شرح سنن أبي داود [123]


الحلقة مفرغة

شرح حديث كعب بن عجرة في الصلاة على النبي بعد التشهد من طريق حفص بن عمر

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد.

حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: (قلنا أو قالوا: يا رسول الله! أمرتنا أن نصلي عليك وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ].

بعد الفراغ من الكلام على التشهد وبيان صيغه من الطرق المختلفة جاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد في الصلاة، وقد أورد فيها جملة من الأحاديث أولها حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

الجمع بين النبي وآله في الصلاة

وقد جاءت صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بصيغ مختلفة عن كعب بن عجرة وعن غيره من الصحابة، منها ما هو في الصحيحين ومنها ما هو في أحدهما ومنها ما هو خارج الصحيحين، وحديث كعب بن عجرة أخرجه صاحبا الصحيح، وورد بصيغ متعددة، ورد بهذه الصيغة التي أوردها أبو داود هنا وهي: [ (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ].

في هذه الصيغة الجمع بين النبي صلى الله عليه وسلم وآله، وفي الصلاة ذكر إبراهيم بدون آله، وفي البركة ذكر آل إبراهيم بدون إبراهيم، فجمع فيها بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآله في الدعاء بالصلاة والدعاء بالبركة، وبالنسبة لإبراهيم أتى به دون أهله في الصلاة وأتى بآل إبراهيم دون إبراهيم في الدعاء بالبركة.

وقد جاء حديث كعب بن عجرة في صحيح البخاري بلفظ أكمل وأتم من هذا وهو الجمع بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآله وبين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وآله في الدعاء بالصلاة والدعاء بالبركة، حيث قال فيه: (اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد... إلخ). وهذه أكمل الصيغ التي وردت في بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي ينبغي للإنسان أن يأتي بها في صلاته، وإذا أتى بالصيغ الأخرى فذلك صحيح؛ لأن أي صيغة صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي جائزة، ولكن كونه يأتي بما هو أكمل وبما هو أتم يكون هو الأولى.

ويقول كعب بن عجرة : (قلنا أو قالوا) أي: الصحابة: (أمرتنا أن نصلي ونسلم عليك) وفي بعض الألفاظ: (أمرنا أن نصلي ونسلم عليك، أما السلام فقد عرفناه، أما الصلاة فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد).

ذكر الصيغة التامة للصلاة على النبي وآله

جاء في حديث كعب بن عجرة في بعض رواياته -وهي الرواية التامة- قصة في تحديث كعب بن عجرة بها، وهي أنه لقي عبد الرحمن بن أبي ليلى الراوي عنه، وقال له: (ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عبد الرحمن بن أبي ليلى : قلت: بلى، فأهدها إلي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد). فهذه القصة التي حدث بها كعب بن عجرة عبد الرحمن بن أبي ليلى تدلنا على كمال عناية الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بإبلاغ السنن والتحديث بها واهتمامهم بها، وأنهم عنوا بذلك غاية العناية ونصحوا غاية النصح رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فإن كون كعب بن عجرة يقدم لـعبد الرحمن بن أبي ليلى قبل أن يحدثه بهذا التقديم ويمهد له بهذا التمهيد ويعرض عليه هذا العرض ويسميه هدية، يدل على ذلك.

قوله: (سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فعرف بأن الهدية ليست مالية وإنما هي علمية، وأنها حق وهدى من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويريد كعب رضي الله عنه من هذا الكلام أن يتشوق عبد الرحمن وأن يتهيأ وأن يستعد لتلقي ما يسمع.

قال عبد الرحمن : (قلت: بلى) لا شك أنه عندما سمع هذا الكلام أعجبه وعرف أن وراء الهدية الشيء النفيس، وأنه أمر مهم، فبادر وقال: (بلى فأهدها إلي)، فحكى هذه القصة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، فقالوا: (قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟) لأن الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء في القرآن بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

قولهم: (فقد علمنا كيف نسلم عليك)؛ لأنه علمهم في التشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، وجاء في بعض الروايات في بعض الأحاديث المتعلقة بالتشهد: (كيف نصلي عليك إذا صلينا في صلاتنا) معناه: بعد التشهد.

الجمع بين الصلاة والسلام على رسول الله

فإذاً: يؤتى بالصلاة التي ليس معها سلام، لأنها جمعت إلى السلام الذي قبلها، لكن الإنسان إذا كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الصلاة فإنه يجمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم ولا يأتي بالصلاة وحدها، بل يقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليماً كثيراً)، فيأتي بالتسليم مضافاً إلى الصلاة إذا كان في غير الصلاة، أما إذا كان في الصلاة فهو سيأتي بالتشهد الذي فيه: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) وبذلك يكون جمع بين الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.

قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم صل على محمد) اللهم معناها: يا الله، حذفت ياء النداء وعوض عنها الميم المشددة في الآخر؛ لأن الميم المشددة في الآخر عوض عن الياء التي قبل المنادى، والمعنى: يا الله صل على محمد؛ ولهذا لا يجمع بين العوض والمعوض منه بأن يقال: يا اللهم، يقول ابن مالك في الألفية:

والأكثر اللهم بالتعويض

وشذ يا اللهم في قريظ

أي: أنه جاء ذلك في الشعر شذوذاً، وإلا فإنه لا يجمع بين العوض والمعوض.

وأحسن ما فسرت به الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التفسير الذي جاء عن أبي العالية أن معناها: الثناء من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى، فصلاة الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يثني عليه ويبين عظيم منزلته عند الملائكة في الملأ الأعلى.

حكم إضافة لفظ (سيدنا) عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم

قوله: (اللهم صل على محمد) وليس فيه ذكر: (سيدنا)، وهو سيدنا وسيد البشر وسيد الخلق أجمعين، ولو كانت هذه الكلمة مطلوبة في التشهد ومطلوبة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لبينها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يبين الألفاظ والصيغ التي يتعبد الله بها، وحيث لم يبينه النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لا يضاف إليه شيء آخر، وإنما يقتصر على الصيغة الواردة، كما يقتصر على الصيغة التي وردت في الأذان: أشهد أن محمداً رسول الله دون أن يضاف إليها سيدنا.

وإطلاق السيد على الرسول صلى الله عليه وسلم جائز، وهو أحق البشر بذلك صلى الله عليه وسلم، وقد قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وقال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وإنما بين ذلك لأنه كان عليه الصلاة والسلام آخر الرسل، وليس هناك رسول يأتي بعده يبين عظيم منزلته عند الله، أما الرسل السابقون فكان يأتي رسل بعدهم يبينون منازلهم، مثلما بين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام منزلة إبراهيم وموسى وعيسى، وذكر أخبارهم وما يلزم لهم، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده يبين عظيم منزلته عليه الصلاة والسلام، فبين ذلك عليه الصلاة والسلام وقال: (أنا سيد الناس يوم القيامة).

ثم بين السبب الذي جعله ينص على يوم القيامة، مع أنه سيد الناس في الدنيا والآخرة؛ لأن يوم القيامة هو الذي يظهر فيه سؤدده وإحسانه على الجميع من آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، بخلاف الدنيا فإن الذين لقوه والذين اتصلوا به فيها هم أصحابه، وكذلك الذين أخذوا سنته من بعده.

ثم بين ذلك بأن الناس يجتمعون ويموج بعضهم في بعض، ويبحثون عمن يشفع لهم إلى ربهم ليخلصهم مما هم فيه من شدة الموقف، فيأتون إلى آدم ويطلبون منه الشفاعة إلى الله عز وجل فيعتذر ويحيلهم إلى نوح، ثم يعتذر نوح ويحيلهم إلى إبراهيم، ثم يعتذر إبراهيم ويحيلهم إلى موسى، وموسى يحيلهم إلى عيسى ويعتذر، وعيسى يحيلهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ويعتذر، ويأتون إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيقول: (أنا لها)، ثم يتقدم ويشفع ويشفعه الله عز وجل، ويأتي لفصل القضاء بين عباده، وينصرف الناس من المحشر، وهذا هو المقام المحمود؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، وهو الشفاعة العظمى.

إذاً: ظهور سؤدده وفضله على الجميع، وإحسانه على الجميع بالشفاعة لهم في تخليصهم مما هم فيه من شدة الموقف، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد الناس يوم القيامة).

وعلى هذا فإطلاق السيد على الرسول صلى الله عليه وسلم لا بأس به، ولكن كون الإنسان يلتزمه ولا يأتي بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلا قال: سيدنا فهذا ما جاء عن سلف هذه الأمة من الصحابة الذين هم خير الناس، فنحن نقرأ في الأحاديث: حدثنا فلان حدثنا فلان أن فلاناً الصحابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الأحاديث كثيرة بالآلاف، وليس فيها: قال سيدنا رسول الله، نعم هو سيدنا؛ لكن استعمال هذه الألفاظ دائماً وأبداً والإكثار منها ما فعله خير هذه الأمة الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم.

فهذا صحيح البخاري فيه أكثر من سبعة آلاف حديث، وصحيح مسلم كذلك، وكذلك سنن أبي داود ، وغيرها من أمهات الحديث، ومسند الإمام أحمد يشتمل على أربعين ألف حديث، كل هذه الأحاديث إذا قرأها الإنسان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا، ولم يقولوا: أمر سيدنا، نهى سيدنا، جئنا إلى سيدنا، ما كانوا يقولون هذا وهم خير الناس وأفضل الناس.

فإذاً استعمال هذا اللفظ في بعض الأحيان لا بأس به، ولكن الشأن في اتباع خير هذه الأمة الذين كلامهم مدون بين أيدينا، وقد سبق أن مر بنا أنهم يبينون الفرق في عبارات بسيطة لا يترتب عليها اختلاف في المعنى كما يأتي في بعض الأحاديث أن بعضهم يقول: عن النبي صلى الله عليه وسلم، والشخص الثاني يقول: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا عبر بالنبي وهذا عبر بالرسول، وميزوا الفرق بين التعبيرين، فلو كانت كلمة سيدنا موجودة لنبهوا عليها وأتوا بها ولم يحذفوها؛ لأنهم لا يتركون شيئاً مما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أنصح الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام.

وكذلك مر بنا قريباً حديث المسيء صلاته، وفيه أن أحد الرواة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، والثاني قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قال كذا، ومعناه بيان الفرق بين التعبيرين، فالذين يحافظون على الألفاظ ويبينون الفروق الدقيقة في أمور لا يترتب عليها اختلاف في المعنى؛ فهذا يدل على العناية الفائقة والضبط الدقيق والإتيان بالألفاظ كما جاءت عن الرواة، فلو كان هناك استعمال سيدنا لكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين سبقوا إلى ذلك، وهم السباقون إلى كل خير والحريصون على كل خير.

قوله: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) فيه ذكر آل الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلف في بيان المراد بهم، فمنهم من قال: إن المقصود بهم أزواجه وذريته، ومنهم من قال: هم كل هاشمي وكل مطلبي لا تحل له الصدقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، والصدقة لا تحل للهاشميين ولا للمطلبيين، وهم أعم من ذريته وأزواجه صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إن المقصود بآله المتقون من أمته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إنهم أمته كلها، أي: أمة الإجابة الذين أسلموا ودخلوا في دين الإسلام؛ لأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم له أمتان: أمة إجابة، وأمة دعوة، فأمة الإجابة هم الذين دخلوا في الدين وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وصاروا من جملة المسلمين، أما أمة الدعوة فهم كل إنسي وجني على وجه الأرض من حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، هو داخل في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهم مدعوون إلى الإيمان به والدخول في دينه، ولهذا فالدعوة عامة لكل أحد وليست لواحد دون غيره، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) أي: أن اليهود والنصارى هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين توجه إليهم الدعوة، وهم ملزمون بأن يدخلوا في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن اتباع اليهود لموسى واتباع النصارى لعيسى -كما يزعمون- باطل بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يدخلوا في دينه؛ لأن شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نسخت الشرائع السابقة، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق موسى في بعض الأحاديث: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، وعيسى بن مريم الذي يزعم النصارى أنهم أتباعه إذا نزل في آخر الزمان من السماء فإنه سيحكم بشريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

من الأمور المتعلقة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حكمها في الصلاة، فإن جمهور العلماء على أنها مستحبة بعد الإتيان بالتشهد، وذهب جماعة من أهل العلم منهم الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله إلى أنها واجبة وأنه يتعين على الإنسان أن يأتي بها في الصلاة، ويستدلون على ذلك بما جاء في بعض الأحاديث من أن الذين سألوا النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: (كيف نصلي عليك إذا صلينا عليك في صلاتنا..) وذلك بعد أن ذكروا أنهم عرفوا السلام عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة.

وجه طلب الصلاة على محمد مثل الصلاة على إبراهيم وهو أفضل منه

هناك سؤال مشهور في صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو: أن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام أفضل من إبراهيم, وقد جاء في هذه الصلاة أنه يطلب صلاة عليه كالصلاة على إبراهيم، حيث قال: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) مع أن الأصل أن المشبه دون المشبه به، والواقع هنا أن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام الذي هو المشبه أفضل من المشبه به الذي هو إبراهيم، ومن المعلوم أن أفضل الرسل هم أولو العزم من الرسل، وهم خمسة: نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم، نوح، وموسى، وعيسى، وأفضل الرسل جميعاً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويليه إبراهيم الخليل، وكل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم هو خليل للرحمن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) فصفة الخلة ثبتت لاثنين من رسل الله هما: نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فكيف طلب للنبي صلى الله عليه وسلم صلاة كالصلاة على إبراهيم؟

وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، أحسنها جوابان أو ثلاثة:

الأول: أن قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) فيه أن محمداً وآله يقابلهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم وآله، ومن المعلوم أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء، بخلاف آل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنه لا نبي بعده، وإذاً فالذي يكون لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وآله إذا أعطي لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله، فيأخذ آل محمد صلى الله عليه وسلم ما يناسبهم وما يليق بهم، والباقي يبقى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون الحظ الأكبر والنصيب الأكبر له صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، فيكون له نصيبه من آل إبراهيم مع ما طلب له، فيكون بهذا الأمر واضحاً أن المشبه أعلى من المشبه به وأكثر حظاً من المشبه به.

الثالث: أنه ليس المطلوب صلاة تشبه صلاة، وإنما المقصود أن الصلاة حصلت لإبراهيم وآله والمطلوب حصول الصلاة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله، من غير أن يكون هناك مقارنة ومماثلة فيما يحصل لكل منهم من الثواب، أي: أن المقصود هو أن الصلاة حصلت على إبراهيم وآله فيطلب أن تحصل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله؛ لأن قوله: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) طلب، (كما صليت على إبراهيم) يعني: أنه قد صلي على إبراهيم ووجدت الصلاة على إبراهيم.

فإذاً: ليس المقصود كون المشبه دون المشبه به، وإنما المقصود هو تشبيه أصل الصلاة بأصل الصلاة، وليس تشبيه قدر الصلاة الحاصلة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة الحاصلة لإبراهيم؛ لأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم.

هذا هو أحسن ما قيل في الأجوبة التي أجيب بها عن السؤال الذي أورد على هذا الحديث.

الصلاة الإبراهيمية هي أفضل صيغ الصلاة على النبي

هذه الصيغة التي هي: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم..) ذكر أهل العلم أن هذه أفضل كيفية للصلاة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله أصحابه الكرام وهم الحريصون على كل خير عن كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم بقوله: (قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)، فلو كان هناك صيغة أفضل منها وأتم وأكمل لبينها أنصح الناس لخير الناس الذين سألوه عن الكيفية، فلما أجابهم على سؤالهم بهذا الجواب عرف أنه أتم جواب وأكمل جواب وأن هذه الهيئة هي أتم صلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

قال بعض أهل العلم: لو أن إنساناً حلف أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة فإنه يبر بقسمه إذا صلى الصلاة الإبراهيمية.

سبب ذكر إبراهيم في الصلاة الإبراهيمية دون غيره

إن إبراهيم إنما خص بالذكر دون غيره في الصلاة الإبراهيمية؛ لأن إبراهيم عليه السلام هو أفضل الرسل بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ليس هناك أفضل من إبراهيم بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فأفضل الرسل على الإطلاق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ويليه إبراهيم، وأيضاً إبراهيم هو أبوه وجده، وقد جاء في القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يتبع ملة إبراهيم الحنيفية، فلعل هذا هو السر في كون إبراهيم هو الذي ينص عليه دون غيره من رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام.

تراجم رجال إسناد حديث كعب بن عجرة في الصلاة الإبراهيمية من طريق حفص بن عمر

قوله: [ حدثنا حفص بن عمر ]

حفص بن عمر ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي .

[ حدثنا شعبة ]

هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الحكم ]

هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن أبي ليلى ]

هو عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وهناك شخص آخر اشتهر بـابن أبي ليلى وهو ابنه محمد وهو ضعيف، يعني: فيه كلام عند المحدثين، وهو المشهور في كتب الفقه إذا قيل: وابن أبي ليلى أو قال به ابن أبي ليلى ، أما أبوه عبد الرحمن الذي معنا في هذا الإسناد الذي يروي عنه الحكم بن عتيبة ويروي هو عن كعب بن عجرة فهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن كعب بن عجرة ]

كعب بن عجرة رضي الله عنه صحابي جليل، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث كعب في الصلاة على النبي من طريق يزيد بن زريع

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة بهذا الحديث قال: (صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم) ] أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى عن كعب بن عجرة وفيها: [ (صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم) ].

وهذه تخالف الطريق السابقة؛ لأن الطريق السابقة قال فيها: (كما صليت على إبراهيم)، بالنسبة للصلاة، فذكر إبراهيم دون آله، وأما بالنسبة للدعاء بالبركة فقد جاءت في الطريق السابقة منصوصاً على آل إبراهيم ولم ينص على إبراهيم، وهو داخل في آل إبراهيم، لكن الفرق بين هذه الرواية والرواية السابقة أن الرواية الثانية فيها ذكر آل إبراهيم في الدعاء بالصلاة أما الرواية الأولى فلم يذكروا إلا عند الدعاء بالبركة، بل جاء في رواية أخرى عن كعب بن عجرة ذكر آل إبراهيم عند ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله ثم على آل إبراهيم، فتكون بذلك مثل الرواية السابقة بالنسبة للبركة، يعني: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم).

تراجم رجال إسناد حديث كعب في الصلاة على النبي من طريق يزيد بن زريع

قوله: [ حدثنا مسدد ]

هو مسدد بن مسرهد البصري وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .

[ حدثنا يزيد بن زريع ]

يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن شعبة ]

وقد مر ذكره.

شرح حديث كعب في الصلاة الإبراهيمية من طريق مسعر عن الحكم

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن بشر عن مسعر عن الحكم بإسناده بهذا قال: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ].

أورد المصنف رحمه الله طريقاً أخرى لحديث كعب بن عجرة وهي مطابقة للطريق الأولى؛ لأن فيها ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله، والصلاة على إبراهيم، وذكر الدعاء بالبركة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآله ولآل إبراهيم، فهذه الرواية مثل الرواية الأولى التي صدر بها المصنف الباب، إلا أن في الأولى لم يذكر (اللهم) في الدعاء بالبركة، وأيضاً فإنه لم يذكر في الأولى (إنك حميد مجيد) بعد الصلاة.

تراجم رجال إسناد حديث كعب من طريق مسعر عن الحكم

قوله: [ حدثنا محمد بن العلاء ]

هو محمد بن العلاء بن كريب البصري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا ابن بشر ]

هو محمد بن بشر وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن مسعر ]

هو مسعر بن كدام وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الحكم بإسناده بهذا ]

أي: عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة ، وقد مر ذكر الثلاثة.

ذكر رواية الزبير بن عدي لحديث كعب بن عجرة في الصلاة الإبراهيمية

[ قال أبو داود : رواه الزبير بن عدي عن ابن أبي ليلى كما رواه مسعر إلا أنه قال: (كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد) وساق مثله ].

ذكر أنه جاءت رواية من طريق الزبير بن عدي كما جاء عن مسعر ، إلا أن بينها وبين رواية مسعر فرقاً وهو أنه قال: (كما صليت على آل إبراهيم)، ورواية مسعر : (كما صليت على إبراهيم).

وقال: (وبارك على محمد) يعني: ليس فيها (اللهم).

و الزبير بن عدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

و ابن أبي ليلى مر ذكره.

شرح حديث أبي حميد الساعدي في الصلاة الإبراهيمية

قال المصنف رحمه الله: [ حدثنا القعنبي عن مالك ، ح: وحدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرو بن سليم الزرقي أنه قال: أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا: (يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ].

أورد أبو داود حديث أبي حميد الساعدي في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يقولوا: [ (اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته) ] واللفظ الآخر قال: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)، فهذا يبين لنا أن الأزواج والذرية داخلون في الآل، وقد جاء في بعض الروايات: (اللهم صل على محمد وآل محمد وأزواجه وذريته) فجاء ذكر الآل وجاء ذكر الأزواج والذرية، وهذا يدلنا على أن الأزواج والذرية داخلون دخولاً أولياً في آل محمد، سواء قيل: إنها خاصة بهم أو إنها لآله وهم منهم، أو إنها للمتقين من أمته، أو إنها لأمة الإجابة، فالأزواج والذرية داخلون، والمقصود بذلك من يكون أهلاً لها حيث يكون من المسلمين، أما من كفر منهم وإن كان من الذرية المتناسلين فيما بعد فلا يدخلون في ذلك.

إذاً: فالأزواج والذرية داخلون دخولاً أولياً، وقد جاء ذكرهم في حديث أبي حميد الساعدي بدلاً من آل محمد.

قوله: (وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) هذه هي صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت من طريق أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.

تراجم رجال إسناد حديث أبي حميد الساعدي في الصلاة الإبراهيمية

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

هو عبد الله بن قعنب القعنبي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المحدث الفقيه، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ ح وحدثنا ابن السرح ].

ح أي: تحول من إسناد إلى إسناد، وابن السرح هو أحمد بن عمرو بن السرح المصري وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ أخبرنا ابن وهب ].

هو عبد الله بن وهب المصري وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ].

حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: (قلنا أو قالوا: يا رسول الله! أمرتنا أن نصلي عليك وأن نسلم عليك، فأما السلام فقد عرفناه فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ].

بعد الفراغ من الكلام على التشهد وبيان صيغه من الطرق المختلفة جاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد في الصلاة، وقد أورد فيها جملة من الأحاديث أولها حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

وقد جاءت صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد بصيغ مختلفة عن كعب بن عجرة وعن غيره من الصحابة، منها ما هو في الصحيحين ومنها ما هو في أحدهما ومنها ما هو خارج الصحيحين، وحديث كعب بن عجرة أخرجه صاحبا الصحيح، وورد بصيغ متعددة، ورد بهذه الصيغة التي أوردها أبو داود هنا وهي: [ (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) ].

في هذه الصيغة الجمع بين النبي صلى الله عليه وسلم وآله، وفي الصلاة ذكر إبراهيم بدون آله، وفي البركة ذكر آل إبراهيم بدون إبراهيم، فجمع فيها بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآله في الدعاء بالصلاة والدعاء بالبركة، وبالنسبة لإبراهيم أتى به دون أهله في الصلاة وأتى بآل إبراهيم دون إبراهيم في الدعاء بالبركة.

وقد جاء حديث كعب بن عجرة في صحيح البخاري بلفظ أكمل وأتم من هذا وهو الجمع بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآله وبين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وآله في الدعاء بالصلاة والدعاء بالبركة، حيث قال فيه: (اللهم صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد... إلخ). وهذه أكمل الصيغ التي وردت في بيان كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي ينبغي للإنسان أن يأتي بها في صلاته، وإذا أتى بالصيغ الأخرى فذلك صحيح؛ لأن أي صيغة صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي جائزة، ولكن كونه يأتي بما هو أكمل وبما هو أتم يكون هو الأولى.

ويقول كعب بن عجرة : (قلنا أو قالوا) أي: الصحابة: (أمرتنا أن نصلي ونسلم عليك) وفي بعض الألفاظ: (أمرنا أن نصلي ونسلم عليك، أما السلام فقد عرفناه، أما الصلاة فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد).

جاء في حديث كعب بن عجرة في بعض رواياته -وهي الرواية التامة- قصة في تحديث كعب بن عجرة بها، وهي أنه لقي عبد الرحمن بن أبي ليلى الراوي عنه، وقال له: (ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عبد الرحمن بن أبي ليلى : قلت: بلى، فأهدها إلي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد). فهذه القصة التي حدث بها كعب بن عجرة عبد الرحمن بن أبي ليلى تدلنا على كمال عناية الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بإبلاغ السنن والتحديث بها واهتمامهم بها، وأنهم عنوا بذلك غاية العناية ونصحوا غاية النصح رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فإن كون كعب بن عجرة يقدم لـعبد الرحمن بن أبي ليلى قبل أن يحدثه بهذا التقديم ويمهد له بهذا التمهيد ويعرض عليه هذا العرض ويسميه هدية، يدل على ذلك.

قوله: (سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فعرف بأن الهدية ليست مالية وإنما هي علمية، وأنها حق وهدى من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويريد كعب رضي الله عنه من هذا الكلام أن يتشوق عبد الرحمن وأن يتهيأ وأن يستعد لتلقي ما يسمع.

قال عبد الرحمن : (قلت: بلى) لا شك أنه عندما سمع هذا الكلام أعجبه وعرف أن وراء الهدية الشيء النفيس، وأنه أمر مهم، فبادر وقال: (بلى فأهدها إلي)، فحكى هذه القصة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، فقالوا: (قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟) لأن الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء في القرآن بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

قولهم: (فقد علمنا كيف نسلم عليك)؛ لأنه علمهم في التشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، وجاء في بعض الروايات في بعض الأحاديث المتعلقة بالتشهد: (كيف نصلي عليك إذا صلينا في صلاتنا) معناه: بعد التشهد.