شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [39]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته، ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة، كما لو عادت من غير جنس الأول، ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما .

فصل: وإن خلط بما لا يتميز كزيت، أو حنطة بمثلهما، أو صبغ الثوب، أو لتَّ سويقاً بدهن أو عكسه، ولم تنقص القيمة ولم تزد فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، وإن نقصت القيمة ضمنها، وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه، ولا يجبر من أبى قلع الصبغ، ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة، وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه، وعكسه بعكسه، وإن أطعمه لمالكه، أو رهنه، أو أودعه، أو آجره إياه لم يبرأ إلا أن يعلم ويبرأ بإعارته، وما تلف أو تغيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذاً وإلا فقيمته يوم تعذر، ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه، وإن تخمر عصير فالمثل، فإن انقلب خلاً دفعه ومعه نقص قيمته عصيراً. فصل: وتصرفات الغاصب الحكمية باطلة].

تقدم لنا جملة من أحكام الغصب، وذكرنا من ذلك ما يتعلق بتعريف الغصب في اللغة والاصطلاح، وأن الغصب محرم، ويدل له قول الله عزّ وجل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، ومن السنة حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ).

وتقدم أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن زيد : ( ليس لعرق ظالم حق )، وذكر المؤلف رحمه الله جملةً من أنواع المغصوب:

النوع الأول: المنقولات، وأن الغصب يدخلها.

النوع الثاني: العقارات، هل يدخلها الغصب أو لا؟

النوع الثالث: المختصات.

النوع الرابع: الحر... إلى آخر ما ذكر المؤلف رحمه الله.

وتقدم أيضاً أن الغاصب يلزمه عدة أمور:

الأمر الأول: التوبة والرجوع إلى الله عزّ وجل.

الأمر الثاني: أن يرد المغصوب بزيادته، سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة.

الأمر الثالث: أن يرده ولو غرم أضعافه. تكلمنا عن هذه المسألة.

وأيضاً حكم ما إذا بنى أو غرس في الأرض المغصوبة، وهل يلزمه أن يهدم البناء في الأرض المغصوبة؟ وهل يجب عليه أن يقلع الغرس أو لا؟ إذا قلع الغرس فإنه يجب عليه تسوية الأرض وما لحقها من النقص والأجرة، وذكرنا قاعدة وهي: أن الغاصب يعامل بأضيق الأمرين؛ لأنه ظالم ومعتد.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته، ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة، كما لو عادت من غير جنس الأول).

هذه المسألة فيما إذا تغيرت صفة المغصوب بصفة أخرى، فهل يضمن الغاصب أو لا يضمن؟

هذه المسألة تحتها صور:

الصورة الأولى: قال المؤلف رحمه الله: (وإن تعلم أو سمن فزادت قيمته، ثم نسي أو هزل فنقصت ضمن الزيادة). هذه الصورة الأولى: غصب شاة هزيلة وسمنت عنده -عند الغاصب- ثم بعد ذلك هزلت، وكانت قيمتها عند الغصب تساوي أربعمائة ريال، ثم سمنت عنده فأصبحت قيمتها تساوي خمسمائة ريال، ثم هزلت فأصبحت تساوي أربعمائة ريال، فهل يجب عليه أن يضمن النقص أو لا يجب عليه أن يضمن النقص؟

نقول: يجب عليه أن يضمن النقص؛ لأنه يجب عليه أن يرد العين المغصوبة بزيادتها، فهو يجب عليه أن يرد العين المغصوبة في كل لحظة، ومن ذلك أن يردها حال الزيادة، فهو الآن غصبها وهي تساوي أربعمائة ريال، ثم سمنت وأصبحت تساوي خمسمائة ريال، ثم هزلت فأصبحت تساوي أربعمائة ريال، فالزيادة التي حصلت في السمن وقدرها مائة ريال يجب عليه أن يضمنها، فيرد الشاة ويرد معها قيمة السمن الذي حصل ثم ذهب مرة أخرى.

والعلة كما سلف: أن الغاصب يجب عليه أن يرد العين المغصوبة في كل وقت، ومن ذلك في وقت السمن، ولما لم يردها في وقت السمن ضمن هذه الزيادة.

قال: (كما لو عادت من غير جنس الأول).

هذه الصورة الثانية: غصب رقيقاً وكان هذا الرقيق طباخاً، وكانت قيمته وهو يجيد الطبخ أربعمائة ريال، ثم نسي صنعة الطبخ، ولكنه اكتسب عند الغاصب صنعة أخرى وهي الكتابة، وكانت قيمته تساوي أربعمائة ريال، ولما نسي هذه الصفة أصبحت قيمته تساوي ثلاثمائة ريال، وتعلم الكتابة فأصبحت قيمته تساوي أربعمائة ريال، فيجب على الغاصب أن يضمن صفة الطبخ التي قيمتها مائة ريال، وكونه تعلم صفة أخرى عند الغاصب فإنها لا تقوم مقام الصفة السابقة؛ لأن هذه صفة زائدة يجب على الغاصب أن يردها أي: يرد هذه الصفة الزائدة، والصفة التي فاتت يجب عليه أن يضمنها.

والصورة الثالثة: إذا ذهبت الصفة، ثم تعوض عنها صفة أخرى من جنسها، فهل يضمن الصفة الذاهبة أو لا يضمن الصفة الذاهبة؟

صورة ذلك: غصب شاة سمينة وكانت تساوي خمسمائة ريال، ثم هزلت الشاة فأصبحت تساوي أربعمائة ريال، ثم سمنت مرة أخرى فعادت إلى قيمتها وأصبحت تساوي خمسمائة ريال، فهل يجب عليه أن يضمن الصفة الأولى وهي السمن الأول أو لا يجب عليه أن يضمنه؟

نقول: يجب على الغاصب أن يضمنه؛ لأنه يجب عليه أن يرد الشاة في حال الهزال، ولو رد الشاة في حال الهزال، فإنه يضمن الصفة الفائتة، فأصبح عندنا ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن تفوت الصفة، وتتجدد عنها صفة أخرى.

الصورة الثانية: أن تفوت الصفة، ولا تتجدد عنها صفة أخرى.

الصفة الثالثة: أن تفوت الصفة وتتجدد عنها صفة أخرى من غير جنسها.

ففي الصور الثلاث كلها يضمن الغاصب، لما ذكرنا من القاعدة وهي: أن الغاصب يعامل بأضيق الأمرين؛ لأنه ظالم ومعتد.

قال المؤلف رحمه الله: (ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما).

هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله بقوله: (ومن جنسها لا يضمن إلا أكثرهما) والصواب في هذا: أنه يضمن الصفتين جميعاً؛ لأنه ظالم ومعتدٍ، والظالم المعتدي يعامل بأضيق الأمرين كما سلف.

وصورة المسألة: لو غصب شاة سمينة تساوي خمسمائة ريال، ثم هزلت عنده هذه الشاة، ثم سمنت مرة أخرى وأصبحت تساوي خمسمائة ريال، ثم عادت مرة أخرى، فهل يضمن الصفة التي فاتت أو لا يضمن الصفة التي فاتت؟

على كلام المؤلف رحمه الله: لا يضمن الصفة التي فاتت؛ لأنه قال: (لا يضمن إلا أكثرهما)، والصواب في ذلك: أنه يضمن الصفة التي فاتت؛ لما ذكرنا من أن الغاصب يعامل بأضيق الأمرين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن خلط بما لا يتميز كزيت، أو حنطة بمثلهما، أو صبغ الثوب، أو لتَّ سويقاً بدهن أو عكسه، ولم تنقص القيمة ولم تزد فهما شريكان بقدر ماليهما فيه).

إذا تصرف الغاصب في العين المغصوبة بالخلط فإن هذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يخلط المغصوب بعين أخرى متميزة عن المغصوب، كما لو خلط براً بشعير، فيجب عليه أن يفصل بينهما، ولو غرم أضعاف البر يعني: أضعاف المغصوب؛ لأنه تمكن من تسليم العين المغصوبة لصاحبها.

الأمر الثاني: أن يخلط المغصوب بما لا يتميز، كما لو خلط الزيت بزيت، والعصير بعصير.

وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (ولم تنقص القيمة، ولم تزد، فهما شريكان بقدر ماليهما فيه).

إذا خلط العين المغصوبة بما لا يتميز أي: خلط الطحين بطحين، والبر ببر، والزيت بزيت، فيقول المؤلف رحمه الله: (فهما شريكان)، يعني: الغاصب والمالك يكونان شريكان في هذه العين بقدر ماليهما.

وقول المؤلف رحمه الله: (ولم تنقص القيمة ولم تزد فهما شريكان بقدر ماليهما فيه، وإن نقصت القيمة ضمنها، وإن زادت قيمة أحدهما فلصاحبه).

فأصبحت الأقسام ثلاثة:

القسم الأول: ألا تزيد القيمة ولا تنقص، يعني: هذا صاع من الزيت خلط بصاع آخر من الزيت، وقيمة كل منهما تساوي مائة ريال، أصبحت القيمة تساوي مائتين ريال، لم تزد ولم تنقص قيمة كل واحد منهما، فيقول المؤلف رحمه الله: (فهما شريكان بقدر ماليهما) فهذا له النصف وهذا له النصف، ولو خلط هذا الصاع بصاعين، فهذا له الثلث وهذا له الثلثان مادام أن المغصوب لم يزد ولم ينقص.

القسم الثاني: إن نقصت القيمة أي: نقصت قيمة العين المغصوبة، فمثلاً: صاع من الزيت قيمته تساوي مائة ريال، خلط بصاعين، فأصبحت قيمته تساوي الآن ثمانين ريالاً، فنقصت قيمته، فيقول المؤلف رحمه الله: يضمن النقص الغاصب.

القسم الثالث : أن تزيد قيمة أحدهما.

فيقول المؤلف رحمه الله: (الزيادة لمالكها) فلو أن هذا الصاع كان يساوي خمسين ريالاً، ثم خلط بصاعين، فأصبح قيمته تساوي ثمانين ريالاً، لما خلط بهذين الصاعين، فالزيادة تكون للمالك.

وكذلك قال المؤلف: (أو صبغ الثوب، أو لت سويقاً بدهن أو عكسه) فهذه حكمها كما تقدم. ‏

قلع الصبغ من المغصوب

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجبر من أبى قلع الصبغ).

يعني: لو أنه غصب ثوباً ثم صبغه، فهل يجبر الغاصب بقلع الصبغ من الثوب؟ ولو أن المالك طالبه بخلع الصبغ، هل يجبر أو لا يجبر؟

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: (لا يجبر) لو أن المالك طالب الغاصب أن يقلع الصبغ، فيقول المؤلف رحمه الله: (لا يجبر الغاصب بقلع الصبغ)، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أنه إن أمكن فصل الصبغ فإنه يجبر الغاصب، قياساً على إجباره بقلع الغراس، فلو غرس الغاصب في الأرض، فهل يجبر على قلع الغراس أو لا يجبر؟ وهل يجبر على قلع البناء وهدمه أو لا يجبر؟ نقول: يجبر، فكذلك أيضاً هنا، فهذا مذهب الشافعية، وهذا القول هو الأقرب، فنقول: إذا أمكن أن يجبر الغاصب بحيث يمكن أن يفصل الصبغ من الثوب، فنقول: بأن الغاصب يجبر، وهذا مذهب الشافعية، وهذا القول هو الصواب.

رجوع المشتري على الغاصب بغرامته

قال المؤلف رحمه الله: (ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة).

صورة المسألة: رجلٌ اشترى أرضاً وغرس فيها أو بنى فيها، ثم تبين أن هذه الأرض ليست ملكاً للبائع، وجاء المالك، فهل يملك المالك أن يقلع بناء المشتري وغرسه أو لا يملك؟

يقول المؤلف رحمه الله: بأنه يملك قلع بناء المشتري وغرسه، ويرجع بالغرامة على بائعها بغرامة؛ لأن بائعها هو الذي غره وأوهمه أن هذه الأرض تكون له، وقد يكون البائع أخطأ، وباعه الأرض على أنها أرضه، ثم تبين أنها ليست أرضه.

وعلى هذا لو أن رجلاً اشترى أرضاً وغرس وبنى، ثم تبين أن هذه الأرض ليست ملكاً للبائع الذي باعها، وجاء مالكها، ومالكها يملك أن يقلع البناء كما لو كانت مغصوبة، ويملك أن يخلع الغرس، فهذا المشتري ما هو ذنبه؟ فقلع غراسه وقلع بنائه يرجع على من؟ على البائع بالغرامة؛ لأن البائع هو الذي غره، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وإنما يملك المالك أن يقلع البناء ويقلع الغرس؛ لأن الأرض تبين أنها مستحقة له، وليست مستحقة للمشتري. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن المالك لا يملك أن يقلع غراس المشتري، ولا يملك أن يقلع بناء المشتري، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وصححه ابن رجب ، وهذا القول هو الصواب؛ لأن هذا البناء وهذا الغراس محترم، فكيف نلحقه بالغراس والبناء الذي ليس محترماً، وهو غراس المشتري، فغراس المشتري وبناؤه، ليس محترماً، فكيف نلحق هذا بهذا؟!

والمشتري اشترى على أنه مالك، فالصواب: أن المالك لا يملك أن يقلع البناء، ولا يملك أن يقلع الغراس، أما لو كان زرعاً فالأمر ظاهر؛ لأن الزرع مدته لا تطول وقصيرة، فالمشتري يأخذ الزرع وترجع الأرض لصاحبها ومالكها؛ لكن بقينا في البناء والغراس، وهذا تطول مدته، والصواب في ذلك: أن هذا البناء وضع بحق، وكذلك أيضاً الغراس، فلا يملك المشتري أن يقلعه، وإنما له قيمة الأرض، كوننا نجبره على أن يقلع، فهذا بناءٌ وغراسٌ محترم، وهذا القول هو الصواب، فنقول الصواب في ذلك: أنه يأخذ القيمة من المشتري، والمشتري يرجع على البائع، إلا إذا كان المشتري يتمكن أن يقلع الغراس بلا ضرر يلحقه، أو أن يقلع البناء بلا ضرر يلحقه، فهذا هو الأصل، وترد الأرض إلى مالكها، ويرجع على من باعه بالقيمة وبما لحقه من ضرر، المهم إذا كان الضرر يسيراً، فهذا الأمر فيه ضرر.

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجبر من أبى قلع الصبغ).

يعني: لو أنه غصب ثوباً ثم صبغه، فهل يجبر الغاصب بقلع الصبغ من الثوب؟ ولو أن المالك طالبه بخلع الصبغ، هل يجبر أو لا يجبر؟

فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: (لا يجبر) لو أن المالك طالب الغاصب أن يقلع الصبغ، فيقول المؤلف رحمه الله: (لا يجبر الغاصب بقلع الصبغ)، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أنه إن أمكن فصل الصبغ فإنه يجبر الغاصب، قياساً على إجباره بقلع الغراس، فلو غرس الغاصب في الأرض، فهل يجبر على قلع الغراس أو لا يجبر؟ وهل يجبر على قلع البناء وهدمه أو لا يجبر؟ نقول: يجبر، فكذلك أيضاً هنا، فهذا مذهب الشافعية، وهذا القول هو الأقرب، فنقول: إذا أمكن أن يجبر الغاصب بحيث يمكن أن يفصل الصبغ من الثوب، فنقول: بأن الغاصب يجبر، وهذا مذهب الشافعية، وهذا القول هو الصواب.

قال المؤلف رحمه الله: (ولو قلع غرس المشتري أو بناؤه لاستحقاق الأرض رجع على بائعها بالغرامة).

صورة المسألة: رجلٌ اشترى أرضاً وغرس فيها أو بنى فيها، ثم تبين أن هذه الأرض ليست ملكاً للبائع، وجاء المالك، فهل يملك المالك أن يقلع بناء المشتري وغرسه أو لا يملك؟

يقول المؤلف رحمه الله: بأنه يملك قلع بناء المشتري وغرسه، ويرجع بالغرامة على بائعها بغرامة؛ لأن بائعها هو الذي غره وأوهمه أن هذه الأرض تكون له، وقد يكون البائع أخطأ، وباعه الأرض على أنها أرضه، ثم تبين أنها ليست أرضه.

وعلى هذا لو أن رجلاً اشترى أرضاً وغرس وبنى، ثم تبين أن هذه الأرض ليست ملكاً للبائع الذي باعها، وجاء مالكها، ومالكها يملك أن يقلع البناء كما لو كانت مغصوبة، ويملك أن يخلع الغرس، فهذا المشتري ما هو ذنبه؟ فقلع غراسه وقلع بنائه يرجع على من؟ على البائع بالغرامة؛ لأن البائع هو الذي غره، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وإنما يملك المالك أن يقلع البناء ويقلع الغرس؛ لأن الأرض تبين أنها مستحقة له، وليست مستحقة للمشتري. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن المالك لا يملك أن يقلع غراس المشتري، ولا يملك أن يقلع بناء المشتري، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، وصححه ابن رجب ، وهذا القول هو الصواب؛ لأن هذا البناء وهذا الغراس محترم، فكيف نلحقه بالغراس والبناء الذي ليس محترماً، وهو غراس المشتري، فغراس المشتري وبناؤه، ليس محترماً، فكيف نلحق هذا بهذا؟!

والمشتري اشترى على أنه مالك، فالصواب: أن المالك لا يملك أن يقلع البناء، ولا يملك أن يقلع الغراس، أما لو كان زرعاً فالأمر ظاهر؛ لأن الزرع مدته لا تطول وقصيرة، فالمشتري يأخذ الزرع وترجع الأرض لصاحبها ومالكها؛ لكن بقينا في البناء والغراس، وهذا تطول مدته، والصواب في ذلك: أن هذا البناء وضع بحق، وكذلك أيضاً الغراس، فلا يملك المشتري أن يقلعه، وإنما له قيمة الأرض، كوننا نجبره على أن يقلع، فهذا بناءٌ وغراسٌ محترم، وهذا القول هو الصواب، فنقول الصواب في ذلك: أنه يأخذ القيمة من المشتري، والمشتري يرجع على البائع، إلا إذا كان المشتري يتمكن أن يقلع الغراس بلا ضرر يلحقه، أو أن يقلع البناء بلا ضرر يلحقه، فهذا هو الأصل، وترد الأرض إلى مالكها، ويرجع على من باعه بالقيمة وبما لحقه من ضرر، المهم إذا كان الضرر يسيراً، فهذا الأمر فيه ضرر.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن أطعمه لعالم بغصبه فالضمان عليه، وعكسه بعكسه).

صورة المسألة: هذا رجل غصب براً، ثم طبخ البر وأطعمه لزيد، وزيد يعلم أنه مغصوب، فعندنا ضمان وعندنا قرار الضمان، فالضمان على من يكون؟ نقول: الضمان يكون على كلٍ منهما، يعني: المالك يملك أن يضمن الغاصب ويملك أن يضمن الآكل؛ لكن قرار الضمان على من يكون؟ نقول: على الآكل -على زيد الذي أكله- فإن ضمن الغاصب فإن الغاصب يرجع على الآكل، وإن ضمن الآكل فإن الآكل لا يرجع على الغاصب، فعندنا ضمان وعندنا قرار الضمان.

نقول: المالك له أن يضمن كلاً منهما، فله أن يضمن الغاصب الذي غصبه؛ لأنه معتد وظالم، وله أن يضمن الآكل؛ لأنه أتلفه عن علم بالأكل، فله أن يضمن كلاً منهم.

لكن قرار الضمان على الآكل، وما معنى قرار الضمان؟ يعني: على من يستقر ضمان هذا المغصوب، نقول: على الآكل، فإن ضمن الغاصب فإن الغاصب يرجع على الآكل، وإن ضمن الآكل فإن الآكل لا يرجع على الغاصب، هذا إذا كان الآكل عالماً بالغصب.

وأما إن كان جاهلاً لا يدري أنه مغصوب وأكله، فهذا البر، أو الخبر الذي أطعمه الغاصب لزيد، وزيد لا يدري أنه مغصوب، فنقول: له أن يضمن كلاً منهما، له أن يضمن الغاصب؛ لأنه معتد بالغصب، وله أن يضمن الآكل؛ لأنه تلف تحت يده؛ لكن بالنسبة لقرار الضمان على من يكون؟ على الغاصب؛ لأن الآكل معذور بالجهل، وعلى هذا إذا ضمن الغاصب، فإن الغاصب لا يرجع على الآكل وإن ضمن الآكل، فإن الآكل يرجع على الغاصب.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن أطعمه لمالكه، أو رهنه، أو أودعه، أو آجره إياه لم يبرأ إلا أن يعلم ويبرأ بإعارته).

إذا أطعمه لمالكه أي: الغاصب غصب خبزاً، ودعا المالك وأطعمه هذا الخبز، هل يبرأ الغاصب أو لا يبرأ؟

يقول المؤلف رحمه الله: فيه تفصيل: إن كان المالك يعلم أنه خبزه وأكله برأ الغاصب، وإن كان يجهل فإن الغاصب لا يبرأ.

قوله: (أو رهنه، أو أودعه) يعني: جعله رهناً عند المالك، واقترض من المالك، اغتصب من المالك كتاباً، ثم اقترض منه قرضاً وأعطاه العين المغصوبة رهناً أو أعطاه الكتاب وديعة -أعطاه للمالك- أو أجرة السيارة التي غصبها منه، فهل يبرأ بدفعها للمالك عن طريق الوديعة، أو الرهن، أو عن طريق الإجارة، أو لا يبرأ؟

نقول: فيه تفصيل: إن كان المالك يعلم أنها ملكه فإن الغاصب يبرأ، وإن كان يجهل أنها ملكه فإن الغاصب لا يبرأ. قال المؤلف رحمه الله: (ويبرأ بإعارته).

صورة المسألة: غصب الثوب ثم أعاره للمالك فهل يبرأ الغاصب أو لا يبرأ؟ نحن قلنا: لغياب العلة في الإجارة أعطاه العين، وفي الرهن أعطاه العين، وفي الوديعة أعطاه العين، وقلنا: في الإجارة، وقلنا: في الوديعة، وقلنا: في الرهن أن فيها تفصيلاً: إن كان يعلم أنها ملكه برأ الغاصب، وإن كان يجهل أنها ملكه لم يبرأ الغاصب؛ ولكن في الإعارة يبرأ مطلقاً؛ لأن العارية مضمونة على المذهب، فيرون أنه يبرأ الغاصب؛ لأنه دخل على أنه ضامن، وعلى هذا لو تلفت هذه العين تحت يد المالك يبرأ الغاصب؛ لأنها مضمونة عليه، وكيف يضمن لنفسه من نفسه، ففرق بين العارية وبين غيرها؛ لأن العارية يرون أنها مضمونة، وإذا ردها إلى مالكها برأ منها؛ لأنها مضمونة عليه، ويده عليها يد ضمان، فيبرأ سواء علم أنه ملكه، أو لم يعلم أنها ملكه؛ لأنه دخل على أنه ضامن، والعارية مضمونة، وهذه من المسائل التي يرتبون فيها ما يترتب على الخلاف في العارية، هل هي أمانة أو أنها مضمونة؟ وهل المستعير يده يد أمانة أو أن يده يد ضمان؟

بقينا في مسألة وهي: ما يتعلق بالأيدي المترتبة على يد الغاصب، فهنا أشار المؤلف رحمه الله إلى بعض الأيدي المترتبة على يد الغاصب، قال: (إن أطعمه لعالم بغصبه).

الأيدي المترتبة على يد الغاصب كما يقول العلماء: عشر أيدٍ، وقد أفردها ابن رجب رحمه الله في كتابه القواعد، وذلك بقاعدة مستقلة اسمها: الأيدي المترتبة على يد الغاصب عشر أيدٍ:

يد الغاصب، ويد المشتري، ويد المستأجر، ويد الشريك، والمضارب، والمودع، والمرتهن، والمزارع، والمساقي، والقابض على وجه السوم، فهذه الأيدي المترتبة على يد الغاصب، بمعنى: أن العين المغصوبة انتقلت من يد الغاصب إلى يد أخرى، فتلفت العين المغصوبة تحت اليد الأخرى.

مثال ذلك: غصب السيارة ثم أجرها، وتلفت العين المغصوبة تحت يد المستأجر، أو أنه باعها، ثم تلفت العين المغصوبة تحت يد المشتري، أو أنه أودعها، أو أنه رهنها، فهذه الأيدي المترتبة على يد الغاصب، فعندنا ضمان وعندنا قرار الضمان.

فنقول: إن الأيدي المترتبة على يد الغاصب كلها أيدي ضمان؛ لأن التلف حدث تحتها، وعلى هذا فإن المالك يضمن كلاً منهما، فله أن يضمن الغاصب؛ لأنه هو الذي اعتدى، وله أن يضمن من انتقلت إليه العين المغصوبة -اليد الأخرى التي انتقلت إليها العين المغصوبة، كيد المشتري والمستأجر والمودع- فله أن يضمنه؛ لأن التلف حصل تحت يده، فعندنا الضمان يكون على كلٍ منهما أي: على الغاصب؛ لأنه هو الذي اعتدى بالغصب، وعلى اليد الأخرى؛ لأن التلف حصل تحتها، هذا بالنسبة للضمان.

بالنسبة لقرار الضمان، نقول: قرار الضمان يكون على الغاصب إلا في حالتين:

الحالة الأولى: إذا كانت اليد الأخرى تعلم أنها مغصوبة، فقرار الضمان على اليد الأخرى، ودخلت اليد الأخرى على أنها ضامنة، فقرار الضمان عليها.

الخلاصة: أن عندنا ضماناً، وعندنا قرار الضمان، فالضمان على كليهما، وقرار الضمان على الغاصب إلا في حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون اليد الثانية قد علمت أن هذه العين مغصوبة فقرار الضمان عليها.

الحالة الثانية: إذا دخلت اليد الثانية على أنها ضامنة فقرار الضمان عليه.

مثال ذلك: لو أن غاصباً غصب من الغاصب، فأصبح عندنا غاصبان: الغاصب الأول، والغاصب الثاني، فالمالك له أن يطالب كلاً منهما، وقرار الضمان على الغاصب الثاني، فإذا ضمن الأول رجع إلى الثاني، وإذا ضمن الثاني لم يرجع إلى الأول، وكذلك أيضاً كما قلنا: إذا كانت اليد الثانية قد علمت بالغصب، فإذا ضمن الغاصب رجع عليها، وإذا ضمن اليد الثانية لم يرجع عليها، وأما إن كانت اليد الثانية جاهلة، ولم تدخل على أنها ضامنة، فقرار الضمان على الغاصب، فإذا ضمن الغاصب لم يرجع على اليد الثانية، وإن ضمن اليد الثانية رجع على الغاصب.

قال المؤلف رحمه الله: (وما تلف أو تعيب من مغصوب مثلي غرم مثله إذاً، وإلا فقيمته يوم تعذر، ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه).

بين المؤلف رحمه الله: كيف يضمن المغصوب فقال: إن كان المغصوب مثلياً فإن الغاصب يضمن المثل، وإن كان المغصوب قيمياً فإن الغاصب يضمن القيمة. لكن ما هو المثلي وما هو القيمي على المذهب؟

المثلي هو: كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه، لا صناعة فيه مباحة، هذا ضابط المثل عند الحنابلة والشافعية، وتقدم الكلام عليه في القرض، والقيمي ما عدا ذلك، فهم يضيقون في المثليات، ويوسعون في القيميات. وهذا الرأي الأول.

والرأي الثاني: أن المثلي: ما له مثل في الأسواق، والقيمي: ما ليس له مثل في الأسواق، وعلى هذا يكون العكس، توسيع المثلي، وتضييق القيمي، وهذا القول هو الصواب، وسبق أن تكلمنا على هذه المسألة وضربنا لها أمثلة.

فقول المؤلف رحمه الله: [وما تلف أو تعيب من مغصوب مثلي، غرم مثله إذاً، وإلا فقيمته يوم تعذره، ويضمن غير المثلي بقيمته يوم تلفه] فالقيمي يضمن بالقيمة، ومتى وقت الضمان؟ قال المؤلف رحمه الله: إن وقت الضمان يوم التلف والمثلي يضمن بالمثل.