شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 615-621


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

اليوم عندنا آخر درس في البلوغ في كتاب الجنائز، وبإنهاء هذا الدرس نكون قد انتهينا من كتاب الجنائز، وبانتهائنا من كتاب الجنائز نكون قد انتهينا من كتاب الصلاة، وبانتهائنا من كتاب الصلاة مع كتاب الطهارة نكون قد انتهينا تقريباً مما يقارب ثلث بلوغ المرام ؛ لأن الطهارة والصلاة تستأثر عادة بلب الأحاديث.

ومما هو خليق أيضاً بالشكر والثناء أن الله سبحانه وتعالى يسر لي فيما سبق أن كتاب الزكاة والصوم والحج سبق أن شرحته في عمدة الفقه أيام توقف بلوغ المرام، شرحته في المنزل للشباب شرحاً موثقاً في أشرطة، ومفرغاً في أوراق أيضاً وبطريقة مفصلة، يعني: كنت أشرح وأنا أقول: إذا لم يأذن الله باستكمال بلوغ المرام يكون هذا عوضاً عنه، وفيه سرد للأقوال والمسائل والأدلة والترجيح وغيرها، وبإذن الله تعالى نحن سنستكمل بلوغ المرام، وأعتقد أن الدأب والإصرار مهم، وخليق بنا أن نفرح بهذه المناسبة، وكما كان عمر رضي الله عنه يقول:

كأنك لم تدأب من الدهر ليلة إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

وأذكر أن بعض أساتذتنا في المعهد أول ما تعينت في المعهد العلمي مدرساً يرون اجتهادي ويقولون وهم يضحكون: بشر الزرع بفلاح جديد، يعني: أنت فلاح جديد وعندك الآن حالة طفرة وفرح، ولذلك تجتهد، لكن مع الأيام والليالي تفتر همتك وتصبح مثلنا، والحمد لله أنا دائماً أتوعد نفسي: أنه يجب أن أكون دائماً وأبداً فلاحاً جديداً، على الإنسان أن يحاول ذلك!

رقم هذا الدرس مائتان وثلاثة، وهذا يوم الإثنين الثاني والعشرون من جمادى الأولى (1427هـ)، عندنا مجموعة أحاديث حوالي سبعة أحاديث.

الحديث الأول منها: حديث أنس رضي الله عنه، ورقمه (592) قال: ( شهدت بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فرأيت عينيه تدمعان )، والحديث رواه البخاري .

أما تخريج الحديث:

فقد رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ورواه ابن ماجه أيضاً في الجنائز، ورواه: أحمد والبيهقي والحاكم والطحاوي والطيالسي .. وغيرهم، بل والترمذي رواه في كتاب الشمائل.

معاني ألفاظ الحديث

ثانياً: ما يتعلق بألفاظ الحديث:

فـأنس رضي الله عنه يقول: ( شهدت بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ):

هذه البنت على الراجح هي أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهم بعض أهل العلم فسموها رقية، ووهم وأغرب جماعة فقالوا: إنها بنت بنته، والصواب: أنها أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج عثمان بن عفان .

في الحديث قصة وهي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هموا في القبر وجاء عثمان

كأنه يريد أن يدخلها )؛ لأنه زوجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان قارف الليلة -البارحة- فلا يدخلها، هل فيكم أحد لم يقارف؟ فقال أبو قتادة

: أنا يا رسول الله! فأمره أن ينزلها في القبر
).

قوله: (قارف)، الغالب أن كلمة (قارف) قد تطلق على معنى: ارتكب خطأ أو ذنباً، وقد تطلق على من فعل شيئاً ويستحيا من التصريح به.

فالمقصود إذاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هل فيكم أحد قارف؟ ) يعني: جامع زوجته، جامع أهله.

والسر في هذا -والله أعلم- وإن اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، لكن يترجح عندي بقوة: أن المعنى هنا فيه معنى إنساني، هذه البنت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وزوجها عثمان وهو من ضمن الحاضرين، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: كأنه يعاتب عثمان عتاباً غير مباشر أنه قد أتى أهله البارحة، يعني: زوجته الأخرى، وأم كلثوم كانت في المرض؛ فلذلك أمر أو عبر بهذا التعبير الذي اقتضى عزل عثمان عن أن يقوم بإدخالها في القبر من غير أن يخصه أو يشير إليه بشيء.

واعتذر العلماء عن عثمان رضي الله عنه: أن هذا قد يكون لسبب، مثل أن يكون طال مرضها أولاً، وأيضاً لم يكن يعلم أنها كانت في النزع أو أنها كانت شديدة المرض، فإن الإنسان قد يظهر منه بعض العافية وبعض الصحة ثم ينتكس ويموت فجأة، فهذان جوابان.

فوائد الحديث

فيما يتعلق بالحديث فيه فوائد: من أهمها: جواز البكاء على الميت، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا ذرفت عيناه عند القبر، وكان صلى الله عليه وسلم رحيماً شفيقاً بأهله، وقد جاء في أحاديث كثيرة جداً بكاؤه عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث منها، وهو في البخاري

كما ذكرنا. ومن الأحاديث الواردة في مسألة بكاء النبي عليه الصلاة والسلام حديث إبراهيم

بن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي حديث طويل في قصة إبراهيم

وهو في الصحيحين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم )، ثم أعطاه لـأبي سيف القين

من أجل أن ترضعه امرأته، وجاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه وشمه وقبله، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم مرة وهو يموت، فبكى النبي صلى الله عليه آله وسلم ودمعت عيناه، فقال له بعض أصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذه رحمة )، وفي بعض الألفاظ: ( من لا يَرحم لا يُرحم )، ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي ) هذا حديث آخر، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى لموت ابنه إبراهيم

. أيضاً في قصة سعد بن عبادة

وهي في الصحيح: لما مرض سعد بن عبادة

بكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ( أوقد قضى؟ قالوا: لا، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ). وقال في حديث إبراهيم

الذي قبله قال: ( إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم

لمحزونون )، فقوله: ( إن القلب ليحزن والعين لتدمع )، دليل صريح ونص على جواز البكاء على الميت بغير رنة ولا صوت، يكظم صوته ما استطاع . وأيضاً: في حديث آخر النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بهذا أو يرحم، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى لسانه )، فلا يعذب بحزن القلب ولا بدمع العين. فكل هذه النصوص وغيرها تدل على جواز البكاء على الميت، وأن الله تعالى لا يؤاخذ بحزن القلب ولا بدمع العين. ولذلك نقول: إن جماهير أهل العلم على جواز البكاء على الميت بغير صوت، وقد نقل عن الشافعي

رضي الله عنه في ذلك خلاف أنه لا يراه، وما نقل عن الشافعي

فهو محمول على النياحة، محمول ليس على مجرد البكاء الذي يغلب الإنسان، وإنما على ما يتعدى البكاء ليكون نوعاً من النياحة. في حديث الباب أيضاً فوائد، من فوائد الحديث: جواز البكاء، وهي فائدة عزيزة فيما يتعلق بما سبق أن ذكرناه. جواز قعود الذين يتبعون الميت إذا وضع الميت في الأرض أو بدأ إدخاله في القبر، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا كان جالساً، وفي بعض الروايات: ( كان جالساً على شفير القبر )، فهذا دليل على أن الذين يتبعون الميت يجوز لهم أن يقعدوا عند القبر، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان هنا جالساً والبنت تُدفن، يعني: أثناء الدفن، أثناء ما هم يضعونها في القبر ويدفنونها كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً. من فوائد الحديث: أنه يجوز أن يدخل المرأة في قبرها غير محرمها . من فوائد الحديث: الصدق وأنه محمدة، فإن عثمان

رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن لم يقارف، صدق ولم يخف هذا الأمر، وهذه مزية وفضيلة لـعثمان بن عفان

.

ثانياً: ما يتعلق بألفاظ الحديث:

فـأنس رضي الله عنه يقول: ( شهدت بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ):

هذه البنت على الراجح هي أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهم بعض أهل العلم فسموها رقية، ووهم وأغرب جماعة فقالوا: إنها بنت بنته، والصواب: أنها أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوج عثمان بن عفان .

في الحديث قصة وهي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هموا في القبر وجاء عثمان

كأنه يريد أن يدخلها )؛ لأنه زوجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان قارف الليلة -البارحة- فلا يدخلها، هل فيكم أحد لم يقارف؟ فقال أبو قتادة

: أنا يا رسول الله! فأمره أن ينزلها في القبر
).

قوله: (قارف)، الغالب أن كلمة (قارف) قد تطلق على معنى: ارتكب خطأ أو ذنباً، وقد تطلق على من فعل شيئاً ويستحيا من التصريح به.

فالمقصود إذاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هل فيكم أحد قارف؟ ) يعني: جامع زوجته، جامع أهله.

والسر في هذا -والله أعلم- وإن اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، لكن يترجح عندي بقوة: أن المعنى هنا فيه معنى إنساني، هذه البنت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وزوجها عثمان وهو من ضمن الحاضرين، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: كأنه يعاتب عثمان عتاباً غير مباشر أنه قد أتى أهله البارحة، يعني: زوجته الأخرى، وأم كلثوم كانت في المرض؛ فلذلك أمر أو عبر بهذا التعبير الذي اقتضى عزل عثمان عن أن يقوم بإدخالها في القبر من غير أن يخصه أو يشير إليه بشيء.

واعتذر العلماء عن عثمان رضي الله عنه: أن هذا قد يكون لسبب، مثل أن يكون طال مرضها أولاً، وأيضاً لم يكن يعلم أنها كانت في النزع أو أنها كانت شديدة المرض، فإن الإنسان قد يظهر منه بعض العافية وبعض الصحة ثم ينتكس ويموت فجأة، فهذان جوابان.

فيما يتعلق بالحديث فيه فوائد: من أهمها: جواز البكاء على الميت، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا ذرفت عيناه عند القبر، وكان صلى الله عليه وسلم رحيماً شفيقاً بأهله، وقد جاء في أحاديث كثيرة جداً بكاؤه عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث منها، وهو في البخاري

الحديث الذي يليه ورقمه (593): حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا )، والحديث رواه ابن ماجه وأصله في صحيح مسلم .

تخريج الحديث

فأولاً ما يتعلق بـصحيح مسلم قال: ( زجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه ).

وقد سبق الحديث معنا، حديث صحيح مسلم سبق في الباب: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فذكر: رجلاً من أصحابه دُفن ليلاً وكفِّن في كفن غير طائل -يعني: كفناً ضعيفاً- فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدفن الرجل ليلاً حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر أحد إلى ذلك )، هذا لفظ مسلم .

أما لفظ ابن ماجه فهو كما رأيتم: ( لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا إلى ذلك ).

خرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب: الأوقات التي ينهى عن الدفن فيها، وفي سنده إبراهيم بن يزيد المكي وهو متروك .

إذاً: لم يكن ثمة حاجة إلى أن يذكر المصنف رحمه الله هذه الزيادة وهي بهذه المثابة، وقد انفرد بها ابن ماجه، وفيها هذا الراوي المتروك.

وأيضاً: المصنف رحمه الله مما يؤخذ عليه أنه لم يشر إلى درجة هذه الزيادة، وما كان بهذه المثابة ينبغي ألا يساق ولا يروى إلا مقروناً ببيان ضعفه، مع أنه يغني عنه الحديث السابق حديث جابر في صحيح مسلم .

والشيء الغريب: أن الشيخ الألباني صحح هذا الحديث في غير موضع، منها: إرواء الغليل ومواضع أخرى، وهذا سهو منه رحمه الله أو تساهل؛ فإن الحديث بهذا اللفظ شبه موضوع، أما حديث مسلم فبابه باب آخر.

حكم دفن الميت ليلاً

في الحديث مسألة: وهي مسألة الدفن بالليل، دفن الميت ليلاً، ما حكمه؟ هل يدفن الميت بالليل أو لا يدفن؟

في المسألة تقريباً ثلاثة أقوال مشهورة:

القول الأول: أنه لا يكره دفن الميت ليلاً، يجوز دفنه ليلاً ونهاراً، وهذا مذهب الجماهير، منهم الأئمة الأربعة في المشهور عنهم وغيرهم، وهو فعل الصحابة رضي الله عنهم: أنهم كانوا يدفنون الميت ليلاً، وهو عمل الناس في سائر الأمصار أيضاً: أنه يجوز أن يدفن الميت ليلاً، يدفن مثلاً بعد المغرب، يدفن بعد العشاء مما يسمى ليلاً.

وحجة هؤلاء على جواز الدفن ليلاً: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفن بعض أصحابه ليلاً، في أحاديث عديدة:

منها مثلاً: حديث ذي البجادين عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو عند البزار وغيره وسنده صحيح، ذو البجادين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن مسعود : ( أنه رأى نوراً بالليل فذهب فوجد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهم يدفنون ذا البجادين، والنبي صلى الله عليه وسلم يتناوله من أبي بكر ويودعه في قبره ويقول: اللهم إني راض عنه فارض عنه، فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: يا ليتني كنت صاحب الحفرة ) يعني: تفاؤلاً بفضل هذا الرجل المهاجر ومزيته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى دفنه بنفسه وقال عنه هذه الكلمة العظيمة، وكان ذلك الدفن بالليل.

وأيضاً: في مسألة الدفن ليلاً وجوازه، حديث في صحيح البخاري عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر فقال لأصحابه: متى دفنتموه؟ قالوا: البارحة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم )، والبارحة عند أهل اللغة: تطلق على الليلة التي قبل الليلة، يعني: الليلة التي خلت.

أو الليلة التي قبل اليوم، فكونه دفن البارحة معناه: أنه دفن بليل، لو كان دفن نهاراً لقالوا: دفناه أمس، ولو دفنوه اليوم لقالوا: اليوم، فلما قالوا: البارحة، دل على أنهم دفنوه بليل، وكان هذا هو المعمول، وهذا هو الدليل الثالث: أن الدفن ليلاً هو المعمول به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

القول الثاني: أن الدفن ليلاً مكروه، وهذه رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الحسن البصري .

واحتجوا بحديث الباب، وفيه: ( زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفن الرجل ليلاً حتى يصلى عليه )، رواية جابر عند مسلم، ونقول: إن الاستدلال بهذا الحديث لا يتم لسببين:

الأول: أن الزجر هنا متوجه ليس إلى خصوص الدفن ليلاً، وإنما متوجه إلى خصوص ليلاً حتى يصلى عليه، فإذا صلي عليه ليلاً ودفن زال المنع، فالنهي هنا أن يدفن ليلاً دون أن يصلى عليه.

أيضاً: الجواب الثاني على الحديث حديث جابر أن نقول: إن المنهي عنه هو الدفن ليلاً إذا كان لسبب معين، مثل أن يكونوا دفنوه ليلاً، يعني: تحروا أن يؤخروا دفنه إلى الليل لغرض ما، مثل: أن يكون كفنه رديئاً ولا يريدون أن يرى أو ما أشبه ذلك، فهذا هو الذي زجر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء في الحديث: أن النبي عليه السلام: ( ذكر رجلاً من أصحابه دفن ليلاً وكفن في كفن غير طائل ) يعني: كفناً غير حسن وغير مناسب، وقد لا يكون ساتراً للميت، فنقول: هذا ما يتوجه النهي عنه جمعاً بين النصوص.

القول الثالث: أن ذلك حرام، وهذا مذهب ابن حزم كما صرح به في المحلى واحتج بلفظ: (زجر)؛ لأن الزجر هو أشد النهي، الزجر: هو أشد النهي، يزجرهم يعني: ينهاهم نهياً شديداً.

ولكن يؤخذ على مذهب ابن حزم هنا أنه أخذ لفظ الزجر بحرفه ولم يأخذ اللفظ الآخر، وهو قوله: ( أن يدفن الرجل ليلاً حتى )..

مداخلة: ( يصلى عليه ).

الشيخ: ( حتى يصلى عليه )، ولو جمع بينهما لم يتوفر له هذا الاستدلال.

فوائد الحديث

الحديث فيه جواز الدفن ليلاً من غير كراهة .

وفيه أيضاً: مشروعية العناية بالكفن، وأن يكون الكفن حسناً .

فأولاً ما يتعلق بـصحيح مسلم قال: ( زجر أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه ).

وقد سبق الحديث معنا، حديث صحيح مسلم سبق في الباب: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فذكر: رجلاً من أصحابه دُفن ليلاً وكفِّن في كفن غير طائل -يعني: كفناً ضعيفاً- فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُدفن الرجل ليلاً حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر أحد إلى ذلك )، هذا لفظ مسلم .

أما لفظ ابن ماجه فهو كما رأيتم: ( لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا إلى ذلك ).

خرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب: الأوقات التي ينهى عن الدفن فيها، وفي سنده إبراهيم بن يزيد المكي وهو متروك .

إذاً: لم يكن ثمة حاجة إلى أن يذكر المصنف رحمه الله هذه الزيادة وهي بهذه المثابة، وقد انفرد بها ابن ماجه، وفيها هذا الراوي المتروك.

وأيضاً: المصنف رحمه الله مما يؤخذ عليه أنه لم يشر إلى درجة هذه الزيادة، وما كان بهذه المثابة ينبغي ألا يساق ولا يروى إلا مقروناً ببيان ضعفه، مع أنه يغني عنه الحديث السابق حديث جابر في صحيح مسلم .

والشيء الغريب: أن الشيخ الألباني صحح هذا الحديث في غير موضع، منها: إرواء الغليل ومواضع أخرى، وهذا سهو منه رحمه الله أو تساهل؛ فإن الحديث بهذا اللفظ شبه موضوع، أما حديث مسلم فبابه باب آخر.

في الحديث مسألة: وهي مسألة الدفن بالليل، دفن الميت ليلاً، ما حكمه؟ هل يدفن الميت بالليل أو لا يدفن؟

في المسألة تقريباً ثلاثة أقوال مشهورة:

القول الأول: أنه لا يكره دفن الميت ليلاً، يجوز دفنه ليلاً ونهاراً، وهذا مذهب الجماهير، منهم الأئمة الأربعة في المشهور عنهم وغيرهم، وهو فعل الصحابة رضي الله عنهم: أنهم كانوا يدفنون الميت ليلاً، وهو عمل الناس في سائر الأمصار أيضاً: أنه يجوز أن يدفن الميت ليلاً، يدفن مثلاً بعد المغرب، يدفن بعد العشاء مما يسمى ليلاً.

وحجة هؤلاء على جواز الدفن ليلاً: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفن بعض أصحابه ليلاً، في أحاديث عديدة:

منها مثلاً: حديث ذي البجادين عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهو عند البزار وغيره وسنده صحيح، ذو البجادين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن مسعود : ( أنه رأى نوراً بالليل فذهب فوجد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهم يدفنون ذا البجادين، والنبي صلى الله عليه وسلم يتناوله من أبي بكر ويودعه في قبره ويقول: اللهم إني راض عنه فارض عنه، فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: يا ليتني كنت صاحب الحفرة ) يعني: تفاؤلاً بفضل هذا الرجل المهاجر ومزيته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى دفنه بنفسه وقال عنه هذه الكلمة العظيمة، وكان ذلك الدفن بالليل.

وأيضاً: في مسألة الدفن ليلاً وجوازه، حديث في صحيح البخاري عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر فقال لأصحابه: متى دفنتموه؟ قالوا: البارحة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم )، والبارحة عند أهل اللغة: تطلق على الليلة التي قبل الليلة، يعني: الليلة التي خلت.

أو الليلة التي قبل اليوم، فكونه دفن البارحة معناه: أنه دفن بليل، لو كان دفن نهاراً لقالوا: دفناه أمس، ولو دفنوه اليوم لقالوا: اليوم، فلما قالوا: البارحة، دل على أنهم دفنوه بليل، وكان هذا هو المعمول، وهذا هو الدليل الثالث: أن الدفن ليلاً هو المعمول به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

القول الثاني: أن الدفن ليلاً مكروه، وهذه رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الحسن البصري .

واحتجوا بحديث الباب، وفيه: ( زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفن الرجل ليلاً حتى يصلى عليه )، رواية جابر عند مسلم، ونقول: إن الاستدلال بهذا الحديث لا يتم لسببين:

الأول: أن الزجر هنا متوجه ليس إلى خصوص الدفن ليلاً، وإنما متوجه إلى خصوص ليلاً حتى يصلى عليه، فإذا صلي عليه ليلاً ودفن زال المنع، فالنهي هنا أن يدفن ليلاً دون أن يصلى عليه.

أيضاً: الجواب الثاني على الحديث حديث جابر أن نقول: إن المنهي عنه هو الدفن ليلاً إذا كان لسبب معين، مثل أن يكونوا دفنوه ليلاً، يعني: تحروا أن يؤخروا دفنه إلى الليل لغرض ما، مثل: أن يكون كفنه رديئاً ولا يريدون أن يرى أو ما أشبه ذلك، فهذا هو الذي زجر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء في الحديث: أن النبي عليه السلام: ( ذكر رجلاً من أصحابه دفن ليلاً وكفن في كفن غير طائل ) يعني: كفناً غير حسن وغير مناسب، وقد لا يكون ساتراً للميت، فنقول: هذا ما يتوجه النهي عنه جمعاً بين النصوص.

القول الثالث: أن ذلك حرام، وهذا مذهب ابن حزم كما صرح به في المحلى واحتج بلفظ: (زجر)؛ لأن الزجر هو أشد النهي، الزجر: هو أشد النهي، يزجرهم يعني: ينهاهم نهياً شديداً.

ولكن يؤخذ على مذهب ابن حزم هنا أنه أخذ لفظ الزجر بحرفه ولم يأخذ اللفظ الآخر، وهو قوله: ( أن يدفن الرجل ليلاً حتى )..

مداخلة: ( يصلى عليه ).

الشيخ: ( حتى يصلى عليه )، ولو جمع بينهما لم يتوفر له هذا الاستدلال.

الحديث فيه جواز الدفن ليلاً من غير كراهة .

وفيه أيضاً: مشروعية العناية بالكفن، وأن يكون الكفن حسناً .

الحديث رقم (594): حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: ( لما جاء نعي جعفر حين قُتل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم )، الحديث رواه الخمسة إلا النسائي .

تخريج الحديث

ما يتعلق بتخريجه:

فقد رواه: أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي كلهم في كتاب الجنائز، باب الطعام يصنع لأهل الميت، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، ورواه أحمد وعبد الرزاق .

معاني ألفاظ الحديث

ما يتعلق بألفاظ الحديث:

( أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه نعي جعفر

)، النعي ما هو؟

هو الإخبار بوفاة الإنسان، وقد سبق أن بيناه، وبينا أن هذا الحديث وغيره دليل على جواز النعي إذا كان لمجرد الإخبار.

وقوله: ( قد أتاهم ما يشغلهم ) يعني: ما يلهيهم، فالمصيبة التي نزلت بهم تلهيهم عن الاشتغال بأمر دنياهم من صناعة الطعام وغيره.

فوائد الحديث

في الحديث فوائد: منها: صنع الطعام لأهل الميت، وأن ذلك مشروع كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، أن يصنع جيرانهم أو قرابتهم أو معارفهم فهذا مستحب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا لآل جعفر

طعاماً ). ومن فوائد الحديث: تحمل مؤنة الميت أيضاً، وأنه ينبغي أن يشترك الناس فيها، يعني: ما يتعلق بتغسيله، وتجهيزه، والصلاة عليه، ودفنه.. وما سوى ذلك، وقد جرت عادة العرب أنهم كانوا يتعاونون. والبارحة كنا نشرح قوله تعالى: (( وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ))[الماعون:7]، فـابن العربي

رحمه الله يقول في أحكام القرآن : إن الحديث أصل في المشاركات عند الحاجة، وقد كان للعرب مشاركات ومواصلات في باب الأطعمة باختلاف الأسباب، يعني: أن العرب كانوا اعتادوا على مثل هذه المروءات والأخلاق فيما بينهم من زمن الجاهلية وفي زمن الإسلام، في التعاون، فيما يتعلق بوجود مصيبة أو نازلة.. أو غير ذلك.

ما يتعلق بتخريجه:

فقد رواه: أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي كلهم في كتاب الجنائز، باب الطعام يصنع لأهل الميت، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، ورواه أحمد وعبد الرزاق .