شرح متن الورقات [16]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما النسخ فمعناه لغةً: الإزالة، وقيل: معناه النقل؛ من قولهم: نسخت ما في هذا الكتاب إذا نقلته، وحده: هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه ].

تعريف النسخ

النسخ في اللغة يطلق على معنيين -كما ذكر المؤلف رحمه الله-: المعنى الأول: الرفع والإزالة؛ ومن ذلك قولهم: نسخت الشمس الظل، أي: رفعته وأزالته، ومن ذلك أيضاً نسخت الريح الأثر، أي: أزالته؛ ومنه قول الله عز وجل: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج:52].

وأما المعنى الثاني فقال رحمه الله: (وقيل: معناه النقل؛ ومن ذلك قولهم: نسخت ما في الكتاب إذا نقلته)، ومنه قول الله عز وجل: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].

ففرق بين المعنيين الأول والثاني، المعنى الأول: هو الرفع للشيء بالكلية، بخلاف المعنى الثاني فإنه ليس فيه رفع، بل الأصل لا يزال باقياً، فقولك: نسخت ما في الكتاب أي: نقلته، فالأصل المنسوخ منه لا يزال باقياً.

وأما في الاصطلاح فقال المؤلف رحمه الله: (هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه).

وعبر المؤلف رحمه الله بقوله: (الخطاب) ولم يعبر بالنص؛ لأن الخطاب يشمل النص, وكذلك أيضاً يشمل الفحوى, ويشمل المفهوم.

والمراد بقوله: (الخطاب) هو الكتاب والسنة، وهذا سيتبين في بيان شروط النسخ، فسيأتينا أنه يشترط للنسخ أن يكون الناسخ وحياً.

وهل يكون الإجماع ناسخاً؟ أو هل يكون القياس ناسخاً؟ هذا سيأتي إن شاء الله بيانه، فقوله: (الخطاب) المراد بذلك: النقل إما الكتاب أو السنة، فيخرج الإجماع، ويخرج أيضاً القياس.

وقوله: (الدال على رفع الحكم) المراد برفع الحكم: تغييره وتبديله من إباحة إلى تحريم، أو من تحريم إلى إحلال، أو من إيجاب إلى ندب ونحو ذلك؛ مثل قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، هذا أمر بأن من نادى النبي عليه الصلاة والسلام يجب عليه أن يقدم بين يدي نجواه صدقة، ثم بعد ذلك نسخ هذا الإيجاب إلى الإباحة، وأن الإنسان له أن يناجي النبي عليه الصلاة والسلام ولو لم يقدم صدقةً، كما ورد في قوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13]، ففي هذا نسخ من الإيجاب إلى الإباحة.

وأيضاً الله عز وجل أباح الخمر في أول الإسلام في قول الله عز وجل: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، ثم بعد ذلك حرمه في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] .

وقول المؤلف رحمه الله: (بالخطاب المتقدم) هذا لكي يخرج رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية، فهذا لا يسمى نسخاً؛ أي أن النسخ لا بد أن يكون لحكم ثبت بخطاب، ومثاله: إيجاب الصدقة عند مناجاة النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا ثبت بخطاب وهو قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12]، ثم رفع بخطاب.

لكن الثابت بالبراءة الأصلية هل ثبت بخطاب أو لم يثبت بخطاب؟ هذا لم يثبت بخطاب، وعلى هذا: رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية لا يسمى نسخاً؛ فمثلاً: قول الله عز وجل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] هذا لا نسميه نسخاً، فنقول: الأصل عدم وجوب الصلاة ثم جاء الخطاب بإيجاب الصلاة بقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة)، وجاء الخطاب بإيجاب الزكاة بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة) فهذا لا يسمى نسخاً.

إذاً: رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية لا يسمى نسخاً، وإنما يكون نسخاً إذا كان ثابتاً بخطاب متقدم.

وقول المؤلف رحمه الله: (على وجه لولاه) الضمير هنا يعود على الخطاب الثاني؛ أي لولا الخطاب الثاني لكان الحكم الثابت بالخطاب الأول باقياً، ولم يتغير ولم يتبدل.

وقول المؤلف رحمه الله: (مع تراخيه عنه) هذا يخرج ما إذا كان الخطاب الثاني غير متراخ؛ بمعنى: إذا كان الخطاب الثاني متصلاً بالخطاب الأول ليس متراخياً فإن هذا لا يسمى نسخاً، وهذا مثاله: المخصصات المتصلة، فالمخصصات المتصلة هذه لا تسمى نسخاً؛ لأن الخطاب الثاني ليس متراخياً عن الخطاب الأول بل متصلاً به، ومثال ذلك: قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فـ(الناس) هذا لفظ عام؛ فيجب على كل الناس حج البيت، ثم رفع حكم الوجوب عن غير المستطيع؛ لقول الله عز وجل: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فهذا الرفع لا نسميه نسخاً.

والمؤلف رحمه الله بهذا يكون قد عرف الناسخ، ونفهم تعريف النسخ من تعريف الناسخ، فنقول: بأن النسخ هو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه، فقولنا: (رفع الحكم) هذا يشمل كافة الأحكام -من الأوامر والنواهي- فيشمل الأحكام الخمسة التكليفية: الواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح، والمحرم، وقولنا: (الثابت بخطاب متقدم) هذا يخرج البراءة الأصلية؛ كإيجاب الصلاة، فهذا لا نسميه نسخاً.

وقولنا: (بخطاب متأخر عنه) هذا يخرج المخصصات المتصلة، فإن المخصصات المتصلة لا تسمى نسخاً مثل: الشرط والغاية والاستثناء والحال، هذه لا نسميها نسخاً, وبهذا نفهم أن النسخ: رفع للحكم بحيث يبقى الحكم بمنزلة أنه لم يشرع البتة، وليس تقييداً أو استثناءً أو تخصيصاً.

النسخ في اصطلاح السلف

اعلم أن النسخ في لسان السلف ليس كالنسخ في لسان المتأخرين أو الأصوليين! فالنسخ في لسان السلف أعم من ذلك، فالذي تكلمنا عنه بأنه رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه، هذا في اصطلاح الأصوليين.

أما النسخ في اصطلاح السلف أو في لسان السلف فيشمل: تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتبيين المجمل ورفع الحكم كما هو معروف عند الأصوليين أيضاً يسمونه نسخاً، فالنسخ في لسان السلف أعم من النسخ في لسان المتأخرين.

شروط النسخ

النسخ لا بد له من شروط:

الشرط الأول: أن يكون الناسخ وحياً.

فلا بد أن يكون من الكتاب أو السنة؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس:15]، فكان الجواب: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [يونس:15]، فدل على أن التبديل إنما يكون بالوحي.

وبهذا الشرط يخرج الإجماع، فالإجماع لا يكون ناسخاً، وكذلك أيضاً القياس لا يكون ناسخاً، أما الإجماع فلا يكون ناسخاً؛ لأنه إن كان المنسوخ نصاً فهذا باطل؛ إذ يستحيل أن ينعقد الإجماع على خلاف النص، وإن كان المنسوخ إجماعاً فهذا أيضاً باطل! إذ يستحيل أن ينعقد الإجماع على خلاف إجماع آخر، وإن كان المنسوخ قياساً فهذا أيضاً باطل؛ لأن من شرط حجية القياس عدم مخالفته للإجماع؛ ولأن القياس يعتبر فيما لا نص فيه، وحيث وجد النص بطل القياس، فالقياس لا يكون ناسخاً؛ لأن القياس يصار إليه عند عدم وجود النص، وحيث وجد النص فإن القياس يكون باطلاً.

وكذلك أيضاً لا يجوز النسخ بالأدلة العقلية؛ لأن الأدلة العقلية تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ضرب لا يرد الشرع بخلافه، فهذا لا يتصور نسخ الشرع به.

والقسم الثاني: ضرب يجوز أن يرد الشرع بخلافه، فهذا يجب العمل به عند عدم الشرع، وهو البقاء على البراءة الأصلية.

الشرط الثاني: أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ. وعلى هذا: هل المتواتر ينسخ بالآحاد أو لا ينسخ بالآحاد؟ هذا موضع خلاف بين الأصوليين رحمهم الله، والصحيح في ذلك أن هذا ليس بشرط؛ فيصح أن يكون كل من الناسخ والمنسوخ في مرتبة واحدة، أو أن الناسخ أضعف من المنسوخ، أي: إذا كانا متساويين فالأمر ظاهر كمتواتر بمتواتر، وإذا كان الناسخ أعلى فالأمر أيضاً ظاهر، وإذا كان الناسخ أدنى -وهذه الحالة الثالثة- فهذا موضع الخلاف بين الأصوليين، والصحيح في ذلك أن هذا جائز لا بأس به في النسخ؛ لأن النسخ بيان، فإذا كان كذلك فإنه يصح أن يبين الآحادُ المتواتر.

الشرط الثالث: تأخر الناسخ، فلا يصار للنسخ إلا عند معرفة التاريخ وأن الناسخ متأخر، والمنسوخ متقدم، وسيأتينا إن شاء الله في آخر بحث النسخ ذكر الطرق التي يعرف بها المتقدم من المتأخر.

الشرط الرابع: أن يمتنع اجتماع الناسخ والمنسوخ؛ بأن يتوارد النصان على محل واحد على وجه التنافي، وللتوضيح أكثر نقول: أن يمتنع الجمع بين الناسخ والمنسوخ وذلك؛ بأن يتوارد النصان على محل واحد يكونا فيه متنافيين؛ كأن يكون هذا النص يوجب وهذا يبيح، أو هذا النص يبيح وهذا يحرم، أما إن أمكن الجمع فإنه لا يصار إلى النسخ؛ لأن القاعدة عندنا أن: إعمال الدليل أولى من إهماله، ولا شك أنك إذا جمعت تكون أعملت الدليلين جميعاً، أما إذا صرت إلى النسخ فإنك تكون أبطلت أحد الدليلين.

الشرط الخامس: أن يكون المنسوخ حكماً من أحكام الفروع. وسيأتينا إن شاء الله أن هناك أموراً لا يمكن أن يتطرق إليها النسخ؛ وإذا وجدت أن أحداً من العلماء قال: بأن هذا منسوخ فإن هذا باطل! كما سيأتي، فمثلاً: الأخبار لا يمكن أن يتطرق إليها النسخ، مثل أخبار الأمم السابقة، أو الأخبار بالمغيبات وغير ذلك، فلو قلنا: بأن النسخ يقع عليها للزم من ذلك أن يكون هذا الخبر كذباً! ولا يمكن أن يتصور التكذيب في خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم! فيُشترط أن يكون المنسوخ حكماً من أحكام الفروع، أما ما يتعلق بالأخبار وما يتعلق بالعقائد فلا يمكن وقوع النسخ فيها كما سيأتي إن شاء الله.

الشرط السادس: أن يكون المنسوخ قد ثبت بخطاب متقدم. فإن لم يكن ثبت بخطاب متقدم فهذا لا يسمى نسخاً كما سبق وقلنا: إذا كان ثابتاً بالبراءة الأصلية فهذا لا نسميه نسخاً.

الشرط السابع: أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ، فإن كان الناسخ متصلاً بالمنسوخ -كالشرط والغاية والمستثنى- فهذا ليس من النسخ وإنما هو تخصيص.

الشرط الثامن: أن يكون المنسوخ مطلقاً؛ ليس محدداً بوقت أو بمدة معلومة.

أوجه التشابه والافتراق بين النسخ والتخصيص

هناك فروق بين النسخ والتخصيص، فالنسخ والتخصيص يجتمعان في أن كلاً منهما فيه رفع للحكم، ففي التخصيص كما تقدم لنا: قصر الحكم على بعض أفراد العام، فإذا قصرنا الحكم العام على بعض أفراده فهذا فيه نوع من الرفع، رفعنا الحكم عن بعض أفراد العام، وهكذا النسخ هو رفع الحكم، ففيهما تشابه من هذا الوجه.

وهناك فروق بين النسخ والتخصيص:

الفرق الأول: أن النسخ يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ، أما التخصيص فلا يشترط، فيصح أن يكون متصلاً، ويصح أن يكون متأخراً عنه، كما تقدم لنا في قول الله عز وجل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، فهذا متصل، ويصح أيضاً أن يكون التخصيص متراخياً متأخراً كما تقدم، أما النسخ فلا يمكن أن يكون إلا متراخياً.

الفرق الثاني: أن التخصيص يكون لبعض الأفراد، فإن وجدت عاماً خُص جميع أفراده فاعلم أنه النسخ، لكن التخصيص يكون لبعض الأفراد، أما بالنسبة للنسخ فقد يكون نسخاً لبعض الحكم وقد يكون نسخاً لكل الحكم، أي: أن النسخ قد يرفع الجميع وقد يرفع البعض، لكن التخصيص لا يرفع الجميع.

الفرق الثالث: أن التخصيص لا يرد إلا على العام بخلاف النسخ فإنه يرد على العام وعلى غير العام.

الفرق الرابع: أن النسخ لا يكون إلا بالأدلة النقلية، أما بالنسبة للتخصيص فقد تقدم أنه يكون بالأدلة النقلية ويكون بغيرها.

يدخله النسخ

هناك أمور في الشريعة لا يمكن أن يدخلها النسخ، وتقدم لنا أن من شروط صحة النسخ: أن يكون النسخ في أحكام الفروع، وعلى هذا عندنا أمور لا يمكن أن يدخلها النسخ.

فمن الأمور التي لا يدخلها النسخ:

الأمر الأول: أمور العقائد، فكل ما يتعلق بأمور العقائد لا يمكن أن يدخلها النسخ، فمن ذلك ما يتعلق بالإيمان بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، وألوهيته، وربوبيته ونحو ذلك، فهذا لا يمكن أن يدخله النسخ.

وكذلك أيضاً ما يتعلق بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فما يتعلق بأمور العقائد لا يمكن أن يدخله النسخ.

الأمر الثاني: ما يتعلق بالأخبار، أيضاً هذا لا يمكن أن يدخله النسخ، كالإخبار عن الله عز وجل، أو عن الأمم السابقة، أو الإخبار عن اليوم الآخر، أو الإخبار عن الجنة والنار، فهذا لا يمكن أن يدخله النسخ، ولو قلنا: بأنه يدخله النسخ سيؤدي ذلك إلى التكذيب.

الأمر الثالث: الأحكام العامة في الشريعة والقواعد الكلية، هذه أيضاً لا يمكن أن يدخلها النسخ، مثل: (المشقة تجلب التيسير) لا يمكن أن يدخلها النسخ، وإن كان في التفريعات قد يحصل فيه من ذلك! لكن من حيث العموم هذا لا يمكن. ومثل: (لا ضرر ولا ضرار)، هذا لا يمكن أن يدخله النسخ، وأيضاً (اليقين لا يزال بالشك) هذا لا يمكن أن يدخله النسخ، فالأشياء التي تتعلق بالأمور العامة الأحكام العامة والقواعد الكلية هذه لا يمكن أن يرد عليها نسخ في الشريعة الإسلامية.

الأمر الرابع: ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، فهذه أمور لا يمكن أن يدخلها النسخ.

الأمر الخامس: ما يتعلق بالأخلاق كالصدق والعفاف؛ أي: ما جاء عن الشارع وأمر به من محاسن الأخلاق ونهى عنه من رذائل الأخلاق لا يمكن أن يدخلها النسخ أبداً، مثل: الصدق والعفاف والصلة وبر الوالدين وصلة الرحم... إلخ.

الأمر السادس: ما يتعلق برذائل الأخلاق كالزنا، والسرقة، اللواط، والكذب، والخيانة، والغدر، هذه الأشياء لا يمكن أن يدخلها النسخ.

الأمر السابع: الأحكام المؤقتة، قال العلماء: لا يدخلها النسخ.

وبهذا يتبين أن النسخ في الشريعة قليل، ووجه القلة من أمور:

الأمر الأول: أن النسخ إنما يتعلق بأحكام الفروع فقط.

ثانياً: أن ثبوت الأحكام على المكلف ثبوت مؤكد، هذا الأصل، يعني: إذا ورد الحكم فالأصل أنه ثابت، ومن يدعي النسخ يحتاج إلى دليل، فالأصل ثبوت الأحكام على المكلف ثبوتاً مؤكداً، وادعاء النسخ يحتاج إلى دليل ينقل عن الأصل، وهذه قاعدة: أن كل من يدعي خلاف الأصل فإنه يطالب بالدليل، بخلاف من يدعي موافقة الأصل فلا نطالبه بالدليل.

الأمر الثالث مما يبين أن النسخ في الشريعة قليل: أن بعض الأشياء التي قال العلماء رحمهم الله: إن فيها نسخاً إذا محصت تبين أنه لا نسخ فيها! فبعض الأحكام -حتى أحكام الفروع التي ادعي أن فيها نسخاً- إذا نظرت فيها قد لا تجد فيها النسخ، فيمكن أن تكون قابلة للجمع، وهذا يأتينا إن شاء الله عند تعارض الأدلة، وعند تعارض الأدلة لا نصير إلى النسخ إلا إذا تعذر علينا الجمع، أو قد نخصص العام بالخاص أو المطلق بالمقيد.. إلى آخره.

الحكمة من النسخ

ذكر العلماء رحمهم الله للنسخ حِكماً منها:

الحكمة الأولى: الرحمة بالأمة، والتخفيف عليها، وهذا يتضح في نسخ الأثقل إلى الأخف؛ ومن ذلك أنه كان يجب على المسلم أن يصابر عشرة من الكفار؛ أي: إذا لاقى عشرة يجب عليه أن يثبت، كما في قول الله عز وجل: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:65]، فعشرون يجب عليهم أن يصابروا مائتين. فالواحد يجب عليه أن يصابر عشرةً وألا يفر منهم، ثم بعد ذلك نسخ هذا الأثقل إلى الأخف؛ بقول الله عز وجل: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66]، فنسخ هذا من الأثقل إلى الأخف.

الحكمة الثانية: تكثير أجر المؤمنين، وذلك بنسخ الأخف إلى الأثقل؛ وهذا مثاله: أنه في أول الإسلام كان الإنسان مخيراً في الصيام؛ بين أن يصوم وبين أن يطعم، كما في قول الله عز وجل: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، ثم بعد ذلك نسخ ذلك بتعيين الصيام: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] .

الحكمة الثالثة: دفع حجج العدو؛ كقول اليهود: تصلي إلى قبلتنا ولا تتبع ملتنا! فدفع هذا بنسخ استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة.

الحكمة الرابعة: تمييز قوي الإيمان من ضعيف الإيمان؛ كما قال الله عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143].

والحكمة الخامسة: الامتحان بكمال الانقياد، وهذا يكون بنسخ الشيء قبل التمكن من الفعل؛ مثل: أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ابنه، فانقاد عليه الصلاة والسلام، لكنه نسخ ذلك قبل أن يتمكن من الفعل.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.