الشباب اللاهثون


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله على آلائه التي لا تنسى، الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، الحمد لله خلقنا من العدم وهدانا إلى الإسلام ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا ومن كل خير سألناه أعطانا، الحمد لله على كل حال، الحمد لله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله .. يا أهل رابغ.. نشهد الله أنا نحبكم في الله، ونسأله جل وعلا بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، أسأل الله لكم يا أهل رابغ ولنفسي ولإخواني المسلمين أن يجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاجعة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، ربنا لا تدع لهذه الوجوه في هذا المكان الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته.

إلهنا أنت تعلم مقامنا وتعلم يا ربنا أننا اجتمعنا نرجو جنتك ونخشى عذابك، إلهنا جئنا واجتمعنا بأحبابنا وجلس أحبابنا إلينا، والله لا نريد منهم ولا يريدون منا جزاءً ولا شكوراً من عرض الدنيا ومتاعها الفاني وإنما جئنا نستغفرك اللهم لذنوبنا، ونستجديك العون لحياتنا، ونسألك الاستقامة في سبيلنا.

أيها الأحبة.. موضوع محاضرتنا هو: (الشباب اللاهثون) وقبل أن أخوض في الموضوع فإني أشكر الإخوة الذين يعملون في مكتب الدعوة للتعاون التابع لإدارة أو رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وأسأل الله أن يجزيهم وأن يجزي إمام الجامع هذا خير الجزاء، وأن يوفقه ويعينه على تحمل أعباء الدعوة وإخوانه المشائخ الفضلاء وطلبة العلم النبلاء.

أيها الأحبة.. الشباب اللاهثون، اللاهثون: جمع لاهث، واللاهث هو الذي يركض يمنة ويسرة، ويرمي ببصره ويلتفت بعنقه ويسارع خطوه، ويحرك يده، ويشرئب ببصره يمنة ويسرة، ومن شدة الجهد والعناء والسير تجده يلهث، يتراد النفس، تجد الزفير والشهيق في نفسه متتابع، ولكن إلى أين؟ ومن أين؟ ولأجل من؟ وفي سبيل من؟ وعلى طريقة من؟

شباب لاهثون هم من أبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا وأحبابنا وأقاربنا وقريباتنا، ألم تروا يوماً من الأيام شباباً يملئون الأرصفة والطرقات؟ ألم ترو يوماً من الأيام شباباً يتسكعون في الأسواق؟ ألم تروا يوماً من الأيام شباباً يجوبون الطرقات بسيارتهم ذاهبين آيبين؟ ألم تروا يوماً من الأيام شباباً أضناهم التشجيع وأتعبهم التصفيق والنعيق والتطبيق لكل ما يرونه من زبالات الحضارة الأجنبية وحثالات الفكر المستورد؟ ألم تروا شباباً ضاع وقتهم بين الأفلام والمسلسلات وأشرطة الفيديو ومسلسلات التلفاز؟ ألم تروا شباباً ضاعت أسماعهم في سماع الأغاني والملاهي؟ ألم تروا جيلاً ربما تعب جسده وأضنى بدنه وراء الرقص والطبلة والمزمار؟ ألم تروا شباباً يتابع آخر فريق فاز وآخر دوري نصب، ومن هو الذي نال الكأس، ومن هو الذي رشح للبطولة، ومن الذي تقدم لدوري الأربعة؟ ألم تروا شابات أشغلتهن موضات الأزياء ومجلات البُردَ؟ ألم تروا جيلاً أشغلهم السهر يتبادلون السجائر والأحاديث التي لا فائدة فيها؟ ألم تروا هؤلاء؟ هؤلاء هم شريحة اللاهثين.

أولئك يلهثون ويتعبون، وتجد أحدهم يوم أن تجده قافلاً إلى بيته وتقول: يا فلان.. تعال معي خمس دقائق. يقول: أنا الآن تعبان، أنا الآن نفسي يتطاير، أنا الآن نفسي يتصاعد. تجده يلهث من شدة التعب والمشقة، لكن من أين؟ من الجهاد في سبيل الله؟ من الدعوة إلى الله؟ من مساعدة المنكوبين؟ من إغاثة الملهوفين؟ من طلب العلم؟

لا، جاء متعباً، جاء مضنىً، جاء منهكاً، ولكن من أين؟ جاء من معصية، أو من قضية تافهة، أو أمر لا يليق أن ينشغل به بشر كرمه الله جل وعلا وخلقه الله سبحانه وتعالى، وجعل فيه السمع والبصر والفؤاد، وخلقه في أحسن صورة وأحسن تقويم، وأسجد الملائكة لأبيه، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وحمله في البر والبحر، بشر أكرمه الله بهذه النعم ثم تراه بعد ذلك يأبى ويرفض ويرد كرامة الله ويختار النجاسة والزبالة والوحل والوضيعة والنقيصة والهوان..!!

أولئك هم اللاهثون، اللاهثون وراء الشهرة، اللاهثون وراء الوظيفة، اللاهثون وراء المنصب، اللاهثون وراء اللذة الجنسية والشذوذ الأخلاقي، اللاهثون وراء الفاحشة، اللاهثون وراء المعصية، اللاهثون وراء ما لا ينفع، واللاهثون وراء كل ما يضر.. هذه ليست صفة كل أبناء مجتمعنا.. لا، ففي مجتمعنا خير كثير، وأنتم من وجوه الخير الدالة على الخير في مجتمعنا، ولكن في مجتمعنا شريحة محدودة من الشباب والشابات، من البنين والبنات، من الرجال والنساء، هؤلاء يلهثون وراء ماذا؟

وراء ما لا ينفعهم في الدنيا ولا يرفعهم في الآخرة، ولا يسرهم في القبور، ولا يضيء لهم اللحود، ولا يؤنسهم في الوحشة.

أيها الأحبة .. وقبل أن نعالج أحوال كثير من الشباب اللاهثين وراء المعاكسة، أو اللاهثين وراء الفاحشة، أو وراء السفر للخارج، أو وراء المجلات، أو وراء الأفلام، أو وراء الكرة، أو اللاهثين وراء ما لا ينفع من ما صدرته الحضارة الغربية أو الحضيرة الغربية، أولئك قبل أن نعالج مشكلة كل واحد على حدة فلنسأل: ما هو الخلل الموجود في الدماغ؟ أين الخراب الموجود في الفكر، أو في المخ، أو في المخيخ، أو في طريقة التفكير التي جعلت هذا يتجه نحو الأفلام، وهذا نحو المخدرات، وهذا نحو الشذوذ، وهذا نحو الفواحش، وهذا نحو الآثام والمعاصي؟

قدوة غائبة

إن هناك عنصراً واحداً هو الذي أنتج كل هذه المشاكل، فمن العقل أن نعالج سبب المرض لا أن نعالج أعراض المرض، لو أن مريضاً من المرضى جاء إلى الطبيب في المستشفى فقال: عندي ارتفاع في درجة الحرارة، وعندي آلام في المعدة، وعندي شعور بالبرد، وعندي آلام في المفاصل، وعندي صداع في الرأس، وجمع خمسة أعراض.

إن الطبيب الأحمق هو الذي يصرف خمسة أدوية فيعطي الصداع دواءً، وآلام المعدة دواءً، وارتفاع وانخفاض الحرارة دواءً، وآلام المفاصل دواءً، وأوجاع الظهر دواءً، لكن الطبيب الذكي الحاذق هو الذي يبحث عن الشيء الذي سبب هذه الأعراض الخمسة فيعطيك علاجاً يقطع السبب، ثم تنقطع الأعراض، ثم لا تحتاج إلى تلك الأدوية، كل مشكلة لها علاج على حدة.

نعم .. من الحماقة أن نناقش كل قضية على حدة بمعزل عن مناقشة السبب الذي أوجد لنا هذه الشريحة التي بات اهتمامها وأصبح بعضهم كما قال الله: كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] يتعب ويكد وفي نكد ونصب ووصب ومشقة، يلهث، يذهب، يجيء، يروح، يرتفع صوته، ينخفض، يتقدم، يخطو، يرحل، يسافر، لكن إلى أين؟ ومن أين؟ ولماذا؟ ولأجل من؟ ينبغي أن نسأل: ما هو السبب المولد لهذه المشكلة؟

واسمحوا لي -أيها الإخوة- أن نقول: يمكن أن نجعل السبب الذي هو مجموعة عناصر ولدت هذه المشاكل في نقاط: أولها: شعور كثير من أبنائنا وبناتنا بعقدة النقص، فيرون الآخرين جبالاً ويرون أنفسهم أقزاماً، يرون الآخرين عمارات سامقة ويرون أنفسهم حشرات ضئيلة، يرون الآخرين قمماً عالية ويرون أنفسهم ذرات مهينة، ثم بعد ذلك يمتلئون إعجاباً بالغرب، إعجاباً بالآخرين، ويمتلئون احتقاراً لأنفسهم فلا يرى أحدهم سبيلاً إلى إثبات وجوده وتحقيق ذاته، وإيجاد نفسه في مجتمعه، ولكي يقول للناس: إني موجود، وإني أتكلم، وإني صاحب هواية، وإني صاحب فكر، فتراه يختار وسيلة من وسائل الشذوذ أو الانحراف أو المعاصي لكي يلتفت إليه الناس وينظرونه .. وهذا هو أقرب تفسير لظاهرة كثير من الشباب الذين تجدهم أصلاً لا يعرفون التدخين فيحمل السيجارة ويدخن، ويجبر نفسه على التدخين حتى لا ينظر إليه نظرة نقص، أو حتى يلفت الآخرين إلى نفسه، وهذا هو السبب الذي تفسر به وجود بعض الشباب الذي تراه قد جعل من شعره مجسماً تشكيلياً، صوالين الحلاقة الآن امتلأت بمختلف القصات والموضات، آخر قصة "قصة أزمة الخليج" رأسه في أزمة، ولذلك كانت الحلاقة على شكل أزمة الخليج، ومنهم من قال: هذه "قصة كولن باول" وبعضهم من قال: هذه أزمة أو هذه "قصة شوار سكوف" أو هذه قصة فلان أو علان، المهم يريد أن يثبت للآخرين أنه يعرف شيئاً جديداً ويسلك مسلكاً جديداً حتى يلتفت إليه الناس، فعقدة الشعور بالنقص تجاه الآخرين ولدت في نفسه أن يسلك سلوكاً بموجبه يلبس أو يحلق أو يفعل أو يتصرف بطريقة تجعل الآخرين ينظرون إليه نظرة مستقلة عن سائر الناس.

ولو أنه يعلم أن الآخرين ينظرون إلى هذا بمنظار الازدراء والنقص والهوان لوجدته لم يفعل هذا أبداً، ولكنه رأى ما حوله من المجلات والشاشات والدعايات والإعلاميات وما شئت يجدها تصب في قالب إبراز أولئك الشاذين وغض النظر والإغفاء عن أحوال القدوات الجميلة الراقية في المجتمع.

تربية منفلتة ضائعة

أيضاً أيها الأحبة من الأسباب الجوهرية في هذه القضية: مسألة التربية.

نحن نربي أطفالاً بلا هدف، تسمين عجول، تسمين أبقار وأغنام في كثير من البيوت، تجد الطفل يتدحرج من العافية لكن عقله كالطبل لا يوجد فيه شيء، عجبت للطفل الشيوعي أو الطفل الروسي قبل سقوط روسيا تجده شيوعياً من صغره، والطفل العراقي التابع لمدارس حزب البعث تجده بعثياً من طفولته، والطفل المنحرف الفاجر الذي هو في بؤرة فاجرة تجده يحقد على المسلمين منذ صغره، والطفل النصراني تجده عقلاً ممتلئاً بكراهية المسلمين والشعور بالفخر للعنصرية البيضاء تجاه الآخرين.

ولكن طفلنا اليوم اسأله عن انتمائه، اسأله عن اتجاهه، اسأله عن آلامه، اسأله عن آماله، لا يجد شيئاً، طفلنا يعرف أفلام الكرتون، ويعرف مجلة ميكي والوطواط، ويعرف قصة البيضة الفارغة والعصفور المكسور، أما أن تجد عند أطفالنا تربية ذات هدف هذا لا يوجد إلا عند أسر محدودة من الناس، أما البقية الباقية من كثير من هذه الشريحة تجدها -ويا للأسف!- يربون أطفالاً تربية التسمين، بل لو قيل لأحدهم: يا فلان.. ما ضرك لو أنك مع مجموعة من جيرانك استقدمتم أو استوفدتم مدرساً من إحدى البلاد العربية الإسلامية أو حتى من بلاد العجم من باكستان وغيرها وجعلته يدرس أولادك القرآن براتب شهري قدره ألف ريال إذا قدرنا نحن عشرة بيوت، وعند كل واحد منا طفلان، يعني: عندنا عشرون طفلاً، كل واحد منا يقدم قرابة مائتي ريال شهرياً من أجل أن ندفع مرتباً قدره ألف لمدرس يحفظ أبناءنا بعد العصر ويدرسهم، وبعد المغرب يعطيهم درساً في السيرة، وبعد العشاء ربما راجع مع بعضهم شيئاً من الواجبات... لقالوا: وهل نحن مجانين؟ نحن نخسر الأموال بهذه الطريقة؟ هل نحن حمقى؟ إذاً ما دور المدارس؟!

يا أخي الكريم.. إن المدرسة لا تغني عن التربية شيئاً، بل إن الأصل في تفوق الطالب ربما كان صلاح تربيته في أسرته، وفي المقابل تجد كثيراً من البيوت فيها خادمة بستمائة ريال، والسائق بقرابة ثمانمائة ريال، الخادمة دورها تلميع الزجاج والأبواب والنوافذ، ونبذل الستمائة ريال ونحن في منتهى الشعور بالراحة والطمأنينة، لكن أن نقدم ستمائة ريال لمدرس يدرس أولادنا.. لا، هذا ولد إن نفع فلنفسه وإن أساء فعليها..

لا يا أخي، هذا الولد يحتاج إلى تربية، ولذلك كثير من الشباب الذين وجدناهم بصفة اللاهثين الذي يجوبون الطرقات، ويملئون الأرصفة، ولا هم لهم إلا آخر أغنية وآخر مقطوعة، ومن الفريق الذي فاز، ومن هي الممثلة التي اعتزلت، ومن هو الفنان النجم الذي مات، ومن هو ومن هو ... إلخ، أولئك تجدهم لم يتلقوا تربيةً على مستوى علمي أو عقلي أو ثقافي أو ديني، ولأجل ذلك امتلأت عقولهم بالزبالات، أما الذين يتربون تربية راقية يشعر الرجل منهم أن ولده فيه عقل في رأسه، وهذا العقل الذي في الرأس بمثابة الزجاج البلوري الكريستالي اللامع الجميل، فتجد الرجل يقول: أنا لا أجعل عقل ولدي الزجاجي البلوري الناعم مكاناً للزبالة ولا للرمال المختلطة ولا للنفايات، بل أحترم هذا العقل -عقل الطفل أحترمه- وأجعله مكاناً يحفظ القرآن ويحفظ السنة، ويتعلم الشعر، ويعرف الآداب، ويقرأ عن أخبار العرب وعن معارك المسلمين، ويكون لديه اطلاع بأحوال المسلمين في العالم.. هذا أمر ممكن أيها الإخوة.

منذ أيام كنت في زيارة لأحد الأصدقاء وعنده ولد صغير نجح من المرحلة الخامسة الابتدائية إلى السادسة الابتدائية، فبينما نحن نتحدث إذ دخل معنا الطفل في الحديث، وإذ بي أجد طفلاً يتحدث عن البوسنة والهرسك، ويتكلم عن سراييفو ، ويتكلم عن ميتران رئيس فرنسا النصراني الحاقد الذي حال دون المسلمين واستلام المطار ليكون مهبطاً لدعم الأسلحة، ويتكلم عن مؤامرات الصربيين إلى تقسيم البوسنة والهرسك بين الكرواتيين، فجن جنوني..! قلت: ما شاء الله! لا إله إلا الله! تبارك الله! هذا الطفل ينجح من خامسة إلى سادسة ابتدائي ويتكلم عن هذه المعلومات؟! فلما تأملت إذ بوالده ووالدته يتحدثان إذا جلسا على الطعام وإذا جلسا للشاي عن هذه القضايا، ويلقنان الولد هذه الأمور فتجد طفلاً يحمل قلباً كبيراً، وتجد صغيراً يحمل عقلاً فذاً، وتجد ناشئاً يحمل هموم أمة، وفي المقابل تجد رجلاً عمره خمسة وعشرون سنة أو سبعة وعشرون سنة لا هم له إلا أن ينتظر حبيبته تفتح النافذة لكي يلقي عليها بنظرة، أو لا هم له إلا أن ينتظر رسالة المعشوقة متى ترسل بالرسالة مع طفل أو مع سفير أو مندوب، أو لا هم له إلا أن ينتظر متى يحين الوقت لخبص البلوت وتعمير الشيشة... وهلم جرا!

وأين قضايا المسلمين؟ وأين أحوال المسلمين؟ وأين العبادة؟ وأين الخوف من الله؟ وأين الطمع في الجنة؟ وأين الإعداد للموت؟ وأين الإعداد لما بعد الموت؟ وأين الإعداد للسؤال والجواب بين يدي الله؟ لا تجد شيئاً.

إذاً: أيها الأحبة! التربية سبب، فربما ربينا أطفالاً أصبحت أجسامهم أحسن من أجسام البغال، يصلحون للكد والتحميل، ولكن عقولهم -أيضاً- كعقول البغال:

لا بأس بالقوم من طول ومن قصر     جسم البغال وأحلام العصافير

بل إن بعض المجانين أصبحوا أحسن من بعض اللاهثين، والشيء بالشيء يذكر، خذوا هذه الطرفة اليسيرة: يقال: إن رجلاً -شاب من الذي جاء يفحط بسرعة- جاء ولف بسرعة عند مكان من الأماكن فمن شدة لف الكفرات صواميل الكفر -البراغي التي تمسك الكفر في السيارة- انقطع، فجلس هذا الشاب المفحط يدور إذ به يدور حول مبنى مستشفى المجانين، وإذ بمجنون يطل على هذا الشاب من النافذة فقال المجنون: لماذا أنت تدور على السيارة، ما بك؟ قال: والله أنت ترى، لفيت بسرعة وانقطعت صامولة الكفر وجالس هكذا. قال المجنون: فقط، يا أخي فك من كل كفر صامولة وركبها محل الصواميل التي انكسرت. قال: والله اقتراح جميل وفكرة صحيحة! طيب أنت لماذا أنت جالس في مستشفى المجانين؟ قال: صح، هذا مستشفى المجانين وليس مكان أغبياء.

فالواقع أن عندنا من الغباء ما يتعدى الجنون، بل إن بعض المجانين أفضل حظاً من بعض شريحة اللاهثين الأغبياء، ولا نقول هذا مزيداً لاحتقارهم، ولا نقول هذا مزيداً من هوانهم بل فيهم من الهوان ما يكفي قال تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].

ولكن نقول: إن هوان العقل عند شريحة من أبناء الأمة بلغ حداً مضحكاً عجيباً.

تربية بلا هدف

كذلك إذا وجد هؤلاء الشباب وهم في الطفولة تربية بلا هدف، وفي المراهقة أنشطة بلا اتجاه، ولا يجدون قدوة سوية ممتازة، أضف على ذلك الغزو المكثف الموجه إلى أبناء المسلمين، هذه الشريحة -شريحة اللاهثين- كيف أصبح بعضهم يربط على جبينه خرقة حمراء، ويلبس فنيلة قد أبدت كتفيه، وأخذ يستعرض بعضلاته وكأنه يقول للشباب: انظروا إلى رامبو يدور في رابغ، انظروا إلى رامبو يدور على شواطئ جدة، انظروا إلى رامبو يدور في الرياض، ويتمثل هذا الأمر.. هذا الشاب في الحقيقة فعل هذا، وغيره فعل غيرها من العزف على العود والمنافسة في مثل هذه الأمور الرديئة بسبب النجومية التي وجه الإعلام أسهمه فيها، يعني: الآن أنت ترى، من هو أفضل واحد على مستوى الإعلام الذي يغزى به الناس ويوجه إلى الناس؟

النجم هو اللاعب الرياضي، النجم هو الفنان الكبير، النجم هو المخرج السينمائي، النجم اللامع هو الذي أصبح هداف الدوري، النجم اللامع هو الذي أصبح ممثلاً قديراً، النجم هو الذي أصبح منتجاً سينمائياً رائعاً، لكن لم يعرف الشباب يوماً من خلال الإعلام، ولم يعرفوا من خلال الجرائد، ولم يعرفوا من خلال المجلات، ولا من خلال الداعية أن النجم هو الذي حفظ القرآن بسبع قراءات، ولم يعرفوا أن النجم هو الذي حفظ البخاري ومسلم ، وما رأوا أو سمعوا يوماً أن النجومية واللموع لمن دعا إلى الله على بصيرة، ولم يعرفوا يوماً أن النجومية واللموع لمن كان جاداً في متابعة المخدرات.

نعم يوجد أحياناً إشادة بإنسان كان له دور في عمل ثقافي أو اجتماعي، لكن الغالب على الضخ الإعلامي والحرب الإعلامية والجرائد والمجلات والمنشورات أن النجم هو اللاعب والفنان بالدرجة الأولى .. هذان -المطرب واللاعب- تجدهما يتقدمان السباق في قضية النجومية والشهرة.

نعم .. حينما يرى الصغار والشباب أن النجومية واللموع لهاتين الشريحتين؛ يصبح أحدهم يقول: وكيف أكون مشهوراً؟ وكيف أكون لامعاً؟ وكيف أكون معروفاً؟

إذاً الطريق إلى أن أكون مشهوراً، والطريق إلى أن أكون معروفاً، إما أن أنخرط في سلك الرياضة، وإما أن أنخرط في سلك الفن، لكن ما تجد إلا أندر من أندر النادر من يقول: أريد أن أطور جهاز الهاتف الموجود بين أيدينا، أو أريد أن نستفيد كيف نستطيع أن نبث على الغرب معلومات عن الإسلام، أو يقول: كيف أستطيع أن أصنع شيئاً ينفع الإسلام والمسلمين.. هذا نادر؛ لأن التلميع والدعاية والإعلان والتشجيع في الغالب لا تجده إلا لهاتين الشريحتين، هذا في الغالب، ولأجل ذلك لا غرابة أن تجد بعض الشباب..، بل حتى بعض الفتيات من تلك الشريحة يتمنين أن يكن أصدقاء لمطربين أو لفنانين.

تلميع لأهل الفن والعهر والفساد

مدرسة من المدرسات قبضت ذات يوم على طالبة من الطالبات وهي تتبادل مع زميلاتها أوتوجراف؛ الأوتوجراف: هو دفتر صغير ربما صنع على شكل القلب أو على شكل العود أو على شكل الكمنجة، وفيه ألوان وورود، ويتبادل به الفتيات العناوين، والأسماء، والأكلة المفضلة، واللاعب الممتاز، والمطرب الذي تهواه، والأغاني ... فجن جنون المدرسة! وجدت الصفحة الأولى: الاسم فلانة، الهواية: أن تكون مضيفة، كيف دخل على عقل فتاة من بناتنا هواية أن تكون مضيفة؟! لأنها ما سمعت يوماً من الأيام انتقاداً للمضيفة التي تختلط بالرجال ولا تستحي أو يعرف عنها أنها سافرة، قليلة الأدب، قليلة الحياء، قد انكسر حجابها وحياؤها وماتت عفتها؛ ولأجل ذلك لو سمعت انتقادات المجتمع والإعلام من حولها والجرائد من حولها تقدح وتذم وظيفة المضيفة لكرهت الفتاة أن تكون مضيفة، ولكنها لما قرأت المقال ورأت صورة المضيفة وشاهدتها تقف تمنت أن تكون مثلها.

والأخرى ماذا تتمنى؟ قالت: أتمنى أن أكون عارضة أزياء..! والثالثة ماذا تتمنى؟ قالت: أتمنى أن أكون نجمة سينمائية..! بل وبعضهن قالت: أتمنى أن أسافر إلى بانكوك ! هذا أمر يا إخوان ليس من ضرب القول وإنما هو من أوتوجراف قبضت عليه مدرسة موجود في يد بعض الطالبات، وإذا كانت المدرسة فيها ألف طالبة فإنا لا نقول: كل طالباتنا خربن، لكن نقول: يوجد شريحة من طالباتنا أو من طلابنا هذا مستوى تفكيرهم؛ والسبب: لا توجد تربية حسنة، ولا توجد مثل أعلى في القدوة الحسنة.

وزيادة عن ذلك رأت وقرأت في الجرائد والمجلات والشاشة، وسمعت في الموجات أن المضيفة هي الملاك الطاهر، هي اليد الحنونة، هي التي تبعث الطمأنينة في نفوس الركاب إذا أقلعت الطائرة وأبحرت سفينة السماء في خضم أمواج الهواء، فإذا أصاب الناس ما أصابهم رأوا مضيفة وادعة كلها الأمن والطمأنينة.. وهذا ليس بصحيح، بل أول ما يتدافع على الأبواب عند مشاكل الطائرات المضيفات، وأول من يخوف الناس المضيفات، وأول من يروع الناس المضيفات، ولكن ما يقال للناس وكل ما يقرأ الناس ويسمعون أن هذه المضيفة هي الملاك الطاهر هذا شيء آخر، زد على ذلك أنها ذات اللباس الرشيق، والمساحيق المختلفة، والصورة من الألوان المجمعة في عينها وخدها وفمها وشفتيها، ثم بعد ذلك إذا زيد هذا الوصف بثناء ومديح عبر كتابة واحد من الكتاب المأجورين أو المسعورين أو المخدوعين أو الأغبياء أصبحت الفتاة تتمنى أن تكون مضيفة.

إذاً: فتاة تلهث كي تكون مضيفة أو لكي تكون عارضة أزياء أو لتكون نجمة سينمائية .. لماذا؟

لأنها رأت أن التلميع والسطوع والأضواء والثناء والمديح يكال لهذه حتى تكون مثلاً أعلى فتتمنى كل فتاة أن تكون مثلها. والله لو أننا أعطينا الأمور حقائقها فنقول: إن المضيفة خادمة في الطائرة، مسئولة هذه المضيفة إذا تقيأ رجل أو تقيأت امرأة وأخرج المتقيئ ما في جوفه من الوسخ مسئولة المضيفة أن تفتح الكيس وأن تقف عند فم المتقيئ، وأن تمد الكيس لفمه فتنتظر حتى يمتلئ الكيس قيئاً، ثم تحزمه، ثم ترميه، ومسئولة المضيفة إذا وجد رجل يعجز أن يوضئ نفسه بعد البراز والبول مسئولة المضيفة أن تمسح برازه وأن تمسح بوله، لو أعطينا المضيفة صفاتها الحقيقية بمعنى خادمة، بل أشد من خادمة لما اشتهت فتاتنا أن تكون مضيفة، لكن قلب العرض .. بدلاً من أن يقال هذه وظيفتها يقال: لا، الملاك الطاهر.. القلب الحنون.. الوديعة؛ فإذا رأت فتاتنا أو بنتنا أو أختنا المضيفة -يعني: قد يقدر لواحدة من بناتنا أن تصعد في الطائرة- ثم ماذا بعد ذلك؟ تجد هذا الملاك الطاهر الذي كتب عنه في الجرائد والمجلات ورأته في كثير من الأفلام وغيرها رأت هذا الملاك الطاهر يقف حتى تسمع صوت المزلاج، ثم ارفع اللسان إلى أعلى، ثم يسقط عليك القناع من تحت -أو القناع يسقط من فوق- ثم يسقط عليك القناع من فوق وهم ينظرون إلى حركات المضيفة فتجد الفتاة معجبة بهذه الفتاة التي كأنها تمثل عرض كراتيه بحركات يدها.

ثم إذا سرقت النظر أختنا أو بنتنا أو بنت مجتمعنا إذا سرقت النظرة إلى المضيفة وجدتها تجلس بجوار المضيف، كتفها على كتفه، فخذها على فخذه، ثم وجدت في يدها سيجارة والمضيف يولع لها السيجارة، ثم يتبادلان هذا الشيء.. ماذا الذي يحصل؟

تزداد إعجاباً بهذه المضيفة، ويؤجج ذلك شهوة الفساد والانحراف التي وجدت في النفس، ولكن لو قيل: إن هذه المضيفة هكذا صفتها، وهذا دورها، يعني: لو قلنا لفتاة من بناتنا: أعطنا مثالاً لفتاة لا تستحي من الرجال. قالت طفلة: المضيفة. نقول: الإجابة صح، ومثال لفتاة لا تستحي وتكسر حياؤها وعفتها بين الرجال، هات مثال. الجواب: المضيفة. صح، طبعاً المحاضرة ليست هجمة على المضيفات وإنما أقول لكم كيف تغسل الأدمغة؟ كيف تسلط الأضواء على عمل قبيح فيكون حسناً؟

غيبة إبراز العلماء ورجالات المجتمع

يقضى على المرء في أيام محنتـه     حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

وقول الله أبلغ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8] والعياذ بالله، فالشاب كذلك إذا وجد النجم الفلاني هو الذي تصفق له الجماهير، وهو الذي يقدمونه، وهو الذي ... إلخ، تجده نعم يعجب بهذا المطرب، ويقول: كيف أكون مطرباً؟ ثم بعد ذلك يصدق بعضهم -بعض الشباب يصدق- أنه أصبح فناناً.

وأذكر مرة من المرات -ولا وقت عندي للتلفاز ولله الحمد والمنة فضلاً عما فيه من المغالطات والمخالفات- أذكر أن مطرباً من منطقة ما أجريت معه مقابلة، فقالوا له: الفنان فلان بن فلان ذو الموهبة المتفجرة المعطاءة. الله أكبر! ما هي الموهبة المتفجرة المعطاءة؟! هل أغنت عن صاروخ باتريوت في رد قذائف الصد؟ هل أغنت عن طائرات أباتشي في قذف الدبابات؟ هل أغنت عن الترنيدو أو ألفا 15 المقاتلة؟ الموهبة المعطاءة ماذا أعطتنا؟ أعطتنا ضياعاً للجيل، وخراباً في الأمة، وتدجيلاً على الناس.

فقيل له: الموهبة المعطاءة، متى بدأت مشوارك الفني؟ سؤال وجيه جداً جداً جداً -جداً تكعيب- فقال وهو يتأوه حسرة والأسى يعصر قلبه قال: لقد كنت بدأت مشواري الفني قبل فلان وفلان وفلان ولكن الحظ ساعدهم ولم يلتفت لي. مسكين..!

أهبت بالحظ لو ناديت مجتمعاً     والحظ عني بالجهال في شغل

لعله إن بدا فضلي ونقصهم     لعينه نام عنهم أو تنبه لي

لكن هذا كلام يقوله ابن الوردي أو غيره ولا يقوله ذاك. قلت: والله مسكين يا أخي، حرام تجلس ثلاثين سنة تدقدق وتخرش العود اثنا عشر وتراً ولا أحد يعرفك..! والله حرام يا جماعة، أظهروه في الدعاية، اجعلوه قبل البقرات الثلاث، انظر والله مشكلة يا أخي، أظهروه، هذه موهبة حرام ما تطلع في المجتمع، حرام هذا مسكين ما أحد عرفه، قاعد ثلاثين سنة قبل فلان وفلان وفلان ما أحد يعرفه، والله قهر يا ناس.. ! سبحان الله العلي العظيم!

هل هي موهبة اختراع؟ هل موهبة سلاح؟ هل هي موهبة فكر؟ هل هي موهبة تعليم؟ هل هي موهبة دين؟ هل هي موهبة دعوة؟ هل هي موهبة عطاء؟ هل هي موهبة قضاء؟ هل هي موهبة طب جراحة وقلب؟

علاج في سكر؟

لا. موهبة فن، ثلاثون سنة ما أحد يعرفه، ومثل ما يقولون -هناك مثل عند أهل مصر-: قليل البخت يتكعبل في السديرية. يعني: لو يلبس سدارية يتعثر فيها، قلنا: يمكن هذا حظه كذا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فالشاهد: أن اللاهثين الذين نراهم من أسباب ركضهم ولهثهم وراء هذه المتع والشهوات والملذات الضائعة الفانية التي ما تنفع الأمة أنهم يرون المجلات والجرائد والشاشات والموجات كلها لا تلمع إلا فناناً ومطرباً ولاعباً، وقل بل وندر أن تجد في مقابلة أولئك أن يلمع العلماء أو الدعاة، بل إننا لا نحتاج إلى تلميع، فالعالم علمه يلمعه، وأعجب من هذا أن تسمع من الناس من يقول: والله يا أخي هؤلاء المطاوعة مجانين، مجرد ما الشيخ ابن باز يطلع الناس يلحقونه ويحبون رأسه ويحبون يديه ويسلمون عليه، وبمجرد الشيخ ابن عثيمين يطلع الناس يسدون الشارع وراءه .. مجانين! إذا لحقوا عالماً يبارك الله بعلمه ويستجيب الله دعوته وليسوا مجانين إذا صفقوا وراء لاعب أو مدرب يحملونه فوق أكتافهم..! لا إله إلا الله! أين هذه العقلية والموهبة الوثابة التي جعلتك تكتشف أن الناس إذا تبعوا العالم ودعوا له ومشوا في إثره ولحقوا جادته واقتفوا طريقه صاروا مجانين، ويوم أن كانوا يلحقون الممثل والممثلات ما كانوا مجانين؟.. لا إله إلا الله! إن الشيطان يفتح على أوليائه صنوفاً وضروباً من الشر ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فشريحة اللاهثين من أبنائنا يحتاجون في الحقيقة مع الدعوة واللطف والكلمة الطيبة والهدية المناسبة والأسلوب والمدخل يحتاجون أن يقال: إن من ترك الفن واتجه إلى الجهاد فهو نجم لامع، إن من ترك الضياع وملأ الفراغ بما ينفع فهو النجم الساطع، إن من ترك الغناء واشتغل بحفظ القرآن هو الكوكب الذي لا ينطفئ، إن من ترك مشاهدة الأفلام واشتغل بمطالعة الكتب هو مفكر الأمة، إن من ترك الفساد وسلك الصلاح هو الذي تحتاجه الأمة، حينئذ يشعر الشباب أن لا شيء يئزهم أو يدفعهم إلى الفساد، وإنما يرون أن كل ما حولهم حتى الداعية والإعلام وكل ما يحيط بهم يدفعهم دفعاً إلى مراقي الفلاح ومدارج الصعود، وما يرفعهم إلى كل خير بإذن الله جل وعلا.

إن هناك عنصراً واحداً هو الذي أنتج كل هذه المشاكل، فمن العقل أن نعالج سبب المرض لا أن نعالج أعراض المرض، لو أن مريضاً من المرضى جاء إلى الطبيب في المستشفى فقال: عندي ارتفاع في درجة الحرارة، وعندي آلام في المعدة، وعندي شعور بالبرد، وعندي آلام في المفاصل، وعندي صداع في الرأس، وجمع خمسة أعراض.

إن الطبيب الأحمق هو الذي يصرف خمسة أدوية فيعطي الصداع دواءً، وآلام المعدة دواءً، وارتفاع وانخفاض الحرارة دواءً، وآلام المفاصل دواءً، وأوجاع الظهر دواءً، لكن الطبيب الذكي الحاذق هو الذي يبحث عن الشيء الذي سبب هذه الأعراض الخمسة فيعطيك علاجاً يقطع السبب، ثم تنقطع الأعراض، ثم لا تحتاج إلى تلك الأدوية، كل مشكلة لها علاج على حدة.

نعم .. من الحماقة أن نناقش كل قضية على حدة بمعزل عن مناقشة السبب الذي أوجد لنا هذه الشريحة التي بات اهتمامها وأصبح بعضهم كما قال الله: كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] يتعب ويكد وفي نكد ونصب ووصب ومشقة، يلهث، يذهب، يجيء، يروح، يرتفع صوته، ينخفض، يتقدم، يخطو، يرحل، يسافر، لكن إلى أين؟ ومن أين؟ ولماذا؟ ولأجل من؟ ينبغي أن نسأل: ما هو السبب المولد لهذه المشكلة؟

واسمحوا لي -أيها الإخوة- أن نقول: يمكن أن نجعل السبب الذي هو مجموعة عناصر ولدت هذه المشاكل في نقاط: أولها: شعور كثير من أبنائنا وبناتنا بعقدة النقص، فيرون الآخرين جبالاً ويرون أنفسهم أقزاماً، يرون الآخرين عمارات سامقة ويرون أنفسهم حشرات ضئيلة، يرون الآخرين قمماً عالية ويرون أنفسهم ذرات مهينة، ثم بعد ذلك يمتلئون إعجاباً بالغرب، إعجاباً بالآخرين، ويمتلئون احتقاراً لأنفسهم فلا يرى أحدهم سبيلاً إلى إثبات وجوده وتحقيق ذاته، وإيجاد نفسه في مجتمعه، ولكي يقول للناس: إني موجود، وإني أتكلم، وإني صاحب هواية، وإني صاحب فكر، فتراه يختار وسيلة من وسائل الشذوذ أو الانحراف أو المعاصي لكي يلتفت إليه الناس وينظرونه .. وهذا هو أقرب تفسير لظاهرة كثير من الشباب الذين تجدهم أصلاً لا يعرفون التدخين فيحمل السيجارة ويدخن، ويجبر نفسه على التدخين حتى لا ينظر إليه نظرة نقص، أو حتى يلفت الآخرين إلى نفسه، وهذا هو السبب الذي تفسر به وجود بعض الشباب الذي تراه قد جعل من شعره مجسماً تشكيلياً، صوالين الحلاقة الآن امتلأت بمختلف القصات والموضات، آخر قصة "قصة أزمة الخليج" رأسه في أزمة، ولذلك كانت الحلاقة على شكل أزمة الخليج، ومنهم من قال: هذه "قصة كولن باول" وبعضهم من قال: هذه أزمة أو هذه "قصة شوار سكوف" أو هذه قصة فلان أو علان، المهم يريد أن يثبت للآخرين أنه يعرف شيئاً جديداً ويسلك مسلكاً جديداً حتى يلتفت إليه الناس، فعقدة الشعور بالنقص تجاه الآخرين ولدت في نفسه أن يسلك سلوكاً بموجبه يلبس أو يحلق أو يفعل أو يتصرف بطريقة تجعل الآخرين ينظرون إليه نظرة مستقلة عن سائر الناس.

ولو أنه يعلم أن الآخرين ينظرون إلى هذا بمنظار الازدراء والنقص والهوان لوجدته لم يفعل هذا أبداً، ولكنه رأى ما حوله من المجلات والشاشات والدعايات والإعلاميات وما شئت يجدها تصب في قالب إبراز أولئك الشاذين وغض النظر والإغفاء عن أحوال القدوات الجميلة الراقية في المجتمع.

أيضاً أيها الأحبة من الأسباب الجوهرية في هذه القضية: مسألة التربية.

نحن نربي أطفالاً بلا هدف، تسمين عجول، تسمين أبقار وأغنام في كثير من البيوت، تجد الطفل يتدحرج من العافية لكن عقله كالطبل لا يوجد فيه شيء، عجبت للطفل الشيوعي أو الطفل الروسي قبل سقوط روسيا تجده شيوعياً من صغره، والطفل العراقي التابع لمدارس حزب البعث تجده بعثياً من طفولته، والطفل المنحرف الفاجر الذي هو في بؤرة فاجرة تجده يحقد على المسلمين منذ صغره، والطفل النصراني تجده عقلاً ممتلئاً بكراهية المسلمين والشعور بالفخر للعنصرية البيضاء تجاه الآخرين.

ولكن طفلنا اليوم اسأله عن انتمائه، اسأله عن اتجاهه، اسأله عن آلامه، اسأله عن آماله، لا يجد شيئاً، طفلنا يعرف أفلام الكرتون، ويعرف مجلة ميكي والوطواط، ويعرف قصة البيضة الفارغة والعصفور المكسور، أما أن تجد عند أطفالنا تربية ذات هدف هذا لا يوجد إلا عند أسر محدودة من الناس، أما البقية الباقية من كثير من هذه الشريحة تجدها -ويا للأسف!- يربون أطفالاً تربية التسمين، بل لو قيل لأحدهم: يا فلان.. ما ضرك لو أنك مع مجموعة من جيرانك استقدمتم أو استوفدتم مدرساً من إحدى البلاد العربية الإسلامية أو حتى من بلاد العجم من باكستان وغيرها وجعلته يدرس أولادك القرآن براتب شهري قدره ألف ريال إذا قدرنا نحن عشرة بيوت، وعند كل واحد منا طفلان، يعني: عندنا عشرون طفلاً، كل واحد منا يقدم قرابة مائتي ريال شهرياً من أجل أن ندفع مرتباً قدره ألف لمدرس يحفظ أبناءنا بعد العصر ويدرسهم، وبعد المغرب يعطيهم درساً في السيرة، وبعد العشاء ربما راجع مع بعضهم شيئاً من الواجبات... لقالوا: وهل نحن مجانين؟ نحن نخسر الأموال بهذه الطريقة؟ هل نحن حمقى؟ إذاً ما دور المدارس؟!

يا أخي الكريم.. إن المدرسة لا تغني عن التربية شيئاً، بل إن الأصل في تفوق الطالب ربما كان صلاح تربيته في أسرته، وفي المقابل تجد كثيراً من البيوت فيها خادمة بستمائة ريال، والسائق بقرابة ثمانمائة ريال، الخادمة دورها تلميع الزجاج والأبواب والنوافذ، ونبذل الستمائة ريال ونحن في منتهى الشعور بالراحة والطمأنينة، لكن أن نقدم ستمائة ريال لمدرس يدرس أولادنا.. لا، هذا ولد إن نفع فلنفسه وإن أساء فعليها..

لا يا أخي، هذا الولد يحتاج إلى تربية، ولذلك كثير من الشباب الذين وجدناهم بصفة اللاهثين الذي يجوبون الطرقات، ويملئون الأرصفة، ولا هم لهم إلا آخر أغنية وآخر مقطوعة، ومن الفريق الذي فاز، ومن هي الممثلة التي اعتزلت، ومن هو الفنان النجم الذي مات، ومن هو ومن هو ... إلخ، أولئك تجدهم لم يتلقوا تربيةً على مستوى علمي أو عقلي أو ثقافي أو ديني، ولأجل ذلك امتلأت عقولهم بالزبالات، أما الذين يتربون تربية راقية يشعر الرجل منهم أن ولده فيه عقل في رأسه، وهذا العقل الذي في الرأس بمثابة الزجاج البلوري الكريستالي اللامع الجميل، فتجد الرجل يقول: أنا لا أجعل عقل ولدي الزجاجي البلوري الناعم مكاناً للزبالة ولا للرمال المختلطة ولا للنفايات، بل أحترم هذا العقل -عقل الطفل أحترمه- وأجعله مكاناً يحفظ القرآن ويحفظ السنة، ويتعلم الشعر، ويعرف الآداب، ويقرأ عن أخبار العرب وعن معارك المسلمين، ويكون لديه اطلاع بأحوال المسلمين في العالم.. هذا أمر ممكن أيها الإخوة.

منذ أيام كنت في زيارة لأحد الأصدقاء وعنده ولد صغير نجح من المرحلة الخامسة الابتدائية إلى السادسة الابتدائية، فبينما نحن نتحدث إذ دخل معنا الطفل في الحديث، وإذ بي أجد طفلاً يتحدث عن البوسنة والهرسك، ويتكلم عن سراييفو ، ويتكلم عن ميتران رئيس فرنسا النصراني الحاقد الذي حال دون المسلمين واستلام المطار ليكون مهبطاً لدعم الأسلحة، ويتكلم عن مؤامرات الصربيين إلى تقسيم البوسنة والهرسك بين الكرواتيين، فجن جنوني..! قلت: ما شاء الله! لا إله إلا الله! تبارك الله! هذا الطفل ينجح من خامسة إلى سادسة ابتدائي ويتكلم عن هذه المعلومات؟! فلما تأملت إذ بوالده ووالدته يتحدثان إذا جلسا على الطعام وإذا جلسا للشاي عن هذه القضايا، ويلقنان الولد هذه الأمور فتجد طفلاً يحمل قلباً كبيراً، وتجد صغيراً يحمل عقلاً فذاً، وتجد ناشئاً يحمل هموم أمة، وفي المقابل تجد رجلاً عمره خمسة وعشرون سنة أو سبعة وعشرون سنة لا هم له إلا أن ينتظر حبيبته تفتح النافذة لكي يلقي عليها بنظرة، أو لا هم له إلا أن ينتظر رسالة المعشوقة متى ترسل بالرسالة مع طفل أو مع سفير أو مندوب، أو لا هم له إلا أن ينتظر متى يحين الوقت لخبص البلوت وتعمير الشيشة... وهلم جرا!

وأين قضايا المسلمين؟ وأين أحوال المسلمين؟ وأين العبادة؟ وأين الخوف من الله؟ وأين الطمع في الجنة؟ وأين الإعداد للموت؟ وأين الإعداد لما بعد الموت؟ وأين الإعداد للسؤال والجواب بين يدي الله؟ لا تجد شيئاً.

إذاً: أيها الأحبة! التربية سبب، فربما ربينا أطفالاً أصبحت أجسامهم أحسن من أجسام البغال، يصلحون للكد والتحميل، ولكن عقولهم -أيضاً- كعقول البغال:

لا بأس بالقوم من طول ومن قصر     جسم البغال وأحلام العصافير

بل إن بعض المجانين أصبحوا أحسن من بعض اللاهثين، والشيء بالشيء يذكر، خذوا هذه الطرفة اليسيرة: يقال: إن رجلاً -شاب من الذي جاء يفحط بسرعة- جاء ولف بسرعة عند مكان من الأماكن فمن شدة لف الكفرات صواميل الكفر -البراغي التي تمسك الكفر في السيارة- انقطع، فجلس هذا الشاب المفحط يدور إذ به يدور حول مبنى مستشفى المجانين، وإذ بمجنون يطل على هذا الشاب من النافذة فقال المجنون: لماذا أنت تدور على السيارة، ما بك؟ قال: والله أنت ترى، لفيت بسرعة وانقطعت صامولة الكفر وجالس هكذا. قال المجنون: فقط، يا أخي فك من كل كفر صامولة وركبها محل الصواميل التي انكسرت. قال: والله اقتراح جميل وفكرة صحيحة! طيب أنت لماذا أنت جالس في مستشفى المجانين؟ قال: صح، هذا مستشفى المجانين وليس مكان أغبياء.

فالواقع أن عندنا من الغباء ما يتعدى الجنون، بل إن بعض المجانين أفضل حظاً من بعض شريحة اللاهثين الأغبياء، ولا نقول هذا مزيداً لاحتقارهم، ولا نقول هذا مزيداً من هوانهم بل فيهم من الهوان ما يكفي قال تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].

ولكن نقول: إن هوان العقل عند شريحة من أبناء الأمة بلغ حداً مضحكاً عجيباً.

كذلك إذا وجد هؤلاء الشباب وهم في الطفولة تربية بلا هدف، وفي المراهقة أنشطة بلا اتجاه، ولا يجدون قدوة سوية ممتازة، أضف على ذلك الغزو المكثف الموجه إلى أبناء المسلمين، هذه الشريحة -شريحة اللاهثين- كيف أصبح بعضهم يربط على جبينه خرقة حمراء، ويلبس فنيلة قد أبدت كتفيه، وأخذ يستعرض بعضلاته وكأنه يقول للشباب: انظروا إلى رامبو يدور في رابغ، انظروا إلى رامبو يدور على شواطئ جدة، انظروا إلى رامبو يدور في الرياض، ويتمثل هذا الأمر.. هذا الشاب في الحقيقة فعل هذا، وغيره فعل غيرها من العزف على العود والمنافسة في مثل هذه الأمور الرديئة بسبب النجومية التي وجه الإعلام أسهمه فيها، يعني: الآن أنت ترى، من هو أفضل واحد على مستوى الإعلام الذي يغزى به الناس ويوجه إلى الناس؟

النجم هو اللاعب الرياضي، النجم هو الفنان الكبير، النجم هو المخرج السينمائي، النجم اللامع هو الذي أصبح هداف الدوري، النجم اللامع هو الذي أصبح ممثلاً قديراً، النجم هو الذي أصبح منتجاً سينمائياً رائعاً، لكن لم يعرف الشباب يوماً من خلال الإعلام، ولم يعرفوا من خلال الجرائد، ولم يعرفوا من خلال المجلات، ولا من خلال الداعية أن النجم هو الذي حفظ القرآن بسبع قراءات، ولم يعرفوا أن النجم هو الذي حفظ البخاري ومسلم ، وما رأوا أو سمعوا يوماً أن النجومية واللموع لمن دعا إلى الله على بصيرة، ولم يعرفوا يوماً أن النجومية واللموع لمن كان جاداً في متابعة المخدرات.

نعم يوجد أحياناً إشادة بإنسان كان له دور في عمل ثقافي أو اجتماعي، لكن الغالب على الضخ الإعلامي والحرب الإعلامية والجرائد والمجلات والمنشورات أن النجم هو اللاعب والفنان بالدرجة الأولى .. هذان -المطرب واللاعب- تجدهما يتقدمان السباق في قضية النجومية والشهرة.

نعم .. حينما يرى الصغار والشباب أن النجومية واللموع لهاتين الشريحتين؛ يصبح أحدهم يقول: وكيف أكون مشهوراً؟ وكيف أكون لامعاً؟ وكيف أكون معروفاً؟

إذاً الطريق إلى أن أكون مشهوراً، والطريق إلى أن أكون معروفاً، إما أن أنخرط في سلك الرياضة، وإما أن أنخرط في سلك الفن، لكن ما تجد إلا أندر من أندر النادر من يقول: أريد أن أطور جهاز الهاتف الموجود بين أيدينا، أو أريد أن نستفيد كيف نستطيع أن نبث على الغرب معلومات عن الإسلام، أو يقول: كيف أستطيع أن أصنع شيئاً ينفع الإسلام والمسلمين.. هذا نادر؛ لأن التلميع والدعاية والإعلان والتشجيع في الغالب لا تجده إلا لهاتين الشريحتين، هذا في الغالب، ولأجل ذلك لا غرابة أن تجد بعض الشباب..، بل حتى بعض الفتيات من تلك الشريحة يتمنين أن يكن أصدقاء لمطربين أو لفنانين.

مدرسة من المدرسات قبضت ذات يوم على طالبة من الطالبات وهي تتبادل مع زميلاتها أوتوجراف؛ الأوتوجراف: هو دفتر صغير ربما صنع على شكل القلب أو على شكل العود أو على شكل الكمنجة، وفيه ألوان وورود، ويتبادل به الفتيات العناوين، والأسماء، والأكلة المفضلة، واللاعب الممتاز، والمطرب الذي تهواه، والأغاني ... فجن جنون المدرسة! وجدت الصفحة الأولى: الاسم فلانة، الهواية: أن تكون مضيفة، كيف دخل على عقل فتاة من بناتنا هواية أن تكون مضيفة؟! لأنها ما سمعت يوماً من الأيام انتقاداً للمضيفة التي تختلط بالرجال ولا تستحي أو يعرف عنها أنها سافرة، قليلة الأدب، قليلة الحياء، قد انكسر حجابها وحياؤها وماتت عفتها؛ ولأجل ذلك لو سمعت انتقادات المجتمع والإعلام من حولها والجرائد من حولها تقدح وتذم وظيفة المضيفة لكرهت الفتاة أن تكون مضيفة، ولكنها لما قرأت المقال ورأت صورة المضيفة وشاهدتها تقف تمنت أن تكون مثلها.

والأخرى ماذا تتمنى؟ قالت: أتمنى أن أكون عارضة أزياء..! والثالثة ماذا تتمنى؟ قالت: أتمنى أن أكون نجمة سينمائية..! بل وبعضهن قالت: أتمنى أن أسافر إلى بانكوك ! هذا أمر يا إخوان ليس من ضرب القول وإنما هو من أوتوجراف قبضت عليه مدرسة موجود في يد بعض الطالبات، وإذا كانت المدرسة فيها ألف طالبة فإنا لا نقول: كل طالباتنا خربن، لكن نقول: يوجد شريحة من طالباتنا أو من طلابنا هذا مستوى تفكيرهم؛ والسبب: لا توجد تربية حسنة، ولا توجد مثل أعلى في القدوة الحسنة.

وزيادة عن ذلك رأت وقرأت في الجرائد والمجلات والشاشة، وسمعت في الموجات أن المضيفة هي الملاك الطاهر، هي اليد الحنونة، هي التي تبعث الطمأنينة في نفوس الركاب إذا أقلعت الطائرة وأبحرت سفينة السماء في خضم أمواج الهواء، فإذا أصاب الناس ما أصابهم رأوا مضيفة وادعة كلها الأمن والطمأنينة.. وهذا ليس بصحيح، بل أول ما يتدافع على الأبواب عند مشاكل الطائرات المضيفات، وأول من يخوف الناس المضيفات، وأول من يروع الناس المضيفات، ولكن ما يقال للناس وكل ما يقرأ الناس ويسمعون أن هذه المضيفة هي الملاك الطاهر هذا شيء آخر، زد على ذلك أنها ذات اللباس الرشيق، والمساحيق المختلفة، والصورة من الألوان المجمعة في عينها وخدها وفمها وشفتيها، ثم بعد ذلك إذا زيد هذا الوصف بثناء ومديح عبر كتابة واحد من الكتاب المأجورين أو المسعورين أو المخدوعين أو الأغبياء أصبحت الفتاة تتمنى أن تكون مضيفة.

إذاً: فتاة تلهث كي تكون مضيفة أو لكي تكون عارضة أزياء أو لتكون نجمة سينمائية .. لماذا؟

لأنها رأت أن التلميع والسطوع والأضواء والثناء والمديح يكال لهذه حتى تكون مثلاً أعلى فتتمنى كل فتاة أن تكون مثلها. والله لو أننا أعطينا الأمور حقائقها فنقول: إن المضيفة خادمة في الطائرة، مسئولة هذه المضيفة إذا تقيأ رجل أو تقيأت امرأة وأخرج المتقيئ ما في جوفه من الوسخ مسئولة المضيفة أن تفتح الكيس وأن تقف عند فم المتقيئ، وأن تمد الكيس لفمه فتنتظر حتى يمتلئ الكيس قيئاً، ثم تحزمه، ثم ترميه، ومسئولة المضيفة إذا وجد رجل يعجز أن يوضئ نفسه بعد البراز والبول مسئولة المضيفة أن تمسح برازه وأن تمسح بوله، لو أعطينا المضيفة صفاتها الحقيقية بمعنى خادمة، بل أشد من خادمة لما اشتهت فتاتنا أن تكون مضيفة، لكن قلب العرض .. بدلاً من أن يقال هذه وظيفتها يقال: لا، الملاك الطاهر.. القلب الحنون.. الوديعة؛ فإذا رأت فتاتنا أو بنتنا أو أختنا المضيفة -يعني: قد يقدر لواحدة من بناتنا أن تصعد في الطائرة- ثم ماذا بعد ذلك؟ تجد هذا الملاك الطاهر الذي كتب عنه في الجرائد والمجلات ورأته في كثير من الأفلام وغيرها رأت هذا الملاك الطاهر يقف حتى تسمع صوت المزلاج، ثم ارفع اللسان إلى أعلى، ثم يسقط عليك القناع من تحت -أو القناع يسقط من فوق- ثم يسقط عليك القناع من فوق وهم ينظرون إلى حركات المضيفة فتجد الفتاة معجبة بهذه الفتاة التي كأنها تمثل عرض كراتيه بحركات يدها.

ثم إذا سرقت النظر أختنا أو بنتنا أو بنت مجتمعنا إذا سرقت النظرة إلى المضيفة وجدتها تجلس بجوار المضيف، كتفها على كتفه، فخذها على فخذه، ثم وجدت في يدها سيجارة والمضيف يولع لها السيجارة، ثم يتبادلان هذا الشيء.. ماذا الذي يحصل؟

تزداد إعجاباً بهذه المضيفة، ويؤجج ذلك شهوة الفساد والانحراف التي وجدت في النفس، ولكن لو قيل: إن هذه المضيفة هكذا صفتها، وهذا دورها، يعني: لو قلنا لفتاة من بناتنا: أعطنا مثالاً لفتاة لا تستحي من الرجال. قالت طفلة: المضيفة. نقول: الإجابة صح، ومثال لفتاة لا تستحي وتكسر حياؤها وعفتها بين الرجال، هات مثال. الجواب: المضيفة. صح، طبعاً المحاضرة ليست هجمة على المضيفات وإنما أقول لكم كيف تغسل الأدمغة؟ كيف تسلط الأضواء على عمل قبيح فيكون حسناً؟