خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/38"> الشيخ الدكتور سعد البريك . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/38?sub=65401"> مجموعة الشباب
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الشباب بين غرور النفس واحتقار الذات(1-2)
الحلقة مفرغة
الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: فرصةٌ سعيدة، ومناسبةٌ طيبة أن يتكرر اللقاء في مثل هذه الأماكن التي طالما ظمئت إلى الندوات والمحاضرات، والتي طالما التفت بعض الشباب عنها ظناً أن ليس فيها إلا رياضة الأقدام فقط، وما علموا أن الأندية هي مجتمعات لغذاء الأرواح والعقول والقلوب والأبدان، فلا بد أن نعيد النظرة السليمة الصحيحة إلى أنديتنا، ولا بد أن تتميز أنديتنا بما تتميز به بلادنا وأرضنا وأمتنا عملاً بقول الله جل وعلا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].
أيها الأحبة! حديثنا اليوم هو: الشباب بين غرور النفس واحتقار الذات، وقد يقول البعض: ما الحاجة إلى هذا الموضوع؟ ولماذا اختير هذا الموضوع من بين آلاف المواضيع المطروحة على الساحة؟
أقول: نعم، اخترناه واختاره الإخوة الذين رتبوا لهذه المحاضرة؛ لأن هلاك وضلال وبعد كثير من الشباب بسبب واحد من أمرين: إما بسبب الغرور وإما بسبب الاحتقار أعاذنا الله وإياكم منهما جميعاً.
أيها الأحبة! الغرور في الغالب يكون منبعه القوة؛ وشعور الإنسان بأنه قوي، وشعور الإنسان بأنه بما يسر الله جل وعلا له قادر على أن يذلل جميع الصعاب، هذا قد يقوده وقد يدعوه إلى أن يقف لحظات موقف المغرورين وهذا خطر عظيم، ولو تأملنا الإنسان لوجدناه أقوى مخلوقات الله قاطبة، فقد تغلب على كثير من المخلوقات، لقد تغلب على الريح، فاستطاع أن يصرفها بما ألهمه الله جل وعلا، فجعلها دافعة موجهة له في البحر، ولقد تغلب على الجبال، فاستطاع أن يشق الأنفاق فيها، ولقد تغلب على الأودية وعلى البحار، فاستطاع أن يتخذ له طريقاً ومكاناً فيها.
إذاً هذا الإنسان الذي لم يقف أمامه شيء بما سخر الله سبحانه وتعالى له، لا شك أنه قوي وحريٌ لمن كان في هذه الدرجة أن يشعر بالقوة، ولكن ما مقدار هذه القوة؟ وما درجة هذه القوة؟ ذلك الأمر الذي تباينت فيه عقول الناس واختلفت فيه أفهامهم ومداركهم.
أيها الأحبة! بعد أن قلنا إن القوة قد تكون سبباً يفضي إلى الغرور، فإن القوة بأنواعها؛ قوة المال، وقوة الشهرة، وقوة المنصب الاجتماعي، والقوة البدنية، وما شئت من أصناف القوة هي داعية في الحقيقة إلى أن يقع الإنسان في الغرور، ما لم يربط هذه القوة بما أوجب الله عليه، وما لم يخضع هذه القوة بما أمره الله سبحانه وتعالى أن يخضعها له، ومن لم يفعل ذلك؛ فإن نهاية قوته ضلال عليه ووبال على نفسه وماله ومجتمعه.
غرور قارون
إن بعض من ترونهم يتقلبون في جنبات القوة، قد ترى من الناس من يحسدهم ويتمنى أن ينال منـزلتهم، ولكن فيما بعد أولئك الذين يتمنون مكانة الأقوياء في جوانب عديدة، يقولون: الحمد لله أن لم نكن مثلهم، وكان نهاية هذه القوة المالية التي لم تربط تسخيراً وإخضاعاً لأمر الله ونهيه: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81] أهذه نهاية القوة التي أفضت بصاحبها إلى الغرور؟!! وبعد ذلك كانت عاقبته وخيمة أن خسف به وبداره الأرض وبكنوزه ومفاتيحه فلم تغنِ عنه شيئاً أبداً.
غرور صاحب الجنة
أنا فلان بن فلان، أنا مرتبتي كذا، أن من مدينة كذا، لو رددت لأجدن خيراً من هذه الجنة التي أنا فيها في الدنيا وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً [الكهف:36].
جاءه من يحاوره ويقول له: اتق الله! لا يجوز، ما هذا الغرور؟ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37] أنت الآن في قمة الغرور بالقوة التي عندك، أذكرك بأصل ضعفك أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:37-38] إلى أن بينت لنا الآيات من خلال السياق أن الله جل وعلا جعل عاقبة هذا الغرور أن هلكت بساتينهم جميعاً كما قال الله جل وعلا: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:42] أُحيط بهذه الجنة والبستان وانتهى الأمر وما عاد له من شيء يعتمد عليه بعد أن كان يغتر ويتقلب في نعيم تلك الجنان.
ولقد جاء في القرآن الكريم أمثلة لمن نالوا شيئاً من القوة، فبلغ بهم ذلك إلى حد الغرور، فمن أولئك قارون الذي بلغ قوة مالية عظيمة، حتى إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] مفاتيح خزائنه التي يودع فيها الذهب والجواهر لا تستطيع العصبة من الرجال أن يحملوها، هذا حجم ثقل المفاتيح التي هي مفاتيح الخزائن التي يودع فيها الأموال فما ظنكم بحجم أمواله! ولما نال هذه القوة ولم يسخرها لما أمره الله سبحانه وتعالى؛ أصابه داء العجب والغرور، فقال: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] وخرج على قومه في زينته، وأخذ الناس ينظرون إليه، ويقلبون الطرف فيه، وبعضهم قال: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79].
إن بعض من ترونهم يتقلبون في جنبات القوة، قد ترى من الناس من يحسدهم ويتمنى أن ينال منـزلتهم، ولكن فيما بعد أولئك الذين يتمنون مكانة الأقوياء في جوانب عديدة، يقولون: الحمد لله أن لم نكن مثلهم، وكان نهاية هذه القوة المالية التي لم تربط تسخيراً وإخضاعاً لأمر الله ونهيه: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81] أهذه نهاية القوة التي أفضت بصاحبها إلى الغرور؟!! وبعد ذلك كانت عاقبته وخيمة أن خسف به وبداره الأرض وبكنوزه ومفاتيحه فلم تغنِ عنه شيئاً أبداً.
مثال آخر من كتاب الله جل وعلا على أولئك المغرورين الذين كانت نهايتهم الهلاك: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35] لاحظوا قول الله جل وعلا: وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35].. قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً [الكهف:35] كيف تفنى هذه الجنان، هذه الحدائق وهذه النخيل والبساتين قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:35-36] يقول: وما هي الآخرة التي أنتم تقولون إنها ممكن أن تقوم وتأخذ أموالي وتنهيني عن هذه الحياة وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36] وإن قامت.. وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً [الكهف:36].
أنا فلان بن فلان، أنا مرتبتي كذا، أن من مدينة كذا، لو رددت لأجدن خيراً من هذه الجنة التي أنا فيها في الدنيا وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً [الكهف:36].
جاءه من يحاوره ويقول له: اتق الله! لا يجوز، ما هذا الغرور؟ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37] أنت الآن في قمة الغرور بالقوة التي عندك، أذكرك بأصل ضعفك أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:37-38] إلى أن بينت لنا الآيات من خلال السياق أن الله جل وعلا جعل عاقبة هذا الغرور أن هلكت بساتينهم جميعاً كما قال الله جل وعلا: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:42] أُحيط بهذه الجنة والبستان وانتهى الأمر وما عاد له من شيء يعتمد عليه بعد أن كان يغتر ويتقلب في نعيم تلك الجنان.
أيها الإخوة! الغرور داء موجود فينا في الحقيقة، حتى أن طوائف من الضعفاء والفقراء فضلاً عن ذوي المناصب والأثرياء لم يسلموا من داء الغرور، وهذا خطر عظيم جداً، ينبغي أن نصارح أنفسنا، وأن نكتشف داء الغرور من خلال المظاهر التي قد تبدو من معاملاتنا وسلوكنا وتصرفاتنا.
احتقار الآخرين
فما هي مقومات الغرور التي عندك؟
نحن قلنا: القوة قد تفضي إلى الغرور، لكن للأسف أنك تجد كثيراً من الناس رغم ضعفهم وفقرهم ومستواهم ... إلى آخره تجدهم مع ذلك مغرورين.
إذاً يظهر هذا الغرور من خلال احتقار الآخرين، ومعروف أن القليل يسلمون على الكثير، والماشي يسلم على الراكب أو على الواقف، فتجده يمر ويشمخ بأنفه ويلفت برأسه وكأنه لا يرى أحداً، أو كأنه لا يرى إلا الذر أمامه ولا يقيم لمن حوله وزناً أبداً.
يا أخي! لماذا التطاول، ولماذا الغرور، وأي درجة بلغتها حتى تشمخ بأنفك؟ مغتر بنفسك ولا تؤدي التحية للآخرين!
احتقار الآخرين في مجالات كثيرة: احتقار الآخرين في آرائهم، احتقار الآخرين في كلامهم، تجده في مجلس، فيتكلم أحد الناس نحوه، وهو لا ينظر إليه، وما عنده استعداد ليسمع له، من هو هذا حتى يفتح فمه في هذا المكان، لماذا يا أخي؟! أحرام عليه أن يقول، وحرام عليك أن تسمع؟ لماذا تحتقره.. أليس بشراً مثلك؟ أليس له عينان ويدان ورجلان وأنف واحد؟ ما الذي ميزك وفرق بينك وبينه؟ لا فرق بينك وبينه إلا بالتقوى.
إذاً من مظاهر الغرور أن تجد الإنسان محتقراً للآخرين، وكما قلنا في مسألة سماع آرائهم والالتفات إلى كلامهم، فتجده بكل سهولة عنده استعداد لأن يقطع كلامه، وأن يذهب ويتركه يتحدث لوحده، وبكل سهولة تجده ينشغل، هذا غرور عميق جداً في النفس قد لا يشعر به، وإلا لو أعطى محدثه وزنه وقدره، وأعطى نفسه وزنها وقدرها لما اغتر بنفسه لهذه الدرجة من الغرور التي جعلته ينصرف عن سماع كلامه وعن رأيه، وأذكر قصة، قالوا: إن رجلاً صعلوكاً فقيراً وقف لملك من الملوك، فكان ذلك الملك في موكب لا يمكن أن يقف به أمام هذا الصعلوك، فالتفت إليه ذلك الرجل الفقير، وقال: اسمع! لقد وقف الهدهد يكلم سليمان عليه السلام، فاستمع سليمان للهدهد، ومن أنت حتى لا تسمع لي؟ فعجب الملك من بلاغة بيانه وخطابه، وتوقف وسمع كلامه حتى انتهى.
أحياناً أنت تعرف شخصاً، وأنه هذا فلان بن فلان، وقد يجمعك به النادي، أو يجمعك به زواج، أو مسجد أو مكان ما، ومع ذلك: ما عندك استعداد تعترف أن فلاناً موجود أبداً، وهذا مرضٌ خطيرٌ في النفوس من جانبين: جانب حب الشهرة، وجانب احتقار وازدراء الآخرين، وفيه مسة من مس الكبر.
حصل أن هشام بن عبد الملك كان يطوف بالبيت، ورأى زين العابدين بن الحسين بن علي وقد كان من العباد الزهاد الأئمة الأعلام الفقهاء ومن آل البيت، وكان الفرزدق في نفس ذلك المقام، فكانوا يطوفون حول البيت، فقال هشام بن عبد الملك : من هذا؟ وهشام يعرف أنه زين العابدين بن الحسين بن علي إلى آخر شيء، فالتفت الفرزدق قائلاً:
وليس قولك من هذا بضـائره العرب تعرف من أنكرت والعجم |
هذا ابن خير عباد الله قاطبة هذا التقي النقي الطاهر العلم |
ما قال (لا) قط إلا في تشهـده لولا التشهد كانت لاؤه نعم |
يغضي حياءً فيغضى من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم |
فتمنى هشام بن عبد الملك أنه ما ازدراه وما التفت إليه، لأن زين العابدين نال بهذا السؤال مدحاً ومكانة ومنـزلة، وما كان من الذين يشتهون المدح أو الشهرة، لكن حينما تجد من يزدري في الحقيقة فذلك نابع من الغرور والكبر والحسد، ولله در الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله، وكما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود |
حينما يريد حاسد من الحاسدين فيه غرور أن يحتقرك وأن ينزل من مقامك، فيسوقه الله جل وعلا للكلام عنك ازدراءً، فإذ بالمقابل تجد في نفس المجلس من يذود عنك ويدافع، ويذب عن عرضك، فهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، إذاً فالذين يغترون بأنفسهم ويحتقرون الآخرين هم في الحقيقة لا يعودون بالاحتقار إلا على أنفسهم.
عدم قبول النصح
أو تجد الآخر يقول: والله يا أخي! الخياط دائماً يتهاون بالثياب، لكن الخياط ما ألزمك أنك تلبس هذا الثوب بدليل لو لم تدفع له الأجرة إلا بعد أن يعدل هذا الثوب كما ترى لعدل أموراً كثيرة.
وآخر يقول لك: أنا عارف أن ثوبي طويل، لكن أنا ما ألبسه خيلاء ولا ألبسه تكبراً يعني: اطمئن، هذه نصيحة ينبغي أن تقبلها، يجب عليك أن تقبل النصيحة ولا عذر لك في ردها ورفضها، وإن رددتها، فهذا باب من الكبر كما قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس، قالوا: وما بطر الحق؟ قال: رده مع من جاء به، وغمط الناس هو احتقارهم) إذاً فرد النصيحة مرتبط بالكبر وباحتقار الآخرين وبالغرور أيضاً.
عدم الخضوع للكبير والإجلال للعالم
عدم الخضوع للكبير والإجلال للعالم وطالب العلم؛ تجد البعض يقول: لماذا أنتظر هذا العالم؟ أنا في خير، أنا عندي فلوس وعندي مال وأكل وشراب، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة) هذا رجل شاب في الإسلام، فإن من إجلالك لله سبحانه وتعالى؛ أن تكرم شيبة شابت في الإسلام، بغض النظر عمن شاب في الإسلام على علم وعلى دعوة وعلى جهاد، وعلى الأمور الحميدة التي تشهد لصاحبها بكل خير وفضل وسابقة إحسان، فمن مظاهر وجود الغرور في النفس أن تجد هذا لا يخضع للكبير ولا يجل العالم، ولا يحترم كبير السن، وهذه مصيبة من المصائب.
الناس الذين يحبون لله وفي الله إذا كان لديهم شيخ من المشايخ الكبار الأجلاء، تجدهم هذا يسلم، وهذا يبدي مشاعره، وبعضهم ينظر من بعيد والله أعلم ما الذي في قلبه، كأنه ليس عنده استعداد أن يجل هذا الرجل الذي بلغ خمسين سنة أو بلغ ستين سنة.
وقد تكون المسألة أحياناً مسألة توازن فيما يتعلق بالمستوى الاجتماعي، أو من نفس الأسرة أو المنطقة، لكن ما هو الذي فضله علينا؟ وهذا أمرٌ قاد أبو جهل إلى أن يدفع الحق ولا يقبله، لما قابل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، قال: يا محمد! إني أعلم أن ما جئت به حق، ولكن ماذا نفعل إذا أطعمتم الحجيج وأطعمنا، وسقيتم وسقينا، وأكرمتم وأكرمنا، حتى إذا كنا وإياكم كفرسي رهان وتجافينا على الركب قلتم منا نبي! من أين نأتيكم بنبي؟
فبالمقابل نحتقره حتى يظهر من أسرتنا واحد، وفي تلك الساعة نرفع الرأس بأمر واحد، ومن خالط الناس ودقق في أحوالهم، وجد أن هذا موجود.
كلام العامة
يوجد في أمريكا برنامج اسمه رعاية النابغين، النابغون وفيه من الذين يقيسون قدرات الذكاء العقلي في المرحلة الابتدائية، وفي المرحلة المتوسطة، وفي المرحلة المتقدمة، فمثلاً: المرحلة الابتدائية فيها مائة ألف أو مليون طالب فيختار على عدد الأصابع من كل مدرسة من جاوز مقياس الذكاء العقلي عندهم حداً معيناً، وبالتالي يعطونهم عناية معينة خاصة بالنابغين، ثم بعد ذلك يفرغون لأبحاث تخص هذا المجتمع وتخص هذه الأمة، مكفيين في شأن أكلهم وشربهم ومعاشهم، والدولة مستعدة أن تقدم كل شيء، فالمهم أن نرعى هذا النابغ منذ الصغر رعاية خاصة؛ حتى ينتج لنا في المستقبل أمراً نستطيع أن نستفيد منه، وما القمر الصناعي الذي أطلقته إسرائيل قريباً ولا شك هو قمر تجسس ومحاولة جديدة لنقل المعلومات بأساليب متقدمة ومبتكرة، ولم يولد هذا القمر بين عشية وضحاها، بل ظلوا عشرين سنة في الأبحاث؛ ولد فيها علماء ومات علماء، ودخل أجيال وخرج أجيال في هذه الأبحاث، حتى خرجت إسرائيل بهذا القمر التجسسي الذي أطلقته.
والمسألة مسألة اعتراف بالآخرين وليست احتقاراً للآخرين، طائفة معينة من المجتمع ينظر إليها نظرة معينة فتعزل وحدها، ليست عزلة مقاطعة، تغزل في منهجها التعليمي؛ في معاملتها ودخلها في أمر معين من أجل أن تخدم مصالح الأمة خدمة متقدمة متطورة مبتكرة، فنحن أيها الإخوة! إذا استمرينا على مشكلة الغرور التي تفضي وتؤدي إلى احتقار الآخرين، فإننا لن نرعى نابغاً في مجتمعنا، ولن نقدم أحداً لكي يأتي يوماً ما فيعلو منبراً أو يقدم اختراعاً، أو يأتي بنظرية جديدة، وهذا خطر الغرور لا يعود على الفرد فحسب، بل ينقلب على المجتمع بأسره، لذلك فإن من علامة سلامة النفس من الغرور: أن يتمنى الإنسان الخير للآخرين ولو كانوا يفوقونه في سبيل خدمة أمته ومجتمعه، المهم أن الناس تقدم إلى الخير، أن الناس يرتقون بالأمة، أن الناس يقدمون أشياء نافعة للجيل والمجتمع، فهذا دليل صادق على عدم وجود الغرور المرتبط بالاحتقار والكبر وغمط الناس حقوقهم ودرجاتهم.
من الصور التاريخية الجميلة التي تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء بصفاء السيرة ونقاء السريرة والسلامة من الغرور: أن كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم ومعه ثلة من الصحابة يمشون في الطريق، فأوقفته عجوز فخضع برأسه وطأطأ وقال لها: ما حاجتك يا أمة الله؟ قالت: أنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وبالأمس يدعونك عمير، كنت ترعى إبل الخطاب . انظروا عمق النصيحة وصدق المواجهة، وقوة قبول الحق في النفس وعدم الغرور، فسمع لها وطأطأ، ثم كلمته كلاماً طويلاً حتى شق ذلك على أصحاب عمر الذين وقفوا ينتظرونه، فلما انتهت وقضت حاجتها منه، عاد إلى أصحابه فكأنه وجد في وجوههم شيئاً، قال: [كأني أجد في وجوهكم ما أرى! أما تعلمون من هذه؟ هذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أفلا أسمع لها، هذه
قمة إذابة الغرور من النفس، لا يوجد غرور ولا يوجد احتقار للآخرين مهما كانت منازلهم ودرجاتهم، وبالمناسبة الذين يُقيّمون الناس بالسيارات والمظاهر، والأسر والمال والمراتب والمناصب تقييمهم فاسد، العبرة من حيث القرب والدنو والبعد من الله جل وعلا، وبمقدار التقوى والحسنات والصالحات: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)رب أشعث الرأس، أغبر الجسم، ذي طمرين: ثياب بالية أطمار ممزقة، مدفوع في الأبواب، يدق الباب فلا يقال له: تفضل، مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره.
إذاً أيها الإخوة: الناس لا يقدرون بملابسهم ولا بمظاهرهم ولا بمراتبهم ولا بمناصبهم، التقدير الحقيقي للناس هو بحقيقة مدى قربهم وبعدهم من الله، نعم إنزال الناس منازلهم أمر مطلوب، لكن التقييم الدقيق الشديد ليس فقط في هذه الملابس والمراتب والمناصب والأسر وغيرها.
في الحقيقة أيها الإخوة: يوجد احتقار من كثير من الناس لبني جنسه، والدليل على ذلك أن تجلس في مجلس ما، واطرح موضوعاً معيناً، تكلم في السياسة مثلاً، يقول لك: هؤلاء السياسيون أهل دجل وكذب لا يفهمون شيئاً، ولا يقضون حاجة، يكذبون على الناس؛ احتقار الآخرين وعدم تقدير الجهود بأي حال من الأحوال، اطرح موضوعاً آخر، تكلم مثلاً عن طائفة معينة، يقول: هؤلاء يتأخرون، لا يعطون الناس وجهاً، لا يتلفتون ... إلى آخره.
تعجب في كثير من المجالس أن تجد من الناس من لا يرضى عن أحد، أينما اتجهت بالحديث عن طائفة معينة في المجتمع، فهو ليس راضياً عن أحد أبداً كما يقولون: (لا يعجبه عجب، ولا الصيام في رجب) فهو ليس راضياً عن أحد أبداً، فمثل هذا الذي تجده دائم الاحتقار والانتقاد لكل فئة وطبقة من طبقات المجتمع، هذا في الحقيقة مصاب في قرارة نفسه بداء الغرور الذي جعله يحتقر الآخرين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اعتزاز الإنسان بنفسه
تجد الإنسان الذي هو مصاب بداء الغرور دائماً عنده اعتزاز شديد وقوي إلى درجة أنه لا يود الاستشارة ولا يستشير أحداً أبداً؛ لأن في الاستشارة شيئاً من طأطأة الرأس لمن تستشيره، والاستشارة أمر مطلوب، وقد مدح الله سبحانه وتعالى الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمرهم شورى بينهم، وأمر الله نبيه أن يشاور أصحابه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] والنبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي، لكن لكي تتعلم الأمة أن المسألة ليست غروراً بالرأي ولا بالذات، وليست اعتداداً بالشخصية دون الآخرين، بل إذا كنت موجوداً فالآخرون موجودون، إذا كنت تسمع فالآخرون يسمعون، إذا كنت تبصر فالآخرون يبصرون، إذاً فلا بد أن يكون لهم نصيب من هذا القرار الذي سيكون منك، ولابد من الشورى، وبدون الشورى فإن هناك مظاهر أو إشارات تدل على وجود الغرور ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تجد الإنسان المصاب بداء الغرور لا يستشير إلا نفسه، أما الآخرون فلا يرى وجودهم، أما من سلم من هذا الأمر، فإنه يستشير في كل أمر يقول ابن الوردي :
لا تحقر الرأي يأتيك الحقير به فالنحل وهو ذباب طائر العسل |
فلا تحتقر أحداً، ولو كان هناك أمر من الأمور وأردت بنفسي أن أعتد برأيه فبه، قد أحصل نسبة الصواب فيه (10%) لكن لو أنني اجتمعت بعشرة من أصدقائي وأصحابي، وقبل أن أقرر عملاً من الأعمال استشرت وأبعدت الغرور والاعتداد بالنفس بعيداً وجانباً، ما الذي يحصل؟ فلنقدر أن كل واحد منا تكلم لمدة عشر دقائق، نفرض أن نسبة اثنين إلى عشرة من الدقائق كلام سليم وما سوى ذلك ليس بصحيح أي: أن كل واحد أصاب الصواب أو وفق إلى الصواب في دقيقتين من مجموعة عشر دقائق ونحن عشرة إذاً فقد حصلنا عشرين دقيقة من الصواب، ولو قررت في نفسي فإني لا أملك إلا دقيقتين صواب، إذاً فالمشورة دلالة على عدم الغرور، والاعتداد بالنفس هي في الحقيقة من أعظم دلالات وجود الغرور بالنفس.
أيها الأحبة: القرآن الكريم كثيراً ما يتناول هذا الداء والمرض لكي يشعر الإنسان ألا قيمة له ولا وزن إلا بخالقه الذي أوجده من العدم، وهداه إلى الإسلام، وآتاه السمع والبصر والفؤاد، والعقل والقوة، ولولا ذلك لكان جماداً من الجمادات أو بهيمة من سائر الحيوانات، يقول الله جل وعلا: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53] ليست من قوتك ولا من ذاتك ولا رصيدك: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53] إذاً بأي شيء نغتر؟ الأمر كله لله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76] لا تعجب بنفسك:
فقل لمن يدعي في العلم معرفة علمت شيئاً وغابت عنك أشياء |
بعض الناس يغتر إذا عرف مسألتين أو ثلاثاً، وقد يصاب بالغرور لأنه يحدث عامة الناس، لكن لو جلس أمام العلماء وطلبة العلم الكبار لم يجد إلا كلمة صواباً وكل كلامه أصبح خطأً، إذاً فلا يغتر الإنسان أبداً: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76] هناك من هو أعلم منك، وهناك من هو أقوى منك في هذا الجانب العلمي فلا تغتر بنفسك أبداً، ثم أيضاً: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] فلنفرض أنك نلت العلم، فهل نلت العلم كله؟ لا، ما أوتيت من العلم إلا قليلاً.
ثم لو عرجنا أيضاً وعدنا إلى شيء من الصور الجميلة التي ذابت فيها قضية الغرور ذوباناً عجيباً بحيث لا وجود له بتاتاً، أو لم يوجد هذا الغرور أساساً على الإطلاق، تعرفون أنه في مراحل النصر العسكري يكون الإنسان مزهواً غاية الزهو بالنصر، خاصة إذا كان عدوه صلب المراس شديد القتال والعداوة طويلة، كم دامت العداوة بين رسول الله وبين قريش؟ منذ أن نزل عليه وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] وصدع بالدعوة إلى أن فتح مكة وهو في حرب مريرة ومكائد وتدبير من قومه وأهل أرضه وتربته، فلما أن فتح الله له ذلك الفتح المبين ودخل مكة صلى الله عليه وسلم، هل سل السيف وأخذ يقول: إني أرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها؟
لا ما قال ذلك صلى الله عليه وسلم، دخل مكة مطأطأً رأسه قال الرواة: حتى أن رأسه ليكاد يمس قتب الرحل من شدة خضوعه صلى الله عليه وسلم لله سبحانه وتعالى وعدم الزهو أو الغرور أو الإعجاب.
والناس في أمر عظيم لقد ملك أمرهم محمد الذي قاتلوه عشرين سنة، ترى ماذا سيفعل بهم؟ فلما وقف الناس وكلهم لا يدري من سيقتل، من سيأخذ ماله أولاً، التفت إليهم صلى الله عليه وسلم، قال: (يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً يا محمد! أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) وهذا أمر ربما تظنونه سهلاً، لكن جرب أخي نفسك في عداوة مع أحد البشر، تجد أنك تتمنى اللحظة التي يقع فيها بين يديك، تقول: يا ليت القرار هذا بيدي حتى أنفيه من الخدمة المدنية تماماً، وأسحب منه الجنسية بالكلية، وأخرجه خارج المملكة.
لكن الحمد لله أن أمر البشر بيد رب البشر وفي أيدي أمة عادلة وإلا فالبشر ظلمة:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم |
من ذا الذي يسلم من الغرور خاصة في لحظة قمة النصر مع عدو طال مراسه، أنت تلاحظ أن هذا إنسان تكرهه وتبغضه، تجد الدنيا ما تسعك وما تسعه، وقديماً قيل: القبر يسع متحابين والدنيا لا تسع متباغضين، تجد قلبك يضيق عليه وإن ذكر في بلاد وأنت في بلاد أخرى.
إذاً فيا أيها الإخوة! هذه صورة جميلة من الصور النبوية التي علمنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم ألا نغتر حتى وإن ظفرنا بأعدائنا أو كنا في أعلى مراحل ودرجات الانتصار على الأعداء.
كذلك أيها الإخوة من المواقف النبوية الجميلة التي تعود الإنسان على عدم الغرور وتعوده على لين الجانب وخفض الجناح للآخرين: موقفٌ حصل للنبي صلى الله عليه وسلم فقد كان ذات يوم يوزع غنائم حنين، وكانت كثيرة جداً من السبي والإبل والغنم، فأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل، وكان إعرابياً من الأعراب ينظر إلى الغنم لها ثغاء في واد من الأودية، وذلك الأعرابي يقلب النظر والطرف معجباً بهذه الغنم في الوادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيسرك أن لك مثل هذا الوادي غنماً؟ قال: أي نعم يا رسول الله! قال: فهو لك) كاد يجن هذا الأعرابي، وأخذ يصيح بأعلى صوته: يا قومي اسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وجاءه أعرابي وكان على النبي برد نجراني غليظ الحاشية، فجذب النبي صلى الله عليه وسلم جذبة شديدة حتى أثرت في رقبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فما الذي حصل من النبي صلى الله عليه وسلم؟
التفت إليه مبتسماً، فقال الإعرابي: يا محمد! أعطنا من مال الله الذي آتاك، فإنك لا تعطينا من مالك ولا من مال أبيك، ومع سوء التصرف فأنت ترى العبارة الجافة، وهكذا كان شأن الأعراب الحاصل أنه التفت إليه صلى الله عليه وسلم وأرضاه بكلام وأعطاه ما أعطاه، وقال: (لو كانت الدنيا كلها بين يدي ما وجدتموني بخيلاً عليكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
تمييز النفس عن غيرها
أنت بشر من سائر البشر، إن كنت تتكلم عن خير وعبادة فحديث الإنسان عن نفسه في العبادات مدخل إلى الرياء، تكلم عن الحق، تكلم عن الخير، تكلم عن مكارم الأخلاق، لكن تمييز نفسك حتى تنظر إلى الآخرين وتضعهم في درجة غير لائق، تجد مثلاً بعض الناس يقول: والله أنا ما أعالج إلا في تخصصي، ونحن ما نشتري ملابسنا إلا من المكان الفلاني، وأنا ما أفصل إلا عند الخياط الفلاني، أنا بصراحة ما يعجبني إلا البنـز فقط، أي سيارة ثانية لا أستطيع أن أقودها، فهو مغرور بنفسه غروراً عجيب جداً، ويحاول أن يميز نفسه بطريقة ممقوتة، وإن كان الجالسون يهزون رءوسهم أمامه إعجاباً ظاهرياً وهم في حقيقة الأمر يحتقرونه ويمقتونه.
إذاً محاولة تمييز النفس بشيء دون سائر الناس من علامات الغرور ولا حول ولا قوة إلا بالله، النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل، فقال: (يا رسول الله! أين أبي؟ فقال: أبوك في النار، فولى الأعرابي يبكي، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا أعرابي! أبي وأبوك في النار) يعني: المسألة أني وإياك في أمر واحد، فمحاولة تميز الإنسان بشيء من أجل أن يظهر وضع نفسه، أو مكانة نفسه بدرجة معينة عن الآخرين هذا في الحقيقة من قمة الغرور، وهذا والله ملاحظ وموجود عند كثير من الناس.
من مظاهر هذا الغرور: احتقار الآخرين، وكما يقولون: الغرور مقبرة النجاح، تجد إنساناً والله لا مكانة له ولا منـزلة، ولا مرتبة ولا علم ولا درجة، ومع ذلك تجده يحتقر الآخرين، ولا يعني هذا أن من كان في منزلة ومرتبة ودرجة ومكانة وهيئة أن يحتقر الآخرين، لكن هذا مثلما يقال: عائل مستكبر.
فما هي مقومات الغرور التي عندك؟
نحن قلنا: القوة قد تفضي إلى الغرور، لكن للأسف أنك تجد كثيراً من الناس رغم ضعفهم وفقرهم ومستواهم ... إلى آخره تجدهم مع ذلك مغرورين.
إذاً يظهر هذا الغرور من خلال احتقار الآخرين، ومعروف أن القليل يسلمون على الكثير، والماشي يسلم على الراكب أو على الواقف، فتجده يمر ويشمخ بأنفه ويلفت برأسه وكأنه لا يرى أحداً، أو كأنه لا يرى إلا الذر أمامه ولا يقيم لمن حوله وزناً أبداً.
يا أخي! لماذا التطاول، ولماذا الغرور، وأي درجة بلغتها حتى تشمخ بأنفك؟ مغتر بنفسك ولا تؤدي التحية للآخرين!
احتقار الآخرين في مجالات كثيرة: احتقار الآخرين في آرائهم، احتقار الآخرين في كلامهم، تجده في مجلس، فيتكلم أحد الناس نحوه، وهو لا ينظر إليه، وما عنده استعداد ليسمع له، من هو هذا حتى يفتح فمه في هذا المكان، لماذا يا أخي؟! أحرام عليه أن يقول، وحرام عليك أن تسمع؟ لماذا تحتقره.. أليس بشراً مثلك؟ أليس له عينان ويدان ورجلان وأنف واحد؟ ما الذي ميزك وفرق بينك وبينه؟ لا فرق بينك وبينه إلا بالتقوى.
إذاً من مظاهر الغرور أن تجد الإنسان محتقراً للآخرين، وكما قلنا في مسألة سماع آرائهم والالتفات إلى كلامهم، فتجده بكل سهولة عنده استعداد لأن يقطع كلامه، وأن يذهب ويتركه يتحدث لوحده، وبكل سهولة تجده ينشغل، هذا غرور عميق جداً في النفس قد لا يشعر به، وإلا لو أعطى محدثه وزنه وقدره، وأعطى نفسه وزنها وقدرها لما اغتر بنفسه لهذه الدرجة من الغرور التي جعلته ينصرف عن سماع كلامه وعن رأيه، وأذكر قصة، قالوا: إن رجلاً صعلوكاً فقيراً وقف لملك من الملوك، فكان ذلك الملك في موكب لا يمكن أن يقف به أمام هذا الصعلوك، فالتفت إليه ذلك الرجل الفقير، وقال: اسمع! لقد وقف الهدهد يكلم سليمان عليه السلام، فاستمع سليمان للهدهد، ومن أنت حتى لا تسمع لي؟ فعجب الملك من بلاغة بيانه وخطابه، وتوقف وسمع كلامه حتى انتهى.
أحياناً أنت تعرف شخصاً، وأنه هذا فلان بن فلان، وقد يجمعك به النادي، أو يجمعك به زواج، أو مسجد أو مكان ما، ومع ذلك: ما عندك استعداد تعترف أن فلاناً موجود أبداً، وهذا مرضٌ خطيرٌ في النفوس من جانبين: جانب حب الشهرة، وجانب احتقار وازدراء الآخرين، وفيه مسة من مس الكبر.
حصل أن هشام بن عبد الملك كان يطوف بالبيت، ورأى زين العابدين بن الحسين بن علي وقد كان من العباد الزهاد الأئمة الأعلام الفقهاء ومن آل البيت، وكان الفرزدق في نفس ذلك المقام، فكانوا يطوفون حول البيت، فقال هشام بن عبد الملك : من هذا؟ وهشام يعرف أنه زين العابدين بن الحسين بن علي إلى آخر شيء، فالتفت الفرزدق قائلاً:
وليس قولك من هذا بضـائره العرب تعرف من أنكرت والعجم |
هذا ابن خير عباد الله قاطبة هذا التقي النقي الطاهر العلم |
ما قال (لا) قط إلا في تشهـده لولا التشهد كانت لاؤه نعم |
يغضي حياءً فيغضى من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم |
فتمنى هشام بن عبد الملك أنه ما ازدراه وما التفت إليه، لأن زين العابدين نال بهذا السؤال مدحاً ومكانة ومنـزلة، وما كان من الذين يشتهون المدح أو الشهرة، لكن حينما تجد من يزدري في الحقيقة فذلك نابع من الغرور والكبر والحسد، ولله در الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله، وكما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود |
حينما يريد حاسد من الحاسدين فيه غرور أن يحتقرك وأن ينزل من مقامك، فيسوقه الله جل وعلا للكلام عنك ازدراءً، فإذ بالمقابل تجد في نفس المجلس من يذود عنك ويدافع، ويذب عن عرضك، فهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، إذاً فالذين يغترون بأنفسهم ويحتقرون الآخرين هم في الحقيقة لا يعودون بالاحتقار إلا على أنفسهم.
ومن المظاهر التي تدلنا على وجود الغرور أن تجد الواحد منا لا يقبل النصح أحياناً، مثلاً: شاب مسبل ثوبه، وإسبال الثياب كما تعلمون الإصرار عليه كبيرة، وفعله لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين ففي النار) والحديث ثابت، فتأتي إلى شاب تقول له: يا أخي! أسعدك الله ومتع الله بك، ثوبك طويل مسبل -وذلك بينك وبينه، دون أن تفضحه على ملأ، بل تنصحه على انفراد- يقول لك: ليس بطويل! يا أخي! ثوبك طويل يسحب على الأرض تحت الكعب (ما أسفل من الكعبين ففي النار) يقول لك: لا، ليس بطويل، أنا خاص بنفسي، هذا ثوبي وأنا أدرى به.
أو تجد الآخر يقول: والله يا أخي! الخياط دائماً يتهاون بالثياب، لكن الخياط ما ألزمك أنك تلبس هذا الثوب بدليل لو لم تدفع له الأجرة إلا بعد أن يعدل هذا الثوب كما ترى لعدل أموراً كثيرة.
وآخر يقول لك: أنا عارف أن ثوبي طويل، لكن أنا ما ألبسه خيلاء ولا ألبسه تكبراً يعني: اطمئن، هذه نصيحة ينبغي أن تقبلها، يجب عليك أن تقبل النصيحة ولا عذر لك في ردها ورفضها، وإن رددتها، فهذا باب من الكبر كما قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس، قالوا: وما بطر الحق؟ قال: رده مع من جاء به، وغمط الناس هو احتقارهم) إذاً فرد النصيحة مرتبط بالكبر وباحتقار الآخرين وبالغرور أيضاً.
كذلك أيها الإخوة من مظاهر الغرور الذي نجده كثيراً في أنفسنا وما أجمل الصراحة! كلٌ يسأل نفسه هل هذا يوجد فيه أم لا؛ سواء ما قلناه أو ما سنقوله؟
عدم الخضوع للكبير والإجلال للعالم وطالب العلم؛ تجد البعض يقول: لماذا أنتظر هذا العالم؟ أنا في خير، أنا عندي فلوس وعندي مال وأكل وشراب، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة) هذا رجل شاب في الإسلام، فإن من إجلالك لله سبحانه وتعالى؛ أن تكرم شيبة شابت في الإسلام، بغض النظر عمن شاب في الإسلام على علم وعلى دعوة وعلى جهاد، وعلى الأمور الحميدة التي تشهد لصاحبها بكل خير وفضل وسابقة إحسان، فمن مظاهر وجود الغرور في النفس أن تجد هذا لا يخضع للكبير ولا يجل العالم، ولا يحترم كبير السن، وهذه مصيبة من المصائب.
الناس الذين يحبون لله وفي الله إذا كان لديهم شيخ من المشايخ الكبار الأجلاء، تجدهم هذا يسلم، وهذا يبدي مشاعره، وبعضهم ينظر من بعيد والله أعلم ما الذي في قلبه، كأنه ليس عنده استعداد أن يجل هذا الرجل الذي بلغ خمسين سنة أو بلغ ستين سنة.
وقد تكون المسألة أحياناً مسألة توازن فيما يتعلق بالمستوى الاجتماعي، أو من نفس الأسرة أو المنطقة، لكن ما هو الذي فضله علينا؟ وهذا أمرٌ قاد أبو جهل إلى أن يدفع الحق ولا يقبله، لما قابل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، قال: يا محمد! إني أعلم أن ما جئت به حق، ولكن ماذا نفعل إذا أطعمتم الحجيج وأطعمنا، وسقيتم وسقينا، وأكرمتم وأكرمنا، حتى إذا كنا وإياكم كفرسي رهان وتجافينا على الركب قلتم منا نبي! من أين نأتيكم بنبي؟
فبالمقابل نحتقره حتى يظهر من أسرتنا واحد، وفي تلك الساعة نرفع الرأس بأمر واحد، ومن خالط الناس ودقق في أحوالهم، وجد أن هذا موجود.
ومن الأمور التي فيها شيء من الغرور والكبر: كلام العامة يقولون: من عرفك صغيراً احتقرك كبيراً، وهذه عقدة موجودة عندنا، أما عند الغرب وليس إعجاباً بهم، إذا رأوا فيه منذ الصغر شيئاً من النباهة والفهم والذكاء، فتجد له عناية ومعاملة خاصة.
يوجد في أمريكا برنامج اسمه رعاية النابغين، النابغون وفيه من الذين يقيسون قدرات الذكاء العقلي في المرحلة الابتدائية، وفي المرحلة المتوسطة، وفي المرحلة المتقدمة، فمثلاً: المرحلة الابتدائية فيها مائة ألف أو مليون طالب فيختار على عدد الأصابع من كل مدرسة من جاوز مقياس الذكاء العقلي عندهم حداً معيناً، وبالتالي يعطونهم عناية معينة خاصة بالنابغين، ثم بعد ذلك يفرغون لأبحاث تخص هذا المجتمع وتخص هذه الأمة، مكفيين في شأن أكلهم وشربهم ومعاشهم، والدولة مستعدة أن تقدم كل شيء، فالمهم أن نرعى هذا النابغ منذ الصغر رعاية خاصة؛ حتى ينتج لنا في المستقبل أمراً نستطيع أن نستفيد منه، وما القمر الصناعي الذي أطلقته إسرائيل قريباً ولا شك هو قمر تجسس ومحاولة جديدة لنقل المعلومات بأساليب متقدمة ومبتكرة، ولم يولد هذا القمر بين عشية وضحاها، بل ظلوا عشرين سنة في الأبحاث؛ ولد فيها علماء ومات علماء، ودخل أجيال وخرج أجيال في هذه الأبحاث، حتى خرجت إسرائيل بهذا القمر التجسسي الذي أطلقته.
والمسألة مسألة اعتراف بالآخرين وليست احتقاراً للآخرين، طائفة معينة من المجتمع ينظر إليها نظرة معينة فتعزل وحدها، ليست عزلة مقاطعة، تغزل في منهجها التعليمي؛ في معاملتها ودخلها في أمر معين من أجل أن تخدم مصالح الأمة خدمة متقدمة متطورة مبتكرة، فنحن أيها الإخوة! إذا استمرينا على مشكلة الغرور التي تفضي وتؤدي إلى احتقار الآخرين، فإننا لن نرعى نابغاً في مجتمعنا، ولن نقدم أحداً لكي يأتي يوماً ما فيعلو منبراً أو يقدم اختراعاً، أو يأتي بنظرية جديدة، وهذا خطر الغرور لا يعود على الفرد فحسب، بل ينقلب على المجتمع بأسره، لذلك فإن من علامة سلامة النفس من الغرور: أن يتمنى الإنسان الخير للآخرين ولو كانوا يفوقونه في سبيل خدمة أمته ومجتمعه، المهم أن الناس تقدم إلى الخير، أن الناس يرتقون بالأمة، أن الناس يقدمون أشياء نافعة للجيل والمجتمع، فهذا دليل صادق على عدم وجود الغرور المرتبط بالاحتقار والكبر وغمط الناس حقوقهم ودرجاتهم.
من الصور التاريخية الجميلة التي تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء بصفاء السيرة ونقاء السريرة والسلامة من الغرور: أن كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم ومعه ثلة من الصحابة يمشون في الطريق، فأوقفته عجوز فخضع برأسه وطأطأ وقال لها: ما حاجتك يا أمة الله؟ قالت: أنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وبالأمس يدعونك عمير، كنت ترعى إبل الخطاب . انظروا عمق النصيحة وصدق المواجهة، وقوة قبول الحق في النفس وعدم الغرور، فسمع لها وطأطأ، ثم كلمته كلاماً طويلاً حتى شق ذلك على أصحاب عمر الذين وقفوا ينتظرونه، فلما انتهت وقضت حاجتها منه، عاد إلى أصحابه فكأنه وجد في وجوههم شيئاً، قال: [كأني أجد في وجوهكم ما أرى! أما تعلمون من هذه؟ هذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أفلا أسمع لها، هذه
قمة إذابة الغرور من النفس، لا يوجد غرور ولا يوجد احتقار للآخرين مهما كانت منازلهم ودرجاتهم، وبالمناسبة الذين يُقيّمون الناس بالسيارات والمظاهر، والأسر والمال والمراتب والمناصب تقييمهم فاسد، العبرة من حيث القرب والدنو والبعد من الله جل وعلا، وبمقدار التقوى والحسنات والصالحات: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)رب أشعث الرأس، أغبر الجسم، ذي طمرين: ثياب بالية أطمار ممزقة، مدفوع في الأبواب، يدق الباب فلا يقال له: تفضل، مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره.
إذاً أيها الإخوة: الناس لا يقدرون بملابسهم ولا بمظاهرهم ولا بمراتبهم ولا بمناصبهم، التقدير الحقيقي للناس هو بحقيقة مدى قربهم وبعدهم من الله، نعم إنزال الناس منازلهم أمر مطلوب، لكن التقييم الدقيق الشديد ليس فقط في هذه الملابس والمراتب والمناصب والأسر وغيرها.
في الحقيقة أيها الإخوة: يوجد احتقار من كثير من الناس لبني جنسه، والدليل على ذلك أن تجلس في مجلس ما، واطرح موضوعاً معيناً، تكلم في السياسة مثلاً، يقول لك: هؤلاء السياسيون أهل دجل وكذب لا يفهمون شيئاً، ولا يقضون حاجة، يكذبون على الناس؛ احتقار الآخرين وعدم تقدير الجهود بأي حال من الأحوال، اطرح موضوعاً آخر، تكلم مثلاً عن طائفة معينة، يقول: هؤلاء يتأخرون، لا يعطون الناس وجهاً، لا يتلفتون ... إلى آخره.
تعجب في كثير من المجالس أن تجد من الناس من لا يرضى عن أحد، أينما اتجهت بالحديث عن طائفة معينة في المجتمع، فهو ليس راضياً عن أحد أبداً كما يقولون: (لا يعجبه عجب، ولا الصيام في رجب) فهو ليس راضياً عن أحد أبداً، فمثل هذا الذي تجده دائم الاحتقار والانتقاد لكل فئة وطبقة من طبقات المجتمع، هذا في الحقيقة مصاب في قرارة نفسه بداء الغرور الذي جعله يحتقر الآخرين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كذلك أيها الإخوة من علامات الغرور: أن تجد الإنسان سريع الاعتزاز بالنفس، وتجده دائماً معتزاً برأيه ومعتزاً بنفسه، ويهمه أن يطبق الناس ما يقول، ويهمه أن تكون المشورة مشورته والقول ما يقوله والذي يُنَفَّذ هو ما رآه.
تجد الإنسان الذي هو مصاب بداء الغرور دائماً عنده اعتزاز شديد وقوي إلى درجة أنه لا يود الاستشارة ولا يستشير أحداً أبداً؛ لأن في الاستشارة شيئاً من طأطأة الرأس لمن تستشيره، والاستشارة أمر مطلوب، وقد مدح الله سبحانه وتعالى الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمرهم شورى بينهم، وأمر الله نبيه أن يشاور أصحابه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] والنبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي، لكن لكي تتعلم الأمة أن المسألة ليست غروراً بالرأي ولا بالذات، وليست اعتداداً بالشخصية دون الآخرين، بل إذا كنت موجوداً فالآخرون موجودون، إذا كنت تسمع فالآخرون يسمعون، إذا كنت تبصر فالآخرون يبصرون، إذاً فلا بد أن يكون لهم نصيب من هذا القرار الذي سيكون منك، ولابد من الشورى، وبدون الشورى فإن هناك مظاهر أو إشارات تدل على وجود الغرور ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تجد الإنسان المصاب بداء الغرور لا يستشير إلا نفسه، أما الآخرون فلا يرى وجودهم، أما من سلم من هذا الأمر، فإنه يستشير في كل أمر يقول ابن الوردي :
لا تحقر الرأي يأتيك الحقير به فالنحل وهو ذباب طائر العسل |
فلا تحتقر أحداً، ولو كان هناك أمر من الأمور وأردت بنفسي أن أعتد برأيه فبه، قد أحصل نسبة الصواب فيه (10%) لكن لو أنني اجتمعت بعشرة من أصدقائي وأصحابي، وقبل أن أقرر عملاً من الأعمال استشرت وأبعدت الغرور والاعتداد بالنفس بعيداً وجانباً، ما الذي يحصل؟ فلنقدر أن كل واحد منا تكلم لمدة عشر دقائق، نفرض أن نسبة اثنين إلى عشرة من الدقائق كلام سليم وما سوى ذلك ليس بصحيح أي: أن كل واحد أصاب الصواب أو وفق إلى الصواب في دقيقتين من مجموعة عشر دقائق ونحن عشرة إذاً فقد حصلنا عشرين دقيقة من الصواب، ولو قررت في نفسي فإني لا أملك إلا دقيقتين صواب، إذاً فالمشورة دلالة على عدم الغرور، والاعتداد بالنفس هي في الحقيقة من أعظم دلالات وجود الغرور بالنفس.
أيها الأحبة: القرآن الكريم كثيراً ما يتناول هذا الداء والمرض لكي يشعر الإنسان ألا قيمة له ولا وزن إلا بخالقه الذي أوجده من العدم، وهداه إلى الإسلام، وآتاه السمع والبصر والفؤاد، والعقل والقوة، ولولا ذلك لكان جماداً من الجمادات أو بهيمة من سائر الحيوانات، يقول الله جل وعلا: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53] ليست من قوتك ولا من ذاتك ولا رصيدك: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53] إذاً بأي شيء نغتر؟ الأمر كله لله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76] لا تعجب بنفسك:
فقل لمن يدعي في العلم معرفة علمت شيئاً وغابت عنك أشياء |
بعض الناس يغتر إذا عرف مسألتين أو ثلاثاً، وقد يصاب بالغرور لأنه يحدث عامة الناس، لكن لو جلس أمام العلماء وطلبة العلم الكبار لم يجد إلا كلمة صواباً وكل كلامه أصبح خطأً، إذاً فلا يغتر الإنسان أبداً: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76] هناك من هو أعلم منك، وهناك من هو أقوى منك في هذا الجانب العلمي فلا تغتر بنفسك أبداً، ثم أيضاً: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] فلنفرض أنك نلت العلم، فهل نلت العلم كله؟ لا، ما أوتيت من العلم إلا قليلاً.
ثم لو عرجنا أيضاً وعدنا إلى شيء من الصور الجميلة التي ذابت فيها قضية الغرور ذوباناً عجيباً بحيث لا وجود له بتاتاً، أو لم يوجد هذا الغرور أساساً على الإطلاق، تعرفون أنه في مراحل النصر العسكري يكون الإنسان مزهواً غاية الزهو بالنصر، خاصة إذا كان عدوه صلب المراس شديد القتال والعداوة طويلة، كم دامت العداوة بين رسول الله وبين قريش؟ منذ أن نزل عليه وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] وصدع بالدعوة إلى أن فتح مكة وهو في حرب مريرة ومكائد وتدبير من قومه وأهل أرضه وتربته، فلما أن فتح الله له ذلك الفتح المبين ودخل مكة صلى الله عليه وسلم، هل سل السيف وأخذ يقول: إني أرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها؟
لا ما قال ذلك صلى الله عليه وسلم، دخل مكة مطأطأً رأسه قال الرواة: حتى أن رأسه ليكاد يمس قتب الرحل من شدة خضوعه صلى الله عليه وسلم لله سبحانه وتعالى وعدم الزهو أو الغرور أو الإعجاب.
والناس في أمر عظيم لقد ملك أمرهم محمد الذي قاتلوه عشرين سنة، ترى ماذا سيفعل بهم؟ فلما وقف الناس وكلهم لا يدري من سيقتل، من سيأخذ ماله أولاً، التفت إليهم صلى الله عليه وسلم، قال: (يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً يا محمد! أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) وهذا أمر ربما تظنونه سهلاً، لكن جرب أخي نفسك في عداوة مع أحد البشر، تجد أنك تتمنى اللحظة التي يقع فيها بين يديك، تقول: يا ليت القرار هذا بيدي حتى أنفيه من الخدمة المدنية تماماً، وأسحب منه الجنسية بالكلية، وأخرجه خارج المملكة.
لكن الحمد لله أن أمر البشر بيد رب البشر وفي أيدي أمة عادلة وإلا فالبشر ظلمة:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم |
من ذا الذي يسلم من الغرور خاصة في لحظة قمة النصر مع عدو طال مراسه، أنت تلاحظ أن هذا إنسان تكرهه وتبغضه، تجد الدنيا ما تسعك وما تسعه، وقديماً قيل: القبر يسع متحابين والدنيا لا تسع متباغضين، تجد قلبك يضيق عليه وإن ذكر في بلاد وأنت في بلاد أخرى.
إذاً فيا أيها الإخوة! هذه صورة جميلة من الصور النبوية التي علمنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم ألا نغتر حتى وإن ظفرنا بأعدائنا أو كنا في أعلى مراحل ودرجات الانتصار على الأعداء.
كذلك أيها الإخوة من المواقف النبوية الجميلة التي تعود الإنسان على عدم الغرور وتعوده على لين الجانب وخفض الجناح للآخرين: موقفٌ حصل للنبي صلى الله عليه وسلم فقد كان ذات يوم يوزع غنائم حنين، وكانت كثيرة جداً من السبي والإبل والغنم، فأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل، وكان إعرابياً من الأعراب ينظر إلى الغنم لها ثغاء في واد من الأودية، وذلك الأعرابي يقلب النظر والطرف معجباً بهذه الغنم في الوادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيسرك أن لك مثل هذا الوادي غنماً؟ قال: أي نعم يا رسول الله! قال: فهو لك) كاد يجن هذا الأعرابي، وأخذ يصيح بأعلى صوته: يا قومي اسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وجاءه أعرابي وكان على النبي برد نجراني غليظ الحاشية، فجذب النبي صلى الله عليه وسلم جذبة شديدة حتى أثرت في رقبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فما الذي حصل من النبي صلى الله عليه وسلم؟
التفت إليه مبتسماً، فقال الإعرابي: يا محمد! أعطنا من مال الله الذي آتاك، فإنك لا تعطينا من مالك ولا من مال أبيك، ومع سوء التصرف فأنت ترى العبارة الجافة، وهكذا كان شأن الأعراب الحاصل أنه التفت إليه صلى الله عليه وسلم وأرضاه بكلام وأعطاه ما أعطاه، وقال: (لو كانت الدنيا كلها بين يدي ما وجدتموني بخيلاً عليكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.