شرح عمدة الفقه - كتاب المناسك [9]


الحلقة مفرغة

تقدم لنا شيء من أحكام الطواف، وذكرنا من ذلك ما يشرع في طواف القدوم من الرمل والاضطباع، وكذلك أيضاً ذكرنا شيئاً من أحكام استلام الحجر الأسود، وذكرنا أن لذلك أربع مراتب: المرتبة الأولى أن يستلمه وأن يقبله وأن يسجد عليه، المرتبة الثانية: أن يستلمه بيده ويقبل يده، المرتبة الثالثة: أن يستلمه بشيء ويقبل ذلك الشيء، المرتبة الرابعة: أن يشير إليه.

وأيضاً ذكرنا ما يتعلق باستلام الركن اليماني، وكذلك أيضاً ما يتعلق باستلام الركنين الآخرين الشاميين، وأنه لا يشرع استلامهما.

ثم تطرقنا أيضاً إلى ما يتعلق بشروط الطواف، وذكرنا: هل تشترط الطهارة من الحدث، وهل تشترط الطهارة من الخبث؟ وما يتعلق بستر العورة وما يتعلق بإكمال السبعة الأشواط، فهذه تقدم الكلام عليها مبيناً.

قال المؤلف رحمه الله: [ويدعو في سائره بما أحب].

تقدم أن ذكرنا أنه يقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وأيضاً ذكرنا ما يقوله عند استلام الحجر الأسود وما عدا ذلك فلم يرد، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (يدعو في سائره بما أحب) أي: بما أحب من خير الدنيا والآخرة، فيؤخذ من هذا: أنه ليس لأشواط الطواف ذكر مخصوص، وأن ما يوجد في بعض الكتيبات من دعاء للشوط الأول ودعاء للشوط الثاني، إنما هو بدعة؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، والأصل فيها المنع، وإذا كان كذلك فإنه إن لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام تخصيص دعاء في عبادة فإن فعله بعده بدعة.

ثم قال المؤلف رحمه الله: [ثم يصلي ركعتين خلف المقام].

بعد أن ينتهي من الطواف يشرع له أن يصلي هاتين الركعتين، وإذا انتهى من الطواف هل يشرع أن يشير إلى الحجر ويكبر أو نقول: هذا غير مشروع؟ في هذا قولان لأهل العلم رحمهم الله:

الرأي الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يشرع استدلالاً بأن النبي عليه الصلاة والسلام كلما حاذى الحجر الأسود استلمه وكبر، فكذلك أيضاً عند نهاية الشوط السابع يستلمه -كما تقدم- ويكبر.

والرأي الثاني: أنه لا يشرع؛ لأنه إذا أتم الأشواط السبعة فقد انتهت العبادة، وهذا الاستلام إنما يكون في جوف العبادة، والعبادة قد انتهت، ويدل لهذا أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام في أيام التشريق -كما سيأتينا إن شاء الله- رمى الجمرة الصغرى ثم استقبل القبلة يدعو، ثم رمى الجمرة الوسطى ثم استقبل القبلة ورفع يديه يدعو، ثم رمى الجمرة الكبرى -جمرة العقبة- ولم يقف عندها ولم يدع.

واختلف أهل العلم رحمهم الله في الحكمة من ذلك، وأقرب الأقوال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع لأن العبادة قد انتهت، وعلى هذا نقول: إذا أتم الأشواط السبعة فإنه لا يشرع أن يكبر أو أن يستلم الحجر أو أن يشير إليه وإنما يمضي.

حكم ركعتي الطواف وموضعهما

وقوله رحمه الله: (ثم يصلي ركعتين) هاتان الركعتان -ركعتا الطواف- تحتهما مسائل:

المسألة الأولى: حكم هاتين الركعتين، للعلماء في ذلك رأيان:

الرأي الأول: وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً الشافعي : أن هاتين الركعتين سنتان وليستا واجبتين.

والرأي الثاني: مذهب أبي حنيفة ومالك : أنهما واجبتان.

والذين قالوا بأنهما سنة استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن، قال: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ) قالوا: هذا الواجب أي: أن الواجب، خمس صلوات في اليوم والليلة ولا يجب غير هذه الصلوات الخمس.

ومن قال بوجوبهما استدلوا بظاهر الأمر، فإن الله عز وجل قال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] قالوا: هذا يقتضي وجوب هاتين الركعتين.

وأقرب الأقوال في ذلك أن هاتين الركعتين ليستا واجبتين وإنما هما سنة، وأما هذا الدليل الذي استدل به من قال بالوجوب، وهو قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فإنه وجد الصارف لذلك، وهو أن الإجماع منعقد على أن هاتين الركعتين تجزئان في كل مكان مع أن الآية جاءت في الأمر خلف مقام إبراهيم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فالآية جاءت بالأمر بالصلاة خلف مقام إبراهيم، والإجماع منعقد على أنه لا يجب أن تكون هاتان الركعتان خلف مقام إبراهيم، فلو فعلهما في أي مكان فإن ذلك مجزئ، فدل ذلك على أن هاتين الركعتين ليستا واجبتين؛ لأنه إذا كانت هاتان الركعتان أمر بهما خلف مقام إبراهيم ثم بذلك انعقد الإجماع على أنه يجزئ فعلهما ولو في غير هذا المكان دل ذلك على عدم وجوبهما.

وعلى هذا نقول: الصحيح في ذلك أن هاتين الركعتين لا تجبان، وأنهما تجزئان في كل مكان، وعمر رضي الله تعالى عنه صلاهما بذي طوى.

المسألة الثانية: السنة أن تكون هاتان الركعتان خلف مقام إبراهيم، فإن لم يتيسر للإنسان ذلك فإنه يصليهما في أي مكان، وإن تيسر له أن يجعل المقام خلفه -أي: بينه وبين البيت- فهذا أحسن، يعني: إذا لم يتمكن أن يجعلهما خلف مقام إبراهيم فإنه يجتهد أن يكون المقام بينه وبين البيت أثناء تأديتهما.

مدى إجزاء المكتوبة أو السنة عن ركعتي الطواف

المسألة الثالثة: هل تجزئ عنهما صلاة مكتوبة أو سنة راتبة لو كان الوقت وقت سنة راتبة أو نقول: لا يجزئ ذلك؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصواب في ذلك: أن المكتوبة لا تجزئ عنهما، وأيضاً لا تجزئ عنهما السنة الراتبة؛ لأن هاتين الركعتين صلاة مستقلة بنفسها ومقصودة لذاتها، فلا تقوم غيرها مقامها.

ما يسن في ركعتي الطواف

المسألة الرابعة: ما يسن في هاتين الركعتين.

نقول: هاتان الركعتان يسن فيها سنن:

السنة الأولى: التخفيف أي: أن يخفف هاتين الركعتين.

والسنة الثانية: أن يقرأ فيمها بسورتي الإخلاص: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) كما في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه.

والسنة الثالثة: ألا يطيل المقام بعدهما بل يقوم مباشرة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

ركعتا الطواف في أوقات النهي

المسألة الخامسة: هل تشرع هاتان الركعتان في أوقات النهي أو لا؟ بمعنى: لو أن الإنسان طاف بعد العصر أو طاف بعد الفجر فهل إذا انتهى من طوافه يصلي هاتين الركعتين أو نقول: بأنه لا يصليهما؟

نقول: الصواب في ذلك ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله: أن هاتين الركعتين تشرعان في أوقات النهي؛ لأنهما من ذوات الأسباب، وذوات الأسباب تشرع في كل وقت؛ لأنها لو أخرت عن سببها لفاتت، إذ إنها شرعت لهذا السبب وهي دائرة معه.

استلام الركن بعد ركعتي الطواف

قال رحمه الله: [ويعود إلى الركن فيستلمه].

إذا انتهى من صلاة هاتين الركعتين فإنه يشرع أن يعود إلى الركن ويستلمه، يعني: يعود إلى الحجر الأسود ويستلمه ويمسحه قبل أن يشرع في السعي، وهذا الاستلام قال العلماء رحمهم الله: يشرع بعد كل طوافٍ يعقبه سعي، فيشرع أن يستلمه فقط ولا يقبله؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبله، وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقبله داخل الطواف أما خارج الطواف فهذا لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فنقول: إذا انتهى الإنسان من الطواف فإن تيسر له أن يذهب إلى الحجر وأن يستلمه ويمسحه ثم بعد ذلك يخرج إلى المسعى فقد قام بالسنة.

وقوله رحمه الله: (ثم يصلي ركعتين) هاتان الركعتان -ركعتا الطواف- تحتهما مسائل:

المسألة الأولى: حكم هاتين الركعتين، للعلماء في ذلك رأيان:

الرأي الأول: وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكذلك أيضاً الشافعي : أن هاتين الركعتين سنتان وليستا واجبتين.

والرأي الثاني: مذهب أبي حنيفة ومالك : أنهما واجبتان.

والذين قالوا بأنهما سنة استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن، قال: ( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ) قالوا: هذا الواجب أي: أن الواجب، خمس صلوات في اليوم والليلة ولا يجب غير هذه الصلوات الخمس.

ومن قال بوجوبهما استدلوا بظاهر الأمر، فإن الله عز وجل قال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] قالوا: هذا يقتضي وجوب هاتين الركعتين.

وأقرب الأقوال في ذلك أن هاتين الركعتين ليستا واجبتين وإنما هما سنة، وأما هذا الدليل الذي استدل به من قال بالوجوب، وهو قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فإنه وجد الصارف لذلك، وهو أن الإجماع منعقد على أن هاتين الركعتين تجزئان في كل مكان مع أن الآية جاءت في الأمر خلف مقام إبراهيم: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125] فالآية جاءت بالأمر بالصلاة خلف مقام إبراهيم، والإجماع منعقد على أنه لا يجب أن تكون هاتان الركعتان خلف مقام إبراهيم، فلو فعلهما في أي مكان فإن ذلك مجزئ، فدل ذلك على أن هاتين الركعتين ليستا واجبتين؛ لأنه إذا كانت هاتان الركعتان أمر بهما خلف مقام إبراهيم ثم بذلك انعقد الإجماع على أنه يجزئ فعلهما ولو في غير هذا المكان دل ذلك على عدم وجوبهما.

وعلى هذا نقول: الصحيح في ذلك أن هاتين الركعتين لا تجبان، وأنهما تجزئان في كل مكان، وعمر رضي الله تعالى عنه صلاهما بذي طوى.

المسألة الثانية: السنة أن تكون هاتان الركعتان خلف مقام إبراهيم، فإن لم يتيسر للإنسان ذلك فإنه يصليهما في أي مكان، وإن تيسر له أن يجعل المقام خلفه -أي: بينه وبين البيت- فهذا أحسن، يعني: إذا لم يتمكن أن يجعلهما خلف مقام إبراهيم فإنه يجتهد أن يكون المقام بينه وبين البيت أثناء تأديتهما.

المسألة الثالثة: هل تجزئ عنهما صلاة مكتوبة أو سنة راتبة لو كان الوقت وقت سنة راتبة أو نقول: لا يجزئ ذلك؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، والصواب في ذلك: أن المكتوبة لا تجزئ عنهما، وأيضاً لا تجزئ عنهما السنة الراتبة؛ لأن هاتين الركعتين صلاة مستقلة بنفسها ومقصودة لذاتها، فلا تقوم غيرها مقامها.

المسألة الرابعة: ما يسن في هاتين الركعتين.

نقول: هاتان الركعتان يسن فيها سنن:

السنة الأولى: التخفيف أي: أن يخفف هاتين الركعتين.

والسنة الثانية: أن يقرأ فيمها بسورتي الإخلاص: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ )) و: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) كما في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه.

والسنة الثالثة: ألا يطيل المقام بعدهما بل يقوم مباشرة كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

المسألة الخامسة: هل تشرع هاتان الركعتان في أوقات النهي أو لا؟ بمعنى: لو أن الإنسان طاف بعد العصر أو طاف بعد الفجر فهل إذا انتهى من طوافه يصلي هاتين الركعتين أو نقول: بأنه لا يصليهما؟

نقول: الصواب في ذلك ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله: أن هاتين الركعتين تشرعان في أوقات النهي؛ لأنهما من ذوات الأسباب، وذوات الأسباب تشرع في كل وقت؛ لأنها لو أخرت عن سببها لفاتت، إذ إنها شرعت لهذا السبب وهي دائرة معه.

قال رحمه الله: [ويعود إلى الركن فيستلمه].

إذا انتهى من صلاة هاتين الركعتين فإنه يشرع أن يعود إلى الركن ويستلمه، يعني: يعود إلى الحجر الأسود ويستلمه ويمسحه قبل أن يشرع في السعي، وهذا الاستلام قال العلماء رحمهم الله: يشرع بعد كل طوافٍ يعقبه سعي، فيشرع أن يستلمه فقط ولا يقبله؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبله، وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقبله داخل الطواف أما خارج الطواف فهذا لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فنقول: إذا انتهى الإنسان من الطواف فإن تيسر له أن يذهب إلى الحجر وأن يستلمه ويمسحه ثم بعد ذلك يخرج إلى المسعى فقد قام بالسنة.

قال رحمه الله: [ثم يخرج إلى الصفا من بابه].

الصفا: هي الحجارة الصلبة، والمراد به هنا: المكان المعروف في طرف المسعى الجنوبي، طرف جبل أبي قبيس؛ لأن المسعى بين جبلين من جهة الصفا جبل أبي قبيس، ومن جهة المروة جبل قعيقعان.

الابتداء بصعود الصفا

قال المؤلف رحمه الله: [فيرقى عليه].

أي: يرقى على الصفا، وهذا الرقي ليس واجباً لكنه مستحب، وإذا أقبل على الصفا قرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] هكذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر ، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الآية وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجزء: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ثم قال: ( أبدأ بما بدأ الله به ) ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذا الجزء من هذه الآية في غير هذا الموضع.

وبهذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس إذا أتى المروة قرأ قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) ثم إذا رجع إلى الصفا قرأها أيضاً أن هذا ليس عليه دليل، فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما قرأها مرة واحدة لما أقبل على الصفا.

التكبير والدعاء على الصفا

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويكبر الله ويهلله ويدعوه].

أي: يرفع يديه، فإذا صعد على الصفا فليستقبل القبلة وليرفع يديه ويقول: الله أكبر ثلاث مرات.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر. ثم بعد ذلك يقول ما ورد، والوارد كما في حديث جابر يقول: ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ) ثم يدعو ثم يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم ينزل.

أعيد ما سبق: أن يرفع يديه مستقبل القبلة ويكبر ثلاث مرات: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر، ثم يقول الوارد: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم يدعو، ثم يقول هذا الذكر ثم ينزل، فيدعو مرتين ويقول هذا الذكر ثلاث مرات فهذا هو السنة.

وبهذا نعرف أن ما يفعله بعض الناس إذا صعدوا على الصفا يشيرون بأيديهم كأنهم يكبرون للإحرام ونحو ذلك، أو أنهم إذا أتوا إلى المروة يرفعون ويشيرون بأيديهم، فهذا كله غير وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الرمل بين العلمين

قال رحمه الله: [ثم ينزل فيمشي في مواضع مشيه، ويسعى في مواضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط].

هذا يدل على أن المسعى يشرع فيه المشي ويشرع فيه السعي، فإذا أتى إلى العلم الأخضر -وهو بطن الوادي- فإنه يستحب أن يسعى سعياً شديداً اقتداءً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل مشروعية السعي كما في حديث البخاري الذي رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن إبراهيم لما ترك هاجر وابنها إسماعيل فعطشت وعطش الصبي فصعدت على الصفا هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، وهبطت في بطن الوادي، فكانت إذا هبطت في بطن الوادي لا ترى الصبي، فتسعى سعياً شديداً حتى تصل إلى المروة؛ لكي تنظر هل ترى أحداً؟ أو لا ترى أحداً، فكانت تسعى إذا كانت في بطن الوادي؛ لأن الطفل يغيب عنها، وبهذا حصلت مشروعية السعي.

شروط صحة السعي

وقوله: (فيمشي في مواضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه).

السعي يشترط لصحته شروط أشار المؤلف رحمه الله إلى الشرط الأول في قوله: (فيمشي في مواضع مشيه) هذا الشرط الأول: أن يمشي، وعلى هذا لو أنه ركب من غير عذرٍ فإن سعيه غير صحيح، فلا بد أن يمشي ولا يركب إلا إذا كان لعذر فإن هذا لا بأس به، فإن النبي عليه الصلاة والسلام سعى ماشياً فلما احتاج إلى أن يركب؛ لكي يراه الناس ولكي يشرف عليهم ولكي يأخذوا عنه نسكهم ركب عليه الصلاة والسلام ركب، فنقول: الأصل أنه يمشي إلا إذا احتاج إلى الركوب فإنه لا بأس أن يركب.

هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكذلك أيضاً مذهب مالك : أنه لا بد أن يمشي إلا لعذر، وعلى هذا إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يمشي إما لكبر أو لمرض أو لغير ذلك فإنه لا بأس أن يركب، أما إذا كان قادراً على المشي فإنه لا يصح أن يركب، وهذا المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، ومذهب مالك وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: رأي الشافعي رحمه الله تعالى، وهو أن المشي سنة وليس واجباً، وأنه لا بأس أن يركب الإنسان، قالوا: لأن النبي عليه الصلاة والسلام ركب.

والأحوط في هذا أن يمشي الإنسان إلا لعذر، ولنعلم أن السعي يخفف فيه ما لا يخفف في الطواف، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعائشة لما حاضت: ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ) فتفعل حتى السعي فتسعى وهي حائض، فدل ذلك على أن السعي أمره أيسر من الطواف، ومع ذلك نقول: الأحوط أن الإنسان يمشي إلا لعذر، فإن كان هناك عذر فلا بأس.

وقوله رحمه الله: (حتى يكمل سبعة أشواط).

هذا الشرط الثاني: أنه لا بد أن يكمل سبعة أشواط، وعلى هذا لو أنه لم يسع إلا ستة أو ستة ونصفاً أو سبعة إلا شيئاً، لم يستوعب ما بين الصفا والمروة فإن هذا غير صحيح؛ لأنه لم يكمله، والنبي عليه الصلاة والسلام طاف سبعة أشواط كاملة.

ثم قال رحمه الله: [يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية، يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة].

هذا الشرط الثالث: أن يفتتح بالصفا وأن يختم بالمروة، وعلى هذا لو افتتح بالمروة فإن هذا الشوط غير معتبر فلا بد أن يأتي بشوطٍ آخر، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وهناك رواية عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لو بدأ بالمروة فإنه لا شيء عليه كما لو ترك الترتيب بين أعضاء الوضوء، والصواب في هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

الشرط الرابع: الموالاة بين أشواط السعي كالطواف، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة، وهي: أن كل عبادة مركبة من أجزاء فإنه يشترط فيها شرطان: الشرط الأول: الترتيب، والشرط الثاني: الموالاة بين أجزائها، وإلا لم تكن كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله: أن التوالي بين أشواط السعي ليس شرطاً؛ لأن سودة بنت عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما سعت بين الصفا والمروة في ثلاثة أيام، والأقرب في هذا هو الرأي الأول وأنه لا بد من التوالي؛ لأنه لو طاف شوطاً في أول النهار وشوطاً في منتصف النهار وشوطاً في آخره وأربعة من الغد لم يكن هذا السعي الذي سعاه النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن هذه هي العبادة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم وشرعها.

الشرط الخامس: أن يكون هذا السعي بعد طواف نسك ولو مسنوناً، وهذا قول الأئمة الأربعة، وحكي الإجماع على ذلك: أنه لا بد أن يكون السعي بعد طواف نسك، ومعنى قولنا: (نسك)، يعني: طواف مشروع في حج أو عمرة، ولا يشترط أن يكون هذا الطواف واجباً حتى ولو كان مسنوناً مثل طواف القدوم للمفرد والقارن، فإن المفرد إذا طاف طواف القدوم فطواف القدوم هذا سنة، والقارن إذا طاف طواف القدوم فهذا الطواف سنة، فإذا سعى بعد ذلك فإن سعيه صحيح.

وعلى هذا لو قدم السعي على الطواف فإنه لا يصح إلا ما ورد استثناؤه، كما يأتينا إن شاء الله: أنه لا بأس أن يقدم السعي على الطواف يوم النحر، وورد عن عطاء رحمه الله، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه لا يشترط ذلك، وحكي عن عطاء وداود أنه لا يشترط ذلك، يعني: لا يشترط أن يكون السعي بعد طواف، وورد عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه يسقط الترتيب بالجهل.

والأقرب في ذلك أن يقال: إن الإنسان إذا قدم السعي على الطواف وكان جاهلاً فإن أمكنه أن يتدارك فإنه يتدارك، مثلاً: إنسان جاهل ذهب للعمرة وسعى قبل الطواف ويمكنه أن يتدارك لأنه في مكة، نقول: يعيد السعي مرةً أخرى، أما إذا كان الإنسان جاهلاً ولا يمكنه أن يتدارك وذهب الوقت ومضى ورجع، فنقول: بأن هذا يعفى عنه إن شاء الله.

أيضاً من شروط صحة السعي: النية؛ لأن الإنسان قد يسعى بين الصفا والمروة قاصداً العبادة، وقد يسعى بين الصفا والمروة إما لمرافقة شخص يسعى أو للبحث عن شخص ونحو ذلك فلا بد من النية، وسبق لنا أن ذكرنا خلاف أهل العلم رحمهم: هل تكفي النية المطلقة أو لا بد من التعيين؟ وذكرنا الصواب في هذه المسألة: أنه تكفي النية المطلقة.

وأما بالنسبة للطهارة وستر العورة والموالاة بين السعي والطواف فهذه كلها سنن، يعني: يستحب للإنسان أن يسعى وهو متطهر، ولو أنه سعى وهو محدث فإن سعيه صحيح، كذلك أيضاً كونه يتنزه من الخبث في بدنه وثيابه، نقول: بأن هذا مستحب، ولو سعى وعلى ثيابه خبث أو نجاسة فنقول: بأن سعيه صحيح.

وكذلك أيضاً سترة العورة نقول: هذا مستحب، ولو أنه سعى وفي إزاره ثقب يخرج منه شيء من عورته نقول: إن سعيه صحيح.