فقه العبادات - الصلاة [30]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات! وحيا الله الإخوة الذي معنا في الأستوديو، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العلم الذين يبلغون عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله ما علموه وعرفوه وطبقوه في سرهم وعلانيتهم, وفي جهرهم وخفائهم، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

كنا قد ذكرنا في درس سابق مسائل في الأعذار المسقطة لحضور الجمعة والجماعة, وذكرنا أعذاراً أعيدها على عجل, فذكرنا أنه يجوز للمريض أن يترك الجمعة والجماعة, وقلنا: إن هذا أمر ثابت بإجماع أهل العلم.

وكذلك إذا كان يدافعه الأخبثان أو كان بحضرة طعام, وذكرنا شروط ذلك, وذكرنا أيضاً إذا كان يخاف ضياع ماله أو فواته, أو ضرراً فيه، أو موت قريبه، أو خوف ضرر من سلطان, أو ملازمة غريم, أو غلبة نعاس أو أذى, وذكرنا أن من الأذى المطر, وتوقفنا عند هذا الأمر, ولعلي -كما قلت- أذكر هذه المسألة ببسط.

روايات حديث: (صلوا في رحالكم)

الشيخ: قال العلماء رحمهم الله: يجوز للإنسان أن يترك الجمعة والجماعة إذا كان ذلك لأجل مطر يشق على الإنسان, بحيث يبل ثيابه، بمعنى أنه لو عصر ثوبه لخرج منه ماء, أما الرذاذ اليسير الذي لا تتأثر معه الثياب فليس عذراً يبيح ترك الجمعة والجماعة؛ لأن هذا لا يشق, والقاعدة أن التكليف في المشقة المعتادة هو الأصل, ولكن التخفيف إنما هو في المشقة غير المعتادة.

وقلنا: الدليل على جواز ترك الجمعة والجماعة لأجل المطر: هو ما ثبت في الصحيحين من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن في ليلة ذات ريح أو مطر أو وحل أن يقول: صلوا في رحالكم ).

وقلنا: إن هذا الحديث إنما هو في السفر كما في رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر , ورواه مالك واختلف عليه, فرواه القعنبي و يحيى بن يحيى عن مالك بدون ذكر السفر, إلا أن مالكاً في الموطأ قال: (باب النداء في السفر) وذكر حديث ابن عمر , فكان دليلاً على أن هذا الحديث الذي ذكره ابن عمر إنما كان في السفر.

ورواه محمد بن الحسن الشيباني عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، وقال: (في سفر), فيدل ذلك على أن هذا الحديث إنما كان في السفر.

وقد روى عبد الرزاق وغيره من طريق أبي المليح عن أبيه أنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية فمطرنا، فقال صلى الله عليه وسلم للمؤذن: قل: ألا صلوا في الرحال ), وفي رواية: ( فوددت أن قال: صلوا في رحالكم فقال: صلوا في رحالكم ), وفي رواية قال: ( فأصابنا مطر لم تبل السماء نعالنا ), وهذا يدل على أن هذا المطر ليس مثل المطر الشديد, فأجاز الشارع أن يصلي المرء في بيته.

وقد يقول قائل: أكثر الأحاديث في قوله: (ألا صلوا في الرحال), إنما كانت في السفر، وأقول: نعم, أكثر الروايات في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا صلوا في رحالكم), إنما كان ذلك في السفر.

وأما قوله: (في الحضر) فإنما هو فعل فعله بعض الصحابة رضي الله عنهم, فقد روى البخاري و مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أنه صلى بالناس الجمعة في يوم مطير, فقال للمؤذن: إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، ولكن قل: صلوا في رحالكم, ثم قال: أما إن الجمعة عزمة, ولكن كرهت أن يخرج الناس في الطين والدحض، فسألوا ابن عباس عن هذا فقال : فعله من هو خير مني ).

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله يوم الجمعة, فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، فرأى ابن عباس أن فعله في الحضر أو السفر سواء, ولهذا قاس عليه الجمعة, لكن المحفوظ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك في السفر.

ضابط المطر المسوغ للجمع بين الصلاتين

الشيخ: وجاء في حديث أبي المليح أنه في الحديبية, وجاء في رواية نعيم بن النحام من طريق مجهول، وجاء من طريق عبد الله بن عمر ، قال: فوددت أنه قال: لا حرج, فقال: لا حرج.

وفي رواية: كنت في لحاف فتمنيت أن يقول المؤذن: لا حرج, فقال: لا حرج, وهذا يدل على أنهم كانوا مسافرين, ولهذا أشار كثير من أهل العلم في روايتهم أن ذلك كان في سفر, ولكن لا فرق ولا أثر لهذا, وهكذا يجب أن تكون الصلاة في البيوت ليست بأولى من الصلاة في المسجد خاصة في الأعذار التي ربما لا تكون عذراً عاماً للناس.

فمثلاً الغبار ليس عذراً لعامة الناس, إنما هو عذر لبعض من به ربو, أما عامة الناس فإنهم لا يتضررون التضرر الذي يحصل عليهم بالمطر, وإن كان بعض الغبار ربما يكون أشد من المطر, لكن يجب أن نفهم أنه ليس كل مطر يجوز معه الجمع كما يظن كثير من الناس.

ولكن هذا يدل على أن العذر إذا كان ليس عاماً أو غالباً في الناس فإنه يقال للناس: ألا صلوا في رحالكم.

ومثل ذلك إذا كان هناك دحض -أي طين- وشق ذلك على الناس، فيقال: صلوا في رحالكم, لكن الصلاة في المسجد هو الأصل.

أنا أقول هذا لأجل أن نعلم حكم التقلبات الجوية خاصة عندنا في المملكة العربية السعودية حفظها الله، أو في العراق، أو في دول الخليج, فأحياناً هذه التقلبات ليست بالعذر الذي يجوز به الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء, فحينئذ إذا نودي في الناس: (ألا صلوا في رحالكم), فليس المقصود كل الناس؛ لأن الأصل أن يصلى في المسجد, فمن كان عنده عذر صلى في رحله, ومن لم يكن عنده عذر في نفسه فإنه يجب عليه أن يصلي في المسجد.

وأما إذا اشتد المطر فإن المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في المطر, نعم لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في المطر بنصه, لكن روى سعيد بن جبير وأبو الشعثاء عن ابن عباس : ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ), وهذه الرواية رواها أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، ورواها عن أبي الزبير خلق كثير, رواها مالك و حماد بن سلمة و زهير بن معاوية و هشام بن سعد وغيرهم؛ رووها عن أبي الزبير عن سعيد عن ابن عباس بلفظ: (من غير خوف ولا سفر), ولأجل هذا رجح الإمام البيهقي وغيره أن الرواية المحفوظة هي (من غير خوف ولا سفر).

ورواها حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ( من غير خوف ولا مطر ), وقد اختلف أهل العلم فرجح أكثر المحدثين رواية السفر, وذهب بعضهم إلى رواية حبيب بن أبي ثابت بلفظ: المطر، وبعضهم يقول: الأصل أنه يجوز, ولكن الشأن في هذا أن نعلم أنه في حال المطر يجوز أن يقال: (صلوا في رحالكم), لكن بشرط أن يكون هذا المطر شديداً بحيث يبل الثياب، ولهذا يقول المالكية في بعض كتبهم: ويشق على أوساط الناس إلا بتغطية رءوسهم, فهذا نوع من أنواع العذر, وهو المطر الذي يبل الثياب بحيث يشق على أوساط الناس إلا أن يغطوا رءوسهم, فحينئذ يقال: أيهما أفضل: أن يقال للناس: (ألا صلوا في رحالكم)، أم الجمع بين الصلاتين؟

الأفضلية في الجمع بين الصلاتين في حال المطر في المسجد أو الصلاة في الرحال

الشيخ: هذه المسألة قد طرحت في الوقت الحاضر، فذهب بعض الفضلاء وبعض أهل الحديث إلى أن الأفضل أن يقال للناس: (ألا صلوا في رحالكم), كما هو مذهب الحنفية؛ لأن الحنفية لا يرون الجمع إلا في عرفة ومزدلفة.

وأما القائلون بجواز الجمع لأجل المطر, وهو قول أكثر السلف والخلف, وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، وهي السنة المتواترة عن الصحابة رضي الله عنهم, كما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: من السنة إذا كان في ليلة مطيرة الجمع بين الصلاتين, وهذا وإن كان مقطوعاً على أبي سلمة , إلا أنه يذكر السنة المتواترة عمن أدرك من الصحابة, وقد روى عبد الرزاق وغيره عن سعيد بن المسيب و هشام بن سعد و أبي بكر بن عبد الرحمن : أنهم كانوا يجمعون لأجل المطر، وكانوا يجمعون مع الناس من غير نكير.

وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه إذا جمع الأمراء في ليلة مطيرة جمع معهم من غير نكير, يقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله: فهذه الآثار تبين وتدل على أن الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء من السنة المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين من غير نكير, يقول: وهي من المتواتر عنهم.

يقول ابن تيمية : إن الجمع بين الصلاتين لأجل المطر أولى من الصلاة في البيوت, بل ترك الجمع والصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة, إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة, وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع كـمالك و الشافعي و أحمد .

هذا النقل ذكرته لأجل أن نعلم أن الجمع لأجل المطر في المساجد أولى من أن يصلي الناس في رحالهم, لكن يجوز أن يصلوا في الرحال.

وعليه؛ فهذا هو الأصل، وكل من قال بجواز الجمع لأجل المطر يقول: إذا وجد المطر فصلاة الناس في المساجد جمعاً أولى من الصلاة في رحالهم, خلافاً لما يقال اليوم: إن الصلاة في الرحال أفضل, والصحيح أن الصلاة في المسجد أفضل, ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جوز أن يجمع بين الصلاتين للعذر في المسجد دل على أن الصلاة جماعة مأمور بها، بدليل أنه ترك فيها الوقت لأجل الجماعة, مما يدل على أن تحصيل الجماعة أولى من الصلاة في غير جماعة, وهذا لا يتأتي إلا في الرحال.

فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر المؤذن أن يقول: ( ألا صلوا في رحالكم ), وهل تمنعون من ذلك؟

نقول: لا نمنع, لكن السنة المعروفة أن قوله: (صلوا في رحالكم) في الأكثر إنما كانت في السفر, والأصل في المسافر أنه يجوز له ترك الصلاة في المساجد، بدليل ما رواه مالك عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه: ( أن رجلين أتيا مسجد الخيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر, فلما سلم إذا بهما لم يصليا فقال: علي بهما, فجيء بهما ترعد فرائصهما، قال: ما منعكما أن تصليا معنا, أولستما بمسلمين؟ قالا: بلى, ولكنا صلينا في رحالنا, قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا تكن لكما نافلة ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهرهما لأنهما لم يصليا في المسجد؛ لأنهما كانا مسافرين؛ فإن الرسول لم يصل في مسجد الخيف إلا حينما كان حاجاً, فكان مسافراً صلى الله عليه وسلم, فعلى هذا فيقال: إن الأكثر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع عند العذر، فلما جمع لأجل العذر مع وجوب الصلاة في أوقاتها فهذا دليل على أن تحصيل الجماعة أولى من أن يصلي الناس في رحالهم, فالذي يأتي إلى المسجد ليصلي جماعة أفضل من أن يصلي في رحله, وهذا إذا وجد المطر الذي يعذر به صاحبه, أما إذا وجد مطر لا يكون فيه مشقة فإن الإنسان لا ينبغي له أن يجمع بين الصلاتين, وعلى هذا فإن الإنسان لو ترك الجمع مع الناس لكونه يرى أن هذا المطر ليس هو الذي يجوز فيه الجمع فلا حرج عليه، لكنه إن كان يظن أن الصلاة في البيوت من غير جمع أفضل من الصلاة جماعة في المسجد، فقد خالف السنة وقد أخطأ, ولهذا يقول ابن تيمية : بل إن ترك الجمع والصلاة في البيوت متفرقة بدعة مخالفة للسنة. ولعله يقصد بالبدعة هنا المداومة على ذلك.

إذا ثبت هذا فإن القائلين بجواز الجمع للمطر يعدونه أفضل من الصلاة في الرحال, وهذا أمر سار عليه أئمة السلف والخلف كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، قال: وهذا من السنة المعمول بها في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير, فدل ذلك على أنه منقول عنهم بالتواتر, نعم لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه جمع لأجل المطر في الحضر, لكن هذا هو الظاهر من حاله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا اختلف أهل العلم في العذر الذي جمع لأجله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس : ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة من غير خوف ولا سفر ), وفي رواية: ( من غير خوف ولا مطر ), فقد تفرد بها حماد بن سلمة و زهير بن معاوية فروياها عن سعيد عن ابن عباس , وأما مالك و هشام بن سعد وغيرهما فإنهما لم يذكرا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (في المدينة), فدل على أن الأصل أن كلمة (في المدينة) فيها نوع من النكارة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: قال العلماء رحمهم الله: يجوز للإنسان أن يترك الجمعة والجماعة إذا كان ذلك لأجل مطر يشق على الإنسان, بحيث يبل ثيابه، بمعنى أنه لو عصر ثوبه لخرج منه ماء, أما الرذاذ اليسير الذي لا تتأثر معه الثياب فليس عذراً يبيح ترك الجمعة والجماعة؛ لأن هذا لا يشق, والقاعدة أن التكليف في المشقة المعتادة هو الأصل, ولكن التخفيف إنما هو في المشقة غير المعتادة.

وقلنا: الدليل على جواز ترك الجمعة والجماعة لأجل المطر: هو ما ثبت في الصحيحين من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن في ليلة ذات ريح أو مطر أو وحل أن يقول: صلوا في رحالكم ).

وقلنا: إن هذا الحديث إنما هو في السفر كما في رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر , ورواه مالك واختلف عليه, فرواه القعنبي و يحيى بن يحيى عن مالك بدون ذكر السفر, إلا أن مالكاً في الموطأ قال: (باب النداء في السفر) وذكر حديث ابن عمر , فكان دليلاً على أن هذا الحديث الذي ذكره ابن عمر إنما كان في السفر.

ورواه محمد بن الحسن الشيباني عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، وقال: (في سفر), فيدل ذلك على أن هذا الحديث إنما كان في السفر.

وقد روى عبد الرزاق وغيره من طريق أبي المليح عن أبيه أنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية فمطرنا، فقال صلى الله عليه وسلم للمؤذن: قل: ألا صلوا في الرحال ), وفي رواية: ( فوددت أن قال: صلوا في رحالكم فقال: صلوا في رحالكم ), وفي رواية قال: ( فأصابنا مطر لم تبل السماء نعالنا ), وهذا يدل على أن هذا المطر ليس مثل المطر الشديد, فأجاز الشارع أن يصلي المرء في بيته.

وقد يقول قائل: أكثر الأحاديث في قوله: (ألا صلوا في الرحال), إنما كانت في السفر، وأقول: نعم, أكثر الروايات في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا صلوا في رحالكم), إنما كان ذلك في السفر.

وأما قوله: (في الحضر) فإنما هو فعل فعله بعض الصحابة رضي الله عنهم, فقد روى البخاري و مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أنه صلى بالناس الجمعة في يوم مطير, فقال للمؤذن: إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، ولكن قل: صلوا في رحالكم, ثم قال: أما إن الجمعة عزمة, ولكن كرهت أن يخرج الناس في الطين والدحض، فسألوا ابن عباس عن هذا فقال : فعله من هو خير مني ).

ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله يوم الجمعة, فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، فرأى ابن عباس أن فعله في الحضر أو السفر سواء, ولهذا قاس عليه الجمعة, لكن المحفوظ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك في السفر.

الشيخ: وجاء في حديث أبي المليح أنه في الحديبية, وجاء في رواية نعيم بن النحام من طريق مجهول، وجاء من طريق عبد الله بن عمر ، قال: فوددت أنه قال: لا حرج, فقال: لا حرج.

وفي رواية: كنت في لحاف فتمنيت أن يقول المؤذن: لا حرج, فقال: لا حرج, وهذا يدل على أنهم كانوا مسافرين, ولهذا أشار كثير من أهل العلم في روايتهم أن ذلك كان في سفر, ولكن لا فرق ولا أثر لهذا, وهكذا يجب أن تكون الصلاة في البيوت ليست بأولى من الصلاة في المسجد خاصة في الأعذار التي ربما لا تكون عذراً عاماً للناس.

فمثلاً الغبار ليس عذراً لعامة الناس, إنما هو عذر لبعض من به ربو, أما عامة الناس فإنهم لا يتضررون التضرر الذي يحصل عليهم بالمطر, وإن كان بعض الغبار ربما يكون أشد من المطر, لكن يجب أن نفهم أنه ليس كل مطر يجوز معه الجمع كما يظن كثير من الناس.

ولكن هذا يدل على أن العذر إذا كان ليس عاماً أو غالباً في الناس فإنه يقال للناس: ألا صلوا في رحالكم.

ومثل ذلك إذا كان هناك دحض -أي طين- وشق ذلك على الناس، فيقال: صلوا في رحالكم, لكن الصلاة في المسجد هو الأصل.

أنا أقول هذا لأجل أن نعلم حكم التقلبات الجوية خاصة عندنا في المملكة العربية السعودية حفظها الله، أو في العراق، أو في دول الخليج, فأحياناً هذه التقلبات ليست بالعذر الذي يجوز به الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء, فحينئذ إذا نودي في الناس: (ألا صلوا في رحالكم), فليس المقصود كل الناس؛ لأن الأصل أن يصلى في المسجد, فمن كان عنده عذر صلى في رحله, ومن لم يكن عنده عذر في نفسه فإنه يجب عليه أن يصلي في المسجد.

وأما إذا اشتد المطر فإن المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في المطر, نعم لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع في المطر بنصه, لكن روى سعيد بن جبير وأبو الشعثاء عن ابن عباس : ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ), وهذه الرواية رواها أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، ورواها عن أبي الزبير خلق كثير, رواها مالك و حماد بن سلمة و زهير بن معاوية و هشام بن سعد وغيرهم؛ رووها عن أبي الزبير عن سعيد عن ابن عباس بلفظ: (من غير خوف ولا سفر), ولأجل هذا رجح الإمام البيهقي وغيره أن الرواية المحفوظة هي (من غير خوف ولا سفر).

ورواها حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ( من غير خوف ولا مطر ), وقد اختلف أهل العلم فرجح أكثر المحدثين رواية السفر, وذهب بعضهم إلى رواية حبيب بن أبي ثابت بلفظ: المطر، وبعضهم يقول: الأصل أنه يجوز, ولكن الشأن في هذا أن نعلم أنه في حال المطر يجوز أن يقال: (صلوا في رحالكم), لكن بشرط أن يكون هذا المطر شديداً بحيث يبل الثياب، ولهذا يقول المالكية في بعض كتبهم: ويشق على أوساط الناس إلا بتغطية رءوسهم, فهذا نوع من أنواع العذر, وهو المطر الذي يبل الثياب بحيث يشق على أوساط الناس إلا أن يغطوا رءوسهم, فحينئذ يقال: أيهما أفضل: أن يقال للناس: (ألا صلوا في رحالكم)، أم الجمع بين الصلاتين؟

الشيخ: هذه المسألة قد طرحت في الوقت الحاضر، فذهب بعض الفضلاء وبعض أهل الحديث إلى أن الأفضل أن يقال للناس: (ألا صلوا في رحالكم), كما هو مذهب الحنفية؛ لأن الحنفية لا يرون الجمع إلا في عرفة ومزدلفة.

وأما القائلون بجواز الجمع لأجل المطر, وهو قول أكثر السلف والخلف, وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، وهي السنة المتواترة عن الصحابة رضي الله عنهم, كما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: من السنة إذا كان في ليلة مطيرة الجمع بين الصلاتين, وهذا وإن كان مقطوعاً على أبي سلمة , إلا أنه يذكر السنة المتواترة عمن أدرك من الصحابة, وقد روى عبد الرزاق وغيره عن سعيد بن المسيب و هشام بن سعد و أبي بكر بن عبد الرحمن : أنهم كانوا يجمعون لأجل المطر، وكانوا يجمعون مع الناس من غير نكير.

وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه إذا جمع الأمراء في ليلة مطيرة جمع معهم من غير نكير, يقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله: فهذه الآثار تبين وتدل على أن الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء من السنة المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين من غير نكير, يقول: وهي من المتواتر عنهم.

يقول ابن تيمية : إن الجمع بين الصلاتين لأجل المطر أولى من الصلاة في البيوت, بل ترك الجمع والصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة, إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة, وذلك أولى من الصلاة في البيوت باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع كـمالك و الشافعي و أحمد .

هذا النقل ذكرته لأجل أن نعلم أن الجمع لأجل المطر في المساجد أولى من أن يصلي الناس في رحالهم, لكن يجوز أن يصلوا في الرحال.

وعليه؛ فهذا هو الأصل، وكل من قال بجواز الجمع لأجل المطر يقول: إذا وجد المطر فصلاة الناس في المساجد جمعاً أولى من الصلاة في رحالهم, خلافاً لما يقال اليوم: إن الصلاة في الرحال أفضل, والصحيح أن الصلاة في المسجد أفضل, ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جوز أن يجمع بين الصلاتين للعذر في المسجد دل على أن الصلاة جماعة مأمور بها، بدليل أنه ترك فيها الوقت لأجل الجماعة, مما يدل على أن تحصيل الجماعة أولى من الصلاة في غير جماعة, وهذا لا يتأتي إلا في الرحال.

فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر المؤذن أن يقول: ( ألا صلوا في رحالكم ), وهل تمنعون من ذلك؟

نقول: لا نمنع, لكن السنة المعروفة أن قوله: (صلوا في رحالكم) في الأكثر إنما كانت في السفر, والأصل في المسافر أنه يجوز له ترك الصلاة في المساجد، بدليل ما رواه مالك عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه: ( أن رجلين أتيا مسجد الخيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر, فلما سلم إذا بهما لم يصليا فقال: علي بهما, فجيء بهما ترعد فرائصهما، قال: ما منعكما أن تصليا معنا, أولستما بمسلمين؟ قالا: بلى, ولكنا صلينا في رحالنا, قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا تكن لكما نافلة ).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهرهما لأنهما لم يصليا في المسجد؛ لأنهما كانا مسافرين؛ فإن الرسول لم يصل في مسجد الخيف إلا حينما كان حاجاً, فكان مسافراً صلى الله عليه وسلم, فعلى هذا فيقال: إن الأكثر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع عند العذر، فلما جمع لأجل العذر مع وجوب الصلاة في أوقاتها فهذا دليل على أن تحصيل الجماعة أولى من أن يصلي الناس في رحالهم, فالذي يأتي إلى المسجد ليصلي جماعة أفضل من أن يصلي في رحله, وهذا إذا وجد المطر الذي يعذر به صاحبه, أما إذا وجد مطر لا يكون فيه مشقة فإن الإنسان لا ينبغي له أن يجمع بين الصلاتين, وعلى هذا فإن الإنسان لو ترك الجمع مع الناس لكونه يرى أن هذا المطر ليس هو الذي يجوز فيه الجمع فلا حرج عليه، لكنه إن كان يظن أن الصلاة في البيوت من غير جمع أفضل من الصلاة جماعة في المسجد، فقد خالف السنة وقد أخطأ, ولهذا يقول ابن تيمية : بل إن ترك الجمع والصلاة في البيوت متفرقة بدعة مخالفة للسنة. ولعله يقصد بالبدعة هنا المداومة على ذلك.

إذا ثبت هذا فإن القائلين بجواز الجمع للمطر يعدونه أفضل من الصلاة في الرحال, وهذا أمر سار عليه أئمة السلف والخلف كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية رحمه الله، قال: وهذا من السنة المعمول بها في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير, فدل ذلك على أنه منقول عنهم بالتواتر, نعم لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أنه جمع لأجل المطر في الحضر, لكن هذا هو الظاهر من حاله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا اختلف أهل العلم في العذر الذي جمع لأجله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس : ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة من غير خوف ولا سفر ), وفي رواية: ( من غير خوف ولا مطر ), فقد تفرد بها حماد بن سلمة و زهير بن معاوية فروياها عن سعيد عن ابن عباس , وأما مالك و هشام بن سعد وغيرهما فإنهما لم يذكرا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (في المدينة), فدل على أن الأصل أن كلمة (في المدينة) فيها نوع من النكارة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

الشيخ: إذا ثبت هذا فإن أهل العلم اختلفوا في العذر الذي جمع له النبي عليه الصلاة والسلام على أقوال:

القول الأول: ذهب مالك و الشافعي إلى أن الجمع إنما هو لعذر المطر, استدلالاً بما رواه مالك عن أبي الزبير عن سعيد عن ابن عباس : ( من غير خوف ولا سفر ).

ويشكل على هذا رواية حبيب بن أبي ثابت عن سعيد عن ابن عباس : ( من غير خوف ولا مطر ), قالوا: وهي رواية ثابتة, لكن البيهقي رحمه الله أشار إلى أنها ضعيفة, خاصة أن حبيب بن أبي ثابت معروف بتدليسه (تدليس المرسل الخفي), فإنه أحياناً يحدث عن شيوخه أحاديث لم يسمعها منهم, فيسمى هذا تدليس المرسل الخفي, وهو مشكل كثيراً!

القول الثاني: أن ذلك لأجل الوحل.

القول الثالث: أن ذلك لأجل الغيم.

القول الرابع: أنه لعذر المرض.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه يجوز ترك الجمعة والجماعة لأي عذر, وهذا هو قول عند الإمام أحمد ، وهو مذهب محمد بن سيرين و ابن المنذر واختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله: أن العذر أياً كان يبيح الترك, ولو كان ذلك شغلاً, وقد فهم الصحابة ذلك, فقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس : أنه خطب الناس بعد الظهر, فلم يصل بهم, فقام رجل من تميم وقال: الصلاة, الصلاة, فقال ابن عباس: أتعلمني السنة لا أم لك؟! ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر, قال: أراد ألا يحرج أمته؟ قال: نعم ), ففهم ابن عباس أن العلم الذي احتاج الناس إليه في هذا الوقت بالذات عذر يباح به تأخير الظهر إلى وقت العصر, فدل ذلك على أنه إذا كان هناك عذر يباح له ترك الجمعة والجماعة، فيجوز فيه الجمع كما فهم ذلك ابن عباس ، وهو قول محمد بن سيرين و القفال و أبي علي بن أبي هريرة و الخطابي و النووي ، واختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله, لكن ليس هذا لكل أحد, وإنما هو لبعض أهل العلم الذين قد ارتووا من أصول الشريعة وفهموا مراد النبي صلى الله عليه وسلم كما أراده الله سبحانه وتعالى.