الشعور بالعجز
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
الشعور بالعجز [1]ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم صورًا حيَّة لموقف المجرمين وأتباعهم والحوارِ بينهم، فحين يقفون جميعًا بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، يتخاصم الأتباع والمتبوعون في النار، ويتحسر أهل النار من الضعفاء على عجزهم وتبعيتهم وضَعف رأيهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [إبراهيم: 21].
فحالة الضعف التي تعتري النفس البشرية قد تؤدي إلى الانقياد والتبعية للآخر المستكبر، والضعفاء هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسانية حين تنازلوا عن حقوقهم الشخصية في التفكير والاعتقاد، وجعلوا أنفسهم مقلدين، فينبغي على الفرد المسلم أن يكون لديه نظرة واقعية عن حياته مع قدرته على مواجهة متاعب الحياة، وعدم الشعور بالعجز أمام الأزمات، فهو دائم السعي والكفاح في الحياة للتغلب على أزماته، قادرٌ على تحمُّل المسؤولية في عمله ومع أسرته؛ لأن شعور المسلم بالعجز يجعله خاضعًا ومطيعًا لمستغليه، ويبقى دائمًا في دوامة العجز والفشل والإحباط.
والمغلوب "مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونِحلته، وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه" [2].
فالله عز وجل خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأنعم عليه بنعم لا تُعد ولا تحصى، وكرَّمه بالعقل، وحينما يتنازل عن هذا التكريم فإنه يصبح مريضًا بداء التقليد الأعمى، ويسلم أمور نفسه لغيره، ويلغي عقله.
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من اتباع الغير بلا دليل، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً[3]؛ تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ؛ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلاَ تَظْلِمُوا [4].
فحث الحديث على النهي عن الاتباع للغير بلا رأي، ولا تدبر، فالمقلد "الذي يجعل دينه تابعًا لدين غيره بلا رؤية ولا تحصيل برهان، وفيه إشعار بالنهي عن التقليد المجرد حتى في الأخلاق فضلًا عن الاعتقادات والعبادات" [5].
وقد أرشدت السنة النبوية الفرد إلى تقوية إرادته، وشحذ عزيمته، ورفع همته، والحرص على ما ينفعه ويصلح شأنه، وتحمُّل مسؤولياته في الحياة بقوة وصلابة، وتكوين مناعة ذاتية ضد العنف والخور، وصون النفس من التقليد والانسياق الأعمى وراء الآخرين، والتأثر بسلوكهم وأفعالهم ولو كانت صالحة[6].
ومن أشكال الإمعة فتنة مسايرة الواقع، فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تتراوح بين الفتنة وارتكاب الكبائر، أو الصغائر، أو تسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب، وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا، ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة[7].
وجملة القول في الشعور بالعجز:
إن مما يعزز مكانة المسلم، وصدق انتمائه لدينه وثباته على منهاج النبوة، ثقته بنفسه المستخلصة من ثقته بربه عز وجل، وبدينه، فالمسلم الواثق بنفسه لا يلهث وراء التقليد الأعمى وإن كثُر الهالكون فيه.
والتقليد الأعمى والإمعة لا يقتصران على السذج من الناس فحسب، بل إن وصف الإمعة يتعدى إلى ما هو أبعد من ذلك، فكما أنه يكون في الفرد، فإنه كذلك في المجتمع بفكره وعاداته وتقاليده، وإن من أعظم ما يقاوَم به وصف الإمعة: الثقةُ بالنفس، والعزيمة بلا تردد ولا استحياء.
[1] العجز نقيض الحزم، عجز عن الأمر يعجِز، وعجز عجزًا فيهما، ورجل عجز وعجز عاجز، وامرأة عاجز عاجزة عن الشيء، وعجز فلان رأي فلان: إذا نسبه إلى خلاف الحزم، كأنه نسبه إلى العجز، ويقال: أعجزت فلانًا: إذا ألفيته عاجزًا، والمعجزة والمعجزة العجز، والعجز الضعف، تقول: عجزت عن كذا أعجِز؛ [انظر: لسان العرب: ابن منظور، ج5، ص 396.
[2] مقدمة ابن خلدون: عبدالرحمن بن محمد بن خلدون، ج1، ص283.
[3] الإمعة بكسر الهمزة وتشديد الميم: الذي لا رأي له، فهو يتابع كل أحد على رأيه، والهاء فيه للمبالغة؛ [انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد بن عبدالكريم الشيباني الجزري ابن الأثير، ج1، ص67؛ تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية - بيروت، 1399هـ - 1979م.
[4] سنن الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان والعفو، ج4 ص364، رقم ح2007، (قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب)، وفي مسند البزار: مسند حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أبو الطفيل عن حذيفة: ج7، ص 229، رقم ح2802.
[5] تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: محمد عبدالرحمن المباركفوري، ج6، ص123؛ (بتصرف).
[6] أسس التربية في السنة النبوية: د/ عبدالحميد الصيد الزنتاني، ص842.
[7] مجلة البيان: رقم العدد 147، رقم الصفحة 28.