معاناة النازحين السوريين.. كما رأيت
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
خرجت من رحلتي القصيرة إلى دولة الأردن بقصص مبكية ومؤلمة، قصص تحكي فصول الرعب والجريمة المنظمة، وشاهدت المعاناة عن قرب معاناة أكثر من 90 ألف نازح، يعيشون في ظروف صعبة وهم في حاجة ماسة إلى كل شيء، فالسكن غير متوفر والأعداد كبيرة، والجمعيات هناك تقوم على التبرعات والدعم الشعبي، والدعم الحكومي شبه معدوم، رأيت في زيارتي القصيرة همم عالية من كافة العاملين على جهود الإغاثة من الرجال والنساء، الكل يحاول أن يمسح دمعة الطفل اليتيم والشيخ المسكين والأرملة الثكلى، ولكن هذه الجهود لن تحل كافة المشاكل في شح الدعم المادي لهذه الجمعيات النشطة..
وعلى سبيل المثال لا الحصر: توجد جمعيات بحاجة إلى دعم عاجل لتقديم يد العون والمساعدة لدعم النازحين منها: (جمعية الهلال الأخضر، ورابطة المرأة السورية، وجمعية الكتاب والسنة) فهم يعملون بجد واجتهاد، ينقص النازحين هناك مستلزمات كثيرة، ولا تكاد تغطي التبرعات النقدية المتواضعة حجم المصروفات الكبيرة، والتي تقدمها هذه الجمعيات المتفانية في عملها، والتي تنتظر أن يقدم الأخوة في كل مكان يد العون والمساعدة للمساهمة في دعم صمود الشعب السوري، وتضميد جراحه الكثيرة..
تبين لي في زيارتي القصيرة مدى تفريطي وتأخري عن نجدة الشعب السوري الشقيق، عندما وقفت على المعاناة عن قرب ولكم أن تتخيلوا المعاناة الأصعب، والتي يعاني منها الشعب السوري داخل سجنه الكبير في سوريا ، والذي يواجه ومنذ ما يزيد عن سنة كاملة آلة القتل والدمار على يد جزار قرداحه بشار أسد، الذي ابتكر هو وجنوده أساليب جديدة للتعذيب، ومارس أشد أصناف العذاب تجاه الشعب الأعزل الذي ليس له ذنب سوى أنه قال ربي الله ونشد الحرية والتحرر من نظام الكفر والطغيان.
القصص التي سمعتها من أفواه النازحين كثيرة، ولعل أكثر قصة علقت في ذهني وتألمت لها: ما حدثني به جار صاحب هذه القصة، الذي شاهد جاره وهو من مدينة حمص، وهو يقوم بقتل بناته الثلاثة بعد أن علم باغتصابهن على يد الشبيحة وجنود الجيش النظامي، ومن ثم قام هذا الرجل بإطلاق النار على نفسه وانتحر، ومن القصص التي تحكي مرارة الاغتصاب: قصة إحدى الفتيات التي اشتكت أكثر من مرة إلى أحد الأطباء النفسيين، والذي أخبرني عن حالتها النفسية الصعبة، وعن عظم ما تجده من تكرار حديث أبيها لها بعد علمه بقيام الشبيحة باغتصابها، فأخذ يردد عليها في كل يوم كلمة "ليتهم قتلوك لأرتاح".
ومن القصص المفزعة قصة أبو حسام: وهو من مدينة درعا والذي تحدث لي عن مداهمة بيته من قبل 40 جندي وأخذه واقتياده إلى السجن، وقيامهم بتعذيبه وكي قدمه بالنار ومن ثم قاموا بكسرها، كل هذا التعذيب من أجل أنهم كانوا يظنون أنه هو من قام بالتكبير في المسجد، يكمل أبو حسام حديثه بمرارة ليقول: "بعد خروجي من السجن هربت مع عائلتي بعد تهديدهم لي بتصفيتي إن لم أترك المنزل".
ومن القصص العجيبة التي استمعت إليها: قصة أخونا (عبد الرحمن) وهو من مدينة حماه والذي رأيت فيه السمت والهمة العالية يقول عبد الرحمن: "بعد خروجي لإحدى المظاهرات تمت إصابتي بسبع طلقات نارية في مختلف جسمي من قبل رجال الجيش، وعندها فقدت الوعي ولم أدري عن نفسي إلا وأنا في ثلاجة الموتى، والتي مكثت فيها قرابة الثلاث ساعات ولما أراد أهلي تشيعي وجدوني على قيد الحياة، فتم إسعافي وأنا اليوم أقف على قدمي وسأعود إلى وطني في أقرب فرصة تحين لي".
من المشاهد التي رأيتها في رحلتي منظر تلك العجوز المقهورة، والتي تبلغ من العمر63 سنه وهي تعاني من شلل نصفي، فعند سؤالي لأحد الأخوة عن سبب شللها قال لي: "أنها شُلت نظير ما شاهدته من رعب وخوف عند دخول الجيش والشبيحة إلى منزلها، وأخذ أولادها واغتصاب بناتها وتصفيتهن أمام عينيها، فما كان منها إلا أن سقطت مغشي عليها، وهي اليوم تعاني من هذه الإعاقة الدائمة".
ومن القصص التي حدثني بها أحد النازحين قصة شاهدها بنفسه، وقعت في مدينة دوما في ريف دمشق حيث قال لي: "أنه تم إحضار عائلة مكونة من رجل وزوجته وأبنته أمام جامع الأنصاري في دوما، فقام الشبيحة والجنود بإعدام الأم وابنتها أمام رب الأسرة، وعند الانتهاء من جريمتهم طلبوا من الأب أن يوقع على محضر يقول فيه أن العصابات المسلحة هي التي قتلت عائلته، وعند رفضه قاموا بتقطيع أصابعه وسجنوه لفترة قصيرة وهو اليوم يعيش نازحاً في أحد الغرف المتهالكة في ضواحي عمان".
ومن قصص التهجير قصة (أبو أحمد) الذي كان يسكن حي الرمل في مدينة اللاذقية، والذي أجبر على تسليم منزله الذي يضم ثلاثة طوابق، فقاموا بطرده وتهديده بالقتل إن لم يترك المدينة فنزح مع أهله وهو في حالة يرثى لها الآن، فعائلته كبيرة والمساعدات لا تفي بالغرض، ولما فرغت من الحديث مع أبو أحمد اقترب مني أحد الأخوة وبادرني بالسلام، وأخذ يحدثني عن قصة شاهدها بنفسه، والتي حصلت في الأيام الأولى من الثورة السورية، وهي اعتقال أكثر من 200 شاب من شباب اللاذقية والذهاب بهم إلى برادات وثلاجات كبيرة، ووضعهم فيها وتركهم حتى تجمدوا وفارقوا الحياة، ومن ثم قام الجيش بدفنهم في مقبرة جماعية.
بعد غروب الشمس عدت إلى الفندق لأجهز نفسي للسفر، ولكن قبل ذلك اقترح علي شاب سوري اسمه علي وهو متعاون مع جمعية خيرية أن أزور بعض جرحى الثورة السورية في مستشفى قريب، فأخذ معهم موعد على عجل، وصلنا إليهم وكان عددهم عشرة من خيرة الشباب ، وكنت أظن أني أنا الذي سأخفف عنهم بعض جراحهم وأرفع من معنوياتهم، غير أني ذهلت من روحهم العالية وبشاشتهم وتصميمهم على إسقاط النظام وإجماعهم على كلمة واحده قالوها بصوت واحد "عائدون"! كانت جلسة رائعة..! فأخذوا يحدثوني ويذكروا لي غير مره عن عزمهم العودة إلى الوطن حين استطاعتهم المشي على أقدامهم لتقديم كل ما بوسعهم لخدمة وطنهم وشعبهم، كانوا مبتسمين وهم يتحدثون وفيهم الذي بترت يده والذي شلت قدمه، والذي تقطعت أوتاره العصبية..
رأيت رجال يرددون كلمات النصر والتوكل على الله، فكثيراً ما تسمع كلمة "هي لله"، "ثورتنا منصورة"، "ما نركع إلا لله"، شد انتباهي حديث أحدهم ويدعى (محمد) كان يتحدث عن سوريا ما بعد نظام بشار، وعن عزمه ورفاقه تطهير سوريا من دنس البعث النصيري وتغلغل الرافضة وكافة الشركيات، التي زرعها النظام عبر خمسة عقود مضت، كان لحديثهم نكهة خاصة حديث تفوح منه رائحة الإيمان والشوق إلى التحرر من نظام البعث النصيري، مضت قرابة الساعتين من دون أدنى ملل، كان لكل جريح قصة حرصت أن أسمعها منه، فـ(زاهر) مثلاً: كانت يده مقطوعة، وعند سؤالي له عن كيفية قطعها، قال: "أنه وبعد سجنه في سجن المزه في دمشق وضع أحد الضباط قنبلة صغيرة في يده وقال له أنظر إلى يدك ومن ثم قام بتفجيرها عن بُعد لتتناثر أصابعه أمام عينه".
قبل خروجي من عند الأخوة الجرحى حضر شاب قد شفي من إصابته وعرف بنفسه أنه من مدينة درعا، وأسمه (مراد) وأخذ يسرد لي قصة اعتقاله وكيف أمضى ثلاثة أشهر في سجون النظام، يقول مراد: "سجنت مع سبعة من رفاقي في زنزانة طولها مترين وعرضها متر واحد، ومارس النظام السوري أشد أصناف التعذيب تجاه كافة المعتقلين، كان الصعق الكهربائي هو أول ما استقبل به زبانية بشار الشباب في سجنهم وكان تعليق السجين على الجدار لساعات طويلة هو ما يعقب الصعق الكهربائي، وكانت الشتائم حاضرة في كل وقت ولم يدخر النظام أي أسلوب لتعذيب المعتقلين".
بعد زيارتي القصيرة للجرحى أخذت أودعهم فردًا فردًا، وعند خروجي رأيت أحدهم ينتظرني عند الباب الخارجي وهو يقف على عكاز صغير، وبعد أن تجاذبنا الحديث قليلاً قال لي حرفياً: "لا نريد طعاماً ولا شراباً نريد دعماً للجيش الحر للإطاحة بنظام بشار..
المال وحده هو الذي سيشتري السلاح وسنسقط بشار بقوة الله وعونه".
بعد هذه الكلمة الأخيرة خرجت مع أخي (علي) وهو الذي رافقني في كل زياراتي السابقة، فأخذ يحدثني عن بعض القصص التي سمعها من أصحابها..
فروى لي قصة الضابط المنشق الذي حدثه عن إشرافه على مجزرة حصلت في الملعب البلدي في درعا، حيث أنه أشرف بنفسه على دفن المئات من المعتقلين في هذا الملعب، وقام بتنفيذ هذه الجريمة في وقت قصير بمساعدة عناصر روسية وإيرانية ولبنانية وعراقية، واستمر أخي (علي) يسرد القصص فذكر لي قصة فتاه وحيدة من حمص تبلغ من العمر 15سنه فقدت بصرها بعد إصابتها في قصف صاروخي فهربت من جحيم النظام، ونزحت إلى مدينة عمان وهي تعيش الآن برفقة عائلة نازحة وهي بحاجة إلى عمليات عاجلة، وإلى تأهيل نفسي متكامل.
وصلنا إلى الفندق وقبل أن أودع أخي (علي) قابلت خاله وهو أحد الأطباء النفسيين، فأخذ يحدثني عن انتشار الخوف والقلق بين النازحين نظير ما شاهدوه من جرائم مفزعة، وذكر لي تفشي ظاهرة الأرملة المراهقة التي تعاني فراق زوجها بعد وفاته، وتعاني الكثير من المصاعب النفسية والاجتماعية، ولم ينسى أن يعرج على معاناة الفتيات المغتصبات وحجم الأسى الذي يعتريهن، فهن بحاجة إلى عناية خاصة ولكن الإمكانيات ضعيفة والتجهيزات في أقل حالاتها.
وفي ختام هذه الرحلة القصيرة يؤسفني أن أقول: أن الحضور العربي محدود في دعم جهود الإغاثة، فالنازحين كُثر واستيعاب الأعداد الكبيرة والمتدفقة يوميًا أمر صعب في ظل شح الدعم المادي، فعدد النازحين في الأردن وحدها قارب على 100 ألف نازح، وكل يوم يعبر أكثر من 100 شخص الحدود، فالنازحين في كل مدينة أردنية فتركيزهم الأكبر يقع في العاصمة عمان ويتوزع باقي النازحين على مدن متعددة كمدينة: (المفرق والرمثا وأربد ومعان والكرك وجرش..) وغيرها من القرى والمحافظات.
رسالة إلى حكام العرب:
استوقفني أحد الأطباء ليسألني عن حكم الإجهاض وعن موقف الشرع منه، فلما أحلته على أحد طلبة العلم ليستفتيه قال لي: "أن كثير من حرائر سوريا تم اغتصابهن على يد نظام الكفر والطغيان، وبعضهن حملن والله المستعان".
وقال لي حرفيًا: "نريد دعمكم لنشتري حبوب منع الحمل ونرسلها إلى الداخل" انتهى كلامه..
تركي الربعي