خطب ومحاضرات
القواعد لابن اللحام [15]
الحلقة مفرغة
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله متلبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
من الملاحظ أننا ومنذ القاعدة العشرين والواحدة والعشرين من قواعد ابن اللحام نتحدث عما يتعلق بأحكام خطاب الوضع من حيث الصحة والبطلان، ومن حيث خطاب الأعيان هل هي مبنية على الإباحة أو غيرها، والآن نحن بصدد القاعدة الثانية والعشرين التي تتحدث عن العزيمة والرخصة، ومعلوم أن خطاب الوضع هو الذي يتحدث عن السبب والمانع والشرط والعزيمة والرخصة والصحة والبطلان، وقد تحدثنا عن الفرق بين خطاب الوضع وخطاب التكليف، والآن سوف نتحدث عن العزيمة والرخصة، ونفصل إن شاء الله في هذه المسألة.
مفهوم العزيمة لغة وشرعاً
العزيمة لغة: القصد المؤكد، وشرعاً: الحكم الثابت بدليل شرعي خلا عن معارض ].
الشيخ: المؤلف عرف لنا العزيمة بأنها حكم ثابت بدليل شرعي خلا عن معارض راجح، فإذا قيل: ما حكم الصلوات الخمس؟ قلنا: حكم ثابت بوجوبها خال عن معارض راجح، وما حكم الزكاة والصوم والحج؟ كلها عزائم. كذلك حكم ثابت بالتحريم خال عن معارض راجح مثل حرمة الزنا، وحرمة الربا، وحرمة أكل أموال الناس بالباطل، كل ذلك عزائم؛ لأنها حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح.
هذه العزائم يجب على كل مسلم ومسلمة أن يفعلها، وهذه التي نحن نقول عنها أنها لا تتغير بحسب الزمان والمكان فإذا قلنا: هذا الحكم عزيمة فهو لا يتغير بحسب الزمان والمكان إلا حال الاضطرار؛ فحال الاضطرار يجوز معه ذلك، وهي الرخصة التي جاء النص فيها.
واعلم أن حال الاضطرار -كما يقول الشاطبي - ليس حكماً آخر بل هو حكم الله، فكأن العزيمة تتوفر فيها الشروط وتنتفي فيها الموانع، وأما حال الاضطرار فقد توفرت فيها الشروط ولكن وجد فيها المانع، فصار هذا حكماً وهذا حكماً، ولم يتغير الحكم الأول، ولهذا قالوا: خال عن معارض راجح، فكأن الحكم لا بد أن يثبت بالحكم حُرمة أو وجوباً مع توفر الشروط وانتفاء الموانع، فإذا وجد المانع صار له حكم آخر ولم يتغير الحكم السابق.
وعلى هذا فلا يصح نقد بعض المفكرين أو بعض المثقفين أو بعض طلاب العلم حينما منع عمر رضي الله عنه المؤلفة قلوبهم، فـعمر رضي الله عنه لم يكن قد منع ذلك، ولكنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وجدت الشروط وانتفت الموانع، وأما في عهد عمر فإنها لم تتوفر الشروط لأن من شروطها عدم ظهور الإسلام وقوته، فلما جاء عمر وقد ظهر الإسلام وقويت شوكته قال: لم تتوفر في حقكم الشروط، وكذلك قطع يد السارق في عهد عمر فإن عمر يرى عدم قطع السارق وقت المجاعة لا لأن الحكم قد انتفى، ولكن لأن الشروط لم تكتمل، وعلى هذا فليس هذا تغير حكم بتغير الزمان والمكان، فإذا وجدت الشروط وانتفت الموانع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كما هي في عهدنا فلا يجوز لنا أن نغير الحكم الشرعي.
وجود العزيمة في الأحكام الثابتة بالأدلة الشرعية
الشيخ: العزيمة لا يلزم أن تكون فرضاً فقط، إنما كل حكم ثابت وجوباً أو حرمة أو استحباباً أو كراهية، فهذا حكم ثابت بدليل خال عن معارض راجح ويسمى عزيمة؛ عزيمة واجبة أو عزيمة مستحبة، عزيمة محرمة أو عزيمة مكروهة، فهذه كلها تسمى عزائم، ولهذا قالوا في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ يعني: هل هي من المتأكد في السجود، وإن كانوا يرون أن كل سجدات القرآن ليست واجبة على القول الراجح، وهو مذهب جمهور الفقهاء، والله أعلم.
الملقي: [ قلت: فظاهر كلامه أن سجدة (ص) اختلفوا في أنها هل هي مندوبة أم لا، فمن قال: هي مندوبة تكون من العزائم، ومن قال: ليست مندوبة فليست من العزائم ].
الشيخ: وإنما حدا بالمؤلف أن يقول هذا لأن الحنابلة يرون أن جميع السجدات مستحبة، فهل (ص) من ضمنها أم لا؟ فصارت هنا عزيمة، بمعنى هل هي داخلة ضمن المستحبات الموجودة في سجدات القرآن أم لا.
الملقي: [ وليس الأمر كذلك، بل يستحب سجودها خارج الصلاة، على كل رواية صرح به ابن تيمية بعد حكايته الروايتين، هل هي من العزائم أم لا؟ تظهر فائدته بالنسبة إلى الصلاة، فإن قلنا: هي من العزائم سجدها في الصلاة، وإن قلنا: ليست من العزائم فسجدها في الصلاة هل تبطل صلاته أم لا؟ في المسألة وجهان مع أنه حكى طائفة من أصحابنا عن الإمام أحمد رضي الله عنه في سجدات القرآن هل يجب سجودها أم لا؟ ثلاث روايات ثالثتها نقلها صالح تجب في الصلاة خاصة، والله أعلم ].
الشيخ: هذا الاحتمال الذي ذكره ابن اللحام مخالفة للطوفي يحتاج إلى تأمل؛ فهو إنما أشار إلى أن هل هي عزائم؟ بمعنى هل سجودها في الصلاة واجب أم لا؟ وهذا تحويل، ولكن المعروف عند العلماء: هل من عزائم السجود؟ يقصدون بذلك هل يُشرع السجود فيها أم لا، ولهذا جاء عن البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما سجدها داود شكراً )، وهذا جعل العلماء يختلفون فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك فنحن نسجدها شكراً لقوله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم شكراً)، كما كان موسى قد صنعه، والله أعلم.
إذاً هل هي سجود شكر أم سجود تلاوة؟ هذا هو سبب الخلاف، والأقرب أنها سجود تلاوة وإن تضمنت سجود شكر.
الملقي: [ وقال الآمدي : العزيمة عبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى، وذكر معناه الشيخ أبو محمد في الروضة، وهذا يقتضي اختصاصها بالواجب فعلاً أو كفاً ].
الشيخ: وهذا قاله بعض العلماء، أن العزيمة إنما هي في الفرائض فحسب.
مفهوم الرخصة لغة وشرعاً
والرخصة لغة: السهولة، وشرعاً: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح ].
الشيخ: إذاً الرخصة ما ثبت على خلاف الدليل الشرعي، يعني: عندنا دليل شرعي وعندنا دليل يعارض هذا الدليل الشرعي، فالدليل الثابت إذا لم يكن فيه معارض يكون عزيمة بلا رخصة، والدليل الثابت إذا كان معه معارض راجح يكون قد خالف العزيمة، وقوله: (لمعارض راجح) دليل على أن هذه الرخصة إنما تثبت في حق أُناس دون آخرين، فالصلاة في الحضر عزيمة وهي أربع في الرباعية التي هي الظهر والعصر والعشاء، وركعتان في الفجر، وأما من سافر فتكون في حقه رخصة، لكن هذه الرخصة إنما ثبتت في المعارض الراجح وهو السفر.
الملقي: [ وقيل: استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر ].
الشيخ: استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر، هذا بناء على أن المحظور يشمل الممنوع فعله أو الممنوع تركه، هذا المحظور يشمل الممنوع فعله كالمحرم، أو الممنوع تركه كالواجب.
الملقي: [ وقال الآمدي : الرخصة ما شرع لعذر مع قيام السبب المحرم.
وقال القرافي : هي جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعاً.
والمعاني متقاربة ].
الشيخ: أحسن تعريف وأسهل تعريف هو تعريف الآمدي ؛ لأنه عبارة توضح المقصود، وهو ما شُرع لعذر مع قيام السبب المحرم؛ لأننا عندما نقول: مع قيام السبب المحرم يكون الحكم الشرعي في حقه ثابت، لكن يوجد إشكال وهو أن قوله: ما شُرع لعذر مع قيام السبب المحرم يقتضي جواز الرخصة مطلقاً، لكن الرخصة منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو مباح؛ فأكل الميتة والتيمم واجبان وهما رخصة، هذا عن حرمة الأكل وهذا عن الماء، وإذا قلنا: ما شُرع لعذر مع قيام السبب المانع فلا يلزم أن يكون واجباً؛ لأنه قال: لعذر. وقصر الصلاة في حق المسافر على مذهب الجمهور يُستحب ويُكره الإتمام كما هو رواية عند الإمام مالك ورواية عند الإمام أحمد وهو اختيار ابن تيمية، وهو رخصة، ويجوز الجمع بين الصلاتين في حق المقيم في المطر والخوف وهذه الرخصة ليست واجبة وليست مستحبة وإنما هي جائزة، وكذلك الجمع في حق المسافر.
إذاً: يُشكل على هذا وإن كان ميسوراً، إلا إذا قلنا: المقصود بما شُرع ليشمل الواجب والمستحب والمباح كما قلنا مراراً وتكراراً، وهذا هو الأقرب أن المشروعية لا يلزم منها الوجوب أو الاستحباب فقط؛ بل يدخل فيها المباح، فنقول: النقاب مشروع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: أنه يُتعامل به ويُلبس ومباح وليس واجباً أو مستحباً؛ ولهذا فإن أسهل تعريف هو تعريف الآمدي ، لكن أسمح تعريف من حيث المعارض هو ما ثبت على خلاف الدليل الشرعي من معارض راجح، والله أعلم.
تصنيف الرخصة والعزيمة من حيث التكليف ولوضع
الشيخ: المشهور عند الأئمة وعند أكثر علماء الأصول هو جعلها من أحكام خطاب الوضع، وإلا فإن العلماء اختلفوا فيها بما هو معروف لكن الذي يظهر أنها من باب خطاب الوضع، وقوله: من أقسام الحكم، أي: أنها من باب التكليف، فـالغزالي و البيضاوي وصاحب الحاصل جعلوها من أحكام التكليف، والمشهور عند الأصوليين أنها من أحكام الوضع.
مسائل متعلقة بالرخصة والعزيمة
الشيخ: يجب أن نعلم أن من الرخصة ما هو واجب فعله، ومن الرخصة ما هو مستحب فعله، ومن الرخصة ما هو مباح فعله، وهذا يجعلك تقول: ما ثبت خلاف الدليل الشرعي لمعارض راجح، فإن الثبوت لا يلزم منه الوجوب ولا يلزم منه المباح، ولا يلزم منه الاستحباب.
الملقي: [ منها: التيمم وأكل الميتة عند الضرورة هل يسميان رخصة أم لا؟
قال ابن عقيل وغيره: لا يسميان رخصة؛ لأن كلاً منهما عزيمة يتعين فعله في موضعه لا يجوز الإخلال به.
وقال أبو محمد المقدسي تبعاً لـالغزالي : أكل الميتة له جهتان فمن حيث إن المضطر لم يكلف بإهلاك جسمه بالجوع بل أبيح له دفعه ضرورة بالمحرم، وأُسقط عنه العتاب فهو رخصة، ومن حيث إنه يجب عليه الأكل ويعاقب على تركه هو عزيمة.
وأما التيمم فقالا: إن كان لعدم الماء فليس برخصة بل عزيمة؛ لأن سبب المنع ليس قائماً لاستحالة التكليف بالماء عند عدمه، فهو كالانتقال إلى الصوم عند العجز عن الرقبة في الكفارة ليس برخصة بل أوجب الرقبة في حالة والصيام والإطعام في أخرى، وإن كان التيمم مع وجود الماء لعذر من مرض أو غيره فهو رخصة لإمكان استعمال الماء حينئذٍ؛ فإسقاطه عنه رخصة.
قلت: ويلزم الغزالي و أبا محمد أن يقولا: التيمم عند وجود الماء رخصة من غير عذر باعتبار الجهتين كما قالا في أكل الميتة عند الضرورة، والله أعلم.
ومن العلماء من قال: التيمم رخصة بكل حال، وقد ورد في حديث عمار فنزلت رخصة التيمم، يعنى: الآية، وهذا على قول من يقول: إن التيمم لا يرفع الحدث كما هو أصح الروايتين عن أحمد وقال به طوائف من أهل العلم].
الشيخ: المؤلف رحمه الله أشار إلى أن التيمم وأكل الميتة هل تسمى عزيمة أم هي رخصة؟ فبعض العلماء قال: إن أكل الميتة والتيمم رخصة، واستشكل بعض العلماء ذلك؛ لأنه يجب عليه أن يفعلها فصار في حقه عزيمة فكيف يسمى التيمم رخصة مع أنه يجب عليه أن يفعله؟ فهو حكم ثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح، فعدم وجود الماء هو خال معارض راجح، فكيف يسمى رخصة؟
ابن قدامة رحمه الله حاول أن يؤلف بين هذا الإشكال وبين ما هو معروف أن التيمم وأكل الميتة رخصة، فقال: هو من حيث وجوب فعله يصير عزيمة، ومن حيث أن المكلف أو المضطر لم يُكلف به لا كنفسه صار رخصة.
ويمكن أن يقال: إن التيمم وأكل الميتة من حيث مشروعيته بدلاً عن أصل رخصة، هذا من حيث قضيته الكلية رخصة، وأما من حيث فعل المكلف له فهو عزيمة، فأنتم تعلمون أن أكل الميتة بدل عن طعام المباحات في حال الاضطرار، فتكون الميتة في حكم المباح في حال المضطر، فصار كأنه بدل عن المباح الأصل، وصار التيمم بدلاً عن الماء فهو بهذا الاعتبار رخصة، وأما من حيث وجوب فعل التيمم في حال عدم الماء فهو عزيمة، ولأجل هذا قالت عائشة: فنزلت رخصة التيمم، فمن حيث مشروعيته بدلاً عن أصل صار رخصة، ومن حيث وجوب فعله على المكلف صار عزيمة، والله أعلم.
الملقي: [ وهذا على قول من يقول: إن التيمم لا يرفع الحدث كما هو أصح الروايتين عن أحمد وقال به طوائف من أهل العلم ].
الشيخ: لا يلزم من كونه رخصة أن يكون من باب أنه مُبيح وليس برافع، هذا لا يلزم، وإنما نقول: هو رخصة وإن كان هو رافعاً للحدث، والله أعلم.
الملقي: [ وأما من قال: إن التيمم يرفع الحدث فإنه يمنع قيام سبب المنع، ويقول: الحدث عبارة عن المنع وقد زال بخلاف الميتة فإن خبثها ونجاستها لم يزل، والله أعلم ].
الشيخ: (وأما من قال: إن التيمم يرفع الحدث فإنه يمنع قيام سبب المنع)، كما قلنا: إن التيمم هو رافع للحدث ولكنه يجب على العبد أن يفعله من حيث هو، ولكنه من حيث أنه بدل عن أصل صار رخصة، وكذلك الميتة فإن الميتة خُبثها ونجاستها صارت معفو عنها، فهي بمثابة الإباحة؛ كان أكل الحمير جائزاً، وفي وقت جوازه عند بعض العلماء هو في حكم المباحات، فلما جاء التحريم قال: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن أكل لحوم الحُمر الأهلية فإنها رجس)، كما في الصحيحين من حديث أبي طلحة رضي الله عنه.
ومثل لُعاب الكلب نجس؛ لكن وجوده في الصيد هل جاء عن صحابي أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يجب غسل ما أمسك في فمه؟ لا؛ بل صار هذا في حكم الطاهرة.
الملقي: [ ورأيت في تعاليق بعض شيوخنا أنه ينبني على أن التيمم رخصة أو عزيمة التيمم بتراب مغصوب وفي سفر المعصية ونحوها ].
الشيخ: هذا فيه تكلف، وأحسن شيء أنه من حيث تخفيف الله على عباده وعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو رخصة، ومن حيث فعل المكلف له وقت احتياجه عزيمة، والله أعلم.
الآن أخذ الغنائم حكمه جائز، فهو عزيمة على القول بأن العزائم منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب؛ لكنها من حيث مشروعيتها أصالة هي رخصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فعلم الله ضعفنا وعجزنا فطهرها لنا)، الغنائم كانت فيمن كان قبل الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنبياء تُجمع ثم تأتي قارعة من السماء فتحرقها، فأما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فعلم الله عجزنا وضعفنا فطهرها لنا)، فهي رخصة من حيث أصل المشروعية، ولكنها عزيمة على القول بأن العزائم منها ما هو واجب ومنها مستحب، والله أعلم.
الملقي: [ قلت: وفي بناء التيمم بالتراب المغصوب على ذلك نظر؛ فإنه لا خلاف بين أصحابنا وغيرهم أن الوضوء عزيمة، ومع هذا فلو توضأ بماء مغصوب لا يصح وضوءه على الصحيح، والله أعلم ].
الشيخ: مذهب الحنابلة أن الوضوء بالماء المغصوب لا يصح بناء على أن النهي يقتضي الفسد، وعلى مذهب الجمهور أن النهي إذا كان عائداً على ماهية العبادة أو على وصفها الذي لا ينفك عنها غالباً فإنه يدل على الفساد، وما كان عائداً على أمر ليس ملازماً له بل هو ينفك عنه فإنه لا يدل على الفساد، وهذا مذهب عامة الفقهاء والله أعلم.
وذكرت سابقاً أن ابن تيمية رحمه الله يقول: هذا التفريق إنما عُرف عمن أخذ الفقه من أهل الاعتزال، وهذه مبالغة، فإن الشافعي رحمه الله نص في الأم على هذا التفريق، والله أعلم.
الملقي: [ لكن قد يقال: إن قلنا: هو رخصة يخرج لنا فيه الطريقان في الاستجمار بالحجر المغصوب أحدهما لا يصح جزماً، والآخر حكمه حكم الوضوء بالماء المغصوب ].
الشيخ: هذا ليس صحيحاً، الصحيح أن حكمه حكم الماء المغصوب، أي: الحجر المغصوب.
الملقي: [ ومنها: المسح على الخفين قال أكثر أصحابنا: هو رخصة، وحكى بعض المتأخرين رواية بأنه عزيمة، قال: والظاهر أن من فوائدها المسح في سفر المعصية وتعيين المسح على لابسه وفيما قاله نظر ].
الشيخ: المسح على الخفين هل هو رخصة أم عزيمة؟ يقول: إنه عزيمة من حيث استحباب فعله حال لُبسه، وبعضهم يقول: هو رخصة من حيث أن المسافر سفر معصية لا يجوز له أن يمسح على الخفين؛ لأن الرُخص لا تُستباح بالمعاصي، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، وذهب أبو حنيفة ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية أن سفر المعصية شيء وفعل الطاعة في سفر المعصية شيء آخر -والله أعلم- وهذا هو الراجح؛ لأنه لا علاقة بذاك.
الرخص الواجبة
ومنها: ما هو واجب كأكل الميتة عند الضرورة، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وذكره أبو العباس وفاقاً، وذكره أبو محمد وجهاً.
ومنها: من خاف التلف بصومه فإنه يجب عليه الفطر، ذكره في الانتصار وعيون المسائل والرعاية وغيرها ].
الشيخ: لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جابر : (أولئك العصاة)، فالذي به فقر الدم لو صام ربما يؤدي بنفسه إلى التهلكة وربما سقط مغشياً عليه، فهذا عاص لنفسه وعاص لله ولرسوله، فإن ذلك يضره، بعض من به فقر الدم الصوم يضره، والله أعلم.
الملقي: [ وذكر جماعة في صوم الظهار أنه يجب فطره بمرض مخوف ولو صام أجزأ ولم يفت على خلاف لنا في إجزائه، وقال بعض أصحابنا: يكره صومه.
ومنها: ما فعله مستحب كقصر الصلاة والفطر في الصوم في السفر على المنصوص عن أحمد ، وهو الذي عليه جمهور الأصحاب، وفيه وجه الإتمام والصوم أفضل.
ومنها: ما الأفضل عدم فعله ].
الشيخ: هذه أمثلة للرخصة أحياناً تشمل الوجوب، وأحياناً تشمل الاستحباب، وأحياناً تشمل المباح، والأقرب -والله أعلم- أن قصر الصلاة مستحب وليس بواجب، ولكن الإتمام مكروه، وكذلك الفطر في صوم رمضان لحالة المسافر أفضل، والله أعلم.
الرخص التي يفضل عدم فعلها
الشيخ: يعني الأفضل أن لا ينطق بالكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان.
الملقي: [ فإن الأفضل كما تقدم عدم الفعل، والفرق بينها وبين الصوم والفطر مشكل.
وقد اختلف في مسائل بعض الرخص هل الأفضل فعلها أم تركها ].
الشيخ: يقول: مُشكل، وقد ذكر الطوفي هذا الإشكال في شرحه لمختصر الروضة، أنتم تعلمون أن الطوفي اختصر روضة الناظر بمختصر سماه البُلبل ثم شرح هذا المختصر، وهو من أسهل وأسمح المختصرات أو الشروح، وفيه أمثلة، إلا أنه لم يشتهر عند العلماء وما أدري ما سبب عدم اشتهاره؟ ألأجل أن الطوفي قال بالمصلحة أم لا، وإلا فهذا الكتاب جيد -والله أعلم- ويا ليت أقسام أصول الفقه تُعيد النظر في كتاب روضة الناظر فلو وجد غيره لكان أحسن، والله أعلم.
الملقي: [ فمنها: الجمع بين الصلاتين إن قلنا به، فهل الأفضل فعله أو تركه؟ في المسألة روايتان أظهرهما الثاني ].
الشيخ: أظهرهما الثاني الإباحة، وهذا هو الأظهر.
الملقي: [ ومنها: المسح على الخفين، فعند أحمد المسح أفضل، نقلها صالح و ابن منصور ، وفي رواية بكر بن محمد من قال: إن الغسل أفضل فقد أساء القول، قال القاضي: لم يرد عن أحمد المداومة على المسح، والله أعلم.
وعنه الغسل أفضل، وعنه هما سواء، نقلها الحسن بن محمد و مهنا و حنبل ، وزعم بعضهم أنها آخر الأقوال.
قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ].
الشيخ: هذا ابن تيمية الآن يتكلم أيهما أفضل المسح على الخفين أو غسل الرجلين، قال: وفصل الخطاب.
لكن قبل أن نذكر كلامه فإننا إذا قلنا: الغسل أفضل فإنها تُخلع الخفان وتُغسل الرجلان، وإذا قلنا: المسح أفضل فإنه يلبس الخفين ويمسح، هذا المقصود، وقد مر معنا في شرح الروض عند قوله: والمسح أفضل، ولا يقصد اللُبس ليمسح، وهذا غريب أن يقول: المسح أفضل، ولا يقصد اللُبس ليمسح، إذا كان أفضل فتقصده مطلوب؛ لأن ما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب كما ذكرنا، هذا صاحب الروض يقول: المسح أفضل ولا يتقصد لُبسه ليمسح.
ابن تيمية له كلام متين في هذا.
الملقي: [ قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: وفصل الخطاب أن الأفضل في حق كل واحد ما هو الموافق لحال قدمه، فالأفضل للابس الخفين أن يمسح عليهما ولا ينزع خفيه ].
الشيخ: يعني الأفضل لمن كان لابساً خفيه أن يمسح ولا ينزع، والأفضل لمن هو نازع خفيه أن يغسل ولا يلبس، لكن أن يقول: المسح أفضل، فهم لا يقصدون هذا، والبعض يقول: إن المسح أفضل رداً على أهل البدع كالروافض الذين لا يمسحون، فصار هذا شعيرة من شعائر أهل السنة والجماعة، ولهذا يذكرون المسح على الخفين من باب العقائد، فصار هذا أفضل من حيث إظهار السنة ليس إلا، والدليل على أنهم لا يقصدون أن تقول هذا -أقصد صاحب الروض- ابن تيمية رحمه الله ذكر الخلاف عن أحمد الذي يتكلم عن الغسل أفضل أو المسح أفضل، وذكر قوله رحمه الله في قوله: فصل الخطاب.
الملقي: [ والأفضل لمن قدماه مكشوفتان أن يغسلهما، ولا يتحرى لبس خفيه ليمسح عليهما كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل إذا كان قدماه مكشوفتين ويمسح إذا كان لابساً للخفين.
ومنها: تقديم الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث، فهل الأفضل التقديم أو التأخير إلى ما بعد الحنث؟ أو هما سواء؟
في المسألة ثلاث روايات: المذهب أنهما سواء، وبُني على كون التقديم رخصة لو كان الحنث في اليمين محرماً هل يجوز التقديم أم لا؟ وفي المسألة وجهان.
ومنها: هل الأفضل تعجيل الزكاة إذا كمل النصاب أم لا؟
المنصوص عن أحمد الذي نقله الجماعة لا بأس بالتعجيل، وزاد الأثرم هو مثل الكفارة قبل الحنث فظاهره أنهما على حد واحد ].
الشيخ: لأنه وجد سببه ولم يوجد وجوبه، والوجوب هو وجود الحنث؛ ولكن يجوز أن يُكفر مع وجود السبب وهو اليمين، كذلك تعجيل الزكاة يجوز مع وجود سببه وهو إكمال النصاب، وإن لم يوجد وجوبه وهو تمام الحول، والله أعلم، هذا مذهب الجمهور خلافاً لـأبي حنيفة .
الملقي: [ وظاهر كلام الأصحاب أن ترك التعجيل أفضل، وقال بعض المتأخرين يتوجه أن تعتبر المصلحة ].
الشيخ: المصلحة يعني أنه إذا جاءت مصلحة في أن الفقراء يحتاجون إلى التعجيل صار التعجيل أفضل، وإذا كان هذا على الأمر السائد فالأفضل بقاء الأمر على ما وجد تمام الحول فيه، والله أعلم.
الملقي: [ ومنها: المتخلي هل الأفضل له استعمال الحجر أو استعمال الماء، في المسألة روايتان، المذهب الثاني، واختار ابن حامد الأول وأنه يكره الاقتصار على الماء ].
الشيخ: هذه في مسائل لكن ليس هذا قصد شرح الكلام من حيث الفقه؛ لأن هذا يطول الكلام فيه، فإن العلماء تكلموا في مسألة: أيهما أفضل الاستجمار أم استعمال الماء؟ وهل يجوز أو يُكره الاقتصار على الاستجمار دون الماء، هذه معروف كلام العلماء فيها، وشرحنا ما في كتاب التيمم وذكرنا كلام السلف، ونقل ابن أبي شيبة رحمه الله أن بعض السلف يكره استعمال الماء مع الاستجمار، والله أعلم.
الرخص المكروهة
قال صاحب المحرر: يُكره قصد المساجد للإعادة وكالسفر للترخص.
قلت: قصد الإعادة ليس برخصة حتى يقاس عليه قصد السفر للترخص، وظاهر كلام صاحب المحرر لا فرق بين الصوم وغيره. وقد ذكر غيره من الأصحاب لو سافر ليفطر أو يقصر حرما.
قلت: يمكن الفرق بين الصوم وغيره بأن الصوم يلزم منه تأخيره بالكلية، وأما القصر والمسح والجمع فإنه يفعل في السفر ولكن على وجه أنقص من الحضر.
هل الكراهة في السفر مانعة من الترخص؟ ظاهر كلام جمهور الأصحاب أنها مانعة؛ لأنهم قالوا: من سافر سفراً مباحاً فله الترخص والمكروه ليس بمباح، وصرح بذلك أبو البركات بن منجا وكذا ابن عقيل في السفر إلى المشاهد، وقال طائفة منهم ابن عقيل في مفرداته مذهبة جواز المسح على العمامة الصماء، والظاهر إن لم يكن يقيناً أن الأصحاب قد أطلقوا على كراهة أحمد لبسها، وإنما رأوا الكراهة لا تمنع الترخص.
وقال أبو العباس في العمامة الصماء أيضاً: والأقرب أنها كراهة؛ لأنه لا ترتقي إلى التحريم، ومثل هذا لا يمنع الترخص لسفر النزهة، وإنما يصح الفرق الذي ذكرناه على الثاني دون الأول ].
الشيخ: الكراهة في العمامة الصماء هي لأجل أنها لم تكن لُبس السلف، أو لأجل أنها ليست مثل العمامة المحنكة؛ لأن العمامة المحنكة تثبت أكثر، والغريب أن أحمد له رواية أنه يجوز المسح على القلنسوة، والعمامة الصماء أشد ثبوتاً من القلنسوة؛ القلنسوة مثل الطاقية، فلعل الكراهة هنا لأجل أن العمامة الصماء ليست من هدي السلف، والله أعلم.
وأما هل الكراهة في السفر مانعة من الترخص، يعني: هل الشيء المكروه يُبيح رخصة له أم لا؟ الظاهر أنه يُبيح والله أعلم، وأما ما جاء في الأول: (ومن الرخص ما هو مكروه) الذي يظهر -والله أعلم- أن الرخص لا تكون مكروهة ( فإن الله يحب أن تؤتى رخصه )، ومحبة الله ليست لما كرهه أو لما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، هذا هو الذي يظهر ( فإن الله يحب أن تؤتى رخصه )، ولا يمكن أن الرخص تكون مكروهة، نعم تكون مباحة.. تكون واجبة.. تكون مستحبة، هذا الذي يظهر.
وأما قوله في الأمثلة: كالسفر للترخص، فنحن نقول: إنه إذا سافر للترخص مباح وليس بمكروه، ولكنه لو سافر لأجل أن يُجامع، قلنا له: لا يجوز له أن يُجامع إذا كان قد سافر أثناء الصوم، أما لو سافر في الليل لأجل أن يأتي أهله فهذا لا حرج، مثل الشاب المتزوج في آخر شعبان يقول: أنا أريد أن أسافر لأجل أن يسهل عليّ إتيان أهلي، فهذا لا بأس به مباح، والله أعلم.
إذاً: ثمة فرق وهو أنه من أراد أن يفطر يومه فسافر ليُجامع فهذا ممنوع، وأما من سافر في الليل ليأتي أهله مطلقاً، في النهار لأجل أنه قريب عهد بالزواج أو نحو ذلك فهذا لا حرج، والله أعلم، وجه الفرق لأن هذا وجب عليه أن يصوم فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] وهذا يريد ألا يكون ممن شهد الشهر.
وهذه ليست حيلة، والحمد لله لأنها إن كانت حيلة جاء الشرع بها فالحمد لله، فإن إدخال السرور على أهله مطلب كما لو سافر ليتاجر أو سافر ليصيد، كل هذا جائز.
الرخص المباحة
الشيخ: هذا بناء على أنها على خلاف القياس، وقولهم على خلاف القياس؛ لأن الأصل في الأجرة أن تكون معلومة حال العقد، وأما أن تكون مشاعة لا تثبت إلا بعد مدة وهي مدة التصفية أو التنظيف فهذا صار رخصة بناء على هذا القول، والأصح أن كل ما ثبت بدليل فهو عزيمة يُقاس عليه، والقاعدة أن الرخص لا تقاس كغيرها، والصحيح أن هذه ليست رخصاً كما هو كلام أبي العباس بن تيمية و ابن القيم في أعلام الموقعين، ولكن قال أبو العباس : ولهذا قلنا.
الملقي: [ ولكن قال أبو العباس : ليس شيء من العقود وغيرها الثابتة المستقر حكمها على خلاف القياس ].
الشيخ: هذا الصحيح، كل ما ثبت بدليل فإنه يجوز أن يُقاس عليه، والله أعلم.
الملقي: [ وقرر ذلك بأحسن تقرير وبينه بأحسن بيان ليس هذا موضع ذكر ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم ].
الشيخ: نعم، خاتمة.
الملقي: [ خاتمة: قد يكون سبب الرخصة اختيارياً كالسفر، أو اضطرارياً كالاغتصاص باللقمة المبيح لشرب الخمر، والله أعلم ].
الشيخ: نعم.
لعلنا نقف عند هذا الحد، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
القواعد لابن اللحام [21] | 2465 استماع |
القواعد لابن اللحام [3] | 2348 استماع |
القواعد لابن اللحام [23] | 2232 استماع |
القواعد لابن اللحام [22] | 2223 استماع |
القواعد لابن اللحام [8] | 2082 استماع |
القواعد لابن اللحام [2] | 1924 استماع |
القواعد لابن اللحام [16] | 1922 استماع |
القواعد لابن اللحام [9] | 1869 استماع |
القواعد لابن اللحام [17] | 1823 استماع |
القواعد لابن اللحام [27] | 1794 استماع |