أربعين ألف مدجج بالسلاح، فيقول: ارموني عليهم بالمنجنيق، فيضعونه في المنجنيق، ويرمون به أهل الحصن، فيقع بينهم، فيقاتل بسيفه يميناً وشمالاً، حتى يصل إلى الباب فيفتحه، ثم يسقط متضمخاً بجراحه، فإذا جاء المسلمون للعبور من فوق جثته، وهو حي في آخر رمق، فقال بعضهم: لا تقتلوا البراء ، فيقول أخوه أنس بن مالك : انفذوا ولو قتلتم البراء ، ثم بعد ذلك يرفع على عوالي الرماح، ويعالج ثم يبرأ، ويقر الله عينه بالنصر، ثم ينذر بقية عمره لله تعالى، فيخرج مجاهداً حتى يقتل تحت نهر ... يوم ... لعبيد.

وجعل من هؤلاء الرجال الذين كانوا تجاراً لا يسامحون في الحبة الواحدة يخرجون من كل أموالهم في سبيل الله، وجعل التجار الذين كانوا يرابون، وقد اشتهروا بالربا في الجاهلية كالعباس بن عبد المطلب ، جعل منهم في الإسلام رجالاً يقدمون زكواتهم مدة السنين المتتالية، يقدمون زكاة ثلاث سنوات، من أجل الحاجة في سبيل الله.

وجعل منهم النساء اللواتي يقدمن مصلحة هذه الدعوة على مصلحة أنفسهن ومصلحة آبائهن وأزواجهن، جعل منهم الرجال الذين يخرجون مجاهدين بأنفسهم وأموالهم، ويتركون عيالهم لغير شيء، كما فعل أبو بكر الصديق عندما خرج في هجرته، ترك بناته وأولاده وأباه وهو شيخ كبير قد عمي، يتركه بمكة من غير مال، فجاء أبو قحافة فسأل بنات أبي بكر : ماذا ترك لنا أبو بكر ؟ فجاءته إحداهن بصرة من حجارة، فقالت: ترك لنا هذا القدر من الدراهم، فأخذه فقال: هذا مال كثير، والواقع أن أبا بكر لم يترك شيئاً لأهله نهائياً، وقد خرج من ماله ثلاث مرات في سبيل الله، يسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ماذا تركت لأهلك؟ فيقول: الله ورسوله ).

إن هذا الإسلام الذي حول هذا المجتمع بهذه النقلة، في هذه المدة الوجيزة، حتى جعله أمةً هي خير أمة أخرجت للناس، فهي التي تصلح لقيادة أهل الأرض، وتصلح لإعلاء كلمة الله تعالى، وتحمل هذه الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرضون والجبال، هذا الإسلام ندعيه الآن، ولكننا نفتقد فهمه الصحيح؛ لأننا لو فهمناه هذا الفهم، لصاغ منا أمة مثل تلك الأمة، لو فهمناه كما فهمه أبو بكر و أسماء و البراء و أنس بن مالك و عائشة ..إلخ، كما فهمه هؤلاء، لانقلبت الموازين، ولرأينا مجتمعاً يختلف عن المجتمعات التي نعيش فيها، هذا مما لا يختلف فيه اثنان، ولكن الواقع أننا أسأنا فهم هذا الإسلام، فقسناه بأمور أخرى، فتلبدت دونه غيوم؛ فلذلك نحتاج إلى أن نستورده من جديد، هذا الاستيراد من أين نستورده؟ نستورده من البراء ومن أسماء ومن أبي بكر الصديق ، بل ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كان من هناك، ونحن نريد أن يعود إلينا من الجهة التي أتى منها، ورحم الله مالك بن أنس الذي يقول: إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، فحاجتنا إلى أن نفهم هذا الدين كما فهمه رعيلنا الأول، أو سلفنا الصالح، في هذا الوقت الذي نعيش فيه الآن، وهو وقت تكالب الأمم علينا، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وهو وقت نشوب الوهن في القلوب، الوهن: هو حب الدنيا، وكراهية الموت.

هذه الحاجة لا تعدلها حاجة.

فلذلك ينبغي أن نخصص كثيراً من أوقاتنا؛ لكي نفهم إسلامنا فهمه الصحيح، لعلنا نعود إلى المنهج الذي تركنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المحجة البيضاء، التي ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ لأن هذا الصراط الذي تركنا عليه في الدنيا، صراط دقيق جداً، وإن كان هو الصراط المستقيم الذي لا يريد الله سواه، لكنه دقيق ومحفوف بالمكاره، وعليه أبواب هي مهيئة الطريق، عليها شياطين يدعون إليها، وهم الدعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، وأبواب جهنم هي الكبائر والمعاصي، فمنهم من يروج الفسوق، ومنهم من يروج العقوق، ومنهم من يروج الزنا، ومنهم من يروج الخمور .. إلخ، هؤلاء هم الدعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، ولكن الله تعالى قد تعهد بنصر دينه وإظهار كلمته، عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وتعهد لرسوله صلى الله عليه وسلم، ( أن يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها أمر دينها )، ونحن واثقون بوفاء الله تعالى لوعده، وأنه لا يخلف الميعاد.

وهذا الوعد الذي وعد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، قد شاهدنا منه في عصرنا الحالي، هذه الصحوة المباركة التي نشأت في شتى أصقاع العالم، والتي يحاول الناس فيها إعادة هذا المجتمع وهذه الأمة، إلى هذه المحجة البيضاء، التي تركنا عليها رسولنا الله صلى الله عليه وسلم، التي بقدر استقامة الشخص عليها في الدنيا تكون استقامته على ( الصراط الذي هو جسر منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأرق من الشعر، تؤزه الملائكة أزاً، ويتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس في نار جهنم )، فبقدر ذلك، بقدر استقامتنا على هذا الصراط في الدنيا تكون استقامتنا على الصراط الأخروي، بقدر فهمنا لهذا الإسلام وتطبيقنا له تكون نجاتنا على ذلك الصراط للوصول على متن جهنم إلى الجنة.

فإذا وجد الشخص نفسه مستقيماً على هذا المنهج، راضٍ بما شرعه الله تعالى؛ لأن الله يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، إذا وجد الشخص نفسه هكذا، ووجدها تطيعه عندما يكون أمام طاعة الله تعالى، ووجد بينه وبين معصية الله تعالى حاجزاً وستاراً يمنعه من الوقوع في معصية الله، فليعلم أنه إن شاء الله تعالى من الناجين على الصراط الأخروي، وليسأل الله الثبات والتوفيق، وإذا رأى غير ذلك فليحذر على نفسه من الوقوع في نار جهنم عندما يمر على الصراطـ.

هذا الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكرنا أننا قد أسأنا فهمه، وأنه قد تلبدت دونه غيوم، تكدست في هذه الأجواء، فحالت دون رؤيتنا له على الوجه الصحيح، لهذا نحتاج إلى مراجعة أنفسنا في كل الجوانب، فهذا الدين فيما يتعلق بالعقيدة، معناه: ما تعتقده أفئدتنا، وأن ننطلق منه، وهو مبدؤنا، دخله كثير من الغيوم، وأدخلنا فيه كثيراً من البدع التي لم يدعنا إليها رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولا تكلم فيها سلفنا الصالح.

كذلك فيما يتعلق بالتعبدات، نقلت هذه التعبدات عن دورها، فمثلاً الصلاة، يقول الله فيها: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، وأنا أتساءل: هل منا من يشعر فعلاً أن صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر؟ إذا كنا كذلك، فمعناه أننا قد فهمنا دور الصلاة في حياتنا، وإن لم نكن كذلك فلنفهم أننا لم نفهم دور الصلاة في حياتنا، ولم نفهم الإسلام فهمه الصحيح.

دور العناصر التي تشتمل عليها الصلاة في الفهم الصحيح للإسلام

فهذه الصلاة شاملة من ثلاثة عناصر: فيها العنصر المادي، وهو بحركات أبداننا، من قيامنا بين يدي الله تعالى، وركوعنا انحناءً لجلاله وعظمته، وسجودنا تنزيهاً له وتسبيحاً، ورفعنا وجلوسنا، فهذا من الأمور المادية؛ لأنه حركات في الأجسام.

وفيها جانب عقلي، وهو قراءة هذا القرآن الذي يقول الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، فهذا القرآن هو الذي ينير لنا عقولنا، ويضعها في إطارها الصحيح، ويوجهها الوجهة المستقيمة، فبقدر كثرة قراءة الشخص للقرآن بقدر استقامة عقله، وبقدر عزوفه عن القرآن بقدر نقصان عقله، وذلك أن العقل من أشد المؤثرات فيه: الشيطان والهوى، والنفس، وشهواتها، والشيطان معاد للقرآن، حيث وجد القرآن انصرف الشيطان، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37]، وبقدر إكثار الشخص من قراءة القرآن بقدر زيادة عقله، ونمو تفكيره.

ثم فيها جانب آخر: وهو الجانب الروحي، وهو خشوعها وحضورها، عندما يكون الشخص مستذكراً لعظمة الله تعالى، وأنه قد أذن له الآن، وفتح الحجاب عنه، فالذي لا يصلي هو في سجن بين أربعة جدران، مغلق عليهم من جميع الجهات، ولكن الذي يصلي قد فتح له باب على مصراعيه؛ ليقابل ربه عز وجل، فيعبر له عن شعوره، كثير من الناس يموت شعوره؛ لأنه لم يعبر عنه، مثلاً نحن الآن إذا شعر أحدنا بالولاء لدعوة أو مبدأ، أو بالالتزام بذلك، أو حتى بحب شخصٍ معين، إذا لم يعبر له عن ذلك الحب، ولم يتمادَ فيه فإنه سيزول تدريجياً، شيئاً فشيئاً، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، فحبنا لله تعالى لا بد أن يظهر علينا، لا بد أن نعبر عنه، لا بد أن يدخل شعورنا، وأن يدخل في كياننا، وتعبيرنا عنه، ولا يكون ذلك إلا بخشوعنا بين يديه، واستشعارنا لعظمته وجلاله، واستشعارنا لأننا معروضون عليه، وسيكلمنا كفاحاً دون ترجمان، وأن هذه الصلاة الآن إذن منه تعالى لنا، فلذلك من أعظم النعم علينا أنه لم يسدل بيننا وبينه حجاباً، ولا أغلق بيننا وبينه باباً، ولا خفض بيننا وبينه أوديةً ولا رفع شعاباً، فبذلك إذا وقفنا بين يديه لمناجاته، نعلم أنه قد أذن لنا، وقد شرفنا بالحضور بين يديه، وبالأخص عندما ينام الناس، في وقت نوم الناس عن استقبال رب العزة في وقت النزول، عندما يبسط الله تعالى يمينه، فيقول: ( من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له )، في هذا الوقت تفتح الأبواب لبعض العباد، فيؤذن لهم بالقيام بين يدي الله تعالى ومناجاته، وترفع عنهم الحجب والستر، وحينئذٍ يقفون بالخشوع والحضور بين يدي الله تعالى، فيركعون ويسجدون انحناءً لجلاله وعظمته وكبريائه، وتمثلاً لمحبته سبحانه وتعالى، وبذلك يعبرون عن شعورهم تجاه خالقهم ورازقهم وفاطرهم، الذي أنعم عليهم بجلائب النعم جميعاً، ورفع عنهم عظائم النقم. فيعبرون له عن هذا الحب والإخلاص الذي يتصفون به. والذي ينبغي أن تغلب هذه المعاني كيانه، إذا كان الشخص بهذه الدرجة، وهو يعلم أن صلاته إنما هي تعبير عن حبه لربه، فإذا وصل إلى هذه الدرجة فلا شك أن الصلاة ستنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا شك أنه سيذكر الله، والذكر هنا يشمل: الذكر القلبي، والذكر اللساني، والذكر البدني، وذكره لله تعالى أكبر من كل شيء، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، فتكون الصلاة بالنسبة إليه كالنهر الجاري ينغمس فيه، فينغسل من جميع الأدران، ويتنظف من جميع الشوائب والعلائق والعوائق التي تحول بينه وبين السلوك في هذا الطريق المستقيم الذي لا يرضى الله سواه، ولذلك ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً حياً لهذه الصلاة؛ فجعلها بمثابة النهر على باب أحدكم ينغمس فيه خمس مرات في اليوم والليلة، هل ترون يبقى به من درن؟ فقالوا: لا، لا يبقى به من درن.

الأمور التي تجعل صلاة العبد ناهية له عن الفحشاء والمنكر

إذا فهمنا هذا سنعلم أن السبب في كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أربعة أسباب:

السبب الأول: أنها تجسيد لمحبة الله تعالى، والمحبة منافية للعصيان، ولهذا قال الحكيم:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

السبب الثاني: هو أننا سنحاول عدم الانفصام بين شخصياتنا، فهذا الشخص الواحد الذي يسجد انحناءً لله تعالى، كيف يسجد انحناءً للشيطان؟ كيف يطيع الله تعالى في الصلاة، ويطيع الشيطان في معصية أخرى؟ كيف يكون الشخص الآن عبداً لله؟ وإذا رجع من المسجد إلى البيت يكون عبداً لنفسه أو لهواه، أو للشيطان، أو لجبابرة الدنيا، أو لملذاتها وشهواتها، هذا سيكون: فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [الزمر:29]، وقد ضرب الله تعالى مثلاً، فقال في كتابه: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].

السبب الثالث: هو أن هذه الصلاة يقرأ فيها القرآن، وهذا القرآن ينهى عن الفحشاء والمنكر، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ..[الأنعام:151].. إلخ، هذه الوصايا العشر، كذلك كل آية تسمعها من كتاب الله لا بد أن تكون آمرةً أو زاجرة، أو منبهةً إلى ما يقرب من الله تعالى، ويبعد من الشيطان، ففي ذلك تكون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

السبب الرابع: أننا إنما يحملنا على المعصية، والانغماس في الشهوات والجاهليات، ابتعادنا عن الله تعالى، وانقطاع الصلة بيننا وبينه، والصلاة هي الصلة بين العبد وربه، فبقدر إحكام هذه الصلة وتقويتها، تكون الصلة بيننا وبين الله أقوى، وبيننا وبين الدنيا أضعف وأبعد، ولذلك كان بعض المؤمنين يتمثلون في ربهم جل وعلا بقول المتنبي :

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

فإذا استذكر أي شخص منا أن علاقته بالله تعالى ينبغي أن تكون هكذا، حتى يقول: فليتك تحلو والحياة مريرة، عندئذٍ يصل إلى النقطة الأولى من فهم الإسلام، عندما يصل إلى أن تكون صلاته بهذه الدرجة يصل إلى النقطة الأولى من فهم الإسلام؛ لأنه إذا قال: (فليتك تحلو والحياة مريرة)، معناه: أنه سيضحي بحياته من أجل الله تعالى، وهذا أول أركان البيعة لله، التي بايعنا الله عليها في كتابة وأكدها، وقال: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

هذا فيه أيضاً تخلص من العبودية لغير الله تعالى من كل الأغيار والأصنام.

فهذه الصلاة شاملة من ثلاثة عناصر: فيها العنصر المادي، وهو بحركات أبداننا، من قيامنا بين يدي الله تعالى، وركوعنا انحناءً لجلاله وعظمته، وسجودنا تنزيهاً له وتسبيحاً، ورفعنا وجلوسنا، فهذا من الأمور المادية؛ لأنه حركات في الأجسام.

وفيها جانب عقلي، وهو قراءة هذا القرآن الذي يقول الله فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، فهذا القرآن هو الذي ينير لنا عقولنا، ويضعها في إطارها الصحيح، ويوجهها الوجهة المستقيمة، فبقدر كثرة قراءة الشخص للقرآن بقدر استقامة عقله، وبقدر عزوفه عن القرآن بقدر نقصان عقله، وذلك أن العقل من أشد المؤثرات فيه: الشيطان والهوى، والنفس، وشهواتها، والشيطان معاد للقرآن، حيث وجد القرآن انصرف الشيطان، والله تعالى يقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37]، وبقدر إكثار الشخص من قراءة القرآن بقدر زيادة عقله، ونمو تفكيره.

ثم فيها جانب آخر: وهو الجانب الروحي، وهو خشوعها وحضورها، عندما يكون الشخص مستذكراً لعظمة الله تعالى، وأنه قد أذن له الآن، وفتح الحجاب عنه، فالذي لا يصلي هو في سجن بين أربعة جدران، مغلق عليهم من جميع الجهات، ولكن الذي يصلي قد فتح له باب على مصراعيه؛ ليقابل ربه عز وجل، فيعبر له عن شعوره، كثير من الناس يموت شعوره؛ لأنه لم يعبر عنه، مثلاً نحن الآن إذا شعر أحدنا بالولاء لدعوة أو مبدأ، أو بالالتزام بذلك، أو حتى بحب شخصٍ معين، إذا لم يعبر له عن ذلك الحب، ولم يتمادَ فيه فإنه سيزول تدريجياً، شيئاً فشيئاً، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، فحبنا لله تعالى لا بد أن يظهر علينا، لا بد أن نعبر عنه، لا بد أن يدخل شعورنا، وأن يدخل في كياننا، وتعبيرنا عنه، ولا يكون ذلك إلا بخشوعنا بين يديه، واستشعارنا لعظمته وجلاله، واستشعارنا لأننا معروضون عليه، وسيكلمنا كفاحاً دون ترجمان، وأن هذه الصلاة الآن إذن منه تعالى لنا، فلذلك من أعظم النعم علينا أنه لم يسدل بيننا وبينه حجاباً، ولا أغلق بيننا وبينه باباً، ولا خفض بيننا وبينه أوديةً ولا رفع شعاباً، فبذلك إذا وقفنا بين يديه لمناجاته، نعلم أنه قد أذن لنا، وقد شرفنا بالحضور بين يديه، وبالأخص عندما ينام الناس، في وقت نوم الناس عن استقبال رب العزة في وقت النزول، عندما يبسط الله تعالى يمينه، فيقول: ( من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له )، في هذا الوقت تفتح الأبواب لبعض العباد، فيؤذن لهم بالقيام بين يدي الله تعالى ومناجاته، وترفع عنهم الحجب والستر، وحينئذٍ يقفون بالخشوع والحضور بين يدي الله تعالى، فيركعون ويسجدون انحناءً لجلاله وعظمته وكبريائه، وتمثلاً لمحبته سبحانه وتعالى، وبذلك يعبرون عن شعورهم تجاه خالقهم ورازقهم وفاطرهم، الذي أنعم عليهم بجلائب النعم جميعاً، ورفع عنهم عظائم النقم. فيعبرون له عن هذا الحب والإخلاص الذي يتصفون به. والذي ينبغي أن تغلب هذه المعاني كيانه، إذا كان الشخص بهذه الدرجة، وهو يعلم أن صلاته إنما هي تعبير عن حبه لربه، فإذا وصل إلى هذه الدرجة فلا شك أن الصلاة ستنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا شك أنه سيذكر الله، والذكر هنا يشمل: الذكر القلبي، والذكر اللساني، والذكر البدني، وذكره لله تعالى أكبر من كل شيء، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، فتكون الصلاة بالنسبة إليه كالنهر الجاري ينغمس فيه، فينغسل من جميع الأدران، ويتنظف من جميع الشوائب والعلائق والعوائق التي تحول بينه وبين السلوك في هذا الطريق المستقيم الذي لا يرضى الله سواه، ولذلك ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً حياً لهذه الصلاة؛ فجعلها بمثابة النهر على باب أحدكم ينغمس فيه خمس مرات في اليوم والليلة، هل ترون يبقى به من درن؟ فقالوا: لا، لا يبقى به من درن.

إذا فهمنا هذا سنعلم أن السبب في كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أربعة أسباب:

السبب الأول: أنها تجسيد لمحبة الله تعالى، والمحبة منافية للعصيان، ولهذا قال الحكيم:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

السبب الثاني: هو أننا سنحاول عدم الانفصام بين شخصياتنا، فهذا الشخص الواحد الذي يسجد انحناءً لله تعالى، كيف يسجد انحناءً للشيطان؟ كيف يطيع الله تعالى في الصلاة، ويطيع الشيطان في معصية أخرى؟ كيف يكون الشخص الآن عبداً لله؟ وإذا رجع من المسجد إلى البيت يكون عبداً لنفسه أو لهواه، أو للشيطان، أو لجبابرة الدنيا، أو لملذاتها وشهواتها، هذا سيكون: فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [الزمر:29]، وقد ضرب الله تعالى مثلاً، فقال في كتابه: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].

السبب الثالث: هو أن هذه الصلاة يقرأ فيها القرآن، وهذا القرآن ينهى عن الفحشاء والمنكر، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ..[الأنعام:151].. إلخ، هذه الوصايا العشر، كذلك كل آية تسمعها من كتاب الله لا بد أن تكون آمرةً أو زاجرة، أو منبهةً إلى ما يقرب من الله تعالى، ويبعد من الشيطان، ففي ذلك تكون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

السبب الرابع: أننا إنما يحملنا على المعصية، والانغماس في الشهوات والجاهليات، ابتعادنا عن الله تعالى، وانقطاع الصلة بيننا وبينه، والصلاة هي الصلة بين العبد وربه، فبقدر إحكام هذه الصلة وتقويتها، تكون الصلة بيننا وبين الله أقوى، وبيننا وبين الدنيا أضعف وأبعد، ولذلك كان بعض المؤمنين يتمثلون في ربهم جل وعلا بقول المتنبي :

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

فإذا استذكر أي شخص منا أن علاقته بالله تعالى ينبغي أن تكون هكذا، حتى يقول: فليتك تحلو والحياة مريرة، عندئذٍ يصل إلى النقطة الأولى من فهم الإسلام، عندما يصل إلى أن تكون صلاته بهذه الدرجة يصل إلى النقطة الأولى من فهم الإسلام؛ لأنه إذا قال: (فليتك تحلو والحياة مريرة)، معناه: أنه سيضحي بحياته من أجل الله تعالى، وهذا أول أركان البيعة لله، التي بايعنا الله عليها في كتابة وأكدها، وقال: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

هذا فيه أيضاً تخلص من العبودية لغير الله تعالى من كل الأغيار والأصنام.

ثم بعد هذا إذا وصلنا إلى الزكاة، وفهمناها فهمه الصحيح، نجد أنها ليست ضريبةً تفترضها دولة من الدول، ولا حركة من الحركات، ولا حزب من الأحزاب، ولا هي مصيبة مالية تصيب المال فتجيحه، وإنما هي فضيلة شرعها الله تعالى لتربية أنفسنا، وفيها من الحكم الشيء الكثير جداً، فهذه الزكاة بقدر فهمنا لحكمتها، بقدر فهمنا لجزء من الإسلام.

أولاً: إذا فهمنا أن الزكاة إنما شرعت لتطهير أنفسنا من رذيلة البخل، والله تعالى يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر:9]، ثانياً: ندرك أنها تعبير عن محبتنا في الله تعالى وإخائنا للمؤمنين؛ لأن هذه الزكاة ستدفع إلى بعض إخواننا الذين يمكن ألا نجسد لهم الأخوة والمعيار المادي، إلا بما ندفعه لهم وبقدر ما نخدمهم، وهذا تشترك فيه مع الزكاة الصدقة المندوبة غير الواجبة، فهي أيضاً تجسيد لهذه الأخوة وهذا التكافل الاجتماعي بين الناس.

ثالثاً: من حكمها أن هذا المال ملك لله تعالى، وقد وضعه تحت أيدينا وامتحننا بالتصرف فيه، وكل شخص منا يمتحنه على قدر طاقته، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فالفقير مثلاً: إذا تصدق بأوقية واحدة، وهو لا يملك إلا مائة أوقية، هذا الآن قد عبر عن سخائه ونفى رذيلة بخله، وكذلك الغني إذا تصدق بواحد في المائة من ماله كذلك، وهكذا، وهذه بعض الحكم التي شرعت لها الزكاة، وبقدر تعمقنا في فهم الزكاة، نكون قد فهمنا جزءاً من الإسلام فهمه الصحيح.

كذلك الصوم، الذي هو عبادة إمساكية بدنية، له أيضاً حكم جليلة تخفى على كثير من الناس فيظن أنه من تعذيب النفوس، أو من الرياضات الهندية، التي تسمى بالهيولى، أو بغير هذا من الأمور التي يتلذذ به بعض الناس، التي تكون من باب الهواية لديه، والواقع أن هذا الفهم خاطئ، والفهم الصحيح للصوم أنه عبادة فيها تشبه بالملائكة وتقرب إليهم، فالله تعالى لما خلق الخلق جعلهم أصنافاً متنوعة، وجعل منهم ملائكةً، وهو عباد مكرمون لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، لا يشغلهم مأكل ولا مشرب، ولا أهل، وكل وقتهم مبذول في طاعة الله تعالى، ولا يقدمون على أي معصية، وهؤلاء لم يسلط عليهم الشهوات أصلاً، وإنما جعلهم متمحضين للطاعات، وجعل من أجناس جنوده وعباده البهائم، وهذه سلط عليها الشهوات، ورفع عنها التكليفات، وجعل بين الصنفين، الصنف البشري، الذي سلط عليه الشهوات، وأجرى عليه التكاليف.

فبقدر تفريطه للتكاليف وإيغاله في الشهوات، يسهل حتى يكون من البهائم، أو شر من ذلك؛ ولذلك كان الكفار شراً من البهائم؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، هم شر حتى من دون العذرة، وحتى من الكلاب والخنازير، كذلك يقول الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، هم أضل من الأنعام سبيلاً، إذا عدل الشخص عن شهواته واستطاع الانتصار على نفسه، في مجال الشهوات، وأقبل على الطاعات والتزم بالمنهج الصحيح، يكون ملكياً في ذلك؛ لأنه قد انتصر على الجهة الحيوانية فيه والبهيمية، وبذلك يكون فد فهم هذه الشعيرة فهماً صحيحاً، وبذلك يمكن أن يكون الشخص قد حاز فضلاً أكثر من فضل عبادة الملائكة؛ لأن الملائكة لم تسلط عليهم الشهوات أصلاً، وهو قد سلطت عليه، فالملائكة استطاعوا الصوم، لكنهم لم تسلط عليهم الشهوات، والبشر إذا استطاعوا الصوم، مع أنهم قد سلطت عليهم الشهوات، فهذا أبلغ في الطاعة لله تعالى والتقرب إليه.

كذلك من الفهم الصحيح لدعائم الإسلام الحج، فهذا الركن الخامس من أركان الإسلام قد يظنه كثير من الناس ويفهمه على أنه جولة سياحية أو تجارية، وينسى أنه أكبر مؤتمر للمسلمين، فيأذن لهم الله تعالى، وهو الذي يمنح التآشير، وهو الذي يجمعهم ببطن نعمان، ويباهي بهم الملائكة، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسى كذلك أن ( الحج المبرور ليس جزاء إلا الجنة ) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلاحظ أن الحج فيه تجرد من كل شيء، كما قال أحد الدعاة رحمه الله تعالى: يقول: إن الحج تجرد لله تعالى من كل شيء حتى من ملابس الشخص ومن شعره، كل شيء يتجرد منه، حتى الملابس الخاصة وحتى الشعر يتجرد من كل هذا لله تعالى، وفي ذلك تحقيق العبودية له.

وكذلك فيه هذا الاجتماع والحشد البشري الكبير، الذي هو أكبر مؤتمر يقام على وجه الأرض، بتحقيق العبودية لله تعالى، وتكبير إيخاء المسلمين، وتواصلهم فيما بينهم وتعارفهم، وهذا الفهم الصحيح للحج، فمن فهمه هذا الفهم انتفع به، وعلم أن حجه سيكون مبروراً إن شاء الله تعالى.

ومن علامات كون الحج مبروراً: أن يكون الشخص قد تأثر به بعده، فتغير إلى الأحسن بعد نهاية حجه، كثير من الناس لا يشعر أن الحجة قد أحدثت نقلة في نفسه، ولا أنه قد طرأ عليه أي تحسن في التزامه بالإسلام، ولا أنه قد ازداد ولاؤه لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا أنه شعر بأنه عضو ينبغي أن يكون نشطاً في مجتمع أراد الله تعالى له الهداية، وأراد له قيادة البشر.