شرح العقيدة الطحاوية [9]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان:

توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.

فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول الحديد وطه وآخر الحشر وأول (الم تَنزِيلُ) السجدة وأول آل عمران وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك].

هذا النوع الأول من التوحيد هو توحيد الإثبات والمعرفة، ويسمى التوحيد العلمي، ويسمى أيضاً التوحيد الخبري؛ لأنه الذي جاء به الخبر، وهو توحيد الإقرار بربوبية الله سبحانه وتعالى، وسمي معرفة؛ لأنه أتى بوسائل المعرفة التي تعرف بها الأمور، وأعرف المعارف معرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعرف شيء، وغيره يعرف به، فلذلك نجد أن طرق الإثبات والمعرفة في توحيد الله سبحانه وتعالى ليست مقصورة على الخبر، كما يظن بعض الناس أن الوحي هو الذي جاءنا بمعرفة الله، بل وسائل معرفة الله تعالى كثيرة جداً، منها: الفطرة، ومنها العقل السليم الذي عليه المعول؛ لأن العقل المنكوس لا يعول عليه، فالعقل السليم يعرف الله، والفطرة السليمة تعرف الله، وهناك أيضاً وسائل أخرى لمعرفة الله تعالى، مثل الآيات البينات، وهي وسيلة من وسائل إعلام الله لخلقه بمعرفته، فالله يعلم خلقه بآياته في الآفاق وفي الأنفس وبآياته المتعلقة بدلائل وجوده سبحانه وتعالى.

إذاً: فوسائل المعرفة كلها تدل على توحيد الله تعالى الذي هو توحيد الربوبية وتوحيد الإثبات.

قال رحمه الله تعالى: [والثاني -وهو توحيد الطلب والقصد- مثل ما تضمنته سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وقُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام].

الفرق بين توحيد الإثبات والمعرفة وتوحيد القصد والطلب

قد يرد تساؤل: ما الفرق الدقيق بين التوحيدين:

توحيد الطلب والقصد، والمعرفة والإثبات؟

وأقول: إن الفارق من خلال تعبير الشارح هنا وتعبير أئمة الدين أهل العلم في مفهوم كل واحد منهما، فتوحيد المعرفة والإثبات توحيد يرد على الإنسان من خارج ذاته، يرد بدلائل العقل ودلائل الفطرة وشواهد الكون، وآيات الله المنزلة، وكلام الله الوحي المنزل، وغير ذلك من الأمور، بمعنى: أن توحيد المعرفة هو ما يرد على الإنسان مما يدله على معرفة الله، فهو توحيد قصري فطري، لا ينفك عنه أحد من المخلوقات العاقل منها وغير العاقل، لكن قد ينكره بعض العقلاء الذين تنتكس فطرهم وعقولهم جحوداً، وإلا فالأدلة واردة بشتى وسائل الإثبات.

وأما توحيد الطلب والقصد فهو التوحيد الصادر من العقل، فالأول وارد إليه، وهو المعرفة التي ترد، ومصادر المعرفة التي ترد إلى ذهنه وإلى سمعه وإلى بصره وإلى فطرته وإلى عقله، فذاك يسمى توحيد المعرفة والإثبات.

وأما توحيد الطلب والقصد فهو ما يصدر من الإنسان ابتداء من التأله لله سبحانه وتعالى، والخوف والرجاء منه، والحب له سبحانه، وانجذاب القلب إليه انجذاب التأله، لذلك نجد أن أعظم أسماء الله تعالى وأجمعها كلمة الجلالة (الله)؛ لأنها تجذب القلب لله سبحانه وتعالى بكل معاني الجذب، وتجذب الإنسان المتأله لله تعالى بقلبه وأعماله وجوارحه بكل معاني الجذب.

فلذلك نجد أن هذا اللفظ لا يشترك فيه الخالق والمخلوق، إنما هو لفظ خالص، فلا يسمى (الله) إلا الله سبحانه وتعالى، أما بقية الأسماء فمنها ما يكون مشتركاً، فإذا أطلقت على المخلوق فهي له بحسب ضعفه، وإذا أطلقت على الخالق فهي له سبحانه بحسب كماله، كالعلم، فالإنسان عنده علم، لكنه علم محدود، علم ضعيف تعتريه كل جوانب الضعف، وإذا أطلق على الله سبحانه وتعالى فهو العلم الكامل، لكن كلمة الجلالة (الله) لا يمكن أن تنطبق على غير الله أبداً، فلذلك نجد أنها تجمع معاني انجذاب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا معنى توحيد القصد والطلب، بمعنى أن الإنسان ينجذب إلى الله تألهاً، ثم بعد ذلك بعمله وجوارحه، فالإنسان عندما يسعى في هذه الدنيا ويحتسب سعيه إلى الله فإنه يطلب المثوبة من الله تعالى.

إذاً: فهو الطالب المؤله لله، وإذا قام بالفرائض وأمور الدين وقام بالجهاد وقام بما أمر الله به من الأعمال فإنما يقصد وجه الله سبحانه، إذاً: فتوحيد الإلهية توحيد القصد، أي: قصد العبد لله وانجذاب العبد إلى الله سبحانه وتعالى الانجذاب الحقيقي الذي يجعله يؤله الله في قلبه وفي عمله تأليه تسليم ورضا وتصديق واتباع.

تضمن سور القرآن لنوعي التوحيد

قال رحمه الله تعالى: [وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] توحيد، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] توحيد، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] توحيد، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] توحيد، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد].

قد يرد تساؤل: ما الفرق الدقيق بين التوحيدين:

توحيد الطلب والقصد، والمعرفة والإثبات؟

وأقول: إن الفارق من خلال تعبير الشارح هنا وتعبير أئمة الدين أهل العلم في مفهوم كل واحد منهما، فتوحيد المعرفة والإثبات توحيد يرد على الإنسان من خارج ذاته، يرد بدلائل العقل ودلائل الفطرة وشواهد الكون، وآيات الله المنزلة، وكلام الله الوحي المنزل، وغير ذلك من الأمور، بمعنى: أن توحيد المعرفة هو ما يرد على الإنسان مما يدله على معرفة الله، فهو توحيد قصري فطري، لا ينفك عنه أحد من المخلوقات العاقل منها وغير العاقل، لكن قد ينكره بعض العقلاء الذين تنتكس فطرهم وعقولهم جحوداً، وإلا فالأدلة واردة بشتى وسائل الإثبات.

وأما توحيد الطلب والقصد فهو التوحيد الصادر من العقل، فالأول وارد إليه، وهو المعرفة التي ترد، ومصادر المعرفة التي ترد إلى ذهنه وإلى سمعه وإلى بصره وإلى فطرته وإلى عقله، فذاك يسمى توحيد المعرفة والإثبات.

وأما توحيد الطلب والقصد فهو ما يصدر من الإنسان ابتداء من التأله لله سبحانه وتعالى، والخوف والرجاء منه، والحب له سبحانه، وانجذاب القلب إليه انجذاب التأله، لذلك نجد أن أعظم أسماء الله تعالى وأجمعها كلمة الجلالة (الله)؛ لأنها تجذب القلب لله سبحانه وتعالى بكل معاني الجذب، وتجذب الإنسان المتأله لله تعالى بقلبه وأعماله وجوارحه بكل معاني الجذب.

فلذلك نجد أن هذا اللفظ لا يشترك فيه الخالق والمخلوق، إنما هو لفظ خالص، فلا يسمى (الله) إلا الله سبحانه وتعالى، أما بقية الأسماء فمنها ما يكون مشتركاً، فإذا أطلقت على المخلوق فهي له بحسب ضعفه، وإذا أطلقت على الخالق فهي له سبحانه بحسب كماله، كالعلم، فالإنسان عنده علم، لكنه علم محدود، علم ضعيف تعتريه كل جوانب الضعف، وإذا أطلق على الله سبحانه وتعالى فهو العلم الكامل، لكن كلمة الجلالة (الله) لا يمكن أن تنطبق على غير الله أبداً، فلذلك نجد أنها تجمع معاني انجذاب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا معنى توحيد القصد والطلب، بمعنى أن الإنسان ينجذب إلى الله تألهاً، ثم بعد ذلك بعمله وجوارحه، فالإنسان عندما يسعى في هذه الدنيا ويحتسب سعيه إلى الله فإنه يطلب المثوبة من الله تعالى.

إذاً: فهو الطالب المؤله لله، وإذا قام بالفرائض وأمور الدين وقام بالجهاد وقام بما أمر الله به من الأعمال فإنما يقصد وجه الله سبحانه، إذاً: فتوحيد الإلهية توحيد القصد، أي: قصد العبد لله وانجذاب العبد إلى الله سبحانه وتعالى الانجذاب الحقيقي الذي يجعله يؤله الله في قلبه وفي عمله تأليه تسليم ورضا وتصديق واتباع.

قال رحمه الله تعالى: [وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] توحيد، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] توحيد، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] توحيد، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] توحيد، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد].

قال رحمه الله تعالى: [وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:18-19]، فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به، وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار].

دلائل شهادة الله لنفسه بوحدانيته

هنا يتكلم عن معنى قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، فهنا يقرر معنى (شهد الله) وماذا تعنى شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وأيضاً مصادر هذه الشهادة ووسائل هذه الشهادة، وكيف يتبين للخلق أن الله شهد لنفسه، وما الوسائل والأمور التي تبين فيها الأمر للخلق بأن الله لا إله إلا هو، فسيذكر هذه الأمور تفصيلاً، وقبل أن يذكرها أحب أن أشير إليها إجمالاً لتكون في الأذهان، فأقول: الدلائل المعبرة عن شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو سبحانه تتلخص -حسب ما قرره الشارح- في ست دلائل، وهي الطرق التي تبينت بها الشهادة:

الأولى: دلالة الفطرة: وهي دلالة ضرورية يعبر عنها الإنسان إذا تجرد من الهوى والتقليد الأعمى والتربية السيئة والانحراف والشهوات، يعبر عنها بلسانه وقلبه وبأفعاله وتصرفاته.

والدلالة الثانية: دلالة العقل السليم، وهي معنى زائد على الفطرة، فالعقل السليم يرتكز على الفطرة لكنه يزيد عليها؛ لأن العقل نتيجة تفكير الإنسان بعوامل أخرى ومؤثرات داخلية وخارجية، أما الفطرة فهي أمر كامن في الإنسان ركبه الله فيه، وقد تنطق الفطرة أحياناً من غير شعور الإنسان، مع أن الأصل أن يشعر بما يقول ويتكلم، فالفطرة هي طاقة كامنة قد يعبر عنها الإنسان وقد لا يعبر، أما العقل السليم فهو إرادي من قبل الإنسان، وهو دليل من الدلائل على شهادة الله لنفسه.

والدليل الثالث: آيات خلق الله تعالى في الأنفس والآفاق، آيات الخلق في الإنسان نفسه، فإذا تفكر الإنسان في نفسه وجد دليلاً على شهادة الله بأنه لا إله إلا هو من خلال خلق الإنسان.

وكذلك إذا نظر في آيات الكون من حوله، وهي المعبر عنها بالآفاق؛ لأن الآيات ليست محصورة في الإنسان المحدود، بل هناك ما هو أبعد من محيط الإنسان في الكون الواسع.

الرابع: آيات الله المنزلة، وهي كلامه، والإنسان إذا سلمت أدواته الأولى -العقل السليم والفطرة السليمة- عرف الدلائل من آيات الله تعالى واستوعبها، لكن إذا غطيت الفطرة بالمؤثرات الخارجية وانتكس العقل فقد لا يستفيد الإنسان من كلام الله، فإذا توافرت العوامل الأولى فإن الإنسان يجد من كلام الله تعالى -وهو القرآن المنزل والوحي- آيات صريحات دالات على أن الله شهد أنه لا إله إلا هو سبحانه.

الخامس: شهادة المخلوقين الناطقين لله تعالى بالشهادة، وشهادة المخلوقين من أقوى الشهادات، ذلك أن الإنسان يسمع من غيره من المؤمنين ما يقتضي الشهادة لله أنه لا إله إلا هو، وهذا السماع هو بإذن الله وقدرته وبإرادته وحكمته وبتوفيق الله وهدايته، فإذا كان كذلك فالله هو الذي وفق الناطقين المؤمنين بالشهادة، فعلى ذلك يكون نطقهم حجة على الخلق؛ لأن الله شهد أنه لا إله إلا هو وأشهد أولياءه، وهذه أقوى حجة ظاهرة على الإنسان؛ لأن البشر لابد من أن يكون فيهم من يشهد أن لا إله إلا الله، فأي مؤمن لابد من أن يكون شاهداً تقوم به الحجة على الآخرين.

الدلالة السادسة: شهادة الواقع، وهي شهادة تشمل جميع الشهود على أن الله لا إله إلا هو في كل شيء، في الإنسان وفي الآفاق وفي الوحي المنزل وفي الدلائل والأحداث وفي المصائب وفي كل أمر من الأمور التي تحدث للبشر وفي المخلوقات الأخرى وما يحدث لها وما يحدث منها، كل ذلك -وهو الواقع الذي يعيشه الإنسان- فيه شهادة أنه لا إله إلا الله سبحانه، وهي شهادة من الله؛ لأن الله هو الذي ألهم وأنطق، وهو الذي أقام الحجة.

انطباق معاني الشهادة ومراتبها على شهادة الله عز وجل لنفسه بالوحدانية

قال رحمه الله تعالى: [وعبارات السلف في (شهد) تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها؛ فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه، فلها أربع مراتب:

فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها: تكلمه بذلك وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها. وثالثها : أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.

فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.

فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهداً بما لا علم له به، قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، وقال صلى الله عليه وسلم: (على مثلها فاشهد، وأشار إلى الشمس).

وأما مرتبة التكلم والخبر؛ فقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم.

وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر، تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولهذا كان من جعل داره مسجداً وفتح بابها، وأفرزها بطريقها، وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنه وقف، وإن لم يتلفظ به، وكذلك من وجد متقرباً إلى غيره بأنواع المسار، يكون معلماً له ولغيره أنه يحبه، وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.

وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول: ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله؛ فكما قال ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه: أنه لا إله إلا هو. وقال آخر:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17]، فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه.

والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله.

وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه؛ فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وقال الله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل:51]، وقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة:31]، وقال تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الإسراء:22]، وقال تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [القصص:88]، والقرآن كله شاهد بذلك.

ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلهاً، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلاً لذلك، ويدع من هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان، والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي.

وأيضاً: فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة؛ فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة؛ تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.

وأيضاً: فلفظ (الحكم) و(القضاء) يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية، وحكم، وقد حكم فيها بكذا، قال تعالى: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الصافات:151-154]، فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً، وقال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، لكن هذا حكم لا إلزام معه، والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن للإلزام].

الشهادة لله بالوحدانية بطريق السمع والبصر والعقل

قال رحمه الله تعالى: [ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها؛ لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة، وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها؛ فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل: أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرَّفنا إياه من صفات كماله كلها].

الحديث الآن يتعلق ببيان الطرق التي أقام الله بها الحجة وبين بها أنه تعالى شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو سبحانه، فذكر من هذه الطرق السمع.

قال رحمه الله تعالى: [ أما السمع فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرَّفنا إياه من صفات كماله كلها الوحدانية وغيرها غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات تُوقِع في الحيرة تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:1-2]، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1]، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر:1]، هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138]، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92]، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].

وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، ولا إلى ذوق فلان ووجْدِهِ في أصول ديننا، ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة.

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله فيما يأتي من كلامه بقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم)].

انتهى من طريق السمع، والآن انتقل إلى الطريق الثانية، وهي البصر.

قال رحمه الله تعالى: [وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية].

وبعد هذه يذكر الطريق الثالثة، وهي دلالة العقل.

قال رحمه الله تعالى: [ والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة، فهو سبحانه -لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامة الحجة- لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل:43-44]، وقال تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183]، وقال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى:17]، حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود:53]، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:54-56].

فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلط لهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها، ثم أكد ذلك عليهم بالاستهانة بهم واحتقارهم وازدرائهم ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه، ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يشمت به أعداءه.

فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم؟! وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان.