عنوان الفتوى : معنى حديث: ... وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة
هل نثبت لله -جل وعلا- (صفة الهرولة)؛ وذلك لما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة.
فنرجو من فضيلتكم إيضاح هذه المسألة: هل نثبت صفة الهرولة لله -جل وعلا-؟ وما المقصود بها في الحديث؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم أحدا من الأئمة وأهل العلم المتقدمين ذكر الهرولة في صفات الله تعالى! غير أن أبا إسماعيل الهروي -رحمه الله- قال في كتاب (الأربعون في دلائل التوحيد): "باب الهرولة لله -عز وجل-" وأسند فيه هذا الحديث من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، به.
وظاهر هذا الحديث -كما يدل عليه السياق- أنه من باب المشاكلة أو المقابلة، فإذا كان التعبير عن إتيان العبد لله بالمشي إنما هو كناية عن إقباله على الله بالطاعة، فكذلك التعبير عن مجازاة الله له بإتيانه هرولة، إنما هو كناية عن حسن إثابته ومزيد فضله عليه!
ومما يؤكد ذلك أن الأعمش نفسه -راوي الحديث- قد تأوله، فقد رواه الترمذي من وجهين آخرين عن الأعمش به، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، ويروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث: من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، يعني بالمغفرة والرحمة. وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، قالوا: إنما معناه يقول: إذا تقرب إلي العبد بطاعتي وما أمرت أسرع إليه بمغفرتي ورحمتي ... اهـ.
وكذلك تأوله التابعي المشهور قتادة السدوسي، فقد رواه معمر في جامعه، عن قتادة، عن أنس، بمعناه، ثم قال معمر: قال قتادة: والله أسرع بالمغفرة. اهـ.
وقال حرب الكرماني في مسائله لإسحاق بن راهويه: سمعت إسحاق يقول في حديث النبي عليه السلام: "من تقرب إلى الله شبرًا تقرب الله إليه باعًا" قال: يعني من تقرب إلى الله شبرًا بالعمل، تقرب الله إليه بالثواب باعًا. اهـ.
وبوَّب عليه ابن حبان في صحيحه: ذكر الإخبار بأن مغفرة الله جل وعلا تكون أقرب إلى المطيع من تقربه بالطاعة إلى الباري جل وعلا.
وعلى هذا سار كل من راجعنا كلامه من شراح الحديث.
وعلى ذلك أيضا نص غيرهم من أهل العلم، حتى من يُنسَب منهم للغلو في إثبات الصفات. كابن قتيبة، والقاضي أبي يعلى الفراء.
قال ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث): نحن نقول: إن هذا تمثيل وتشبيه، وإنما أراد: من أتاني مسرعا بالطاعة، أتيته بالثواب أسرع من إتيانه، فكنى عن ذلك بالمشي وبالهرولة. كما يقال: فلان موضع في الضلال - والإيضاع: سير سريع - لا يراد به أنه يسير ذلك السير، وإنما يراد أنه يسرع إلى الضلال، فكنى بالوضع عن الإسراع. وكذلك قوله: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين}، والسعي: الإسراع في المشي، وليس يراد أنهم مشوا دائما، وإنما يراد: أنهم أسرعوا بنياتهم وأعمالهم. اهـ.
وقال أبو يعلى في (إبطال التأويلات): قوله: دنوت منه ذراعا وباعا، وأتيته هرولة. ليس المراد به دنو الذات وقربها في المسافة وإتيانها، وإنما المراد بذلك قرب المنزلة والحظ لديه، وكذلك قوله: "أتيته هرولة" بالثواب، وأراد بذلك إسراع الثواب، ويحتمل أن يكون المراد بالهرولة والسرعة التضعيف في الثواب والزيادة فيه، على معنى قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}. وقد روي هذا في حديث أبي ذر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " يقول الله -عز وجل-: من عمل حسنة فله عشر أمثالها، ومن عمل سيئة فجزاؤه مثلها، ومن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا " فدل هذا على أن المراد بذلك التضعيف، ولا يكون المراد به السير، وإنما سماه ذلك توسعا؛ كما قال تعالى: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} والسعي هو العدو والإسراع في المشي، وليس ذلك بمراد أنهم مشوا، بل المراد بذلك استعجالهم المعاصي، ومبادرتهم إلى فعلها، كذلك ها هنا، والذي يدل على صحة هذا التأويل ما تقدم في حديث أبي هريرة: "ومن جاء يمشي أقبل الله إليه بالخير يهرول" وقد ذكرنا إسناده وهذه لفظة زائدة قضينا بها على غيرها من الألفاظ المطلقة ويعضد ذلك تفسير السلف – .. وأسند قول قتادة السابق - ويفارق هذا ما تقدم من أخبار النزول إلى السماء الدنيا، ومجيئه في ظلل من الغمام، وأنها محمولة على ظاهرها في نزول الذات، ومجيء الذات لا على وجه الانتقال، ولم يجز تأويله على نزول ثوابه وكراماته، لأنه لم يرد في ألفاظه ما دل عليه، وها هنا قد جاء التفسير من النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلهذا حملناه عليه. اهـ.
وهذا أيضا هو مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية المعروف عنه في بيان معنى القرب وتأويله، وكذلك الحال في تأويل الهرولة، حيث قال في (بيان تلبيس الجهمية): لا ريب أن الله تعالى جعل تقربه من عبده جزاء لتقرب عبده إليه؛ لأن الثواب أبدًا من جنس العمل، كما قال في أوله "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" ... وإذا كان كذلك، فظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة، فيقال: لا يخلو إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه، وهو تقرب بالمساحة المذكورة، أو لا يكون. فإن كان ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ، فإما أن يكون ممكنًا أو لا يكون، فإن كان ممكنًا، فالآخر أيضًا ممكن، ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر، وإن لم يكن ممكنًا، فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه، وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك، فيكون الآخر أيضًا ظاهرًا في الخطاب، فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق، ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرًا، وذراعًا، ومشيًا، وهرولة، لكن قد يقال: عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكًا، يقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية، فيكون بمعنى الخطاب ما ظهر بها لا ما ظهر بدونها، فقد تنازع الناس في مثل هذه القرينة المقترنة باللفظ العام: هل هي من باب التخصيصات المتصلة، أو المنفصلة؟ وعلى التقديرين فالمتكلَّم الذي ظهر معناه بها لم يُضِل المخاطب، ولم يلبس عليه المعنى، بل هو مخاطب له بأحسن البيان. اهـ.
والله أعلم.