أيها الشاب! من أنت؟!


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه .. جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعَبَدَ ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله! أحمد الله الذي جمعني بكم على اجتماع طاعة ورضوان من الله سبحانه وتعالى في حلقة من حلق الذكر، في بيت من بيوت الله سبحانه وتعالى، ما الذي جمعكم؟ ما الذي جاء بكم؟ ما الذي أخرجكم من بيوتكم؟ ألستم ترجون رحمة الله؟ ألستم تريدون ثواب الله؟ ألستم تسألون الله العتق من النار؟

ما الذي جاء بكم؟

ألستم تريدون رفعة في درجات الآخرة، وقرباً من النبي صلى الله عليه وسلم يوم تردون على حوضه الشريف صلى الله عليه وسلم؟

ما الذي جاء بكم؟

ألستم تريدون زيادة من الهدى أو نوراً من اليقين؟ أبشروا فإن الله كريم، والله لو اجتمع نصف هذا الناس عند ملك من الملوك أو غني من الأغنياء أو ثري من الأثرياء يريدونه شيئاً يقدر عليه، ولا ينقص من ماله إلا الشيء اليسير أو نصف اليسير أو أكثر من اليسير لأعطاهم، فما بالكم وأنتم تجتمعون في هذا المكان تريدون وجه الله، تسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار، والله جل وعلا لو أعطى كل واحد منكم مسألته، وتاب عليكم، وغفر لكم، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً، فأحسنوا الظن بالله، كما في الحديث: (أنا عند ظنِّ عبدي، وأنا مع عبدي إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه).

حديثنا أيها الإخوة عن الشباب، والشباب والله هم نعمة أو نقمة، هم مصيبة أو طامة أو خيرات تتدفق، أو أشجار تزهر وثمرات تعطي عطاءً طيباً في كل زمان ومكان.

الشباب إما بلاء على الأمم وإما دفاع وحصن منيع عن الأمم، وذلك بقدر ما يلتفت إليه الشباب، وبقدر ما يعتني به الشباب، وبحسب ما يتربى عليه الشباب، فإن تربوا على خير وجدت خيراً، وإن تربوا على غفلة وجدت غفلة، وإن تربوا على لهو وجدت لهواً.

أيها الشاب: أخاطب كل واحد فيكم الآن، وليس الشاب هو من كان في العشرين أو في الثلاثين، بل حتى أهل الأربعين، ومن شاب بدنه فإن عقله لا يزال شاباً نشيطاً بإذن الله في طاعة الله سبحانه وتعالى، أقول: أيها الشاب من أنت؟

أنت الذي ولدتك أمك باكياً     والناس حولك يضحكون سرورا

فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا     في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

أبدأ بكم بالمعاد قبل البداية، وبالنهاية قبل الانطلاقة، أيها الشاب من أنت وقت البداية، ومن أنت وقت النهاية؟!

كل واحد منكم نزل من بطن أمه وهو يبكي، أم أن أحدكم نزل من بطن أمه وهو يخطب، أو أن أحدكم نزل من بطن أمه وهو يضحك؟ لا، كل واحد منكم نزل من بطن أمه وهو يبكي.

فالسؤال الآن: نزلت من بطن أمك إلى الدنيا وأنت تبكي، فإذا نزلت من بطن الدنيا إلى القبر فهل ستنزل ضاحكاً، أم ستنزل باكياً متأسفاً على المعاصي والمعازف والملاهي والفواحش والسيئات التي اقترفتها وأصررت عليها واستمريت على فعلها؟

أخي أيها الشاب: الله جل وعلا خلقك في أحسن تقويم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ [التين:1-2] يقسم الله بهذه جميعاً لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4].

والله جل وعلا كرمك وجعل لك منزلة تفوق بها سائر البهائم فقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء:70].

والله جل وعلا على لسان نبيه جعل حرمة عظيمة لدمك، وحرمة لعرضك، وحرمة لمالك، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فقال: (ما أعظم حرمتك عند الله! وإن المسلم أعظم حرمة منك عند الله جل وعلا) الكعبة المشرفة أول بيت وضع للناس! حرمتك أيها الشاب ومنزلتك وعصمة دمك ومالك وعرضك بمنزلة تفوق منزلة الكعبة عند الله جل وعلا، لكن متى؟ إذا كنت عبداً لله!!

أما إذا كنت عبداً للهوى، وللشيطان، وللأفلام، وللمسلسلات، وللملاهي، وللأغاني، ولسهرات الليل، ولكل معصية فلست كذلك؛ لأن الله جل وعلا ذكر شأن الإنسان في القرآن على أحوال، فتارة يذكر الإنسان بأنه مكرم، وتارة يذكر بأنه عزيز، وتارة يذكر بأنه في منزلة عالية، وتارة يذكر أنه في الحضيض .. بل أقل درجة من البهائم، قال تعالى في شأن الكفار ومن أعرض عن ذكره: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] وقال تعالى في شأن من أعرض عن ذكر الله وترك آيات الله وانسلخ منها: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176].

فأنت أيها الإنسان إما أن تكون مثلاً لأعلى الأمور وأَجَلَّها وأرفعها منزلة، وإما أن تكون مثلاً لأهونها وأقلها مكانة، أنت إما نعمة أو نقمة:

دواؤك فيك وما تبصر     وداؤك منك وما تشعر

وتحسب أنك جسم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبر

لو أن الإنسان اجتهد أن يكون نافعاً ومؤثراً وقائداً لاستطاع أن يقدم خيراً كثيراً.

أبو بكر الصديق أليس شاباً من الشباب، أليس إنساناً من بني الإنسانية، ومع ذلك انظروا إلى فضله ومنزلته وبركته على دين الإسلام.

عمر بن الخطاب أليس شاباً من الشباب، أليس رجلاً من الرجال، انظروا إلى مكانته ومنزلته.

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، محمد بن عبد الوهاب، قادة الإسلام، المصلحون والدعاة أليسوا رجالاً وشباباً، أليسوا مثلكم، لكل واحد منهم عينان، وله أنف واحد، وله أذنان، وله يدان ورجلان، ما تميز عنكم بشيء، ولكن تميزت القلوب؛ فاختلفت الأفعال؛ وتباين السلوك.

إذاً: نحن باستطاعتنا أن نكون كهؤلاء القادة.

سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، أليس رجلاً من الرجال وفي نشأته كان شاباً من الشباب! انظروا بركة فضله وعلمه على العالم الإسلامي شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً!

الشيخ محمد بن صالح العثيمين أليس شاباً من الشباب ورجلاً من الرجال! انظروا بركة علمه وثمار خيره.

الشيخ سلمان العودة أليس شاباً من الشباب! انظروا ثمرة محاضراته ونتيجة علمه وفقهه.

إذاً أيها الإخوة: لا يوجد ماء معين من شربه كان عالماً ومن لم يشربه أصبح جاهلاً.

لا يوجد (بشت) أو (مشلح) معين من لبسه كان عالماً، ومن لم يلبسه فهو من الجهلاء.

لا يوجد طعام معين يأكله فئة فيكونون علماء، وتُحرَمَه أخرى فتكون من الجهلاء، لا. المسألة مسألة إرادة، أنت أيها الشاب عندك إرادة فإرادتك هذه هي التي تقول لنا: من أنت؟ إرادتك إن كانت في العلم فأنت عالم، وإن كانت في الدعوة فأنت داعية، وإن كانت في الجهاد فأنت مجاهد، وإن كانت في الشفاعة فأنت تقضي حوائج الآخرين، وإن كانت في حب الخير فأنت برٌّ رءوف رحيم، وإن كانت في كل ما يرضي الله، فأنت عبد من عباد الله جل وعلا.

وإرادتك إن كانت في حب الملاهي فأنت مطرب على وتر، وإن كانت في حب المسلسلات فأنت رجل تحفظ ألوان الأفلام ومختلف المسلسلات، وتحفظ نجوم السينما وأسماء الممثلين والممثلات والراقصين والراقصات.

إرادتك إن كانت تفكر في السفر إلى الخارج وتتخيل الراقصين والراقصات في الملاهي الليلية، في النوادي الحمراء، في الخلوات المختلطة، في البارات الممتلئة بالمشروبات المحرمة، فأنت عربيد سكير ماجن لا وزن لك، ولا كرامة لك عند الله ولا عند الخلق أجمعين.

إرادتك هي التي تحدد من أنت، تقول لنا: من أنا؟ نقول لك: أنت ابن إرادتك أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] ما الذي يردك؟ أليس القرآن بين يديك، كيف حفظه الصغار والناشئة، وبقيت سنين طويلة لا تحفظ منه جزأين أو ثلاثة؟ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم حفظها الشباب فماذا يردك أن تحفظها؟

كتب العلم أليست حمىً مباحاً لمن أراد أن يصل إليها بفضل الله جل وعلا، فلماذا لا تدخل المكتبات؟

لماذا لا تنطوي في لواء المراكز الصيفية وتستفيد من الأساتذة والمعلمين والمربين؟

لماذا تجعل الشوارع هي منتدى مجالسك؟ لماذا تجعل زوايا الحارات والبيوت هي مجالسك المفضلة؟

لماذا تجعل الأحاديث الساقطة والكلام التافه والقصص البذيئة ورديء الكلام هو غاية ما تحفظ وغاية ما تردد؟

لا تقل لي: من أنا؟ أنت ابن إرادتك، أنت ابن اهتمامك.

وإذا كانت النفوس كباراً     تعبت في مرادها الأجسام

صدام قاتله الله ولعنه، وأسأل الله أن يظهر فيه النقمة للمسلمين أجمعين في الدنيا قبل الآخرة، أليس فرداً واحداً؟ بلى، ومع هذا ماذا فعل بالناس جميعاً؟

لذلك إذا وجدت الإرادة وسخرت في الخير؛ قلبت الدنيا رأساً على عقب، وحينما يسخر الإنسان التخطيط والتدبير والعلوم والصناعات في الشر -وهو إنسان واحد- يكون شؤم عمله على البشرية كلها، والإنسان إذا سخر كل ما لديه من أجل العلم والدعوة ونشر الخير ونفع الناس وتعليم الجاهل وهداية الضال؛ فإنه يستطيع أن يكون من أعظم بوابات التاريخ معرفة وعلماً واطلاعاً.

فيا شباب لا تقولوا: لا نستطيع.

لا تقولوا: نحن على هامش الحياة.

لا تقولوا: نحن لا نستطيع أن نقدم رجلاً أو نؤخر أخرى.

لا تقولوا: نحن من سقط المتاع أو من عامة الرعاع، لا، لا، هذا كلام مرفوض ولا يقبل من شاب أبداً.

أيها الشاب أسألك بالله: خلق الله في عينك آلاف الأجهزة من الشبكية والقرنية والبؤبؤ والحدقة والرمش والعدسة والعصب الذي يوصل الصورة إلى المخ ... مئات الأجهزة في جارحة واحدة، هل خلقت لك هذه لكي تنظر بها إلى الأفلام والمسلسلات؟

صدرك هذا فيه من الأجهزة التنفسية المعقدة التركيب من الرئة والشعيبات الهوائية وما يتصل بها من الشعيرات الدموية، ودونها الجهاز الهضمي وما يتعلق به من المفرزات والمهضمات والمتجاوزات والتي ترفض والتي تقبل والتي تدفع والتي تنفع بإذن الله جل وعلا، في كل قطعة من بدنك أجهزة معقدة، أتظنون أن الله خلق هذه عبثاً؟! أتظنون أن الله خلقها لتكون سدى؟! أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].. أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [القيامة:36-39]

ألم تك نطفة؟ ألم تك علقة؟ ألم تك مضغة؟! ثم صورك الله وزينك وجملك وجعلك في أحسن تقويم، أكل هذا من أجل أن تكون ببغاء تقلد ما يردده الأعداء، أو قرداً يردد ما يفعله الماجنون والفاسقون؟

لا والله ما خلقنا لهذا، يقول الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

الهدف الذي من أجله وجدنا لا يحتاج إلى كثير فلسفة.

اسأل جدتك وجدك: لماذا خلقنا؟

يقولون لك: خلقنا لطاعة الله جل وعلا، والدليل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

يقولون: إن عجوزاً من العجائز كانت في الطريق، فمر رجل ومعه كوكبة من الرجال، فقالت: من هذا؟ قالوا: ألا تعريفنه! هذا هو الرازي الذي أوجد مائة دليل على وجود الله، فقالت العجوز: أخبروه أن عنده مائة شك في وجود الله، فلما بلغه الكلام قال: صدقت.

نهاية إقدام العقول عقال      وآخر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا     وغاية مسعانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا     سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

عجوز تعرف دلائل الوحدانية بأبسط أدوات ووسائل الفطرة.

ورجل أعرابي لما سمع قارئ يقرأ قوله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2] صرخ وقال: بعث ورب الكعبة، لا بد للزائر أن يرتحل. فهكذا القلوب التي صفت بفطرة نقية وسلمت من المؤثرات الخارجية؛ أصبحت قادرة على استنباط حقائق الكون.

يقول الشيخ الزنداني حفظه الله -وهو أستاذ كبير في علم وظائف الأعضاء-: سألت هذا البروفيسور فقلت له: هل يوجد من خلال دراستك وتجاربك المعملية وتشريحك لجسم الإنسان .. هل وجدتم في الإنسان جزءاً وجد عبثاً؟

قال: لا، كلما شرحنا هذا الإنسان، وأجرينا عليه التجارب، وبحثنا فيه؛ وجدنا اكتشافات جديدة، ووجدنا أن لكل جزء ونقطة وعرق وذرة في جسم هذا الإنسان .. وجدنا لها وظيفة.

قال الشيخ الزنداني لهذا البروفيسور الكافر: هل الوظائف التي وجدتموها في جسم الإنسان تعمل منفصلة أم مترابطة؟ أي: هل اليد تعمل بمعزل عن العقل، والعقل يعمل بمعزل عن الهضم، والهضم يعمل بمعزل عن التنفس، والتنفس يعمل بمعزل عن الحركة؟

قال: لا، الثابت في علم وظائف الأعضاء أن الإنسان كل عضو وجد فيه وكل جارحة وجدت فيه لها مهمة ولها وظيفة، وكل وظيفة مرتبطة بوظيفة العضو والجزء الآخر. أي: لا يمكن أن تقول: إن هذه تعمل بمعزل عن الأخرى.

يقول الشيخ الزنداني: هذا كلام جميل، إذاً: هذه الأنملة لها وظيفة ووظيفتها مرتبطة باليد، واليد لها وظيفة ومرتبطة بالجسم، وجهاز التنفس له وظيفة ومرتبط بالعقل، والعقل له وظيفة ومرتبط بالبدن، لكل شيء وظيفة.

قال: نعم.

قال الشيخ الزنداني : فما وظيفة هذا الإنسان الطويل العريض بكامل جسمه؟

قال البروفيسور الأبله: لا أدري. لا دريت ولا تليت إن شاء الله.

أولئك يعرفون أدق الحقائق والمعلومات في ذرة في جسم الإنسان، ولا يعرفون لماذا وجد هذا الإنسان كله.

مثلما قيل: الرجل الذي يشرب الماء بعينه أليس مجنوناً؟ قلنا: قلنا: بلى؛ لأنه لا يستخدم العين في غير ما خلقت له.

والرجل الذي يشم الطيب بركبته أليس مجنوناً؟ بلى؛ لأنه يستخدم عضواً للشم أصلاً.

إذاً: مجنون من استخدم جارحة لغير ما خلقت له، فما بالك بمن استخدم الجسم كله في غير ما خلق الله، أليس هذا سيد المجانين؟ بلى والله، ولكن جنون الناس في هذا الزمان يسمى بجنون العقلاء، تجد أقواماً يسمون عقلاء وتصرفاتهم تصرفات المجانين.

أيها الشاب: نريدك أن تعرف أن الله أودع في بدنك أدق الأمور وأخطرها، لا تقل: أنا ليس لي وزن، وليس عندي مال، وليس لي مكانة، ولا قدر.

أولاً: إذا كنت تريد أن تسأل عن مقدار ما تملك من الأموال؟

نقول لك: تعال يا أخي! أنت ليس لديك مال، ولكن أتبيع عيناً من عيونك بنصف مليون؟ يقول: لا، بمليون. يقول: لا، بمليونين. يقول: لا، بأربعة ملايين. يقول: لا، بخسمة ملايين. يقول: لا. تبيع يداً من يديك بخمسة ملايين؟ يقول: لا، تبيع رجلاً من رجليك بعشرة ملايين؟ يقول: لا، تبيع رئة من رئتيك بخمسة ملايين؟ يقول: لا. إذاً كم تملك من الملايين. تملك شيئاً عظيماً من الأموال الطائلة، ألا وهي في نعمة العافية.

إذاً أيها الشاب وزنك لا يقدر بالمال، وإذا أردت أن تعرف هل الوزن يقدر بالمال، اسأل التجار الذين يملكون السبعين والثمانين والمائة مليون وهم يحرمون من الطعام، أو يحرمون من اللذائد أو الملذات، أو يحرمون من كثير من الأمور، تسألهم ما قيمة هذه الملايين؟

بالعكس والله إن هؤلاء يحترقون، كما قيل عن تاجر ثرى في أرض الحجاز - هذه قصة واقعية - وجد عاملاً من أهل اليمن، اشترى أربع خبزات وكيلو موز، وأخذ يضع الموز وسط الخبز، ثم يلفه على بركة الله، والتاجر ينظر إليه نظراً لا يصرف البصر عنه، فلما انتهى هذا العامل، انقلب على جنبه وتوسد الدرج ونام، فقال التاجر الغني: أتمنى أن أعطي هذا نصف ملكي بل أكثر من ذلك، وآكل مثلما ما يأكل وأشرب مثلما ما يشرب، وأنام مثلما ينام.

إذاً أيها الشاب! أنت لا تنظر إلى نفسك بمقياس الدنيا، فإن عندك خير عظيم، ولا تقارن نفسك بأرباب الأموال؛ فإنك في حال أسعد ثم أسعد ثم أسعد منهم، إلا من سبقك بطاعة الله جل وعلا.

أيها الشاب: آباؤك مسلمون، أمك مسلمة، جدتك مسلمة، جدك مسلم، لست بوذياً ممن يعبدون بوذا ، لست من عبدة البقر، اعرف أصلك الذي تنتسب إليه، اعرف شرفك، أنت من أقوام يقومون آناء الليل وآناء النهار يتلون كتاب الله ويتذاكرونه، أنت من أقوام قد أذعنت ودانت لهم الدنيا في ظل لا إله إلا الله، فلا تحاول أن تقلد غربياً أو أمريكياً أو بريطانياً أو إيطالياً أو أسبانياً؛ لأن هؤلاء ليسوا بأولياء لك وليسوا من أهلك ولا ذويك، إنما أولياؤك هم المؤمنون.

أنت من قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، ومما رزقناهم ينفقون، أنت رجل قد أعد الله لك منزلة عظيمة، أنت برحمة الله وفضله وقبوله وتوفيقه لك ممن سترد على الحوض وتقابل النبي صلى الله عليه وسلم، وستحضن وتقبل نبيك صلى الله عليه وسلم، فاحذر أن تكون ممن يردون عن الحوض كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة، فأقول: يا رب أمتي أمتي! فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).

يا شباب! إذا كنتم تعلقون الآمال الطويلة أن تلتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتلتقوا بـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة الكرام وأئمة الإسلام وأبو مسلم الخولاني وإبراهيم الحربي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والحسن البصري والحسن بن علي وسعيد بن جبير وأئمة الإسلام وعلمائهم وابن القيم وابن تيمية .. إذا كان الأمل والشوق يحدوكم والذكرى تقودكم إلى لقاء هؤلاء، فإن الطريق إليهم لا بالأغاني، ولا يمر بأفلام الفيديو، ولا بالمجلات الساقطة، وإنما يمر بقيام الليل وحفظ القرآن، وبالعناية بالسنة والدعوة إلى الله جل وعلا، وبمجالسة الأخيار، والعناية بحلق الذكر والتسبيح آناء الليل وآناء النهار.

لو قلنا لواحد منكم: سنحجز لك موعداً بعد شهرين مع ملك من الملوك أو عظيم من العظماء؛ لمكثت يَعُدُ الليالي والأيام متى سوف أقابل فلان بن فلان، إذا قلنا لك: أنت ستقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستقابل خير خلق الله وخير من وطئة قدمه الثرى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]

ستقابل هذا النبي الذي يقول في شجاعته: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) والذي يقول في رحمته: (كل نبي يؤتى دعوته، وأنا ادخرت دعوتي لأمتي يوم القيامة، أقول: يا رب أمتي أمتي) أنت تقابل خير الخلق أجمعين فماذا أعددت لمقابلته؟

بل ستقابل من هو خير من محمد صلى الله عليه وسلم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] ستنظر إلى وجه الله العظيم الجليل، فهل تريد أن تكون ممن قال الله فيهم: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ [المطففين:15-16]؟

أتريد أن تكون ممن يصرف ويسدل عليه الستار فلا يتلذذ برؤية الله، بل ولا ينظر إليه الله ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم، أولئك الذين أعرضوا عن ذكر الله جل وعلا.

يا شباب الإسلام! إن المرجو فيكم كثير.

أيها الشاب: أنت إما أن تكون من عباد الرحمن: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:63-68] أنت من أولئك؟ أم من الذين والعياذ بالله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29].

إما أن تكون من عباد الرحمن وإما أن تكون من عباد الشيطان الذين يقال لهم وفيهم وبهم: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:30-34] ماذا يعد له؟ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:35-37].

أنت إما أن تكون من السابقين من أصحاب اليمين، وإما أن تكون من أصحاب الشمال من أهل السموم والحميم والزقوم وطعام الأثيم.

فيا أحبابنا أليس الخيار بأيدينا؟

هل نحن أحجار على رقعة شطرنج يأتي من يأخذ برأس الواحد منا ثم يضعه ويقول: أنت اجلس هنا لا تدخل المجلس، اذهب إلى الشيشة الفلانية والمقهى الفلاني والمطعم الفلاني، اذهب إلى السهرة الفلانية من أول الليل إلى آخره؟

هل أتى أحد وأخذ بتلابيبك وقال: قبحاً لك! لست بكفء أن تجلس مع الأبرار، اذهب مع أصحاب المخدرات ذوي الخلاعة والمجون، مع ذوي اللواط والزنا والفواحش والآثام؟

الخيار بيدك .. قد جعل الله أمامك الطريق، ووضح لك المحجة، فلأجل من بعثت الرسل؟ ولأجل مَن أنزلت الكتب؟ الليل والنهار والأفلاك والنجوم والسموات لأجل مَن؟

من أجل أن تعبد الله وحده، أفتدع كل هذا ثم تنصرف بعد ذلك ضالاً مضلاً غافلاً مضللاً إلى معصية وهوان وخزي بين الخلائق.

أخي الشاب: هل أنت على هامش الحياة، أم لك دور مهم؟

هل فكرت يوماً ما أنك ستكون قائداً لجبهة من الجبهات في أفغانستان، أو قائداً من قواد الجهاد في فلسطين؟

هل فكرت يوماً ما أن تكون واحداً من العلماء الذين يجلس إليهم الناس ويتزاحمون بالركب عند حلقاتهم؟

هل فكرت يوماً ما أن تكون ممن ينفعون الإسلام والمسلمين؟

أخي الشاب: أنت إلى من تنتمي: هل تنتمي إلى أمريكا؟

هل تنتمي إلى روسيا؟

هل تنتمي إلى حزب البعث؟

هل تنتمي إلى العلمانيين؟

هل تنتمي إلى القومية العربية الفاشلة؟

هل تنتمي إلى الضلالة المستوردة أم تنتمي إلى دين؟

هل تنتمي إلى دعوة وإلى عقيدة؟

الكل ينتمي إلى عقيدته، لو سألت رجلاً من الذين يتبعون حزب البعث في أي دولة من الدول لقال لك: أنا بعثي ورسالتي رسالة عربية خالدة لأمة عربية واحدة، إن البعثيين يقطع الواحد منهم وهو يقول:

آمنت بـالبعث رباً لا شريك له      وبالعروبة ديناً ما لها ثان

والأخر يؤذى ويقول:

بلادك قدمها على كل ملة     ومن أجلها افطر ومن أجلها صم

هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة     وسيروا بجثماني على دين برهم

سلام على كفر يوحد بيننا     وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

هذا بعثي ينتمي إلى البعث يبتلى ويعذب في انتمائه الضال، ويصبر على ذلك ويموت على هذه الضلالة ولا حول ولا وقوة إلا بالله.

شاب من الذين ينتمون إلى الحركة الباطنية الخبيثة، من الذين أفسدوا في الأرض، يقول لي أحد الرجال: لما جيء به ليقتل، قيل له: يا فلان! تب إلى الله واستقم، وجدد التوحيد، وانطق بالشهادتين، قال: فالتفت المجرم وقال: أنا دمي وروحي فداء للخميني. انظروا أي إصرار وعناد وانتماء وتمسك من شباب أهل الباطل إلى باطلهم وعلماء الباطل وأئمتهم.

فأنتم يا شباب الإسلام أرونا تمسككم، أرونا انتماءكم، نحن أهل عقيدة ودعوة هذا الخير الذي نحن فيه جاء من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقوة الأمير محمد بن سعود طيب الله ثراه، نحن ما أعطتنا أمريكا الاستقلال، وما أعطتنا فرنسا الوحدة، أو منحتنا اتحاداً كنفدرالياً كما يقال، أو دولة فدرالية، لا.. نحن أمة قامت على دين، قامت على دعوة، فهل شبابنا يفقهون هذا أم أن الواحد منهم يحفظ الأغاني الكثيرة، ويتردد في الملاهي الطويلة، ويضيع الساعات الطوال وهو لا يفقه لأي شيء خلق، ولأي شيء يسير، ينافس البهائم في نومها فينام عن صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، ينافس البهائم في أكلها، فيأكل حتى تنشق كرشته، ينافس البهائم في شربها ويتمتع بهذه الملذات التي يتمتع بها الأنعام، بل هو أضل منها سبيلاً؟!!

لا نريد شباباً كهؤلاء، هؤلاء إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، الأمة بحاجة إلى شباب أذكياء، بحاجة إلى شباب يجاهدون، بحاجة إلى شباب في الدراسة .. جد واجتهاد، في طلب العلم: اجتهاد وذكاء وحرص وبلغة وصحبة وملازمة للعلماء، في الدعوة: تضحية وتفان واستمرار على ذلك، في قضاء حوائج الناس: شفاعة للآخرين وتواضع لهم وخفض للجناح ولين للجانب. في كل مجال تجده مباركاً أينما كان، كما قال عيسى ابن مريم: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم:31].

ماذا قدمت للإسلام أيها الشاب

أيها الشاب أعود فأقول: ماذا قدمت للإسلام؟ كل واحد يسأل نفسه: ماذا قدمتُ للإسلام؟ ماذا قدمت لهذا الدين؟

هذا الدين الذي لا أحد يشك أن الخيرات التي امتلأت بها الأسواق ببركة الدين، وأن الأمن والطمأنينة والنوم الهادئ الوادع الهنيء في الليل لا يكدره فزع ولا لصوص ولا عصابات المافيا ولا الألوية الحمراء ببركة هذا الدين، هذه الخيرات التي تتابعت عليك ببركة هذا الدين، فماذا قدمتَ لهذا الدين؟!

أيها الشاب: هل أنت ممن يستهلكون ولا ينتجون؟

أيها الشاب: هل أنت ممن شابهوا البهائم فلا ينفع إلا نفسه فقط، شحيحاً بخيلاً لا يود ولا يتمنى أن ينفع أحداً أبداً؟

أيها الشاب: هل خططت يوماً لكي تعرف ما هي مراحلك في الحياة؟

لو قلنا لشركة من الشركات: تفضلي وابنِ لنا هذا المشروع؟

لقالت الشركة: مما يتكون هذا البناء؟

سوف ننفذه خلال خمس سنوات، في السنة الأولى نبني الطابق الأول والمرافق، وفي السنة الثانية نبني فيها الطوابق الأخرى، وفي السنة الثالثة نعد المكيفات، وفي السنة الرابعة نعد الصيانة وما يلزم، وفي السنة الخامسة نفرشه ويكون جاهزاً للاستعمال.

فنحن نقول أيها الشاب: بعد أن نسألك ماذا قدمت للإسلام؟ ما هي خطتك للوصول إلى جنة الله جل وعلا؟

كل هذه أسئلة شبابنا في غفلة عنها، لأنهم تعودوا الخير ونشأوا عليه وترعرعوا فيه، استظلوا بسماء الأمن وعاشوا على أرض الطمأنينة، وظنوا أن الأمر هكذا، لا، الله جل وعلا قد ربط الخيرات بالطاعة والأمن الرخاء بالإيمان: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

الخير الذي نحن فيه -يا شباب الإسلام- إذا أردتم أن تتقلبوا فيه، وأردتم أولادكم وبناتكم الصغار يستمروا عليه .. لا بد أن نحفظه بالدين.

أليس فيكم يا إخوان من يتذكر قول الله جل وعلا: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]؟

والله إن الإنسان ليجلس أحياناً وأطفاله الصغار وبنياته الصغيرات أمام عينيه ثم يقول: يا رب! ماذا سيكون لهؤلاء الأطفال بعد أربعين سنة أو خمسين سنة أو أقل أو أكثر من ذلك؟

إذا أردت أن تضمن مستقبلاً طيباً مليئاً بالأمن والهدوء، ويستمر ويمتد ظله إلى هؤلاء الأطفال الذين تراهم أمامك: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] ماذا نفعل: نسجلهم في الضمان الاجتماعي؟ نضع لهم مساهمات في البنك؟ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9] عليك بالقول السديد واتق الله جل وعلا، وراقب الله في كل ما تأتي وتذر، وأبشر بأن الله سيتكفل بهؤلاء.

ألا تعرفون قصة موسى مع الخضر لما ركب السفينة معه ثم قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:67] إلى آخر القصة فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:77-78] ولما سأله وبين له التفصيل قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا [الكهف:82] ثم ماذا؟ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82] فصلاحكم أنتم يضمن السعادة والحياة الطيبة الوارفة الظلال، الهنيئة في المطعم والمشرب والملبس لأولادكم وبناتكم، ومَن سره أن يتكفل الله بذريته فعليه أن يصلح ما بينه وبين الله أولاً.

أيها الشاب: ماذا أعددت لنفسك وماذا أعددت لذريتك؟

يا شباب الإسلام! هل ننتظر أن نكون كالغنم إذا ولدت، وجدت الخير، ومن ثَمَّ أخذت ترعى، وإذا جاء صافر الشر، كل يهرب ويولي؟ لا، نريد أن نربي رجالاً.

رجالاً رقاق إذا ما الدجى زارنا     نَصبنا محاريبنا للحزن

وجند شداد إذا رامنا الـ     ـبأس رأى أسدنا لا تهن

نريد أن نكون رجالاً في الأمن، دعاة إلى فرح وابتسامة وسرور، وإذا انتهى الأمر أو جاء الجد، جاءت الحرب أو جاء الخوف وجدت الرجال الذين يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم.

القدوة عند الشباب المسلم

أيها الشاب قدوتك من؟

حينما تجلس مع بعض الشباب في بعض المدارس الثانوية أو المتوسطة، فتقول له: ما هي أمنيتك؟ يقول: أتصور بجانب فلان: ما هو المطرب المفضل؟ فلان. ما هو تفسيرك للون الأزرق؟ حياة صافية، ما هو تفسيرك لكذا؟ يعطيك من الكلام السخيف المليء من بالجرائد.

أيها الشاب ما خلقت لهذا!

أيها الشاب: اعرف وزنك وقدرك، هل أنت تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم؟

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر [الأحزاب:21] اجعل قدوتك محمد صلى الله عليه وسلم، ليس كما يفعل بعض الشباب أول موضة تخرج في أمريكا تجده يقلدها هنا، وآخر موضة في اللباس توجد في إيطاليا تجده يقلدها هنا، والمصيبة أن أصحاب الموضات تركوها ونحن لا نزال نقلدها.

يقول لي الفنان فهد بن سعيد الذي تعرفونه وتاب إلى الله جل وعلا، الذي كان يسمى بوحيد الجزيرة، يقول لي: إن هناك شباباً يقولون: لا نصدق أن فهد بن سعيد يتوب، ولماذا؟ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9] هل هو غبي لا يعرف التوبة، أم أن طريق التوبة مغلق على الفنانين وأهل التمثيل والمعاصي؟ لا. الطريق مفتوح، لكن المصيبة أن من الناس من قلد أصحاب الفن، وتاب أصحاب الفن وهو لا يزال يعزف على وتر أربعة عشر.

أذكر أن رجلاً في سجن المنطقة الشرقية -عندما كنت ألقي فيه محاضرة- قلت له: إن فناناً تاب إلى الله واسمه فهد بن سعيد ، قال: أنا لا أصدق.

والله أمر عجيب، يعني أصحاب الأمر تركوه ونحن لا نزال نتحمس له، والشيء بالشيء يذكر، هذه قصة، وإن كانت تروى من باب الطرف.

القصة تقول: إن ثلاثة رجال كانوا في مطعم محطة القطار، وكانوا يأكلون وجبة غداء، وبعد لحظات جاء رجل يصيح، القطار تحرك .. القطار تحرك، فقاموا يركضون إلى القطار، فاثنين منهم أدركوا القطار وركبوه، والثالث عاد وهو يضحك، قالوا له: لماذا تضحك؟ قال: أنا الذي سأسافر، وهؤلاء إنما جاءوا لوداعي.

فهؤلاء الشباب الذين يقلدون الفنانين ... الفنان رجع يضحك يقول: أنا تبت إلى الله وعرفت أن الفن غلط، وهؤلاء لا زالوا يلاحقون الفن، هذا جنون وخبال يقع فيه كثير من الشباب.

فمن أصر على الغواية والانحراف، ولم يقبل الدعوة التي تـأمره بالاستجابة لله وبترك المعاصي والملاهي، فسيستمر فاشلاً إلى أن يموت، حتى ولو نجح مالياً فهو فاشل في الآخرة، لأنه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طـه:124] في الدنيا معيشته ضنك فاشلة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طـه:124-126] من أُعطي الآيات والمواعظ والهبات والنصائح الطيبة ثم لم يقبلها فحالته خطيرة جداً إن مات على ذلك، ولذلك فإن الله في كثير من الآيات يأمرنا بالتوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].

احتقار الشباب لأنفسهم

وأخيراً يا شبابنا: أنتم تستطيعون أن تقدموا دوراً، لا يقل أحدكم: أنا لا أنفع في شيء؛ فإن هذه مصيبة.

الكثير من الشباب عندما تجلس معه، يقول: يا أخي أنتم ما شاء الله تعرفون تتحدثون وأنتم وأنتم ... وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً، بل أنت تستطيع أن تفعل شيئاً كثيراً.

أذكر مرة كنا في رحلة أيام الدراسة، وكنا ننزل الأغراض من السيارة ، ثم جاء أحد الشباب فقال: ماذا أعمل؟ فرد أحدنا قائلاً: أنت هش الذباب، مالك شغل!

نحن ليس لدينا شباب يهشون الذباب، عندنا دور لكل شاب، عندنا طريقة لكل شاب، عندنا وظيفة لكل رجل، عندنا مهمة لكل من أراد أن يبذل لهذا الدين، لو أن كل واحد منكم خطط أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي:

هيهات لن تصلح الناس وأنت فاسد     هيهات ما أبعد ما تكابد

أي: لا بد للإنسان أن يستعين بالله على ترك المعصية،حتى تكون دعوته بين الناس لها أثر عظيم ينال بها خيراً عظيماً. وكلنا يعرف قصة ذلك الرجل كبير السن الذي كان كلما وجد شخصاً أخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) هذا الحديث في صحيح البخاري .

كان يدعو إلى الله بهذه الكلمات، فكان إذا دخل عند الخباز يذكر له هذا الحديث (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فيبدأ يتعلمها الخباز، يدخل إلى البقالة فيقول له البقال: ماذا تريد فيقول: أقول لك يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) أينما ذهب يعلم هذه الكلمات، حتى وصل أجله، وفي اللحظات الأخيرة كان على السرير الأبيض في المستشفى، فبلغته سكرات الموت، فأغمي عليه ثم أفاق والطبيب ماسك بيده، فلما استيقظ هذا الرجل العجوز الكبير من تلك السكرة التي شدت عليه نَفَسه .. لما أفاق منها وجد يده في يد الطبيب، فقام وأمسك يد الطبيب بيده الأخرى وقال: يا دكتور! يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ... لا إله إلا الله وفاضت روحه. فكان سبباً لهداية الطبيب وتوبته واستقامته.

فيا شبابنا! يا رجالنا! يا أبناء أمتنا! كل يستطيع أن يقدم دوراً، لا تقل عندي أشرطة وعندي نسخة أصلية للفنانين، وعندي أفلام ممنوعة أحدهم أتى بها لي بطريق معروفة، وشخص لفها في جريدة وأعطاني إياها، وواحد أتى بها بالطريقة الفلانية، وآخر قال لي: هذه نسخة لا يطلع عليها إلا أنت، لا.

كنا في حلقة تدريس يدرسنا أحد القضاة في الرياض ، درس في كتاب العدة شرح العمدة، فقال أحد الطلاب: أنا شاب تبت إلى الله جل وعلا وعندي أفلام خليعة لصديق آخر فهل أكسرها؟ فقال له الشيخ: امسح المادة وأعد الأشرطة.

فإذاً نحن لا نقول لك: ما دام عندك أشرطة لا أمل لك أن تتوب، عندك صور خليعة فلا أمل أن تتوب .. لو كان عندك خمسين مصيبة، تب إلى الله، يبقى عندك مصيبتان أو ثلاث مصائب تتوب منها إن شاء الله في الأيام القادمة، ولا نريد تكرار خبر الشاب الذي سمعتم قصته في شريط (حاول وأنت الحكم) هذا الذي يقول: عندي فساد وأشرطة وفواحش وصور وعندي وعندي ... فقلت له: أأنت جاد في التوبة إلى الله؟ قال: نعم. قلت: صلِّ معي العشاء وأنا أخرج معك إن شاء الله، نسأل الله أن يتوب علينا وعليك ونحرق الأشرطة، قال: لا بالتدريج يا شيخ، ما نتوب كذا، طيب تعال علمني كيف نتوب؟

نقول: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8] نمحو ما يقبل المحو منها ونتلف ما ينبغي إتلافه قال: لا بالتدريج.

فأقول لكم يا إخواني: بإمكانكم منذ هذه اللحظة أن تتحولوا إلى دعاة.

ليس بالضرورة أن تتوب من جميع ما عندك من الذنوب مرة واحدة، وإن كان الواجب هو أن تتوب إلى الله من جميع الذنوب، لكن لو قَدَّرنا أن شاباً يقول: أنا تبت إلى الله جل وعلا لكن وقعت في هذه المشكلة غداً، ثم وقعت في مشكلة صغيرة بعد غداً، نقول تب إلى الله منها، واستمر على ما أنت عليه، لأن بعض الشباب يقول: أنا إذا أردت أن أتوب فمعنى هذا أن أنافس جبريل في الطاعة، أي: لا أخطئ أبداً أبداً، هذا ليس بصحيح أبداً، كل البشر يخطئون ويذنبون وعندهم من الخطيئة، لكن الخطأ هو الاستمرار على الخطيئة، عندي صور، مجلات، أفلام، عادات سيئة، أمور خبيثة، تبت منها كلها، وغداً وقعت في واحدة أيهما أفضل: أن أصبح غداً على نفس الخمس أو على واحدة فقط؟

لا. ربما الذي وقع في واحدة أهون عند الله من الذي وقع في الخمس كلها، لكن نقول لك: افعل واحدة واترك أربعاً، كما تبت بالأمس من الخمس تب اليوم من هذه الواحدة، ولو وقعت بعد غدٍ في غيرها تب إلى الله من غيرها، فكلما أحدثت ذنباً أحدث بعده توبة، وسترى خيراً كثيراً بإذن الله جل وعلا.

التوبة التوبة يا شباب!

يا شبابنا ما الذي يمنعكم من التوبة؟ هل تحتاج التوبة إلى برقية عاجلة للإفتاء؟ هل تحتاج التوبة إلى وساطة أحد؟

أبداً والله، توضأ وأحسن وضوءك واسأل الله جل وعلا أن يتوب عليك توبة نصوحاً، وأن يقبل توبتك ثم عُدّ، فما وجدت عندك من الأمور التي لا ترضي الله أبعدها وتجنبها واتركها، ثم ابحث عن الصحبة الطيبة، ابحث عن الجليس الصالح، وعلق نفسك به: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28].

شاب يريد أن يتوب إلى الله من التدخين والمخدرات، والصور الخليعة والأفلام الماجنة، والأغاني الهابطة، يكسر الأفلام اليوم وينتهي منها، وغداً يذهب مع الشباب يشاهد ويقول: يا حظكم عندكم أفلام وأنا كان عندي أفلام. لا يصح هذا، ما دمت تبت إلى الله، اترك هذه المجالس، وجالس حلق الذكر وأصحابها، جالس الذين ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر آكله.

أما أن الإنسان يتوب اليوم وغداً يجلس مع الفنان أو مع المطبل فهذا لا يكون، لكن تب إلى الله وبدلاً من جلسات اللهو ابحث عن مجالس البر والخير، فأنت المستفيد مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46].. مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89] أنت المستفيد الأول، الإسلام غني عنك، الدين ماض بك وبغيرك، بك وبدونك، فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89].. مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

فيا إخواني: لا يظن الواحد أنه يَمُنُّ على الدين يوم أن يلتزم، أو أن هذا الدين متوقف على التزامه، لكن هو مَن يستفيد، لو توفاك الله هذه الليلة ماذا ستفعل؟!

يذكر لي أحد الإخوان عن شاب أنه كان مسافراً هو وزوجته وأطفاله، والسفر كان طويلاً، وأثناء الطريق أصاب الطائرة خلل، وقام المضيف يتكلم: يوجد بالمحرك الموجود في المكان الفلاني من الطائرة خلل، والمخارج هي التي ترونها قد أضيئت عليها الإضاءة، وأخذ يشير إلى المخارج. ماذا فعل الرجل؟ قام يبكي وانتفض وتغير وجهه، حتى إنه ما ذكر، أخذ يبكي يبكي ويلتفت يمنة ويسرة، وأما زوجته فقد أخذت الأطفال بجوارها وضمتهم وهي تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول لي الشاب: بفضل الله جل وعلا صلح العطل ونزلت الطائرة بسلام. يقول: فقلت له: أما زوجتك فما كانت تخشى من المعاصي، ولذلك عرفت أنها تقدم على الله بمغفرة ورحمة، وإن كان عندها شيء من الذنوب اليسيرة من اللمم وأمر الغفلة -ليس من الغفلات المقصودة، أي من الخطأ والسهو الزلل اليسير- ولذلك ثبتها الله وضمت أولادها حولها، وأخذت تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأما أنت فتذكرت الذي يخزيك ويسوؤك عند الله، وأخذت تبكي وتصيح كالمرأة.

المرأة ما بكت وإنما ضمت الأولاد وأخذت تحوقل وتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لأنها ما ذكرت أموراً بارزت الله بها، أو فعلتها سراً وعصت الله، واختلت في معصية الله بها، وأما أنت فقد تذكرت المصائب، تذكرت ليلة فعلت بها كذا، وتذكرت فيلماً سهرت عليه، وتذكرت مجلة موجودة عندك الآن، وتذكرت شريطاً يوجد في الدرج الفلاني، وتذكرت رقماً يوجد في جيبك، وتذكرت كذا، فأصبحت تبكي، وتنزعج بهذه الطريقة، ماذا قال؟

قال: صدقت والله!

نعم يا إخواني: الذي يعمل المعاصي ولا يتوب منها، يخشى من سوء المطلع، والخاتمة، وأما الذي يحرص على الطاعات، ويبتعد عن المعاصي، تجده يقدم على الله، وإن كان يعلم أن عنده بعض الذنوب، لكن يثق أن رحمة الله أوسع من هذا كله، ومن أحسن العمل أحسن الرجاء.

الآن تجد الإنسان الذي يذاكر ويستعد للامتحان، ويقدم مذاكرة طيبة، وعنده أعمال سنة، يقول: إن شاء الله ننجح، وتجده مطمئناً، ونرجو أن ننجح، ونرجو النتيجة تكون طيبة، لكن هذا الذي لم يقدم شيئاً ولم يدرس ويهتم، فطبع على قلبه، وتجده منكسر البال، خائفاً على مستقبله ومصيره الغامض، لأنه ضيعه بما أودع في أيامه ولياليه من الغفلات والشهوات. فيا أحباب التوبة التوبة، والعودة العودة إلى الله.

أيها الشاب أعود فأقول: ماذا قدمت للإسلام؟ كل واحد يسأل نفسه: ماذا قدمتُ للإسلام؟ ماذا قدمت لهذا الدين؟

هذا الدين الذي لا أحد يشك أن الخيرات التي امتلأت بها الأسواق ببركة الدين، وأن الأمن والطمأنينة والنوم الهادئ الوادع الهنيء في الليل لا يكدره فزع ولا لصوص ولا عصابات المافيا ولا الألوية الحمراء ببركة هذا الدين، هذه الخيرات التي تتابعت عليك ببركة هذا الدين، فماذا قدمتَ لهذا الدين؟!

أيها الشاب: هل أنت ممن يستهلكون ولا ينتجون؟

أيها الشاب: هل أنت ممن شابهوا البهائم فلا ينفع إلا نفسه فقط، شحيحاً بخيلاً لا يود ولا يتمنى أن ينفع أحداً أبداً؟

أيها الشاب: هل خططت يوماً لكي تعرف ما هي مراحلك في الحياة؟

لو قلنا لشركة من الشركات: تفضلي وابنِ لنا هذا المشروع؟

لقالت الشركة: مما يتكون هذا البناء؟

سوف ننفذه خلال خمس سنوات، في السنة الأولى نبني الطابق الأول والمرافق، وفي السنة الثانية نبني فيها الطوابق الأخرى، وفي السنة الثالثة نعد المكيفات، وفي السنة الرابعة نعد الصيانة وما يلزم، وفي السنة الخامسة نفرشه ويكون جاهزاً للاستعمال.

فنحن نقول أيها الشاب: بعد أن نسألك ماذا قدمت للإسلام؟ ما هي خطتك للوصول إلى جنة الله جل وعلا؟

كل هذه أسئلة شبابنا في غفلة عنها، لأنهم تعودوا الخير ونشأوا عليه وترعرعوا فيه، استظلوا بسماء الأمن وعاشوا على أرض الطمأنينة، وظنوا أن الأمر هكذا، لا، الله جل وعلا قد ربط الخيرات بالطاعة والأمن الرخاء بالإيمان: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].

الخير الذي نحن فيه -يا شباب الإسلام- إذا أردتم أن تتقلبوا فيه، وأردتم أولادكم وبناتكم الصغار يستمروا عليه .. لا بد أن نحفظه بالدين.

أليس فيكم يا إخوان من يتذكر قول الله جل وعلا: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]؟

والله إن الإنسان ليجلس أحياناً وأطفاله الصغار وبنياته الصغيرات أمام عينيه ثم يقول: يا رب! ماذا سيكون لهؤلاء الأطفال بعد أربعين سنة أو خمسين سنة أو أقل أو أكثر من ذلك؟

إذا أردت أن تضمن مستقبلاً طيباً مليئاً بالأمن والهدوء، ويستمر ويمتد ظله إلى هؤلاء الأطفال الذين تراهم أمامك: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] ماذا نفعل: نسجلهم في الضمان الاجتماعي؟ نضع لهم مساهمات في البنك؟ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9] عليك بالقول السديد واتق الله جل وعلا، وراقب الله في كل ما تأتي وتذر، وأبشر بأن الله سيتكفل بهؤلاء.

ألا تعرفون قصة موسى مع الخضر لما ركب السفينة معه ثم قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [الكهف:67] إلى آخر القصة فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:77-78] ولما سأله وبين له التفصيل قال: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا [الكهف:82] ثم ماذا؟ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82] فصلاحكم أنتم يضمن السعادة والحياة الطيبة الوارفة الظلال، الهنيئة في المطعم والمشرب والملبس لأولادكم وبناتكم، ومَن سره أن يتكفل الله بذريته فعليه أن يصلح ما بينه وبين الله أولاً.

أيها الشاب: ماذا أعددت لنفسك وماذا أعددت لذريتك؟

يا شباب الإسلام! هل ننتظر أن نكون كالغنم إذا ولدت، وجدت الخير، ومن ثَمَّ أخذت ترعى، وإذا جاء صافر الشر، كل يهرب ويولي؟ لا، نريد أن نربي رجالاً.

رجالاً رقاق إذا ما الدجى زارنا     نَصبنا محاريبنا للحزن

وجند شداد إذا رامنا الـ     ـبأس رأى أسدنا لا تهن

نريد أن نكون رجالاً في الأمن، دعاة إلى فرح وابتسامة وسرور، وإذا انتهى الأمر أو جاء الجد، جاءت الحرب أو جاء الخوف وجدت الرجال الذين يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم.

أيها الشاب قدوتك من؟

حينما تجلس مع بعض الشباب في بعض المدارس الثانوية أو المتوسطة، فتقول له: ما هي أمنيتك؟ يقول: أتصور بجانب فلان: ما هو المطرب المفضل؟ فلان. ما هو تفسيرك للون الأزرق؟ حياة صافية، ما هو تفسيرك لكذا؟ يعطيك من الكلام السخيف المليء من بالجرائد.

أيها الشاب ما خلقت لهذا!

أيها الشاب: اعرف وزنك وقدرك، هل أنت تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم؟

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر [الأحزاب:21] اجعل قدوتك محمد صلى الله عليه وسلم، ليس كما يفعل بعض الشباب أول موضة تخرج في أمريكا تجده يقلدها هنا، وآخر موضة في اللباس توجد في إيطاليا تجده يقلدها هنا، والمصيبة أن أصحاب الموضات تركوها ونحن لا نزال نقلدها.

يقول لي الفنان فهد بن سعيد الذي تعرفونه وتاب إلى الله جل وعلا، الذي كان يسمى بوحيد الجزيرة، يقول لي: إن هناك شباباً يقولون: لا نصدق أن فهد بن سعيد يتوب، ولماذا؟ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9] هل هو غبي لا يعرف التوبة، أم أن طريق التوبة مغلق على الفنانين وأهل التمثيل والمعاصي؟ لا. الطريق مفتوح، لكن المصيبة أن من الناس من قلد أصحاب الفن، وتاب أصحاب الفن وهو لا يزال يعزف على وتر أربعة عشر.

أذكر أن رجلاً في سجن المنطقة الشرقية -عندما كنت ألقي فيه محاضرة- قلت له: إن فناناً تاب إلى الله واسمه فهد بن سعيد ، قال: أنا لا أصدق.

والله أمر عجيب، يعني أصحاب الأمر تركوه ونحن لا نزال نتحمس له، والشيء بالشيء يذكر، هذه قصة، وإن كانت تروى من باب الطرف.

القصة تقول: إن ثلاثة رجال كانوا في مطعم محطة القطار، وكانوا يأكلون وجبة غداء، وبعد لحظات جاء رجل يصيح، القطار تحرك .. القطار تحرك، فقاموا يركضون إلى القطار، فاثنين منهم أدركوا القطار وركبوه، والثالث عاد وهو يضحك، قالوا له: لماذا تضحك؟ قال: أنا الذي سأسافر، وهؤلاء إنما جاءوا لوداعي.

فهؤلاء الشباب الذين يقلدون الفنانين ... الفنان رجع يضحك يقول: أنا تبت إلى الله وعرفت أن الفن غلط، وهؤلاء لا زالوا يلاحقون الفن، هذا جنون وخبال يقع فيه كثير من الشباب.

فمن أصر على الغواية والانحراف، ولم يقبل الدعوة التي تـأمره بالاستجابة لله وبترك المعاصي والملاهي، فسيستمر فاشلاً إلى أن يموت، حتى ولو نجح مالياً فهو فاشل في الآخرة، لأنه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طـه:124] في الدنيا معيشته ضنك فاشلة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طـه:124-126] من أُعطي الآيات والمواعظ والهبات والنصائح الطيبة ثم لم يقبلها فحالته خطيرة جداً إن مات على ذلك، ولذلك فإن الله في كثير من الآيات يأمرنا بالتوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24].

وأخيراً يا شبابنا: أنتم تستطيعون أن تقدموا دوراً، لا يقل أحدكم: أنا لا أنفع في شيء؛ فإن هذه مصيبة.

الكثير من الشباب عندما تجلس معه، يقول: يا أخي أنتم ما شاء الله تعرفون تتحدثون وأنتم وأنتم ... وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً، بل أنت تستطيع أن تفعل شيئاً كثيراً.

أذكر مرة كنا في رحلة أيام الدراسة، وكنا ننزل الأغراض من السيارة ، ثم جاء أحد الشباب فقال: ماذا أعمل؟ فرد أحدنا قائلاً: أنت هش الذباب، مالك شغل!

نحن ليس لدينا شباب يهشون الذباب، عندنا دور لكل شاب، عندنا طريقة لكل شاب، عندنا وظيفة لكل رجل، عندنا مهمة لكل من أراد أن يبذل لهذا الدين، لو أن كل واحد منكم خطط أن يتوب إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي:

هيهات لن تصلح الناس وأنت فاسد     هيهات ما أبعد ما تكابد

أي: لا بد للإنسان أن يستعين بالله على ترك المعصية،حتى تكون دعوته بين الناس لها أثر عظيم ينال بها خيراً عظيماً. وكلنا يعرف قصة ذلك الرجل كبير السن الذي كان كلما وجد شخصاً أخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) هذا الحديث في صحيح البخاري .

كان يدعو إلى الله بهذه الكلمات، فكان إذا دخل عند الخباز يذكر له هذا الحديث (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فيبدأ يتعلمها الخباز، يدخل إلى البقالة فيقول له البقال: ماذا تريد فيقول: أقول لك يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) أينما ذهب يعلم هذه الكلمات، حتى وصل أجله، وفي اللحظات الأخيرة كان على السرير الأبيض في المستشفى، فبلغته سكرات الموت، فأغمي عليه ثم أفاق والطبيب ماسك بيده، فلما استيقظ هذا الرجل العجوز الكبير من تلك السكرة التي شدت عليه نَفَسه .. لما أفاق منها وجد يده في يد الطبيب، فقام وأمسك يد الطبيب بيده الأخرى وقال: يا دكتور! يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ... لا إله إلا الله وفاضت روحه. فكان سبباً لهداية الطبيب وتوبته واستقامته.

فيا شبابنا! يا رجالنا! يا أبناء أمتنا! كل يستطيع أن يقدم دوراً، لا تقل عندي أشرطة وعندي نسخة أصلية للفنانين، وعندي أفلام ممنوعة أحدهم أتى بها لي بطريق معروفة، وشخص لفها في جريدة وأعطاني إياها، وواحد أتى بها بالطريقة الفلانية، وآخر قال لي: هذه نسخة لا يطلع عليها إلا أنت، لا.

كنا في حلقة تدريس يدرسنا أحد القضاة في الرياض ، درس في كتاب العدة شرح العمدة، فقال أحد الطلاب: أنا شاب تبت إلى الله جل وعلا وعندي أفلام خليعة لصديق آخر فهل أكسرها؟ فقال له الشيخ: امسح المادة وأعد الأشرطة.

فإذاً نحن لا نقول لك: ما دام عندك أشرطة لا أمل لك أن تتوب، عندك صور خليعة فلا أمل أن تتوب .. لو كان عندك خمسين مصيبة، تب إلى الله، يبقى عندك مصيبتان أو ثلاث مصائب تتوب منها إن شاء الله في الأيام القادمة، ولا نريد تكرار خبر الشاب الذي سمعتم قصته في شريط (حاول وأنت الحكم) هذا الذي يقول: عندي فساد وأشرطة وفواحش وصور وعندي وعندي ... فقلت له: أأنت جاد في التوبة إلى الله؟ قال: نعم. قلت: صلِّ معي العشاء وأنا أخرج معك إن شاء الله، نسأل الله أن يتوب علينا وعليك ونحرق الأشرطة، قال: لا بالتدريج يا شيخ، ما نتوب كذا، طيب تعال علمني كيف نتوب؟

نقول: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8] نمحو ما يقبل المحو منها ونتلف ما ينبغي إتلافه قال: لا بالتدريج.

فأقول لكم يا إخواني: بإمكانكم منذ هذه اللحظة أن تتحولوا إلى دعاة.

ليس بالضرورة أن تتوب من جميع ما عندك من الذنوب مرة واحدة، وإن كان الواجب هو أن تتوب إلى الله من جميع الذنوب، لكن لو قَدَّرنا أن شاباً يقول: أنا تبت إلى الله جل وعلا لكن وقعت في هذه المشكلة غداً، ثم وقعت في مشكلة صغيرة بعد غداً، نقول تب إلى الله منها، واستمر على ما أنت عليه، لأن بعض الشباب يقول: أنا إذا أردت أن أتوب فمعنى هذا أن أنافس جبريل في الطاعة، أي: لا أخطئ أبداً أبداً، هذا ليس بصحيح أبداً، كل البشر يخطئون ويذنبون وعندهم من الخطيئة، لكن الخطأ هو الاستمرار على الخطيئة، عندي صور، مجلات، أفلام، عادات سيئة، أمور خبيثة، تبت منها كلها، وغداً وقعت في واحدة أيهما أفضل: أن أصبح غداً على نفس الخمس أو على واحدة فقط؟

لا. ربما الذي وقع في واحدة أهون عند الله من الذي وقع في الخمس كلها، لكن نقول لك: افعل واحدة واترك أربعاً، كما تبت بالأمس من الخمس تب اليوم من هذه الواحدة، ولو وقعت بعد غدٍ في غيرها تب إلى الله من غيرها، فكلما أحدثت ذنباً أحدث بعده توبة، وسترى خيراً كثيراً بإذن الله جل وعلا.

يا شبابنا ما الذي يمنعكم من التوبة؟ هل تحتاج التوبة إلى برقية عاجلة للإفتاء؟ هل تحتاج التوبة إلى وساطة أحد؟

أبداً والله، توضأ وأحسن وضوءك واسأل الله جل وعلا أن يتوب عليك توبة نصوحاً، وأن يقبل توبتك ثم عُدّ، فما وجدت عندك من الأمور التي لا ترضي الله أبعدها وتجنبها واتركها، ثم ابحث عن الصحبة الطيبة، ابحث عن الجليس الصالح، وعلق نفسك به: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28].

شاب يريد أن يتوب إلى الله من التدخين والمخدرات، والصور الخليعة والأفلام الماجنة، والأغاني الهابطة، يكسر الأفلام اليوم وينتهي منها، وغداً يذهب مع الشباب يشاهد ويقول: يا حظكم عندكم أفلام وأنا كان عندي أفلام. لا يصح هذا، ما دمت تبت إلى الله، اترك هذه المجالس، وجالس حلق الذكر وأصحابها، جالس الذين ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر آكله.

أما أن الإنسان يتوب اليوم وغداً يجلس مع الفنان أو مع المطبل فهذا لا يكون، لكن تب إلى الله وبدلاً من جلسات اللهو ابحث عن مجالس البر والخير، فأنت المستفيد مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46].. مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89] أنت المستفيد الأول، الإسلام غني عنك، الدين ماض بك وبغيرك، بك وبدونك، فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89].. مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

فيا إخواني: لا يظن الواحد أنه يَمُنُّ على الدين يوم أن يلتزم، أو أن هذا الدين متوقف على التزامه، لكن هو مَن يستفيد، لو توفاك الله هذه الليلة ماذا ستفعل؟!

يذكر لي أحد الإخوان عن شاب أنه كان مسافراً هو وزوجته وأطفاله، والسفر كان طويلاً، وأثناء الطريق أصاب الطائرة خلل، وقام المضيف يتكلم: يوجد بالمحرك الموجود في المكان الفلاني من الطائرة خلل، والمخارج هي التي ترونها قد أضيئت عليها الإضاءة، وأخذ يشير إلى المخارج. ماذا فعل الرجل؟ قام يبكي وانتفض وتغير وجهه، حتى إنه ما ذكر، أخذ يبكي يبكي ويلتفت يمنة ويسرة، وأما زوجته فقد أخذت الأطفال بجوارها وضمتهم وهي تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول لي الشاب: بفضل الله جل وعلا صلح العطل ونزلت الطائرة بسلام. يقول: فقلت له: أما زوجتك فما كانت تخشى من المعاصي، ولذلك عرفت أنها تقدم على الله بمغفرة ورحمة، وإن كان عندها شيء من الذنوب اليسيرة من اللمم وأمر الغفلة -ليس من الغفلات المقصودة، أي من الخطأ والسهو الزلل اليسير- ولذلك ثبتها الله وضمت أولادها حولها، وأخذت تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأما أنت فتذكرت الذي يخزيك ويسوؤك عند الله، وأخذت تبكي وتصيح كالمرأة.

المرأة ما بكت وإنما ضمت الأولاد وأخذت تحوقل وتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لأنها ما ذكرت أموراً بارزت الله بها، أو فعلتها سراً وعصت الله، واختلت في معصية الله بها، وأما أنت فقد تذكرت المصائب، تذكرت ليلة فعلت بها كذا، وتذكرت فيلماً سهرت عليه، وتذكرت مجلة موجودة عندك الآن، وتذكرت شريطاً يوجد في الدرج الفلاني، وتذكرت رقماً يوجد في جيبك، وتذكرت كذا، فأصبحت تبكي، وتنزعج بهذه الطريقة، ماذا قال؟

قال: صدقت والله!

نعم يا إخواني: الذي يعمل المعاصي ولا يتوب منها، يخشى من سوء المطلع، والخاتمة، وأما الذي يحرص على الطاعات، ويبتعد عن المعاصي، تجده يقدم على الله، وإن كان يعلم أن عنده بعض الذنوب، لكن يثق أن رحمة الله أوسع من هذا كله، ومن أحسن العمل أحسن الرجاء.

الآن تجد الإنسان الذي يذاكر ويستعد للامتحان، ويقدم مذاكرة طيبة، وعنده أعمال سنة، يقول: إن شاء الله ننجح، وتجده مطمئناً، ونرجو أن ننجح، ونرجو النتيجة تكون طيبة، لكن هذا الذي لم يقدم شيئاً ولم يدرس ويهتم، فطبع على قلبه، وتجده منكسر البال، خائفاً على مستقبله ومصيره الغامض، لأنه ضيعه بما أودع في أيامه ولياليه من الغفلات والشهوات. فيا أحباب التوبة التوبة، والعودة العودة إلى الله.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أيها الشاب! حاول وأنت الحكم [الحلقة الأولى] 2463 استماع
الشباب اللاهثون 2194 استماع
كلمة الشباب 1995 استماع
الشباب والرياضة 1691 استماع
الشباب بين الشهوة والشبهة 1675 استماع
الشباب بين الواقع والأمل 1667 استماع
شباب مشغولون بلا مهمة 1568 استماع
الشباب والتجدد 1311 استماع
الشباب بين فقه الطيور والجهاد 1146 استماع
الشباب بين غرور النفس واحتقار الذات(1-2) 1102 استماع