بين يدي رمضان


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم من كيد الشيطان ورد أمله وخيب ظنه، إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجنده، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس مطمئنة، ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد قائد الخلق وممهد السنة، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

فإن حكمة الله جل وعلا اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعة للآخرة وميداناً للتنافس، وكان من فضله عز وجل على عباده وكرمه أنه يجزي على القليل كثيراً، ويضاعف الحسنة، ويجعل لعباده مواسم تعظم فيها الأجور، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام، وتقرب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.

قال الحسن البصري رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62] قال: من عجز بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب.

أي: يستدرك في أحدهما ما يفوته في الآخر.

من أعظم هذه المواسم المباركة وأجلها شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، بل لا يعلم موسم تجتمع فيه أبواب الخير والطاعات أكثر مما تجتمع في هذا الشهر العظيم، ولهذا كان حرياً بالمسلم انطلاقاً من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (احرص على ما ينفعك) أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، ويفقه شروط وآداب هذه العبادة المباركة؛ لئلا يفوته الخير العظيم، ولئلا ينشغل بمفضول عن فاضل أو بفاضل عما هو أفضل منه.

ندعو أنفسنا جميعاً الآن أن يستحضر كل واحد منا لو أن أحب الناس إليه غاب عنه أحد عشر شهراً ثم بشر بقدومه وعودته خلال أيام قلائل، كيف يكون استبشاره بقدومه وبشاشته عند لقائه؟! فمن أجل هذا المعنى كان أول الآداب الشرعية في هذه المناسبة وبين يدي رمضان: التأهب لقدومه قبل الاستهلال، وذلك بأن تكون النفس بقدومه مستبشرة، ولإزالة الشك في رؤية الهلال منتظرة، وأن تستشرف لنظره استشرافها لقدوم غائب حبيب من سفره؛ لأن الاهتمام باستقبال رمضان والاستعداد له قبل دخوله من تعظيم شعائر الله، ومن تعظيم شعائر ومعالم هذا الدين، والله عز وجل يقول: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

والناس في رمضان كغيره من مواسم الخير والطاعات يصدق فيهم قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4] فيتباين الناس في استعدادهم لهذا الشهر الكريم، حسب حظهم من الإيمان والصبر واليقين، فهم ما بين فرح مسرور بقدومه، وما بين مستثقل متضجر.

هناك من يستعد لرمضان بمجرد انطلاق رمضان الماضي، نجد شياطين الإنس يستعدون لاستقبال شهر رمضان المقبل بما يعدونه من التمثيليات والأفلام والفوازير واللهو والعبث؛ وذلك لصد الناس عن هذا الموسم العظيم، أفلا يجدر بعباد الرحمن وأولياء الله عز وجل أن يستعدوا؟! كيف يغتنمون هذا الموسم العظيم ويخططون له ويتأهبون له قبل قدومه؟!

إن المستثقلين شهر رمضان هم أهل الغفلة الذين يعدونه إذا نزل بهم كالضيف الثقيل، يعدون أيامه ولياليه وساعاته منتظرين رحيله بفارغ الصبر، يفرحون بكل يوم مضى منه، حتى إذا قرب العيد فرحوا بدنو خروج هذا الشهر، وليس فرحهم من أجل العيد وإنما فرحهم؛ لأنهم تخلصوا من هذا الشهر، وهذا الشعور السيئ عندهم يرجع إلى أسباب عدة:

أولها: أنهم اعتادوا على التوسع في الملذات والشهوات المحرمة فضلاً عن التوسع في الشهوات المباحة، فهم يعلمون أن هذا الشهر سيقيدهم ويحجزهم عن الاسترسال فيها، فاستثقلوه حتى قال بعضهم أقوالاً تقشعر منها الجلود وتشمئز منها النفوس، كقول الشاعر ابن الرومي :

ألا ليت الليل فيه شهر ومر نهاره مر السحاب

ويقول الآخر:

رمضان ولى هاتها يا ساق مشتاقة تسعى إلى مشتاق

ما كان أكثره على أللاتها وأقله في طاعة الخلاق

حكي أنه كان لـهارون الرشيد رحمه الله غلام سفيه، فلما أقبل رمضان ضاق الغلام به ذرعاً وأخذ ينشد:

دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر

فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر

فأصيب بمرض الصرع فكان يصرع في اليوم عدة مرات، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر.

كذلك من هؤلاء المتضجرين المستثقلين لهذا الضيف العزيز من يستقبل رمضان بالسفر أو بالهروب من بلاد المسلمين.

ومنهم من يستثقله بإعداد خطط خاصة للطعام وألوان الشراب وغير ذلك.

ومنهم من يستقبله فرحاً مسروراً لما يجده فيه من فرص اللهو والعبث أمام (التلفزيون) أو (الراديو)، أو مع أصدقائه وأترابه في اللعب واللهو.

فهؤلاء جميعاً يستثقلون الشهر، وحتى إذا فرحوا فلا يفرحون بمواسم الطاعات التي فيه، وإنما يبتهجون بمواسم اللهو والعبث التي تزيدهم عن الله عز وجل بعداً.

نقل عن ابن حجر رحمه الله تعالى أنه قال: إن تمني زوال رمضان من الكبائر.

إذاً: القلب المؤمن المملوء بالصبر واليقين في وعد الله عز وجل في بداية الشهر أو قبل بدايته فإن قلبه يكاد يطير فرحاً بقدومه، ويتمنى أن يكون شعبان يوماً واحداً.

كذلك إذا دخل رمضان فإنه يحزن جداً لكل ساعة أو لكل ليلة تمر منه؛ لأنه يعلم أن تمني زوال رمضان من كبائر الذنوب.

وقال بعض العلماء معلقاً على كلام ابن حجر : ولعله إذا كان بغضاً للعبادة فربما يخشى منه الكفر.

ومما يخالف تعظيم شعائر الله قول العوام: رمضان مريض، أو يطلع ويخرج الروح ... ونحو ذلك.

ذكرنا آنفاً أن أحد أسباب استثقال رمضان عند من يستثقله: توسع بعض الناس في الملذات والشهوات المحرمة فضلاً عن المباحة، ولا شك أن التعلق بهذه الشهوات يثقل على القلب العبادة المرتبطة بها، فمن تعلق مثلاً بالمال ثقل عليه عبادة الزكاة والصدقة، ومن تعلق بالأهل والأولاد ثقل عليه الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن تعلق بالطعام والشراب والشهوات ثقل عليه الصيام.

واستثقال الأعمال الصالحة ناتج عن ضعف الإيمان وضعف محبة الله عز وجل في القلب.

قارن بين قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرحنا بها يا بلال) بقول من يقول بلسان حاله أو حتى مقاله: أرحنا منها!

قارن هذا بحال أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) قوله: (إيماناً واحتساباً) أي: تصديقاً بفرضيته، ورغبة في ثوابه، طيبة به نفسه، غير كاره ولا مستثقل لقيامه، ولا مستطيل لأيامه، لكن يغتنم طول أيامه لتعظيم الثواب فيه.

أما الذين يفرحون ويستبشرون بقدوم رمضان فهم يحمدون الله عز وجل أن بلغهم رمضان، ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات وزيادة الحسنات وهجران السيئات، هؤلاء هم امتداد للسلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، الذين أثر عنهم أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر بعده أن يتقبله منهم.

أولئك الفرحون المستبشرون بقدوم رمضان يبشرون بقول الله عز وجل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

إن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل، يقول الله عز وجل: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124].

والذي يحمد من الاستبشار بالطاعات ومواسم العبادات والخيرات ما كان نابعاً عن محبة العبد لربه عز وجل، لا ما كان بسبب أن للنفس حظاً من تلك العبادة، فربما يحب الإنسان مثلاً مجالس الخير وهو لا يقصدها لذاتها، لكن يستأنس برفاقه وبأترابه وبما يسليه فلا تنفعه تلك المحبة، لكن من أحب مجالس الخير وفرح بها لا لأنه سيقابل أصحابه ويتحدث معهم ويتناقشون ويسمرون ويسهرون، لكن يفرح بقيام الليل؛ لأنه تعمير لبيت الله وإقامة لذكر الله عز وجل رغبة في ثواب الله.

فمن أحب هذه المجالس المباركة وفرح بها؛ لأنها محبوبة لله عز وجل، فهو المفلح الذي تنفعه هذه المحبة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في).

بعض الناس قد يؤديهم الحذر من مثل هذا المزلق ويؤديهم هذا التخوف من أن يخالط حظ النفس عبادتهم إلى أن يتركوا العبادة؛ بحجة الخوف من حبوطها وعدم تقبلها، والصواب هو أن يثبت الإنسان ويستكثر من العمل الصالح، وفي نفس الوقت يجاهد نفسه؛ ليكمل الإخلاص ويمحض النية لوجه الله عز وجل.

تهيئة الصالحين لأنفسهم وتوطينها على تحمل مشقة الصيام

لقد هيأ الصالحون أنفسهم ووطنوها على تحمل مشقة الصيام، فصاموا التطوع خلال الشهور الأخرى، وبالذات في شهر شعبان (فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم أكثر شعبان)؛ استعداداً لشهر رمضان، فمن ألف الصيام في شعبان، واجتهد في تعمير شعبان بطاعة الله ودرب نفسه على عدم الالتفات إلى ما حرم الله مثل: قول الزور، والغيبة والنميمة، فهذا يأتي عليه موسم رمضان وقد سهل عليه أمر الصيام وأمر سائر الطاعات من القيام وغيرها، فيستطيع أن يغتنمه في أحسن صورة ممكنة.

وكان هذا شأن السلف، كانوا يحافظون على نوافل العبادات، ويحافظون على صيام التطوع، ويحافظون على الاجتهاد في الإكثار من صيام شهر شعبان؛ استعداداً للقاء رمضان.

باع قوم من السلف جارية له لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان، كما يصنع كثير من الناس اليوم، أهم استعداد عندهم لرمضان هو الأطعمة والأشربة، وكيف سيصنعون بكذا وكذا؟! وإعداد المخللات والفواتح الشهية، منذ زمن بعيد يستعدون للقاء هذا الشهر لتعميره بهذه الأشياء، وكأن شهر رمضان هو شهر إثخان المعدة بالطعام، والتلذذ بالطعام والشراب، وإرهاق الميزانيات، حتى يقول بعض الناس في وصف حال الكثير من المسلمين للأسف في هذا الأمر: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأثقال، وتنامون الليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال.

فقالت هذه الجارية لما وجدت سيدها يستعد بهذه الطريقة في استقباله شهر رمضان، قالت: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال شهر رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان، والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان، لا حاجة لي فيكم ردوني إليهم ورجعت إلى سيدها الأول.

الامتناع عن الشهوات لله من أجل الحصول عليها في الآخرة

إن هؤلاء الصالحين الفرحين بقدوم رمضان يعلمون أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، فإن من كف نفسه عن شيء منعه الله منه فمن فضل الله وعدله أنه لابد من أن يعوضه الله عز وجل خيراً منه وأفضل. فإذا تأملنا مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب) عرفنا ذلك، وشتان بين خمر الدنيا وخمر الآخرة، فهذه تذهب العقول وتهين الإنسان، وأما تلك فليس فيها سوى مسك، وهي شراب طهور، كما وصفها الله بقوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات:46]، فمن شرب الخمر الذي منعه الله في الدنيا عوقب بأنه يحرم من شرب الخمر في جنة الرضوان. ومن تأمل -أيضاً- قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) أدرك ذلك، والحرير محرم على الرجال، فمن لبس الحرير منهم وتمتع به في الدنيا فإنه يعاقب بحرمانه منه في الآخرة. روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى : أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش) رواه البزار ، وحسنه المنذري والألباني . ورواه -أيضاً- ابن أبي الدنيا بنحوه إلا أنه قال: (إن الله قضى على نفسه أن من عطّش نفسه لله في يوم حار كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر فيصومه ابتغاء ثواب الله الذي وعده به). وهناك -أيضاً- حديث صحيح في نفس هذا المعنى، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً). فثواب الله عز وجل لمن كفّ عن الشهوات المباحة طاعة لله وانقياداً لأمره أن يكافئه بهذه المكافأة يوم القيامة. إذاً: لا شك أن استحضار هذا النعيم وهذا الثواب يهون على الإنسان ما يلقاه من العناء في شهر الصيام.

الفرح عند تمام صيام رمضان بتوفيق الله وشكره على ذلك

إن الصالحين الذين يستبشرون بقدوم ذلك الضيف الكريم، ويعلمون أن هذا الشهر هو أعظم مواسم الطاعات والتنافس في القربات، هؤلاء إذا جاءهم العيد فإنهم يفرحون، ولا يفرحون؛ لأن رمضان ولى، وإنما يفرحون؛ لأن الله عز وجل وفقهم لإكمال عدة هذا الشهر وإتمام صيامه كما قال عز وجل: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] يعني: تشكرون الله عز وجل أن وفقكم لصيام شهر رمضان.

الامتناع عن الشهوات لله من أسباب الحصول عليها في الآخرة

إن هؤلاء الصالحين الفرحين بقدوم رمضان يعلمون أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، فإن من كف نفسه عن شيء منعه الله منه فمن فضل الله وعدله لابد أن يعوضه الله عز وجل خيراً منه وأفضل.

إذا تأملنا مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب شتان بين خمر الدنيا وخمر الآخرة، هذه تذهب العقول وتهين الإنسان، وأما تلك فليس فيها سوى مسك وهي شراب طهور كما وصفها الله بقوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات:46]، فمن شرب الخمر الذي منعه الله في الدنيا عوقب بأنه يحرم من شرب الخمر في جنة الرضوان.

ومن تأمل أيضاً قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة والحرير محرم على الرجال، فمن لبس الحرير منهم وتمتع به في الدنيا فإنه يعاقب بحرمانه منه في الآخرة.

روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة، إذا هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى : أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش رواه البزار ، وحسنه المنذري والألباني .

ورواه أيضاً ابن أبي الدنيا بنحوه إلا أنه قال: إن الله قضى على نفسه أن من عطّش نفسه لله في يوم حار كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر فيصومه؛ ابتغاء ثواب الله الذي وعده به.

وهناك أيضاً حديث صحيح في نفس هذا المعنى، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً.

فثواب الله عز وجل لمن كفّ عن الشهوات المباحة طاعة لله وانقياداً لأمره أن يكافئه بهذه المكافأة يوم القيامة.

إذاً: لا شك أن استحضار هذا النعيم وهذا الثواب يهون على الإنسان ما يلقاه من العناء في شهر الصيام.

لقد هيأ الصالحون أنفسهم ووطنوها على تحمل مشقة الصيام، فصاموا التطوع خلال الشهور الأخرى، وبالذات في شهر شعبان (فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم أكثر شعبان)؛ استعداداً لشهر رمضان، فمن ألف الصيام في شعبان، واجتهد في تعمير شعبان بطاعة الله ودرب نفسه على عدم الالتفات إلى ما حرم الله مثل: قول الزور، والغيبة والنميمة، فهذا يأتي عليه موسم رمضان وقد سهل عليه أمر الصيام وأمر سائر الطاعات من القيام وغيرها، فيستطيع أن يغتنمه في أحسن صورة ممكنة.

وكان هذا شأن السلف، كانوا يحافظون على نوافل العبادات، ويحافظون على صيام التطوع، ويحافظون على الاجتهاد في الإكثار من صيام شهر شعبان؛ استعداداً للقاء رمضان.

باع قوم من السلف جارية له لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان، كما يصنع كثير من الناس اليوم، أهم استعداد عندهم لرمضان هو الأطعمة والأشربة، وكيف سيصنعون بكذا وكذا؟! وإعداد المخللات والفواتح الشهية، منذ زمن بعيد يستعدون للقاء هذا الشهر لتعميره بهذه الأشياء، وكأن شهر رمضان هو شهر إثخان المعدة بالطعام، والتلذذ بالطعام والشراب، وإرهاق الميزانيات، حتى يقول بعض الناس في وصف حال الكثير من المسلمين للأسف في هذا الأمر: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأثقال، وتنامون الليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال.

فقالت هذه الجارية لما وجدت سيدها يستعد بهذه الطريقة في استقباله شهر رمضان، قالت: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال شهر رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان، والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان، لا حاجة لي فيكم ردوني إليهم ورجعت إلى سيدها الأول.

إن هؤلاء الصالحين الفرحين بقدوم رمضان يعلمون أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، فإن من كف نفسه عن شيء منعه الله منه فمن فضل الله وعدله أنه لابد من أن يعوضه الله عز وجل خيراً منه وأفضل. فإذا تأملنا مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب) عرفنا ذلك، وشتان بين خمر الدنيا وخمر الآخرة، فهذه تذهب العقول وتهين الإنسان، وأما تلك فليس فيها سوى مسك، وهي شراب طهور، كما وصفها الله بقوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات:46]، فمن شرب الخمر الذي منعه الله في الدنيا عوقب بأنه يحرم من شرب الخمر في جنة الرضوان. ومن تأمل -أيضاً- قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) أدرك ذلك، والحرير محرم على الرجال، فمن لبس الحرير منهم وتمتع به في الدنيا فإنه يعاقب بحرمانه منه في الآخرة. روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة إذا هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى : أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش) رواه البزار ، وحسنه المنذري والألباني . ورواه -أيضاً- ابن أبي الدنيا بنحوه إلا أنه قال: (إن الله قضى على نفسه أن من عطّش نفسه لله في يوم حار كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر فيصومه ابتغاء ثواب الله الذي وعده به). وهناك -أيضاً- حديث صحيح في نفس هذا المعنى، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً). فثواب الله عز وجل لمن كفّ عن الشهوات المباحة طاعة لله وانقياداً لأمره أن يكافئه بهذه المكافأة يوم القيامة. إذاً: لا شك أن استحضار هذا النعيم وهذا الثواب يهون على الإنسان ما يلقاه من العناء في شهر الصيام.

إن الصالحين الذين يستبشرون بقدوم ذلك الضيف الكريم، ويعلمون أن هذا الشهر هو أعظم مواسم الطاعات والتنافس في القربات، هؤلاء إذا جاءهم العيد فإنهم يفرحون، ولا يفرحون؛ لأن رمضان ولى، وإنما يفرحون؛ لأن الله عز وجل وفقهم لإكمال عدة هذا الشهر وإتمام صيامه كما قال عز وجل: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] يعني: تشكرون الله عز وجل أن وفقكم لصيام شهر رمضان.

إن هؤلاء الصالحين الفرحين بقدوم رمضان يعلمون أن الامتناع عن الشهوات لله عز وجل في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، فإن من كف نفسه عن شيء منعه الله منه فمن فضل الله وعدله لابد أن يعوضه الله عز وجل خيراً منه وأفضل.

إذا تأملنا مفهوم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب شتان بين خمر الدنيا وخمر الآخرة، هذه تذهب العقول وتهين الإنسان، وأما تلك فليس فيها سوى مسك وهي شراب طهور كما وصفها الله بقوله: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات:46]، فمن شرب الخمر الذي منعه الله في الدنيا عوقب بأنه يحرم من شرب الخمر في جنة الرضوان.

ومن تأمل أيضاً قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة والحرير محرم على الرجال، فمن لبس الحرير منهم وتمتع به في الدنيا فإنه يعاقب بحرمانه منه في الآخرة.

روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا موسى على سرية في البحر، فبينما هم كذلك قد رفعوا الشراع في ليلة مظلمة، إذا هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى : أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش رواه البزار ، وحسنه المنذري والألباني .

ورواه أيضاً ابن أبي الدنيا بنحوه إلا أنه قال: إن الله قضى على نفسه أن من عطّش نفسه لله في يوم حار كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، قال: فكان أبو موسى يتوخى اليوم الشديد الحر فيصومه؛ ابتغاء ثواب الله الذي وعده به.

وهناك أيضاً حديث صحيح في نفس هذا المعنى، وهو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً.

فثواب الله عز وجل لمن كفّ عن الشهوات المباحة طاعة لله وانقياداً لأمره أن يكافئه بهذه المكافأة يوم القيامة.

إذاً: لا شك أن استحضار هذا النعيم وهذا الثواب يهون على الإنسان ما يلقاه من العناء في شهر الصيام.

يقول تبارك وتعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4] ونذكر حديثاً شريفاً مناسباً لمعنى الآية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فيه انقسام الناس إلى قسمين بسبب دخول رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، -يعني: أقسم أبو هريرة بما حلف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان؛ وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن، يغتنمه الفاجر).

وعنه رضي الله عنه من طريق آخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله؛ وذاك لأن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر)، وفي رواية البيهقي : (فهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر)، وهذا الحديث أخرجه البيهقي في السنن، والطبراني في الأوسط، وابن خزيمة ، وسكت عنه المنذري ، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح.

فقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان؛ وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة) يعني: يعد المؤمنون لرمضان ما يقويهم على العبادة، فهم يدخرون ما ينفقونه على العيال قبل أن يدخل رمضان، أيضاً كثير من الناس يخرجون زكواتهم في رمضان، وكثير من الناس يتهيئون لأداء العمرة في رمضان وغير ذلك، تجدهم يخصصون ويتأهبون لقدوم رمضان قبل دخوله، فهم يعدون قبل دخول رمضان ما يحتاجونه؛ حتى يتفرغوا لطاعة الله إذا دخل عليهم رمضان.

أما قوله: (وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة)، يعني: أن المؤمنين بسبب اشتغالهم بالعبادة في رمضان فإن ذلك يمنعهم من تحصيل المعاش أو التقليل منه، فقيام الليل يستدعي النوم بالنهار، والاعتكاف يستدعي عدم الخروج من المسجد، وفي هذا تعطيل لأسباب المعاش، فهم يجمعون القوت وما يلزم لأولادهم في رمضان قبل حلوله؛ ليتفرغوا فيه للعبادة، وللإقبال على الله عز وجل، ولاجتناء ثمرة هذا الموسم فهو خير لهم مما أنفقوه؛ لما اكتسبوا فيه من الأجر العظيم والغفران العميم.

قوله عليه الصلاة والسلام: (وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم) يعني: هذا هو السبب في أن شهر رمضان شر على المنافقين، وما أكثر هؤلاء المنافقين من أعداء الله، من قطاع الطريق إلى الله، الذين يغتنمون فرصة التوبة والإنابة واستقامة الناس على طاعة الله وانفتاح أبواب الخيرات، حتى يصدوا الناس عن ذلك الخير، وتراهم يجلبون بخيلهم ورجلهم ليل نهار، في النهار يريدون أن يفسدوا صيام الناس بالمعاصي بالأفلام وباللهو والعبث والفجور، وفي الليل بالسهر والعكوف أمام العجل الفضي (التلفزيون) وأمثاله.

فإذاً: هو شر لهم؛ لأنهم يحرمون أنفسهم من هذا الخير العظيم، ويخسرون هذه الفضائل الجليلة، ولأنهم بدل من تكون هذه الأوقات الفاضلة عامرة بالطاعات فإذا بهم يعكسون مقاصد دين الله ويحولونه إلى موسم للهو والعبث والفجور، وتتكاثر شياطين الإنس من الممثلين والفنانين وأمثالهم، وتراهم يفكرون كيف يلهون الناس عن الطاعة، وكيف يصدونهم عن طريق الله، وكيف يضيعون عليهم هذه الفرصة، لا شك أن هؤلاء وزرهم مضاعف؛ لأنهم ضلوا أنفسهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله، وقطعوا الطريق إلى الله عز وجل على عباده التائبين.

إذاً: المنافقون يستعدون في شهر رمضان لإيذاء المسلمين في دنيهم ودنياهم؛ لأن المسلمين في هذا الوقت طائعون لله غافلون عن الدنيا منقطعون إلى الله عز وجل، فيأتي هؤلاء المنافقون فيستغلون فرصة انشغال الطائعين بطاعة الله فيتتبعون عوراتهم، والمنافقون عندما يتتبعون عورات المؤمنين يعتبرون ذلك غنيمة حاضرة وفوزاً عظيماً فهم يتوهمون أن هذه غنيمة اغتنموها في نظرهم، ولكنها في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم، وحرمانهم من فضله العميم، نعوذ بالله عز وجل من ذلك.

قوله عليه الصلاة والسلام في نهاية الحديث: (هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر) وفي رواية البيهقي : (فهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر) والمعنى: أن الله عز وجل ينتقم من الفاجر ويذيقه العذاب الأليم؛ لسوء فعله وإيذائه المؤمنين وتتبع عوراتهم، فيكون نقمة له، وأما المسلم فرمضان غنيمة له؛ بما اكتسبه من صيام أيامه وقيام لياليه، والانقطاع إلى الله عز وجل بالعبادة فيه.

قوله صلى الله عليه وسلم: (أظلكم شهركم هذا - يعني: أشرف عليكم وقرب منكم- بمحلوف رسول الله صلى عليه وسلم -يعني: إني أحلف بما حلف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه -والإصر هنا الإثم والعقوبة- من قبل أن يدخله) أي: الله عز وجل يعلم ما كان وما سيكون لا حدود لعلمه سبحانه وتعالى.

فالله عز وجل يكتب قبل دخول الشهر أن فلاناً سيجني من هذا الشهر كذا وكذا من الطاعات والعبادات، وفلان سوف يجني كذا وكذا من الشقاء والإثم والإصر والإثم والعقاب.

قوله: (إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله) إن المؤمن يستعد ويتهيأ لاستقبال رمضان قبل دخوله، كما ذكرنا في إعداد النفقة وإعداد القوت وغير ذلك؛ حتى يتفرغ ويجتهد في طاعة الله عز وجل في رمضان، فإن الله عز وجل يكتب له أجره ونوافله، وما سيترتب على أعماله هذه من الثواب قبل أن يدخل عليه شهر رمضان.

قوله عليه الصلاة والسلام (ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم) المعنى: أن المنافق يعلم أن الناس مزدحمون في المساجد فيستغل هذا المنافق اجتهاد عباد الله بالطاعات كالصلاة وغيرها فيسرق مثلاً أحذيتهم أو يسرق شيئاً من المسجد.

إذاً: انشغال المؤمنين بطاعة الله هو مكسب وغنيمة للمؤمن، يغتنمه المنافق أي: يغتنم المنافق وقت انشغال الصالحين بالعبادة وذلك بتتبع عوراتهم واغتنام غفلتهم.

هذا الحديث ينبغي أن نستحضره؛ وذلك لأنه مهم جداً، وكم فرحت حين رأيت الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى قد صححه؛ لأن هذا الحديث هو عين ما نقصده الآن من التذكير به.

ما أكثر ما يخبرنا الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم بكثير من الأحداث التي تقع في هذا الكون وفي هذا الوجود، ونحن لا نراها ولا نسمعها، لكن يكفينا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاطلاع على حقائق هذه العوالم الغيبية.

مثلاً: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من صباح إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

ومن هذه الأحداث التي تقع في أول ليلة من رمضان، ما أخبرنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين) وهذا يقع ويحدث في أول ليلة من شهر رمضان المبارك، كذلك الذي صح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة). وعند الإمام ابن خزيمة : (صفدت الشياطين مردة الجن)، يعني: الشياطين هم مردة الجن، بغير واو (مردة).

نحن نريد أن نقف طويلاً عند هذا الخبر العظيم، وبالذات عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) فهذا أنسب شاهد لما نحن بصدده من الكلام على انقسام الناس وتباينهم عند استقبال رمضان مصداقاً لقوله تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4].

في هذا الحديث يبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هناك من يبغي الخير في رمضان، وهناك من يبغي اقتراف الشر والصد عن سبيل الله في رمضان.

منذ بداية هذا الشهر يتكرر النداء العام ويختص بهذا الشهر بالذات: (يا باغي الخير أقبل) أي: أقبل فقد أعددت وخططت وتهيأت، وها هو قد فتح السوق فمن أراد الغنيمة فلينتهز الفرصة يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، أو: صفدت الشياطين مردة الجن) وتصفيد الشياطين في شهر رمضان يحتمل أن يكون المراد به تصفيد الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع، ولذلك قال بعض العلماء: ألا تراه قال: مردة الشياطين، يعني: يشير إلى قوله تبارك وتعالى: وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ [الصافات:7]؛ لأن شهر رمضان كان وقتاً لنزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكانت الحراسة قد وقعت بالشهب كما قال عز وجل: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا [الجن:8]، فزيد التصفيد في شهر رمضان مبالغة في الحفظ، وهذا أفاده الإمام الحليمي والله تعالى أعلم.

ويحتمل أن يكون المراد من تصفيد الشياطين في زمان وأيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده أيضاً، والمعنى: أن الشياطين في شهر رمضان لا يخلصون فيه من إفساد الناس إلى ما كانوا يخلصون في غيره؛ لاشتغال المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات التي تهذب النفس وتزكيها، قال رب العزة جل وعلا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

فالحكمة من الصيام هي الوصول إلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهذا أمر ملموس وهذا من بركة هذا الشهر حتى على العصاة، فإنك تجد عند ابتداء شهر رمضان همة الناس في إصلاح حالهم مع الله وفي الصلح مع الله تزداد، المحسن يرغب في زيادة الإحسان والمسيء تجده مقبلاً على الخير، وآية ذلك انظر إلى المساجد في أول ليلة من رمضان، بل انظر إلى المساجد في صلاة الفجر في أوائل رمضان، ثم انظر إلى طبيعة أسئلة الناس في أوائل شهر رمضان أو قبل قدومه بأيام تجد أن كل إنسان يراجع نفسه ويقول: أنا أفعل كذا وكذا فهل لي من توبة؟ أنا أريد أن أفعل كذا وكذا ولكن يمنعني كذا وكذا؟

تجد العصاة يريدون أن يقصروا عن الشر، وأن يتوبوا وأن يصلحوا حالهم مع الله تبارك وتعالى.

ولذلك كانت مسئولية كل من يتبوأ مقام الدعوة في رمضان كما يصنع التاجر حين يغتنم الفرص حتى يروج سلعته ويفوز بالفوز العظيم ويغتنم الربح الوفير، فكذلك الداعية إلى الله عز وجل وكل مسلم يجب أن يكون داعية إلى الله، فمن علم شيئاً عليه أن يدعو إليه، يقول عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية).

فالواجب الاهتمام واغتنام هذه الفرصة العظيمة؛ فإن الناس يقبلون على الله سبحانه وتعالى أشد الإقبال، الشيطان حينما توعد بني آدم -حسداً وحقداً- أن يفتنهم، وأن يتفنن في إضلالهم، وأقسم في ذلك بعزة الله تبارك وتعالى فإن مما يؤسف له إذا نظرنا إلى واقع الناس عموماً على ظاهر الكرة الأرضية وإلى واقع المسلمين خصوصاً أن إبليس وللأسف الشديد وفى بقسمه وبر بعهده.

انظر وقارن بين أولياء الرحمن وبين أولياء الشيطان، تجد أن جنود إبليس في أجهزة الإعلام يحتشدون ويتجهزون لحرب الدين وأهله، وكأن الشيطان يبعثهم سرايا حتى يضلوا الناس، ويضيعوا عليهم هذه الفرصة، ويغلقوا عليهم هذه الرحمة الواسعة، وذلك بصدهم عن المساجد وإشغالهم باللهو والفسق والفجور، وصدهم عن طريق الله وقطع الطريق إلى الله عز وجل على عباد الله، وقارن بين الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هل بروا بالعهد الذي أخذه الله عليهم، كما بر أولياء الشيطان وكما بر إبليس بعهده فتفنن في إضلالهم؟!

إذاً: ينبغي الاعتناء عناية شديدة باغتنام فرصة إقبال الناس على ربهم تبارك وتعالى، وينبغي تفويت الفرصة على أعداء الدعوة الإسلامية وعلى قطاع الطريق إلى الله، الذين ينتهزون مواسم الخير؛ ليعكروا صف المسلمين، وليمزقوا وحدتهم، وليحدثوا فيهم البلبلة والتشكك، وكأن رمضان صار موسماً للمشكلات من أوله إلى آخره.

فعلى الإخوة جميعاً أن يهتموا بهذا الأمر، ويجتهدوا في تفويت هذه الفرص على أعداء الدعوة.

قوله: (ولله عتقاء من النار؛ وذلك كل ليلة) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.