شباب مشغولون بلا مهمة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أيها الأحبة في الله: أشكر الله جل وعلا، ثم أشكركم، وأسأل الله أن يجزيكم خير الجزاء، فالفضل لله ثم لكم، حيث أكرمتموني وشرفتموني بهذه الدعوة وبهذا المقام بين أيديكم، وما ذكره فضيلة الشيخ/ محمد المحيسني في مقدمته أسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، إنما هو حسن ظن، نسأل الله أن نكون خيراً مما تظنون، وأن يغفر لنا ما لا تعلمون.

أحبتنا في الله: حديثنا عن شباب مشغولين بلا مهمة، هذه المشاغل التي أشغلت هذا الشباب أين ظرفها؟ وأين مكانها؟

إنها في الزمان، إنها في الوقت، إنها في العمر، إنها في الحياة، إنها في العصر الذي أقسم الله به: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2].. وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2].. وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2] كل هذه المشاغل هي في الساعات، وفي الليالي، وفي النهار: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17].

هذا الزمن -أيها الأحبة- الذي بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد مسئول عنه حيث قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) هذا الزمن الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اغتنامه، والانشغال فيه بما يعود على العبد بمنافع الدنيا والآخرة، حثَّ النبي العباد على الاشتغال بما ينفع، ونادى بعبارة الغنيمة فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس) ولفظ (الغنيمة) فيه إشارة على أن الأمر إن لم تبادره فاتك، ولفظ (الغنيمة) فيه إشارة إلى أنها لا تنال إلا بجهاد ومجاهدة نفس، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، ودنياك قبل آخرتك).

أيها الأحبة في الله: هذا الزمن الذي هو خزينة لأعمالنا، وفي نهاية المطاف نرى الغبن والخسارة في حال من ضيعه ولم يغتنمه، ولم يملأ ساعات أيامه ولياليه بما ينفعه، يقول أحد الحكماء: "سويعاتك طريقك إلى القمة" والصواب: أن السويعات طريق إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن كانت الأعمال شاقة، فأنجزوا كل يوم عملاً واحداً، فبمضي الأيام تنجزون أعمالاً كثيرة.

أيها الأحبة: إن أناساً من شبابنا وأحبابنا وإخواننا لا يدركون أهمية الوقت، ولا يعرفون أهمية الزمن والعمر والحياة، لا يعرفون قيمتها، فكيف يحفظون؟! وكيف يشغلون الزمن بما ينفعهم؟! وكما قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله:

الوقت أنفس ما عنيت بحفظـه     وأراه أهون ما عليك يضيع

ولأجل ذا لما كان التغابن عند أقوام وجدوا الفراغ فلم يشغلوه بما ينفعهم، وأنعم عليهم بالصحة فلم يسخروها فيما يعود عليهم بالكرامة في دنياهم وأخراهم، كانوا حقاً من المغبونين: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

وكلماتي هذه إليكم -أيها الأحبة- وإلى الشباب خاصة إنما هي دعوة للتفكر والتأمل، ولحظة حساب وعتاب ومناقشة، سيما ونحن في بداية عام جديد نرسلها ونهديها إلى كل فتىً وفتاة، وإلى كل رجل وامرأة، وإلى كل ذكر وأنثى، وصغير وكبير، فاعلموا أحبتنا في الله: أن الأصل في المسلم والمسلمة أنه كلما عاش يوماً ازداد علماً وعملاً وفقهاً، ونفعاً للآخرين، ولأجل ذا كان خير الناس من طال عمره، وحسن عمله، لأن في مزيد من الأيام والليالي زيادة بالحسنات، وتكفير للزلات والسيئات.

الأصل والحقيقة -أيها الأحبة- أن حياة المسلم كلها لله جل وعلا، لا يجد فراغاً ينفقه أو يصرفه في معصية الله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] الإنسان مشغول لا محالة بطاعة أو بمعصية، ومن ظن أنه يقف في برزخ، أو في مرحلة بين الخير والشر، وفي مقام بين أن يحسن أو يسيء فقد وهم وظن خطأً، يقول ربنا جل وعلا: إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:35-37] قال بعض السلف : ليس في الأمر توقف، إما تقدم في طاعة، وإما تأخر في معصية، وقال الشافعي رحمه الله: نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فكل نفس مشغولة إما بحق وإما بباطل، فشغل المؤمنين طاعة الله، وعمل فيما لأجله خلقوا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وشغل الضالين سعي في بوار، وإنفاق في هلاك، وقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم: (كل يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).

شباب شغلوا بالجلوس على الطرقات

أيها الأحبة في الله: كم من شاب حاجة أهله إليه عظيمة، يحتاجون إليه في رعايتهم، وإصلاح شأنهم، وتأمين حاجتهم، وعلاج مريضهم، وصلة ذوي رحمهم، وبر قريبهم، ومع ذلك تجد الأسرة تحتاج إلى السائقين وبعض الخدم، ولدى الأسرة شباب تفيض جهودهم، وتتعدى قدراتهم حجم أعمال بيوتهم، ولكنهم لا يقومون بهذا، لماذا؟

لأنهم مشغولون! ومشغولون بماذا؟

مشغولون بلا مهمة.

وتجد الأسرة تجمع وتستوفد الخادمات والمربيات، ولو وزعت الأعمال بين البنات في الدار؛ لأغنت عن وجود هؤلاء الخادمات، ولعادت بالنفع على البنات؛ لكي يكن طاهيات ماهرات قادرات متحملات مسئولية المنازل، ولكن البنات مشغولات..!

مشغولات بماذا؟

إنهن مشغولات بلا مهمة.

الشباب والرجال مشغولون أو متشاغلون، بلقاءات، وجلوس، وسهر طويل على الأرصفة، وحديث لا ينقضي، ومواعيد متجددة، والقوم قد جلسوا في الطريق، ولكن البعض منهم ما جلس كما جلس الصحابة في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات! فقالوا: يا رسول الله! ما لنا عنها بد هي مجالسنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنتم فاعلين لا محالة فأعطوا الطريق حقه، فقالوا: وما حق الطريق؟ قال: رد السلام، وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

إن أقواماً جلسوا على الطرقات، وربما احتجوا بهذا الحديث على جواز الجلوس على الأرصفة، ولسنا بصدد تحريم أو تحليل الجلوس على قوارع الطرق، ولكننا نقول لمن جلسوا: بماذا أنفقتم وقضيتم وأمضيتم ساعات النهار وساعات الليل؟

ربما جلس البعض إلى ساعات متأخرة من الليل، قد قام فيها العباد في محاريبهم، وقام فيها المتهجدون بين يدي ربهم، وتنزل ربنا جل وعلا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فيقول: (هل من تائب فأتوب عليه؟ وهل من مستغفر فأغفر له؟ وهل من سائل فأعطيه؟ وهل من داع فأجيبه؟) إنها ساعات تجاب فيها الدعوات، وتقال فيها العثرات، وتسكب فيها العبرات، ولكن بعض أحبابنا وشبابنا في تلك الساعة جالسون في الطرقات، ينظرون في الغاديات والرائحات، وينظرون في العابثين والعابثات، جلوس على هذه الطرقات والأرصفة، وناهيك عما يدور في هذه المجالس إن لم يكن غيبة أو نميمة، أو سخرية أو استهزاء أو انشغالاً بالورق والبلوت، ولسنا بصدد تقرير الأحكام الشرعية بهذا، ولكن لقد جلس هؤلاء، ولو قلت لأحدهم: أدعوك الليلة إلى محاضرة، أدعوك إلى حلقة ذكر، أدعوك إلى روضة من رياض الجنة، أدعوك إلى مجلس تغشاه السكينة، وتتنـزل عليه الملائكة، ويذكر الله الذاكرين فيه في ملئه الأعلى، لقال: لا وألف لا، إني لمشغول في هذه الليلة، ولو تتبعته لوجدت شغله على الرصيف، على الدائري، على الطريق الأصفر أو الطريق الأحمر والأبيض.

فكل يدعي الشغل، وكل يزعم الانشغال، ولكن في ماذا؟

نحن نعلم أن رجلاً أو صغيراً أو كبيراً لا يرضى أن يقذف أو يوصم بالفراغ فيقال: فلان فارغ، فلان لا حاجة عنده، فلان لا شغل له، فلان لا غاية يرنو إليها، أو يصبو إلى تحقيقها، لا تجد أحداً يرضى، ولو قابلت رجلاً فارغاً من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه فلن يقول لك: إني فارغ، ولكن سيقول لك: إني مشغول.

مشغول بماذا؟ عجب عجاب!

شباب أهل ملاهٍ ودخان وشيشة

وطائفة مشغولون بسهر على الدخان والشيشة والنارجيلة، ومكالمات هاتفية، وجلوس بالطرقات، ودوران بالسيارات في الأحياء والشوارع والميادين، وربما كانت هذه الجولات حول الأحداث وقرب المردان، وتجوال للمعاكسات، ورفع أصوات لمزمور الشيطان، وأصوات الغناء، وسهر على شوارع مضاءة، وسهر للعزف والطبل، فترى فئاماً أو جماعات صغيرة من الشباب قد جلسوا وأحدهم بيده الناي، والآخر: العود، والثالث: الطبل، والرابع: الربابة، والخامس: آلة لهو، ثم يجتمعون يجزون هذه الأوتار، ويخاطبون هذه الجلود، وينثرون الآهات على الطريق، وربما سكب بعضهم عبرات شيطانية قد هيج الشيطان أنفاسه، ورفع عواطفه، فسمع صوت أغنية ففاضت عينه من شدة تحكم الهوى والشهوة في نفسه إلى درجة البكاء، ولو ذكر الله لاشمأز ولا حول ولا قوة إلا بالله! بعضهم لو ذكر الله لقست قلوبهم بدلاً من أن تلين وتذعن وتستكين لهذا الخطاب، وصدق ابن القيم رحمه الله فيما ذكر في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، حيث قال عن طائفة من الذين شغفوا وأولعوا بهذا اللهو حتى صرفهم عن ذكر الله والإخبات له قال:

تُلي الكتاب فأطرقت أسماعهم     لكنه إطراق ساه لاهي

وأتى الغناء فكالحمير تراقصوا     والله ما طربوا لأجل الله

دف ومزمار ونغمة شادن     فمتى رأيت عبادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم..

الأمر والنهي، المندوب والمكروه، الواجب، المخاطبة بالأحكام الشرعية التكليفية أصبحت ثقيلة

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا     تقييده بأوامرٍ ونواهي

لأن كلام الله: افعل .. لا تفعل، امض .. لا تمض، واذهب .. لا تذهب، أمر ونهي.

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا     تقييده بأوامرٍ ونواهي

ورأوه أعظم قاطع للنفس     عن لذاتها يا ذبحها المتناهي

بعضهم من شدة تحكم الهوى في نفسه، يقول: سلني ما بدا لك، واطلبني حاجتك، ومرني بما شئت، إلا اللهو، إلا الغناء، إلا الدف، إلا المزامير، إلا الموسيقى، فهي في دمي ونفسي وروحي، هي نبضة من فؤادي، وخلجة من خلجات نفسي، وقطعة من لحمي، يظن ويؤكد له الشيطان أنه لا يستطيع أن يعيش بدون هذا اللهو وبدون هذا الباطل.

شباب اشتغلوا بالشعر والتشبه بالكافرين

وشباب آخرون اهتموا واشتغلوا بتسريحة الشعر التي تشبهوا فيها بالكفار، عجباً رأيت! وربما بعضكم رأى ما رأيت، رأيت شباباً يدورون في أسواق كأن رءوسهم بعض العناكب أو الخنافس أو العقارب، ورأيت شباباً -ولعل بعضكم رأى ما رأيت- تجد في أشكالهم وفي وجوههم أمراً لا تحمده إن لم يفزعك أو يخوفك من منظره، فتسأل عن ماذا؟

سئل أحد الشباب عن شاب كان قد جعل على رأسه قصة شعر معينة فقيل له: ما هذه القصة؟ فكان الجواب: إنها قصة كلب ديانا زوجة الأمير تشارلز، أصبح الكلب في درجة يتأسى ويقتدى به، لم يقف التأسي والاقتداء بالفجار أو الفساق أو الكفار عند بعض الشباب، بل تجاوز التأسي إلى كلاب الفجار، وما يدريكم! "وعش رجباً ترى عجباً" أن يأتي يوم نسمع بشباب يقلدون قصة قطة تاتشر، أو قصة معينة، ومن عاش سيرى عجبا.

شباب همهم تلميع وتلوين السيارات

وأخرون من الشباب تجدونهم قد اهتموا بالسيارات، تلميعاً وتشكيلاً وتلويناً، وأحوالاً عجيبة وغريبة، لأجل ماذا؟ أهي خيول تسرج للجهاد في سبيل الله؟!

أم دواب تعد للسفر للدعوة إلى الله جل وعلا، وتعليم الجهلة، والتوحيد، وتحفيظ القرآن، وتعليم الناس الصلاة الصحيحة، والوضوء الصحيح، والعبادة الصحيحة؟!

لا وألف لا. إنما إعداد هذه السيارة ليتسنى الدوران عليها من بعد العصر أو قبيل المغرب حتى ساعات متأخرة من الليل.

إنك والله لتعجب أن تجد هذا الشاب مشغولاً، ولو أغلقت دونه الطريق لحظة وهو في سيارته لأزعجك بمنبه الصوت، وعلق منبه الصوت فوقك، وربما أخرج عنقه ورأسه، ورفع صوته بالسباب والشتيمة: لا تغلق الطريق، لا تشغل الناس، لا تقطع الناس عن أحوالهم، ولكن إلى أين هو ذاهب؟

أين شغله ومشغلته وحاجته وغايته ومهمته؟

مجرد أنك أغلقت الطريق دونه ساعات ربما لأمر لك فيه عذر في إغلاقه، ولكنه لم يتحمل لأنه مشغول، إنه في قرارة نفسه مشغول، ولكن تابعه إلى نهاية المرحلة تجده مشغولاً بلا مهمة.

شباب همهم ارتداء الملابس الملونة

وفريق من الشباب أصبح لا هم لهم إلا أن يرتدوا هذه الملابس العجيبة، فانلّة أو فنيلة تجد فيها أربعين لوناً كأنها بيف -البيف الذي تحمل فيه الدلال والأباريق وغيرها في الغالب أنه يجمع وينسج من قطع وألوان متفرقة من فضلات الأقمشة- فبعضهم أصبح همه أن يلبس هذا القميص ذو الألوان الغريبة العجيبة المتعددة، ويكتب فوق هذا القميص عبارات عجيبة وغريبة، فيها من الفحش والبذاءة والدعوة إلى المنكر، والبراءة من الحياء والفضيلة، والجرأة على الرذيلة أصناف وأشكال وألوان، ولكن مساكين قد انشغلوا واشتغلوا بهذا بلا مهمة أو غاية.

شباب مشغولون بالرياضة

وفريق من الشباب مشغولون بالرياضة، مشغولون بالكرة وبالدوري وكأس العالم، ودوري الصعود والتصفيات، والمباريات الرباعية، والنهائي، ولا يقف الانشغال عند هذا الحد، قبل المباراة جلسات طويلة: ما رأيك.. من الذي سيسدد أهداف المباراة اليوم؟ ومن الذي سيفوز اليوم؟

وما هي خطة النادي في الهجوم على الأعداء أصحاب الفريق والآخر؟

وما ظنك أن يكون حظ هذا الفريق من النقاط؟ وهل يتأهل لدوري الصعود؟

وهل ينافس على الكأس؟

ولو سمعتم أو استرقتم السمع على شباب يتحاورون لربما وجدتم بعضهم يحلف بالطلاق، ويقسم بالعتاق، ويقول ألفاظاً عجيبة، وأيماناً غريبة من أجل تحليل وتحكيم وتقرير أحوال هذه المباراة، شغل شاغل، وأصوات مرتفعة، وجواب، وخطاب، وبرهان واعتراض ودليل، وكلام وحجة، والقضية كلها انشغال بلا مهمة، من أجل قطعة جلدية منفوخة تتبادلها الأقدام يمنة ويسرة، والجماهير المسكينة تهتف بأسماء اللاعبين، وتهتف بأسماء هذه الأندية، وبعضهم يشتد نَفَسُه، وتقف زفراته لحظة، خاصة إذا تعادل الفريقان، ولم يفز منهم أحد على الآخر، ثم وصل الأمر إلى درجة التنافس على تسديد الهجمات على الأبواب، رام وحارس يسدد هجمات على الباب، والآخر مثل ذلك، انظر حال الصمت والوجوم، حتى لو رمي بإبرة لسمع صوتها، في شدة هذه اللحظة التي وجمت فيها النفوس، واشرأبت فيها الأعناق، وشخصت فيها الأبصار، فالمسألة غريبة، ولو أن واحداً من هؤلاء المنشغلين بالمشهد يوم يجري اللاعب رويداً رويداً، ذو القدم الذهبية دنت إلى الكرة كقاب قوسين أو أدنى، إلى بوابة هذا المرمى، لو كلمه أحد لضربه وقال: دعنا ننظر النهاية.

مسألة خطيرة، وكأنما هي مُنصَرفة إلى جنة أو إلى نار، انشغال يبلغ حد اللب، والأخذ بالفؤاد والبصر والسمع، ولو سرق ما في جيبه، وسلب منه الشيء الكثير، والله ما علم من شدة انشغاله بهذا الحدث، ولكن ما هي النتيجة؟ انشغال بلا هوية.

شباب مشغولون بالغناء

وآخرون من الشباب مشغولون بالأغنية، بالفن، باللحن، بالكلمة، بالطرب، بالنسخة الأصلية، بآخر شريط، بالكرنبان وبالسهرة، وحدث ما شئت، لديه صورة للفنان الفلاني وهو يصعد طائرة، والآخر عنده صورة للفنان الفلاني وهو يدخل بوابة، وآخر عنده صورة قد علقها في حجرته وهو يفعل كذا .. أو وقع له على فانلّة، أو وقع له على ما يسمونه دفتر الذكريات، اهتمام عجيب، ومع ذلك انشغال بلا مهمة.

شباب مشغولون بالأفلام والمسلسلات

وفريق آخر من الشباب مشغولون بالأفلام والمسلسلات، وأغلب الشباب إلا من رحم الله من غير المستقيمين التائبين اليوم لا يقل حجم عدد أشرطة الواحد منهم عن المائة، أفلام، منذ أيام جاء إلى مكتب الجاليات شاب في منطقة البديعة في الرياض وسلم لأحد الإخوة قرابة تسعمائة شريط، قال: كانت مبرمجة مفهرسة مبوبة لا شغل لي إلا أن أتابع من شريط في شريط، ومن فيلم إلى فيلم، ومن مسلسل إلى مسلسل، وهذا غيض من فيض، وعينة من شريحة موجودة، أفلام الحب، أفلام الرعب والغرام والجنس، وحديث عجيب بين الشباب حول بعض المسلسلات والسهرات اليومية، يجلسون في الصباح أو في الظهر، هل رأيت المسلسل البارحة؟ بلى.

ألم تتأثر؟

فيقول لك: إنه خائن، إنه غادر، أبعد هذا الحب يطلقها، أبعد هذا الحب يفارقها؟! وآخر يقول: ماذا تتوقع نهاية المسلسل الفلاني؟

هل يجدون اللص؟

هل يجدون المجرم؟

هل يعثرون على الضالة الضائعة؟

وحوار ونقاش طويل وعريض، وهم يعلمون أن المخرج لو قال للممثل: لا تضحك؛ لم يضحك، ولو قال له: ابك، لبكى، ولو قال له: ارفع رجلك أو يدك لفعل ذلك، إنما هو تمثيل وكذب وأباطيل وهراء، ومع ذلك أخذت اشتغال وانشغال عدد وشريحة من شبابنا حتى أخذت عليهم الليل والنهار.

لو قيل لأحدهم: قم اذهب بأمك إلى مستشفى، أو بأختك إلى مدرسة، أو بأخيك إلى معهد لقال: إني مشغول، وما شغله إلا هذه الأفلام والمسلسلات.

شباب مشغولون بالترحال والسفر

وفريق من الشباب مشغولون بالترحال، كأن الواحد منهم مجبور ومكتوب عليه، ومكلف أن يجوب أقطار الدنيا، أمن أجل الدعوة إلى الله؟!

من أجل تبليغ دعوة التوحيد؟!

من أجل محاربة البدع؟!

من أجل نصرة المظلوم؟!

من أجل الشفاعة للمحتاجين؟!

لا. من أجل برج على جبل، وبحيرة تحت جبل، وسهل أخضر، وحيوانات غريبة، وحدائق عجيبة، وجسور معلقة، وعمائر شاهقة، وطرق، أحوال وأحوال لشباب لا همَّ لهم إلا السفر والترحال، الأربعاء والخميس والجمعة لا يفوتها، لابد من السفر، فإن لم يستطع السفر إلى بلاد أوروبية أو شرق آسيا كان سفره إلى بلاد خليجية.

وأما الإجازات الرسمية فلا تسل عن إهماله لأولاده، أو إخوانه ومن هم في بيته من أجل أن يقضي هذه الأيام في السفر، والعجب -أيها الأحبة- أن بعض هؤلاء الذين يسافرون يخادعون أنفسهم بدعوى السياحة، ويخادعون أنفسهم بدعوى اكتساب المعرفة وجمع المعلومات، فلا أحد منهم يقول: إني مسافر للخنا والزنا، ولا أحد منهم يقول عن نفسه: إنه مسافر إلى الفساد والفاحشة، بل إن أحد المدرسين بالأمس أخبرني عن واحد من الذين منَّ الله عليهم بالتوبة والاستقامة، وهو يعرف عن نفسه كثرة السفر لأجل الفاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول: ما تجرأت يوماً لأقول لنفسي في كل سفرة: إني مسافر إلى الزنا أو إلى الفاحشة، قال: وفي طريقي إلى المطار تنتابني شكوك ومخاوف أن تنقلب السيارة، أو أن أصطدم بأخرى، أو أن أصاب بحادث، وحينما تقلع الطائرة تنتابني شكوك ومخاوف أن تسقط الطائرة، فإذا نزلت إلى البلاد وإلى محط عصا الترحال بدأت بفعل ما قد عقدت الفعل عليه، ووقعت فيما حرم علي.

وطائفة قد شغلوا بالمخدرات، وغيبوا عقولهم عن واقعهم باختيارهم.

كل تلك مشاغل، والواحد منهم لو قلت له: اجلس، قال: إني مشغول، ولو دعوته لطعام قال: ألا تفهم إني مشغول.

أيها الأحبة في الله: كم من شاب حاجة أهله إليه عظيمة، يحتاجون إليه في رعايتهم، وإصلاح شأنهم، وتأمين حاجتهم، وعلاج مريضهم، وصلة ذوي رحمهم، وبر قريبهم، ومع ذلك تجد الأسرة تحتاج إلى السائقين وبعض الخدم، ولدى الأسرة شباب تفيض جهودهم، وتتعدى قدراتهم حجم أعمال بيوتهم، ولكنهم لا يقومون بهذا، لماذا؟

لأنهم مشغولون! ومشغولون بماذا؟

مشغولون بلا مهمة.

وتجد الأسرة تجمع وتستوفد الخادمات والمربيات، ولو وزعت الأعمال بين البنات في الدار؛ لأغنت عن وجود هؤلاء الخادمات، ولعادت بالنفع على البنات؛ لكي يكن طاهيات ماهرات قادرات متحملات مسئولية المنازل، ولكن البنات مشغولات..!

مشغولات بماذا؟

إنهن مشغولات بلا مهمة.

الشباب والرجال مشغولون أو متشاغلون، بلقاءات، وجلوس، وسهر طويل على الأرصفة، وحديث لا ينقضي، ومواعيد متجددة، والقوم قد جلسوا في الطريق، ولكن البعض منهم ما جلس كما جلس الصحابة في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات! فقالوا: يا رسول الله! ما لنا عنها بد هي مجالسنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنتم فاعلين لا محالة فأعطوا الطريق حقه، فقالوا: وما حق الطريق؟ قال: رد السلام، وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

إن أقواماً جلسوا على الطرقات، وربما احتجوا بهذا الحديث على جواز الجلوس على الأرصفة، ولسنا بصدد تحريم أو تحليل الجلوس على قوارع الطرق، ولكننا نقول لمن جلسوا: بماذا أنفقتم وقضيتم وأمضيتم ساعات النهار وساعات الليل؟

ربما جلس البعض إلى ساعات متأخرة من الليل، قد قام فيها العباد في محاريبهم، وقام فيها المتهجدون بين يدي ربهم، وتنزل ربنا جل وعلا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فيقول: (هل من تائب فأتوب عليه؟ وهل من مستغفر فأغفر له؟ وهل من سائل فأعطيه؟ وهل من داع فأجيبه؟) إنها ساعات تجاب فيها الدعوات، وتقال فيها العثرات، وتسكب فيها العبرات، ولكن بعض أحبابنا وشبابنا في تلك الساعة جالسون في الطرقات، ينظرون في الغاديات والرائحات، وينظرون في العابثين والعابثات، جلوس على هذه الطرقات والأرصفة، وناهيك عما يدور في هذه المجالس إن لم يكن غيبة أو نميمة، أو سخرية أو استهزاء أو انشغالاً بالورق والبلوت، ولسنا بصدد تقرير الأحكام الشرعية بهذا، ولكن لقد جلس هؤلاء، ولو قلت لأحدهم: أدعوك الليلة إلى محاضرة، أدعوك إلى حلقة ذكر، أدعوك إلى روضة من رياض الجنة، أدعوك إلى مجلس تغشاه السكينة، وتتنـزل عليه الملائكة، ويذكر الله الذاكرين فيه في ملئه الأعلى، لقال: لا وألف لا، إني لمشغول في هذه الليلة، ولو تتبعته لوجدت شغله على الرصيف، على الدائري، على الطريق الأصفر أو الطريق الأحمر والأبيض.

فكل يدعي الشغل، وكل يزعم الانشغال، ولكن في ماذا؟

نحن نعلم أن رجلاً أو صغيراً أو كبيراً لا يرضى أن يقذف أو يوصم بالفراغ فيقال: فلان فارغ، فلان لا حاجة عنده، فلان لا شغل له، فلان لا غاية يرنو إليها، أو يصبو إلى تحقيقها، لا تجد أحداً يرضى، ولو قابلت رجلاً فارغاً من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه فلن يقول لك: إني فارغ، ولكن سيقول لك: إني مشغول.

مشغول بماذا؟ عجب عجاب!

وطائفة مشغولون بسهر على الدخان والشيشة والنارجيلة، ومكالمات هاتفية، وجلوس بالطرقات، ودوران بالسيارات في الأحياء والشوارع والميادين، وربما كانت هذه الجولات حول الأحداث وقرب المردان، وتجوال للمعاكسات، ورفع أصوات لمزمور الشيطان، وأصوات الغناء، وسهر على شوارع مضاءة، وسهر للعزف والطبل، فترى فئاماً أو جماعات صغيرة من الشباب قد جلسوا وأحدهم بيده الناي، والآخر: العود، والثالث: الطبل، والرابع: الربابة، والخامس: آلة لهو، ثم يجتمعون يجزون هذه الأوتار، ويخاطبون هذه الجلود، وينثرون الآهات على الطريق، وربما سكب بعضهم عبرات شيطانية قد هيج الشيطان أنفاسه، ورفع عواطفه، فسمع صوت أغنية ففاضت عينه من شدة تحكم الهوى والشهوة في نفسه إلى درجة البكاء، ولو ذكر الله لاشمأز ولا حول ولا قوة إلا بالله! بعضهم لو ذكر الله لقست قلوبهم بدلاً من أن تلين وتذعن وتستكين لهذا الخطاب، وصدق ابن القيم رحمه الله فيما ذكر في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، حيث قال عن طائفة من الذين شغفوا وأولعوا بهذا اللهو حتى صرفهم عن ذكر الله والإخبات له قال:

تُلي الكتاب فأطرقت أسماعهم     لكنه إطراق ساه لاهي

وأتى الغناء فكالحمير تراقصوا     والله ما طربوا لأجل الله

دف ومزمار ونغمة شادن     فمتى رأيت عبادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم..

الأمر والنهي، المندوب والمكروه، الواجب، المخاطبة بالأحكام الشرعية التكليفية أصبحت ثقيلة

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا     تقييده بأوامرٍ ونواهي

لأن كلام الله: افعل .. لا تفعل، امض .. لا تمض، واذهب .. لا تذهب، أمر ونهي.

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا     تقييده بأوامرٍ ونواهي

ورأوه أعظم قاطع للنفس     عن لذاتها يا ذبحها المتناهي

بعضهم من شدة تحكم الهوى في نفسه، يقول: سلني ما بدا لك، واطلبني حاجتك، ومرني بما شئت، إلا اللهو، إلا الغناء، إلا الدف، إلا المزامير، إلا الموسيقى، فهي في دمي ونفسي وروحي، هي نبضة من فؤادي، وخلجة من خلجات نفسي، وقطعة من لحمي، يظن ويؤكد له الشيطان أنه لا يستطيع أن يعيش بدون هذا اللهو وبدون هذا الباطل.

وشباب آخرون اهتموا واشتغلوا بتسريحة الشعر التي تشبهوا فيها بالكفار، عجباً رأيت! وربما بعضكم رأى ما رأيت، رأيت شباباً يدورون في أسواق كأن رءوسهم بعض العناكب أو الخنافس أو العقارب، ورأيت شباباً -ولعل بعضكم رأى ما رأيت- تجد في أشكالهم وفي وجوههم أمراً لا تحمده إن لم يفزعك أو يخوفك من منظره، فتسأل عن ماذا؟

سئل أحد الشباب عن شاب كان قد جعل على رأسه قصة شعر معينة فقيل له: ما هذه القصة؟ فكان الجواب: إنها قصة كلب ديانا زوجة الأمير تشارلز، أصبح الكلب في درجة يتأسى ويقتدى به، لم يقف التأسي والاقتداء بالفجار أو الفساق أو الكفار عند بعض الشباب، بل تجاوز التأسي إلى كلاب الفجار، وما يدريكم! "وعش رجباً ترى عجباً" أن يأتي يوم نسمع بشباب يقلدون قصة قطة تاتشر، أو قصة معينة، ومن عاش سيرى عجبا.

وأخرون من الشباب تجدونهم قد اهتموا بالسيارات، تلميعاً وتشكيلاً وتلويناً، وأحوالاً عجيبة وغريبة، لأجل ماذا؟ أهي خيول تسرج للجهاد في سبيل الله؟!

أم دواب تعد للسفر للدعوة إلى الله جل وعلا، وتعليم الجهلة، والتوحيد، وتحفيظ القرآن، وتعليم الناس الصلاة الصحيحة، والوضوء الصحيح، والعبادة الصحيحة؟!

لا وألف لا. إنما إعداد هذه السيارة ليتسنى الدوران عليها من بعد العصر أو قبيل المغرب حتى ساعات متأخرة من الليل.

إنك والله لتعجب أن تجد هذا الشاب مشغولاً، ولو أغلقت دونه الطريق لحظة وهو في سيارته لأزعجك بمنبه الصوت، وعلق منبه الصوت فوقك، وربما أخرج عنقه ورأسه، ورفع صوته بالسباب والشتيمة: لا تغلق الطريق، لا تشغل الناس، لا تقطع الناس عن أحوالهم، ولكن إلى أين هو ذاهب؟

أين شغله ومشغلته وحاجته وغايته ومهمته؟

مجرد أنك أغلقت الطريق دونه ساعات ربما لأمر لك فيه عذر في إغلاقه، ولكنه لم يتحمل لأنه مشغول، إنه في قرارة نفسه مشغول، ولكن تابعه إلى نهاية المرحلة تجده مشغولاً بلا مهمة.

وفريق من الشباب أصبح لا هم لهم إلا أن يرتدوا هذه الملابس العجيبة، فانلّة أو فنيلة تجد فيها أربعين لوناً كأنها بيف -البيف الذي تحمل فيه الدلال والأباريق وغيرها في الغالب أنه يجمع وينسج من قطع وألوان متفرقة من فضلات الأقمشة- فبعضهم أصبح همه أن يلبس هذا القميص ذو الألوان الغريبة العجيبة المتعددة، ويكتب فوق هذا القميص عبارات عجيبة وغريبة، فيها من الفحش والبذاءة والدعوة إلى المنكر، والبراءة من الحياء والفضيلة، والجرأة على الرذيلة أصناف وأشكال وألوان، ولكن مساكين قد انشغلوا واشتغلوا بهذا بلا مهمة أو غاية.

وفريق من الشباب مشغولون بالرياضة، مشغولون بالكرة وبالدوري وكأس العالم، ودوري الصعود والتصفيات، والمباريات الرباعية، والنهائي، ولا يقف الانشغال عند هذا الحد، قبل المباراة جلسات طويلة: ما رأيك.. من الذي سيسدد أهداف المباراة اليوم؟ ومن الذي سيفوز اليوم؟

وما هي خطة النادي في الهجوم على الأعداء أصحاب الفريق والآخر؟

وما ظنك أن يكون حظ هذا الفريق من النقاط؟ وهل يتأهل لدوري الصعود؟

وهل ينافس على الكأس؟

ولو سمعتم أو استرقتم السمع على شباب يتحاورون لربما وجدتم بعضهم يحلف بالطلاق، ويقسم بالعتاق، ويقول ألفاظاً عجيبة، وأيماناً غريبة من أجل تحليل وتحكيم وتقرير أحوال هذه المباراة، شغل شاغل، وأصوات مرتفعة، وجواب، وخطاب، وبرهان واعتراض ودليل، وكلام وحجة، والقضية كلها انشغال بلا مهمة، من أجل قطعة جلدية منفوخة تتبادلها الأقدام يمنة ويسرة، والجماهير المسكينة تهتف بأسماء اللاعبين، وتهتف بأسماء هذه الأندية، وبعضهم يشتد نَفَسُه، وتقف زفراته لحظة، خاصة إذا تعادل الفريقان، ولم يفز منهم أحد على الآخر، ثم وصل الأمر إلى درجة التنافس على تسديد الهجمات على الأبواب، رام وحارس يسدد هجمات على الباب، والآخر مثل ذلك، انظر حال الصمت والوجوم، حتى لو رمي بإبرة لسمع صوتها، في شدة هذه اللحظة التي وجمت فيها النفوس، واشرأبت فيها الأعناق، وشخصت فيها الأبصار، فالمسألة غريبة، ولو أن واحداً من هؤلاء المنشغلين بالمشهد يوم يجري اللاعب رويداً رويداً، ذو القدم الذهبية دنت إلى الكرة كقاب قوسين أو أدنى، إلى بوابة هذا المرمى، لو كلمه أحد لضربه وقال: دعنا ننظر النهاية.

مسألة خطيرة، وكأنما هي مُنصَرفة إلى جنة أو إلى نار، انشغال يبلغ حد اللب، والأخذ بالفؤاد والبصر والسمع، ولو سرق ما في جيبه، وسلب منه الشيء الكثير، والله ما علم من شدة انشغاله بهذا الحدث، ولكن ما هي النتيجة؟ انشغال بلا هوية.

وآخرون من الشباب مشغولون بالأغنية، بالفن، باللحن، بالكلمة، بالطرب، بالنسخة الأصلية، بآخر شريط، بالكرنبان وبالسهرة، وحدث ما شئت، لديه صورة للفنان الفلاني وهو يصعد طائرة، والآخر عنده صورة للفنان الفلاني وهو يدخل بوابة، وآخر عنده صورة قد علقها في حجرته وهو يفعل كذا .. أو وقع له على فانلّة، أو وقع له على ما يسمونه دفتر الذكريات، اهتمام عجيب، ومع ذلك انشغال بلا مهمة.