النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن في دلجة الليل
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
النبي صلى الله عليه وسلم والقرآنفي دلجة الليل
ما أجمل أن تَجتمع سكينة القرآن الكريم مع سَكن الليل، أليس قد قال الله تعالى: ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ﴾ [الأنعام: 96].
وفي كتاب الله إشارات إلى ذلك الجَمال الأخَّاذ لقراءة الوحي بالليل؛ منها أنَّ الله تعالى أثنى على قومٍ بذلك، فقال: ﴿ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ﴾ [آل عمران: 113].
ومنها قوله تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18].
إنَّه جَلال القرآن في الليل، وكفى.
وكلَّما أقبل اللَّيل يُخيَّل إليَّ أنَّه خُلقَ للقرآن، ومن يطَّلع على حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم في دلجة الليل، وسيرته مع القرآن، يجد مِصداق ما أقول، ويرى فيها العجب العجاب، ومن الأمثلة على ذلك:
أولًا: في رمضان:
رمضان شَهر القرآن، وفيه أُنزل، فلا تسأل عن حال النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه، ومن الأمثلة على ذلك:
1 - "كان النَّبي صلى الله عليه وسلم أجود النَّاس بالخير، وأجود ما يكونُ في شهر رمضان؛ لأنَّ جبريل كان يَلقاه في كلِّ ليلةٍ في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرضُ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القُرآنَ، فإذا لقيه جبريلُ كان أجود بالخير من الرِّيح المُرسلة"[1].
وفي روايةٍ: "كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كلَّ عام مرَّة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه، وكان يعتكف كلَّ عام عشرًا فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه"[2].
2 - وكان للنَّبي صلى الله عليه وسلم ورِد في كل ليلة؛ فقد جاء عن أَوس بن حذيفة أنه قال: كنتُ في الوفد الذين أتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أسلَموا من ثقيف من بني مالك، أَنزَلَنا في قبَّة له، فكان يَختلف إلينا بين بيوته وبين المسجد، فإذا صلى العشاءَ الآخرة انصرف إلينا فلا يبرح يحدِّثنا ويشتكي قريشًا ويشتكي أهلَ مكَّة، ثم يقول: ((لا سواء، كنا بمكَّةَ مستذلين أو مستضعفين، فلمَّا خرَجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب علينا ولنا))، فمكث عنَّا ليلة لم يأتِنا، حتى طال ذلك علينا بعد العشاء، قال قلنا: ما أمكثك عنَّا يا رسولَ الله؟
قال: ((طرأ عليَّ حِزبي من القرآن، فأردتُ أن لا أخرج حتى أقضيه))، فسألنا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحنا، قال: قلنا: كيف تحزِّبون القرآن؟ قالوا: نحزِّبه: ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من ق حتى تختم"[3].
ومن المعلوم في كُتب السيرة أنَّ ثقيف وفدَت على النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان من السنة التاسعة من الهجرة.
ثانيًا: في غير رمضان:
ومن الأمثلة على ذلك:
1 - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثِر من تلاوة القرآن بالليل، لا سيما في الصلاة، حتى ربَّما قرأ في الركعة الواحدة البقرة وآل عمران والنساء"[4].
وإذا علِمنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي إحدى عشرة ركعة، فكم سيكون عدد السور التي يتلوها؟
2 - وكان صلى الله عليه وسلم لا ينامُ حتَّى يَقرأ ﴿ الم * تَنْزِيلُ ﴾ [السجدة: 1، 2]، و﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1][5].
3 - "وكان صلى الله عليه وسلم لا ينامُ حتى يقرأ الزُّمر، وبني إسرائيل"[6].
4 - وكان يقرأ المسبحات:
فقد جاء عن عِرباض بن سارية رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ المُسبحات قبل أن يَرقُد، وقال: ((إنَّ فيهنَّ آيةً أفضلُ من ألف آية))[7].
ويعني بالمُسبحات: (الحديد) و(الحشر) و(الصَّف) و(الجُمُعة) و(التغابن)[8].
قال ابن كثير: "الآية المشار إليها في الحديث والله أعلم: هي قول الحقِّ سبحانه: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3].
ومما يؤكِّد ذلك ما جاء عن سُهيلٍ، قال: كان أبو صالحٍ يأمُرُنا إذا أراد أحدُنا أن ينام أن يضطجع على شقِّه الأيمن، ثُمَّ يقولُ:
((اللهمَّ ربَّ السَّموات، وربَّ الأرض، وربَّ العرش العظيم، ربنا ورب كلِّ شيءٍ، فالِق الحبِّ والنَّوى، ومُنزل التوراة والإنجيل والفُرقان، أعُوذُ بك من شرِّ كلِّ شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته، اللهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظَّاهرُ فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطِنُ فليس دونك شيءٌ، اقض عنَّا الدَّين وأغننا من الفقر))، وكان يَروي ذلك، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم[9].
5 - وكان يوصي بقِراءة آية الكرسي:
فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكَّلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحِفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يَحثُو من الطَّعام فأخذتُه، فقُلتُ: لأرفعنَّك إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم...
فذكر الحديث، فقال: إذا أويتَ إلى فِراشك فاقرأ آيةَ الكرسيِّ، لن يزال عليك من الله حافِظٌ، ولا يقربك شيطانٌ حتى تُصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صَدَقك وهو كذُوب، ذاك شيطانٌ))[10].
6 - وكان يوصي بقِراءة الآيتين من آخر سورة البقرة:
فقد جاء عن أبي مَسعودٍ البدريِّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الآيتان مِن آخر سورة البقرة، مَن قرأهما في ليلةٍ كفَتاه))[11].
قال النووي رحمه الله: "قيل: معناه كفَتاه من قيام اللَّيل، وقيل: من الشَّيطان، وقيل: من الآفات، ويحتملُ من الجميع"[12].
7 - وكان يَقرأ أواخرَ آل عمران عند الاستيقاظ من النوم في الليل:
فقد جاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّه بات عند مَيمونة وهي خالتُه: "فاضطجعتُ في عَرض وسادةٍ، واضطجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأهلُه في طُولها، فنام حتى انتصف الليلُ - أو قريبًا منه - فاستيقظ يَمسحُ النَّوم عن وجهه، ثُمَّ قرأ عشرَ آياتٍ من آل عمران، ثُمَّ قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى شنٍّ مُعلَّقةٍ، فتوضَّأ، فأحسن الوُضوءَ، ثُمَّ قام يُصلِّي"[13].
8 - وكان يقرأ المعوذات:
فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فِراشه كلَّ ليلةٍ جمع كفَّيه، ثُمَّ نفث فيهما فقرأ فيهما: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1]، ثُمَّ يمسحُ بهما ما استطاع من جسده؛ يبدأُ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعلُ ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ"[14].
9 - وكان يوصي بقِراءة سورة الكافرون:
فقد جاء عن فروة بن نوفل عن أبيه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لنوفل: ((اقرأ: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ [الكافرون: 1]، ثمَّ نَم على خاتمتها، فإنها بَراءة من الشِّرك))[15].
وقد قمتُ بإحصاء ما يقرأ، فبلغ ما يقارب سبعة أجزاء ونصف على أقلِّ تقدير.
• وهذا الجهد من النَّبي صلى الله عليه وسلم كان تطبيقًا لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 6].
ثالثًا: من الصور الجميلة في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن في دلجة الليل:
1 - ما جاء عنه أنه قال: ((إنِّي لأعرف أصواتَ رفقة الأشعريين بالقرآن حين يَدخلون بالليل، وأعرف منازلَهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنتُ لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار))[16].
إن انبعاث صَوت القارئ بالقرآن بين أَمواج الليل السَّاكن قصَّة تنحني لها النفوس.
2 - وكان صلى الله عليه وسلم يتابِع أصحابَه، ممن يقوم في دلجة الليل ليتلو كتابَ ربه، ومن الصور الجميلة في ذلك:
• أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال مرَّة لأبي موسى: ((لو رأيتني وأنا أستمِع لقراءتك البارحة))[17].
• إنَّها أسرار روحانيَّة القرآن حين تَستحوذ على سكون الليل البهيم.
3 - ومن الصور الجميلة ما جاء عن أسيد بن حضير قال: بينما هو يَقرأ من الليل سورةَ البقرة، فرفعتُ رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلَّة فيها أَمثال المصابيح، فخرجتُ حتى لا أراها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وتدري ما ذاك؟))، قال: لا، قال رسول الله: ((تلك الملائكة دنَت لصوتك، ولو قرأتَ لأصبحت يَنظر الناس إليها لا تتوارى منهم))[18].
لماذا تنزلَت الملائكة كأنَّها المصابيح تتلألأ وخرجَت عن استتارها؟ إنها عَجائب كتاب الله حين يهيمِن فوق سكون الليل.
4 - ومن الصور الجميلة في هذا الباب:
أن شريحًا الحضرمي ذُكِر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: ((ذاك رجل لا يتوسَّد القرآن))[19].
ومعناه: أنَّه لا ينام بالليل ويترك حِزبَه من القرآن، لكن البلاغة النَّبوية العظيمة صوَّرَت مَن ينام عن القرآن كأنه اتَّخذ القرآنَ وسادة![20].
• أيها الإنسان، جعل الله النَّهارَ لرؤية الآثار والأنوار، وجعل الليلَ لمناجاته، وتلاوة كتابه، والوقوف بين يديه، وصدق من قال:
إذا جنَّ ليلي هامَ قلبي بذِكركم *** أنوحُ كما ناحَ الحمامُ المطوَّقُ
وعلينا أن نسأل أنفسنا:
متى سنتذوق حلاوةَ كتاب الله آناء الليل؟
[1] أخرجه البخاري في صحيحه (4711).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه (4712).
[3] رواه أحمد (16166)، وأبو داود في سننه (1393)، وقال الحافظ العراقي: "إسناده حسن".
[4] رواه مسلم في صحيحه (722).
[5] أخرجه الترمذي في جامعه (2892) عن جَابِرٍ رضي الله عنه.
[6] أخرجه الترمذي في جامعه (3405) عن عَائِشَة رضي الله عنها.
[7] أخرجه الترمذي في جامعه (5057).
[8] تفسير القرطبي (17/ 235).
[9] أخرجه مسلم في صحيحه (2713).
[10] أخرجه البخاري في صحيحه (3275).
[11] أخرجه البخاري (4008) ومسلم (807).
[12] شرح مسلم للنووي (6/ 92).
[13] رواه البخاري (992)، ومسلم (763).
[14] رواه البخاري في صحيحه (5017).
[15] رواه أبو داود في سننه (5055).
[16] أخرجه البخاري في صحيحه (4232).
[17] أخرجه مسلم في صحيحه (1887).
[18] أخرجه البخاري في صحيحه (5018).
[19] أخرجه النسائي (3/ 256).
[20] هذه الصور مستفادة من مقال الأخ إبراهيم السكران، بعنوان: منازل الأشعريين.