المعاملات المالية المعاصرة [8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وبعد:

تقدم لنا في الدرس السابق ما يتعلق بأقسام صور مسألة الإجارة المنتهية بالتمليك، وذكرنا أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: جائز.

والقسم الثاني: محرم.

والقسم الثالث: مختلف فيه وهما إذا ضبط بضوابط.

وذكرنا هذه الضوابط، وأن بعض العلماء منع من هذا القسم -القسم الثالث- مطلقاً؛ بناءً على أن فيه اشتراط عقدٍ في عقد، وهذا لا يصح، وأيضاً فيه تعليق عقد البيع على شرط مستقبل، وتعليق عقد الهبة على شرط مستقبل... إلى آخره.

الرأي الثاني: الصحة بتلك الضوابط لانتفاء هذه المحاذير؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، واشتراط عقد في عقد الصواب أنه صحيح، وكذلك أيضاً تعليق العقود الصواب أنها صحيحة... إلى آخره.

وذكرنا شيئاً من الصور التي أجازها مجمع الفقه الإسلامي.

أما ما يتعلق بالودائع المصرفية، وأقسامها، وأنواع كل قسم، وبيان أحكامها فسوف يكون في الآتي:

تعريف الودائع المصرفية

الودائع: جمع وديعة، وهي في اللغة: مأخوذة من الودع وهو السكون.

وأما في الاصطلاح فهو: التبرع بحفظ مال الغير بلا عوض.

والمصرف: اسم مكان مشتق من الصرف، والصرف هو مبادلة نقد بنقد.. وهو نوع من أنواع البيع، لكنه يختص بالنقود.

فالمصرف هو المكان الذي يتم فيه الصرف، يعني: مبادلة النقد بالنقد.

وأما في اصطلاح الاقتصاديين فهو: عبارة عن مؤسسة تنشأ لغرض اقتراض النقود وإقراضها.

وأما بالنسبة لكلمة بنك، فهي اصطلاح أوروبي.. ليس عربياً بل أعجمي، مأخوذٌ من كلمة بانكو الإيطالية، وهذه الكلمة في الأصل تعني الطاولة أو المنضدة؛ فإن التجار في القرون الوسطى كانوا يجلسون في الموانئ وفي الأماكن العامة ومعهم النقود على مثل هذه الطاولات التي تسمى بانكو، لكي يقوموا بصرف هذه النقود والبيع والشراء فيها، فيجلسون في الموانئ وفي الأماكن العامة على مثل هذه الطاولات التي تسمى بانكو، فسمّيت هذه المؤسسة الآن التي تُعنى باقتراض البنوك وإقراضها (بنك).

وعلى هذا إذا تبين هذا وتبين أن كلمة بنك كلمة ليست عربية وإنما هي كلمة أعجمية، فالأولى عدم استخدامها، ويُستخدم بدلاً من ذلك كلمة مصرف.

الودائع المصرفية غير الاستثمارية

الودائع المصرفية تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الودائع المصرفية غير الاستثمارية، يعني: لا يُقصد بها الاستثمار، وإنما تودع في هذه المصارف لأغراض كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فلا يُقصد من ذلك الاستثمار، يعني: الكسب والربح، وإنما تعطى المصرف لغرض معيّن غير الاستثمار.

وهذه الودائع المصرفية غير الاستثمارية تتنوع إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ودائع الصكوك والأوراق المالية، وتسمى بالوديعة المستردية.

وهذه الأوراق المالية تشمل الأسهم والسندات ومؤدى هذه الوديعة: أن يقوم المستفيد أو العميل بدفع صكوكه وأوراقه المالية إلى المصرف؛ ليقوم بحفظها، وأحياناً يقوم المصرف ببعض العمليات لإدارة هذه الأوراق كتحكيم أرباح الأسهم ونحو ذلك.

فهذه وديعة بأجر، يعني: المصرف أو البنك يأخذ أجرة على هذا، وهذه وديعة بأجر، وعلى مذهب الحنابلة هذه إجارة؛ وتكييفها أن هذه من قبيل الأجير المشترك، ولأن الأجير ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أجير مشترك، والقسم الثاني: أجير خاص.

والأجير الخاص: هو الذي قُدّر نفعه بالزمن، بمعنى: أنه استأجره شخص لكي يعمل من الساعة السابعة إلى الساعة الثانية ظهراً، فهذا أجير خاص، قُدّر نفعه بزمن.

والأجير المشترك: هو الذي قُدّر نفعه بالعمل، يعني: ليس مرتبطاً بزمن، وإنما مرتبط بعمل، فهو يتقبل أعمالاً من الناس كلهم، مثل: الخياط، والغسال، والطباخ، ومن يقوم بطباعة الأوراق... إلى آخره، فقالوا: هؤلاء أجراء إجارة مشتركة، يعني: ليس نفعه مقدراً بزمن، وإنما نفعه مقدر بعمل.

فنظير مثل ذلك الآن: المصرف، إذا أخذ هذه الأوراق المالية، وهذه الصكوك... إلى آخره، وقام بحفظها للعميل أو قام بإجراء بعض العمليات المالية على هذه الأوراق فإن هذا من قبيل الإجارة المشتركة.

وحكم هذا بأنه جائز ولا بأس به.

وما يقوم به المصرف من إدارة هذه الأوراق المالية التي لا تتضمن محذوراً شرعياً هذا من باب الوكالة بأجر، والوكالة بأجر يصح أن توكل شخصاً لكي يبيع لك، ويشتري... إلى آخره، بأجرة؛ فإن هذا جائز ولا بأس به.

النوع الثاني من أنواع الودائع المصرفية غير الاستثمارية: الودائع المخصصة لعمل معين.

وذلك بأن يقوم العميل بدفع مبلغ معين إلى المصرف؛ لغرض تسديد الفواتير، أو سداد قيمة الكمبيالة، أو شراء أوراق مالية كأن يشتري له أسهماً... إلى آخره، بحيث لا يتضمن هذا الشراء محذوراً شرعياً فإن هذا جائز ولا بأس به، ومثل هذه الوديعة جائزة ولا بأس بها، وحكمها أنها وكالة بأجرة، يعني أنك وكلت المصرف في أن يقوم بهذا العمل فلو أخذ عليك عمولة مقابل أن يشتري لك هذه الأوراق النقدية، أو مقابل سداد هذه الكمبيالة كان هذا جائزاً ولا بأس به، وحكمه أنه وكالة بأجر، والوكالة يجوز أخذ الأجرة عليها كما سلف، فلو وكّلت شخصاً على أن يشتري لك سيارة، أو يشتري لك بيتاً وشرط عليك أجراً فإن هذا جائز ولا بأس به.

والكمبيالة يعرفونها بأنها: وثيقة أو صك محرر يتضمن الأمر بدفع مال من شخص معين في وقت معين لآخر، من طرف ثالث.

والكمبيالات هذه غالباً تستخدم في تسديد أقساط البيوع، والآن حل محلها كثيراً ما يسمى بالشيك، ونحوه.

المهم أنه تلخص لنا: أن الودائع المخصصة لعمل معين أنها جائزة، وأنها عبارة عن وكالة بأجرة، والأصل في ذلك الحل وأنه لا بأس به، وأخذ الأجرة على الوكالة جائز ولا بأس به.

النوع الثالث من الودائع المصرفية غير الاستثمارية: وديعة الخزائن الحديدية.

وذلك أن بعض المصارف تؤجر خزائن حديدية مقابل أجرة معلومة، يستفيد العميل من هذه الخزينة لحفظ نقوده أو أوراقه الثمينة، أو مستنداته في مثل هذه الخزائن.. أو غير ذلك، ويكون مع العميل مفتاح، والمصرف يكون معه مفتاح آخر.

حكم هذه أنها إجارة بعوض، فالمصرف يقوم بتأجير العملاء مثل هذه الخزائن الحديدية، وهذا جائز ولا بأس به.

هذا ما يتعلق بالقسم الأول وهو الودائع المصرفية غير الاستثمارية.

الودائع المصرفية الاستثمارية

القسم الثاني: الودائع المصرفية الاستثمارية.

وهي التي يُقصد منها الكسب والتجارة والربح، سواءٌ كان ذلك من قِبل المصرف، أو من قِبل العميل.. إلى آخره.

وهذه الودائع تتنوع إلى أربعة أنواع:

النوع الأول: الودائع الجارية التي تكون تحت الطلب.

وذلك بأن يقوم العميل بإيداع مبالغ نقدية لدى المصرف بقصد أن تكون قابلة للتداول والسحب عند الطلب.

يعني: إذا أراد أن يأخذ هذه الدراهم فإنه يقوم بأخذها في أي وقت شاء.

وهذا ما عليه عمل كثير من الناس اليوم في مثل هذه البلاد، أنهم يقومون بإيداع أموالهم ودائع جارية عند الطلب عند هذه المصارف؛ بحيث أن العميل يتمكن من سحب هذه المبالغ في أي وقت شاء.

وهذه الودائع تحتها مسألتان:

المسألة الأولى: ما هي الكيفية لهذه الودائع؟

المسألة الثانية: حكم هذه الودائع.

المسألة الأولى: ما يتعلق بكيفية هذه الودائع.

اختلف المتأخرون في ذلك على رأيين:

الرأي الأول: أن هذه الودائع تعتبر إقراضاً من العميل للبنك أو للمصرف، يعني: أنت إذا دفعت هذه الودائع إلى المصرف فإنك تكون أقرضت هذا المصرف، وهذا ما عليه أكثر العلماء، فإيداع العميل لهذه الدراهم عند المصرف إنما هو إقراضٌ منه للمصرف.

واستدلوا على ذلك بأدلة:

الدليل الأول: أن العلماء السابقين يقولون بأن المودِع إذا أذن للمودَع أن يتصرف في الوديعة فإنها تتحول إلى كونها قرضاً.

يعني: أنت أعطيت زيداً من الناس ألف ريال أو عشرة آلاف ريال، وأذنت له أن يتصرف فيها، وهو قام وتصرف فيها.. اشترى، وباع... إلى آخره، فإنها تتحول من كونها وديعة إلى كونها قرضاً، وهذا ينص عليه العلماء رحمهم الله.

والآن هذا هو الجاري وإن لم يأذن لفظاً فإنه آذنٌ عرفاً، فالعميل الآن يضع دراهمه في المصرف ويأذن للمصرف بالتصرف في هذه الدراهم، فيقوم المصرف باستغلال هذه الدراهم بالبيع والشراء... إلى آخره.

الدليل الثاني: أنها لو تلفت هذه الدراهم فإن المصرف ضامن لهذه الدراهم، وهذا هو القرض.

يعني: أنت الآن لو أعطيت زيداً من الناس ألف ريال قرضاً، ثم أخذ هذه الألف وضاعت منه، أو حفظها في الصندوق وكُسر الصندوق وسُرقت فهو الضامن لها؛ لأنها دخلت في ملكه.

بخلاف الوديعة، فأنت لو أعطيت زيداً من الناس على أن يحفظ لك هذه الدراهم ثم حفظها في حرز مثلها.. وضعها في الصندوق، ثم جاء سارق وكسر الصندوق وأخذ الدراهم، فإن المودَع لا يضمن، فما دام أنه لم يتعد ولم يفرِّط فإنه لا ضمان عليه.

فالمتفق عليه الآن على أن المصرف يقوم بضمان هذه الدراهم مطلقاً تعدى أو لم يتعد، فرّط أو لم يفرّط... إلى آخره، هذا أخرجها من كونها وديعة في الأصل إلى كونها قرضاً.

الدليل الثالث: قالوا بأن المصرف لو أفلس فإن العميل يدخل على أنه دائن عادي، ولا يدخل على أنه صاحب وديعة، والفرق إذا قلنا: هل هو صاحب وديعة أو قلنا: إنه دائن؟

النبي صلى الله عليه وسلم عندما نقص مال المفلس، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من وجد متاعه عند رجلٍ أفلس فهو أحق به )، لو قلنا بأن هذه الدراهم التي يضعها العملاء عند المصارف: إنها ودائع، يكون هذا العميل أحق بهذا المال بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام أنه وجد متاعه بعينه فإنه يكون أحق به.

أما إذا قلنا بأنها قرض، فإن هذا يكون دائناً عادياً، ويخضع في القسمة على سائر الغرماء.

يعني: لو كان هذا المصرف اقترض من أناس، وأناس أودعوه، لو قلنا بأن هذه ودائع لكان أصحاب الودائع أحق بأموالهم؛ لأنها أموال لهم، ولا يدخلون تحت أسوة الغرماء، وإنما هذه أموال لهؤلاء الذين أودعوا، فتكون عند المصرف إنما هي أمانة فقط، ولا تكون أسوة الغرماء.. يعني: لا يدخلون في القسمة مع الغرماء، لكن لو أفلس المصرف فإن أصحاب هؤلاء الودائع وكذلك أيضاً الغرماء يدخلون جميعاً في المحاصّة، كلهم يقتسمون المال الذي يوجد في المصرف، ولا يخرج أموال المودعين باعتبار أنها أمانات، وإنما كلهم يعاملهم على أنهم مقرضون.

مثال آخر في غير المصرف: زيد من الناس أعطاه عمرو ألف ريال، وأعطاه بكر، وصالح، وإبراهيم... أعطوه قروضاً، عندما يفلس ويريد القاضي أن يقسم أموال هذا المفلس على الغرماء؛ فإن أصحاب الأمانات أموالهم لا تدخل القسمة، بل يجب أن تُخرج، هذه ألف ريال معروفة لفلان يجب أنه يأخذها وتُخرج، أما بالنسبة للمقرضين فإنهم يتحاصّون المال، وفي المصرف ليس الأمر كذلك، بل الكل يدخلون في المحاصّة، ولا يُخرج أحدهم عن أحد، فدل ذلك على أن هذه الأموال التي تدفع إلى المصرف ليست ودائع، وإنما هي قروض، كما لو أن شخصاً أقرض هذا المصرف، والدليل أنهم يدخلون كلهم في المحاصّة، وهذا الذي أودع يخضع لقسمة بقية الغرماء.

هذا هو الرأي الأول، وهو ما عليه جمهور أهل العلم، على أن هذه الودائع تعتبر قرضاً ولا تعتبر وديعة.

القول الثاني: أن هذه ودائع كما هو الاسم عليها، وهذا ذهب إليه بعض الباحثين، واستدلوا على ذلك بأنها مبالغ توضع عند المصرف وتسحب عند الحاجة.

والصحيح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأن هذه الودائع التي توضع في البنوك إنما هي إقراض وليست ودائع، وكون الشخص يسحبها عند الحاجة نقول: هذا قرضٌ غير مشروط بأجل مطلق، فله أن يطالبه في أي وقت.

هذا بالنسبة للمسألة الأولى وهي: كيفية هذه الودائع التي يضعها الناس.

واستخدم اسم الودائع وإن كانت في حقيقتها على الراجح أنها قروض لهذه البنوك، بناءً على الاسم الأول، وأن الناس تعارفوا على هذا الاسم، وإلا فالحقيقة كما سلف أنها قروض يقرضها العملاء لهذا المصرف.

حكم الإيداع في المصارف

المسألة الثانية: حكم الإيداع في مثل هذه المصارف.

والمقصود المصارف التي تتعامل بالربا وقد يكون لها معاملات مباحة.

لا شك أن وضع النقود فيها من باب التعاون على الإثم والعدوان، والله عز وجل يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

لما ظهرت مثل هذه المصارف اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله على أقوال، ومن أشهر هذه الأقوال قولان:

القول الأول: التفصيل: وأن المصرف لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن تكون جميع معاملاته محرمة، فهذا لا يجوز وضع النقود فيها، لما في ذلك من الإعانة على الربا، ولا شك أن الربا من كبائر الذنوب، والله عز وجل يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

الأمر الثاني: أن يكون لهذا المصرف موارد أخرى مالية مشروعة غير ربوية، فقالوا: يجوز وضع النقود في هذا المصرف ما دام أن معاملاته ليست ربوية محضة، وإنما له موارد مالية مشروعة غير ربوية.

والعلة قالوا: لأن الإنسان إذا أودع في مثل هذه المصارف التي تتعامل بالربا وبغير الربا، لا يتحقق أن ماله صار في المعاملات الربوية، وإذا لم يتحقق أن ماله صار في المعاملات الربوية فالأصل في ذلك الحل؛ لأن هذا أمر محتمل، والأصل في ذلك الحل.

قالوا: والبُعد عن هذا أولى.

فتلخص الرأي الأول: أنهم يقسمون هذه المصارف إلى قسمين:

القسم الأول: مصارف معاملاتها ربوية محضة.

وأيضاً يظهر من كلامهم أن المعاملات المباحة النادرة هذه لا عبرة بها؛ لكونها منغمرة في المحرم، فهذا لا يجوز وضع الدراهم أو النقود فيها؛ لما في ذلك من الإعانة على الربا.

القسم الثاني: أن يكون لهذا البنك أو المصرف موارد مالية شرعية، فقالوا: يجوز وضع الدراهم فيها؛ لأن الإنسان إذا وضع دراهمه لا يتحقق أنها تستخدم في الأمور المحرمة. والبعد من هذا أولى للشبهة. هذا القول الأول.

القول الثاني: التفصيل بين الحاجة وعدم الحاجة.

فإذا كان هناك حاجة أو ضرورة فلا بأس، يعني: إذا كان إنسان يحتاج أو يضطر إلى ذلك، فإن هذا جائز، وإذا لم يكن هناك حاجة أو ضرورة فإنه لا يجوز.. إذا كان هناك حاجة بحيث لا يتمكن إلا في هذا المصرف، أو يخشى على دراهمه الضياع، أو تكون أمواله كثيرة بحيث أنه لا يتمكن من حفظها في مكان آخر غير المصرف فهذا جائز، ومع عدم الحاجة أو الضرورة فإن هذا لا يجوز.

الرأي الثالث: التفصيل قالوا: إن أمكن وضع هذه الأموال عند من يستقدمها في معاملات مالية مشروعة فهذا هو الواجب، وإذا لم يمكن واحتاج إلى ذلك فإنه جائز.

ويظهر أن مسألة الحاجة اليوم، يعني: ما دام أن الناس ربطوا بهذه المصارف وهذه البنوك، فالحاجة الآن عمّت؛ لأن الناس الآن ربطوا بمثل هذه المصارف، فلا تكاد تجده يبيع أو يشتري إلا عن طريق المصارف لحاجته إلى التوثقة؛ لأن كثيراً من المعاملات ضبطت، لكن إذا كان الإنسان يستغني فهذا هو الأبرأ.

والرأي الثالث هو أقرب الأقوال؛ لما في ذلك من البعد عن المحرم وخصوصاً الربا الذي هو من كبائر الذنوب.

هذا بالنسبة للنوع الأول من قسمي الودائع المصرفية الاستثمارية، وهي الودائع الجارية التي تكون تحت الطلب.

الودائع: جمع وديعة، وهي في اللغة: مأخوذة من الودع وهو السكون.

وأما في الاصطلاح فهو: التبرع بحفظ مال الغير بلا عوض.

والمصرف: اسم مكان مشتق من الصرف، والصرف هو مبادلة نقد بنقد.. وهو نوع من أنواع البيع، لكنه يختص بالنقود.

فالمصرف هو المكان الذي يتم فيه الصرف، يعني: مبادلة النقد بالنقد.

وأما في اصطلاح الاقتصاديين فهو: عبارة عن مؤسسة تنشأ لغرض اقتراض النقود وإقراضها.

وأما بالنسبة لكلمة بنك، فهي اصطلاح أوروبي.. ليس عربياً بل أعجمي، مأخوذٌ من كلمة بانكو الإيطالية، وهذه الكلمة في الأصل تعني الطاولة أو المنضدة؛ فإن التجار في القرون الوسطى كانوا يجلسون في الموانئ وفي الأماكن العامة ومعهم النقود على مثل هذه الطاولات التي تسمى بانكو، لكي يقوموا بصرف هذه النقود والبيع والشراء فيها، فيجلسون في الموانئ وفي الأماكن العامة على مثل هذه الطاولات التي تسمى بانكو، فسمّيت هذه المؤسسة الآن التي تُعنى باقتراض البنوك وإقراضها (بنك).

وعلى هذا إذا تبين هذا وتبين أن كلمة بنك كلمة ليست عربية وإنما هي كلمة أعجمية، فالأولى عدم استخدامها، ويُستخدم بدلاً من ذلك كلمة مصرف.

الودائع المصرفية تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الودائع المصرفية غير الاستثمارية، يعني: لا يُقصد بها الاستثمار، وإنما تودع في هذه المصارف لأغراض كما سيأتي بيانه إن شاء الله، فلا يُقصد من ذلك الاستثمار، يعني: الكسب والربح، وإنما تعطى المصرف لغرض معيّن غير الاستثمار.

وهذه الودائع المصرفية غير الاستثمارية تتنوع إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ودائع الصكوك والأوراق المالية، وتسمى بالوديعة المستردية.

وهذه الأوراق المالية تشمل الأسهم والسندات ومؤدى هذه الوديعة: أن يقوم المستفيد أو العميل بدفع صكوكه وأوراقه المالية إلى المصرف؛ ليقوم بحفظها، وأحياناً يقوم المصرف ببعض العمليات لإدارة هذه الأوراق كتحكيم أرباح الأسهم ونحو ذلك.

فهذه وديعة بأجر، يعني: المصرف أو البنك يأخذ أجرة على هذا، وهذه وديعة بأجر، وعلى مذهب الحنابلة هذه إجارة؛ وتكييفها أن هذه من قبيل الأجير المشترك، ولأن الأجير ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أجير مشترك، والقسم الثاني: أجير خاص.

والأجير الخاص: هو الذي قُدّر نفعه بالزمن، بمعنى: أنه استأجره شخص لكي يعمل من الساعة السابعة إلى الساعة الثانية ظهراً، فهذا أجير خاص، قُدّر نفعه بزمن.

والأجير المشترك: هو الذي قُدّر نفعه بالعمل، يعني: ليس مرتبطاً بزمن، وإنما مرتبط بعمل، فهو يتقبل أعمالاً من الناس كلهم، مثل: الخياط، والغسال، والطباخ، ومن يقوم بطباعة الأوراق... إلى آخره، فقالوا: هؤلاء أجراء إجارة مشتركة، يعني: ليس نفعه مقدراً بزمن، وإنما نفعه مقدر بعمل.

فنظير مثل ذلك الآن: المصرف، إذا أخذ هذه الأوراق المالية، وهذه الصكوك... إلى آخره، وقام بحفظها للعميل أو قام بإجراء بعض العمليات المالية على هذه الأوراق فإن هذا من قبيل الإجارة المشتركة.

وحكم هذا بأنه جائز ولا بأس به.

وما يقوم به المصرف من إدارة هذه الأوراق المالية التي لا تتضمن محذوراً شرعياً هذا من باب الوكالة بأجر، والوكالة بأجر يصح أن توكل شخصاً لكي يبيع لك، ويشتري... إلى آخره، بأجرة؛ فإن هذا جائز ولا بأس به.

النوع الثاني من أنواع الودائع المصرفية غير الاستثمارية: الودائع المخصصة لعمل معين.

وذلك بأن يقوم العميل بدفع مبلغ معين إلى المصرف؛ لغرض تسديد الفواتير، أو سداد قيمة الكمبيالة، أو شراء أوراق مالية كأن يشتري له أسهماً... إلى آخره، بحيث لا يتضمن هذا الشراء محذوراً شرعياً فإن هذا جائز ولا بأس به، ومثل هذه الوديعة جائزة ولا بأس بها، وحكمها أنها وكالة بأجرة، يعني أنك وكلت المصرف في أن يقوم بهذا العمل فلو أخذ عليك عمولة مقابل أن يشتري لك هذه الأوراق النقدية، أو مقابل سداد هذه الكمبيالة كان هذا جائزاً ولا بأس به، وحكمه أنه وكالة بأجر، والوكالة يجوز أخذ الأجرة عليها كما سلف، فلو وكّلت شخصاً على أن يشتري لك سيارة، أو يشتري لك بيتاً وشرط عليك أجراً فإن هذا جائز ولا بأس به.

والكمبيالة يعرفونها بأنها: وثيقة أو صك محرر يتضمن الأمر بدفع مال من شخص معين في وقت معين لآخر، من طرف ثالث.

والكمبيالات هذه غالباً تستخدم في تسديد أقساط البيوع، والآن حل محلها كثيراً ما يسمى بالشيك، ونحوه.

المهم أنه تلخص لنا: أن الودائع المخصصة لعمل معين أنها جائزة، وأنها عبارة عن وكالة بأجرة، والأصل في ذلك الحل وأنه لا بأس به، وأخذ الأجرة على الوكالة جائز ولا بأس به.

النوع الثالث من الودائع المصرفية غير الاستثمارية: وديعة الخزائن الحديدية.

وذلك أن بعض المصارف تؤجر خزائن حديدية مقابل أجرة معلومة، يستفيد العميل من هذه الخزينة لحفظ نقوده أو أوراقه الثمينة، أو مستنداته في مثل هذه الخزائن.. أو غير ذلك، ويكون مع العميل مفتاح، والمصرف يكون معه مفتاح آخر.

حكم هذه أنها إجارة بعوض، فالمصرف يقوم بتأجير العملاء مثل هذه الخزائن الحديدية، وهذا جائز ولا بأس به.

هذا ما يتعلق بالقسم الأول وهو الودائع المصرفية غير الاستثمارية.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
المعاملات المالية المعاصرة [1] 2094 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [2] 2000 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [10] 1518 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [11] 1422 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [4] 1336 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [5] 1244 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [9] 1126 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [7] 963 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [6] 937 استماع
المعاملات المالية المعاصرة [3] 885 استماع