خطب ومحاضرات
عمدة الفقه - كتاب الحج [15]
الحلقة مفرغة
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلاً وسهلاً بكم أيها الأحبة المشاهدون في كل مكان في برنامجكم المتواصل معكم -وبكم دائماً وأبداً بعون الله وقدرته- الأكاديمية العلمية.
نرحب بكم في هذه الدروس المباركة, ونسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع، وأن يوفقنا وإياكم لاغتنام أعمارنا وأقوالنا وأعمالنا فيما يرضيه.
أحبتنا نتواصل في هذا الدرس المبارك درس عمدة الفقه لـابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى.
ويشرفنا ويسعدنا أن يكون في حضرتنا هذا اليوم المبارك صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي , الأستاذ المساعد بالمعهد العالي للقضاء، نرحب في مطلع هذه الحلقة بالشيخ عبد الله فحياكم الله.
الشيخ: حياكم الله وبالإخوة المستمعين والمستمعات.
المقدم: الترحيب موصول بطلاب الأكاديمية الإسلامية المفتوحة في كل مكان، ويسعدنا أيضاً أن يتواصلوا معنا عبر الموقع الإلكتروني للأكاديمية (www.islamacademy.net).
نسعد من خلال هذا الموقع بتلقي اقتراحاتكم وملحوظاتكم، كما يسرنا أيضاً تلقي تساؤلاتكم عبر ما يدور في هذه الحلقة المباركة.
أحبتنا أيضاً نرحب بكم على هواتف هذا البرنامج المبارك، والتي ستظهر تباعاً على الشاشة, نسعد من خلالها بتلقي أسألتكم عما يطرح في هذا الدرس المبارك، نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لكل خير, ونطلب من الشيخ عبد الله أن يتفضل مشكوراً مأجوراً في بدء هذه الحلقة.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا, وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فيا أحبتي الكرام، ها نحن نتواصل في شرحنا لكتاب الإمام الموفق ابن قدامة الموسوم عمدة الفقه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى في باب صفة الحج: [ ويرفع يديه في الرمي، ويقطع التلبية في ابتداء الرمي، ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة, ولا يقف عندها، ثم ينحر هديه، ثم يحلق رأسه أو يقصره، ثم قد حل له كل شيء إلا النساء، ثم يفيض إلى مكة فيطوف للزيارة, وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج، ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً، أو ممن لم يسع مع طواف القدوم، ثم قد حل له كل شيء، ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب، ويتضلع منه، ثم يقول: اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاءً من كل داء، واغسل به قلبي, واملأه من خشيتك وحكمتك ].
المؤلف رحمه الله يقول: (ويرفع يده في الرمي), هذه المسألة الأولى وهي مسألة صفة الرمي، نقول في مسألة صفة الرمي: إنه يرفع يده, وهذا قول عامة الفقهاء؛ لأنه لو وضعها فلا يسمى رمياً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول, كما عند الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عباس : ( بمثل هذا فارموا, وإياكم والغلو )، فإذا وضعها فقد خالف ما ورد؛ ولهذا يجب عليه أن يرميها، ولهذا استحب بعض أهل العلم أن يظهر إبطه بذلك لأنه أدعى وأحرى من جهة فعل الرمي.
التكبير عند رمي الجمرات وقطع التلبية
ويقطع التلبية مع بداية أول الرمي، هذا هو الثابت كما في الصحيحين من حديث ابن عباس عن الفضل بن عباس قال: ( لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة )، ومعنى: (حتى رمى جمرة العقبة) أي: حتى شرع في رمي جمرة العقبة، وتكبيره عليه الصلاة والسلام مع كل حصاة دليل على أن التلبية قد انقطعت.
وأما ما جاء في بعض الروايات كما عند الإمام أحمد و النسائي و ابن خزيمة و البيهقي من طريق حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل بن عباس أنه قال: ( قطع التلبية في آخر حصاة )، فهذا الحديث وإن كان ظاهر إسناده الصحة فالأقرب والله أعلم أن هذه الزيادة (آخر حصاة) غريبة، وكذلك فإن هذا الحديث بهذا الإسناد في متنه غرائب:
الغريبة الأولى: أنه ذكر أن الفضل أردفه النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه من عرفة إلى مزدلفة، ومن المعلوم أن الأحاديث الثابتة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى, وإنما كان الذي أردفه من عرفات إلى مزدلفة هو أسامة بن زيد رضي الله عنه، فهذه نكارة.
النكارة الأخرى: هي قوله في آخر حصاة؛ ولهذا ضعف الحافظ البيهقي رحمه الله هذه الزيادة وقال: والأكثر رووه عن ابن عباس عن الفضل بلا ذكر هذه الزيادة، وقال: وقد ذكرها ابن خزيمة واختارها وهي غريبة ليس لها ذكر في حديث ابن عباس عن الفضل بن عباس .
ثم قال: وتكبيره عليه الصلاة والسلام مع كل حصاة دليل على أنه يقطع التلبية, وهذا هو الأقرب والله أعلم، وما جاء عند ابن ماجه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية مع آخر حصاة )، هذا أيضاً, حديث ضعيف في سنده خصيف بن عبد الرحمن .
موضع رمي الحصى
وبعض أصحاب الشافعية، وبعض أصحاب الحنابلة، وبعض أصحاب المالكية قالوا: يرميها بمجمع الحصى, وهذه العبارة أرى أنها أدق؛ لأننا حينما نقول: مجمع الحصى, فمجمع الحصى يختلف بكثرة الحجيج من عدمهم, فحجاج مائة ألف ليسوا كحجاج ثلاثة ملايين؛ ولهذا نقول: مجمع الحصى، فإذا رمى الحجاج في الحوض وامتلأ الحوض وسقط بجانبه, ووقع الحصى على ما تحت الحوض وهو ملآن فإن هذا يجزئهم إن شاء الله.
ولهذا وفق الله سبحانه وتعالى ولاة الأمر حينما زادوا في بناء الحوض، وجعلوه على شكل بيضاوي بحيث يستطيع الحجاج أن يرموا من أي جهة في الصغرى والوسطى, أما الكبرى فإن لهم أن يرمونها من بطن الوادي هذا هو السنة, كما سوف نذكره إن شاء الله. فعلى هذا فالعبرة هو مجمع الحصى، وعلى هذا فالحجاج يختلفون في مجمع حصاهم من قلة وكثرة.
المسألة الأخرى: ليس العبرة بوجود الشاخص، وقد اختلف العلماء هل الشاخص كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ولسنا بحاجة إلى ذكر هذا, لكننا نعرف أن الشاخص إنما هو دلالة على أن هذا هو مكان الرمي، ولهذا ليست العبرة بضرب الشاخص؛ ولهذا تجد أن كثيراً من الناس يخطئون كثيراً حينما ينظرون إلى الشاخص من بعيد ثم يقذفون، وكأن العبرة أن يضرب الإنسان الشاخص وهذا خطأ، فالعبرة هو مجمع الحصى.
فعلى هذا فلو ضربت الشاخص وابتعدت عن مجمع الحصى أو الحوض الموجود الآن وهو بهذا الكبر يكون هو مجمع الحصى، فإنه لا يعد إذا لم تقع في مجمع الحصى أو الحوض بهذا الاعتبار، أما إذا ضربت الشاخص وسقطت في الحوض فإنه يجزئه, ولا يضيره بعد ذلك إذا سقطت بسبب امتلاء الحصى.
وضرب الشاخص ليس له فضل إطلاقاً، بل إن بعض الناس يقولون: سوف أذهب أرمي إبليس! وهذا ليس له أساس من الصحة، إنما روى ابن خزيمة عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام حينما رأى الرؤيا أنه يذبح إسماعيل جاءه إبليس أو الشيطان عند الجمرة الصغرى, فرماه إبراهيم عليه السلام، ثم ابتعد, فقال: يا إبراهيم! أتقتل ولدك؟ ثم رماه الوسطى، ثم ابتعد عنه فقال: أتقتل ولدك؟ فرماه الكبرى. هذا من أخبار بني إسرائيل, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ).
ومن المعلوم أن المحدثين يقولون: إن ابن عباس كان يأخذ عن بني إسرائيل, وإنما الرمي أخذناه اتباعنا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإقامة شريعته, كما روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً والصواب وقفه: ( إنما جعل الطواف في البيت، والطواف بين الصفا والمروة, ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى ).
موقف الحاج عند رمي الجمرات
قول المؤلف: (ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة)، معنى ذلك أنه يستقبل القبلة ويجعل الجمرة الكبرى عن يمينه ويرميها على حاجبه الأيمن, يعني: يفعل هكذا؛ يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر بهذه الطريقة, وهذا قد ورد فيه حديث رواه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسمى المسعودي عن جامع بن شداد أبي صخر عن عبد الرحمن بن يزيد رضي الله عنه أنه قال: ( كنا مع
يقول المؤلف رحمه الله: وهو حديث صحيح, وهذا فيه نظر, فإن الحديث فيه كلام حيث إنه خالف الروايات الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيره، وقد روى البخاري و مسلم من حديث إبراهيم النخعي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع عبد الله بن مسعود فأتى جمرة العقبة فاستبطن الوادي فاستعرضها فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات ومعنى: (استعرضها) كما يقول العلماء: أتى العقبة من جانبها عرضاً بحيث يكون مستقبل الجمرة, بحيث تكون منى عن يمينه, والبيت عن يساره, بل جاء ذلك نصاً كما عند البخاري وغيره أنه قال: ( حتى انتهى إلى الجمرة الكبرى, فجعل البيت عن يساره, ومنى عن يمينه فرماها فقال: هذا والذي نفسي بيده مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة )؛ ولهذا بوب البخاري رحمه الله في صحيحه قال: باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره, وهذا التبويب من البخاري إشارة إلى تضعيفه لهذا الحديث، و المسعودي فيه اختلاط, فقد اختلط بآخره، وإن كان الراوي عنه وكيع , فقد سمع منه وكيع قبل الاختلاط, لكن العلماء يقولون: إن هذا ليس معولاً عليه، والمعول على ما جاء في الصحيحين, فلعل الوهم من المسعودي ، أو الوهم من جامع بن شداد رحمة الله تعالى على الجميع.
حكم الدعاء عند رمي الجمرات
وعلى هذا فالسنة ألا يدعو, ولكن لو ذكر ذلك من باب لعل الله أن يقبله ولم يقصد بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة فلا بأس وهو في طريقه يذكر الله, وذكر الله سبحانه وتعالى أولى من الدعاء.
الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع؛ وعلى هذا فإن السنة في حقه أنه إذا انتهى من رمي جمرة العقبة فإنه يشرع في التكبير، كما ثبت ذلك بسند صحيح عند الحاكم و البيهقي وغيرهما: أن عبد الله بن مسعود قال: إذا رمى الحاج جمرة العقبة فإنه يكبر حتى غروب شمس يوم الثالث عشر، وثبت ذلك بإسناد صحيح عن عمر و ابن عمر كما ذكر ذلك الحاكم وذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم.
الشيخ: المسألة الأخرى: يكبر مع كل حصاة كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أنه قال كما في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: ( فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ).
ويقطع التلبية مع بداية أول الرمي، هذا هو الثابت كما في الصحيحين من حديث ابن عباس عن الفضل بن عباس قال: ( لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة )، ومعنى: (حتى رمى جمرة العقبة) أي: حتى شرع في رمي جمرة العقبة، وتكبيره عليه الصلاة والسلام مع كل حصاة دليل على أن التلبية قد انقطعت.
وأما ما جاء في بعض الروايات كما عند الإمام أحمد و النسائي و ابن خزيمة و البيهقي من طريق حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل بن عباس أنه قال: ( قطع التلبية في آخر حصاة )، فهذا الحديث وإن كان ظاهر إسناده الصحة فالأقرب والله أعلم أن هذه الزيادة (آخر حصاة) غريبة، وكذلك فإن هذا الحديث بهذا الإسناد في متنه غرائب:
الغريبة الأولى: أنه ذكر أن الفضل أردفه النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه من عرفة إلى مزدلفة، ومن المعلوم أن الأحاديث الثابتة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى, وإنما كان الذي أردفه من عرفات إلى مزدلفة هو أسامة بن زيد رضي الله عنه، فهذه نكارة.
النكارة الأخرى: هي قوله في آخر حصاة؛ ولهذا ضعف الحافظ البيهقي رحمه الله هذه الزيادة وقال: والأكثر رووه عن ابن عباس عن الفضل بلا ذكر هذه الزيادة، وقال: وقد ذكرها ابن خزيمة واختارها وهي غريبة ليس لها ذكر في حديث ابن عباس عن الفضل بن عباس .
ثم قال: وتكبيره عليه الصلاة والسلام مع كل حصاة دليل على أنه يقطع التلبية, وهذا هو الأقرب والله أعلم، وما جاء عند ابن ماجه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية مع آخر حصاة )، هذا أيضاً, حديث ضعيف في سنده خصيف بن عبد الرحمن .
الشيخ: من المسائل أيضاً: أن العبرة في الرمي إنما هو مجمع الحصى، وليس الحوض كما يظنه البعض، وهذه فائدة مهمة، الحوض إنما وضع بهذه الطريقة في عهد الدولة العثمانية عام (1292) كما ذكر ذلك كثير ممن كتب في تاريخ مكة المكرمة، وبنوه على المذهب الحنفي حيث إن الأحناف يقولون: إن القطر أو نصف القطر يكون ثلاثة أذرع، فبنوه على هذا.
وبعض أصحاب الشافعية، وبعض أصحاب الحنابلة، وبعض أصحاب المالكية قالوا: يرميها بمجمع الحصى, وهذه العبارة أرى أنها أدق؛ لأننا حينما نقول: مجمع الحصى, فمجمع الحصى يختلف بكثرة الحجيج من عدمهم, فحجاج مائة ألف ليسوا كحجاج ثلاثة ملايين؛ ولهذا نقول: مجمع الحصى، فإذا رمى الحجاج في الحوض وامتلأ الحوض وسقط بجانبه, ووقع الحصى على ما تحت الحوض وهو ملآن فإن هذا يجزئهم إن شاء الله.
ولهذا وفق الله سبحانه وتعالى ولاة الأمر حينما زادوا في بناء الحوض، وجعلوه على شكل بيضاوي بحيث يستطيع الحجاج أن يرموا من أي جهة في الصغرى والوسطى, أما الكبرى فإن لهم أن يرمونها من بطن الوادي هذا هو السنة, كما سوف نذكره إن شاء الله. فعلى هذا فالعبرة هو مجمع الحصى، وعلى هذا فالحجاج يختلفون في مجمع حصاهم من قلة وكثرة.
المسألة الأخرى: ليس العبرة بوجود الشاخص، وقد اختلف العلماء هل الشاخص كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ولسنا بحاجة إلى ذكر هذا, لكننا نعرف أن الشاخص إنما هو دلالة على أن هذا هو مكان الرمي، ولهذا ليست العبرة بضرب الشاخص؛ ولهذا تجد أن كثيراً من الناس يخطئون كثيراً حينما ينظرون إلى الشاخص من بعيد ثم يقذفون، وكأن العبرة أن يضرب الإنسان الشاخص وهذا خطأ، فالعبرة هو مجمع الحصى.
فعلى هذا فلو ضربت الشاخص وابتعدت عن مجمع الحصى أو الحوض الموجود الآن وهو بهذا الكبر يكون هو مجمع الحصى، فإنه لا يعد إذا لم تقع في مجمع الحصى أو الحوض بهذا الاعتبار، أما إذا ضربت الشاخص وسقطت في الحوض فإنه يجزئه, ولا يضيره بعد ذلك إذا سقطت بسبب امتلاء الحصى.
وضرب الشاخص ليس له فضل إطلاقاً، بل إن بعض الناس يقولون: سوف أذهب أرمي إبليس! وهذا ليس له أساس من الصحة، إنما روى ابن خزيمة عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام حينما رأى الرؤيا أنه يذبح إسماعيل جاءه إبليس أو الشيطان عند الجمرة الصغرى, فرماه إبراهيم عليه السلام، ثم ابتعد, فقال: يا إبراهيم! أتقتل ولدك؟ ثم رماه الوسطى، ثم ابتعد عنه فقال: أتقتل ولدك؟ فرماه الكبرى. هذا من أخبار بني إسرائيل, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ).
ومن المعلوم أن المحدثين يقولون: إن ابن عباس كان يأخذ عن بني إسرائيل, وإنما الرمي أخذناه اتباعنا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإقامة شريعته, كما روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً والصواب وقفه: ( إنما جعل الطواف في البيت، والطواف بين الصفا والمروة, ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى ).
الشيخ: المسألة الأخرى: هي: قول المؤلف رحمه الله: ( ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة، ولا يقف عندها).
قول المؤلف: (ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة)، معنى ذلك أنه يستقبل القبلة ويجعل الجمرة الكبرى عن يمينه ويرميها على حاجبه الأيمن, يعني: يفعل هكذا؛ يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر بهذه الطريقة, وهذا قد ورد فيه حديث رواه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسمى المسعودي عن جامع بن شداد أبي صخر عن عبد الرحمن بن يزيد رضي الله عنه أنه قال: ( كنا مع
يقول المؤلف رحمه الله: وهو حديث صحيح, وهذا فيه نظر, فإن الحديث فيه كلام حيث إنه خالف الروايات الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيره، وقد روى البخاري و مسلم من حديث إبراهيم النخعي عن عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع عبد الله بن مسعود فأتى جمرة العقبة فاستبطن الوادي فاستعرضها فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات ومعنى: (استعرضها) كما يقول العلماء: أتى العقبة من جانبها عرضاً بحيث يكون مستقبل الجمرة, بحيث تكون منى عن يمينه, والبيت عن يساره, بل جاء ذلك نصاً كما عند البخاري وغيره أنه قال: ( حتى انتهى إلى الجمرة الكبرى, فجعل البيت عن يساره, ومنى عن يمينه فرماها فقال: هذا والذي نفسي بيده مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة )؛ ولهذا بوب البخاري رحمه الله في صحيحه قال: باب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره, وهذا التبويب من البخاري إشارة إلى تضعيفه لهذا الحديث، و المسعودي فيه اختلاط, فقد اختلط بآخره، وإن كان الراوي عنه وكيع , فقد سمع منه وكيع قبل الاختلاط, لكن العلماء يقولون: إن هذا ليس معولاً عليه، والمعول على ما جاء في الصحيحين, فلعل الوهم من المسعودي ، أو الوهم من جامع بن شداد رحمة الله تعالى على الجميع.
الشيخ: المسألة الثالثة: السنة ألا يدعو الإنسان إذا وقف، أو إذا انتهى من جمرة العقبة كما ذكر ذلك ابن عباس و ابن عمر قال: وينصرف ولا يدعو، هذا هو الثابت, وما جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم اجعله حجاً مبروراً, وسعياً مشكوراً, وذنباً مغفوراً ), فهذا جاء عند الإمام أحمد من طريق جرير بن عبد الحميد الضبي عن ليث عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه أن عبد الله بن عمر كان يرمي الجمرة بسبع حصيات ويقول: ( اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً )، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكره, وهذا الحديث فيه رواية شاذة، فقد جاء في الصحيحين من غير هذه اللفظة, ولعل الوهم من ليث بن أبي سليم , و ليث بن أبي سليم يهم, فهو ضعيف الحديث, والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا فالسنة ألا يدعو, ولكن لو ذكر ذلك من باب لعل الله أن يقبله ولم يقصد بذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة فلا بأس وهو في طريقه يذكر الله, وذكر الله سبحانه وتعالى أولى من الدعاء.
الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع؛ وعلى هذا فإن السنة في حقه أنه إذا انتهى من رمي جمرة العقبة فإنه يشرع في التكبير، كما ثبت ذلك بسند صحيح عند الحاكم و البيهقي وغيرهما: أن عبد الله بن مسعود قال: إذا رمى الحاج جمرة العقبة فإنه يكبر حتى غروب شمس يوم الثالث عشر، وثبت ذلك بإسناد صحيح عن عمر و ابن عمر كما ذكر ذلك الحاكم وذكره البخاري معلقاً بصيغة الجزم.
الشيخ: المسألة الرابعة: أنه بعدما يرمي ينحر، هذا هو السنة، أن ينحر إن كان عليه نحر، والذي عليه النحر هو المتمتع والقارن، والصحيح أن القارن عليه الهدي كما ذكرنا ذلك في أول الحلقات.
أما المفرد فليس عليه نحر، ولكنه لو تقرب إلى الله سبحانه وتعالى فإن هذا من أعظم ما يتقرب به إلى الله في هذا اليوم المبارك؛ كما قال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل ونحر بيده ثلاثاً وستين, ولهذا قال أهل العلم: يستحب أن يتولى الإنسان أضحيته أو هديه بنفسه، فإن شق ذلك عليه فلا حرج أن يوكل أحداً يذبحها له ويوزعها أو يطعم الحجاج منها وبعض فقراء الحرم أو من كان من الفقراء الذين جاءوا إلى الحرم، كما قال جابر : ( فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى
فهذا يدل على أن الإنسان إذا كل, أو وجد في ذلك مشقة أن يوكل غيره يذبح عنه.
فالسنة إذاً أن ينحر، ثم بعد ذلك يحلق أو يقصر، ومن المعلوم أن النحر ليس معولاً على التحليق كما سوف يأتي, يعني: ليس علامة من علامات التحلل، والسبب في ذلك أن المفرد لا ينحر.
ومن المعلوم أن الأحكام في التحلل وعدمها لا بد أن يشترك فيها أصحاب الأنساك جميعاً متمتع وقارن ومفرد، كما جاء في الصحيحين من حديث حفصة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بال الناس حلوا ولم تحلل أنت؟ قال: إني لبدت رأسي, وقلدت هديي, فلا أحل حتى أنحر )، ومعنى: حتى أنحر، يعني: فإذا نحرت شرعت في التحلل، وهو الحلق؛ ولهذا فالسنة الثابتة بعدما يرمي وينحر أن يذهب فيحلق رأسه أو يقصر، هذا هو السنة.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة , وفي بعض الروايات أنه دعا لهم مرتين, وجاء في بعض الروايات لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً, ودعا للمقصرين مرةً واحدة؟ قال: لأنهم لم يشكوا، وهذا قاله عليه الصلاة والسلام، في صلح الحديبية حينما أمرهم أن يتحللوا فبعض الصحابة قال: لعله أن يأتي وحي يجعلهم يكملون عمرتهم أو يسمعون شيئاً غير ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره, بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
حكم التوكيل عن الذبح
فنقول: الصواب أنه يجزئه، فلا بأس بذلك, لكن ينبغي أن ينحروا في الحرم وهذه المسألة الأخرى أن ينحروا في الحرم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، ومكة كلها منحر وفجاج وطريق )، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
حكم الخروج من الحرم لشراء الهدى
ولا يلزم في الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم, فلو اشتراه من منى أو من مزدلفة أو من منطقة من مناطق الحرم أجزأه ذلك خلافاً لما قاله مالك رحمه الله: أنه لا بد أن يشتريه من الحل, لكن الصحيح أن الأفضل أن يشتريه من الحل، أو أن يجمع بين الحل والحرم كما قال ابن عمر ، ولو اشتراه من مكة أو من الحرم أجزأه ذلك كما قالت عائشة رضي الله عنها, ورضي الله عن ابن عمر ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
الشيخ: فإن قيل: لا شك أن في النحر مشقة كبيرة على الحاج في هذا الوقت بالذات, فمن يوكل سواء في المملكة أو خارج المملكة ممن ينحر هديه, هل يجزئه ذلك؟
فنقول: الصواب أنه يجزئه، فلا بأس بذلك, لكن ينبغي أن ينحروا في الحرم وهذه المسألة الأخرى أن ينحروا في الحرم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، ومكة كلها منحر وفجاج وطريق )، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: لكننا نلاحظ أن بعض الحجاج -هداهم الله- في هذا الأمر, تجدهم يذهبون ويشترون هداياهم أحياناً من الشرائع, والشرائع جزء منها خارج منطقة الحرم, فيأخذون الهدي فيذبحونها ولم يتأكدوا هل هذا المكان الذي سوف يذبحون به, هل هو من الحرم أو ليس من الحرم, أو يذهبون إلى عرفة وهذا أهون وأسهل لهم، وعامة الفقهاء قد قالوا: لا يجزئ من ذبح خارج الحرم، فهذا الحاج الذي ذبح خارج الحرم يجب عليه أن يعيد هديه، وهذا قول قوي, وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمة الله تعالى على الجميع- ولا ينبغي للإنسان أن يتساهل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، ومكة كلها فجاج ومنحر ) .
ولا يلزم في الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم, فلو اشتراه من منى أو من مزدلفة أو من منطقة من مناطق الحرم أجزأه ذلك خلافاً لما قاله مالك رحمه الله: أنه لا بد أن يشتريه من الحل, لكن الصحيح أن الأفضل أن يشتريه من الحل، أو أن يجمع بين الحل والحرم كما قال ابن عمر ، ولو اشتراه من مكة أو من الحرم أجزأه ذلك كما قالت عائشة رضي الله عنها, ورضي الله عن ابن عمر ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
الحلق والتقصير للمحرم وبيان الأفضل منهما
وأنا أتعجب هذا الرجل الضعيف الذي يدعو لك إلى غروب الشمس: اللهم اغفر لفلان وفلان لن يكون بأقرب من النبي صلى الله عليه وسلم, الذي لم يدع لك مرة, إنما دعا لك ثلاث مرات، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يزهد في هذا الأمر, بل ينبغي له أن يحلق.
والحلق هنا أن يعمم سائر الرأس كما هو مذهب المالكية والحنابلة لقوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27] , وهذا يفيد العموم خلافاً للشافعي و أبي حنيفة , فـــــأبو حنيفة قال: لو حلق ربع الرأس فأكثر أجزأه ذلك, وإذا حلق دون ذلك لم يجزئه، وقال الشافعي : يجزئه لو حلق ثلاث شعرات؛ لأنه يطلق عليه أنه قد حلق.
والأقرب -والله أعلم- هو قول المالكية والحنابلة: أنه لا بد أن يعمم سائر رأسه كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ( خذوا عني مناسككم )، وهو ظاهر الآية.
كيفية تقصير المرأة لشعرها عند التحلل من الإحرام
وقد ذكر ابن المنذر و النووي الإجماع على أنه ليس للمرأة أن تحلق, ولكن يجب عليها أن تقصر، والتقصير أي شيء فعلت أجزأها ذلك، فلو كانت المرأة قد جمعت شعرها كله إلى ضفيرتها فقطعت بمقدار الأنملة أو أقل أو أكثر أجزأها ذلك, ولكن لا ينبغي لها كما ذكر بعض أهل العلم أن تزيد على هذا.
والأقرب: أن لها ذلك؛ لأنه يجوز لها أن تقص شعرها كما هو ثابت عن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن يبقين شعورهن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون كالوفرة؛ يعني: إلى الأذن, وعلى هذا فلو زادت أو نقصت أجزأها ذلك, أهم شيء أنها لا تحلق, ولكن بعض النساء يستصعبن التقصير إذا كان شعرهن مدرجاً، فإذا كان الشعر مدرجاً ماذا تصنع؟
أقول: عليها أن تحاول أن تعالج هذا التدرج فتأخذ من كل جهة شيئاً فإنه يجزئها ذلك إن شاء الله. وإطلاق الرسول صلى الله عليه وسلم التقصير من غير تحديد دليل على أنه يجوز لها ذلك, والله تبارك وتعالى أعلم.
الترتيب بين مناسك الحج أيام منى
أولاً قبل هذا قلنا: إن الترتيب هو السنة، أي أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق, ولو قدم بعض هذه الأشياء على بعض أجزأه ذلك في قول عامة الفقهاء، سواء كان عالماً أو جاهلاً أو ناسياً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعل ولا حرج )، ( فما سئل عن شيء من تقديم أو تأخير إلا قال: افعل ولا حرج )، كما في بعض الروايات عن عبد الله بن عمرو بن العاص .
وذهب الإمام مالك ورواية عند الإمام أحمد إلى أنه لا يجوز لمسلم علم الترتيب إلا أن يرتب إلا أن يكون جاهلاً أو ناسياً, فيجب عليه أن يرمي، ثم بعد ذلك ينحر، ثم بعد ذلك يحلق، ثم يطوف ويسعى، وإذا كان عالماً فلا يصوغ له ذلك إلا إذا كان جاهلاً.
واستدلوا على ذلك بما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: ( يا رسول الله! لم أكن أشعر, فرميت فحلقت قبل أن أنحر, قال: انحر ولا حرج، فجاء آخر وقال: يا رسول الله! لم أكن أشعر, فنحرت قبل أن أرمي قال: ارم ولا حرج، فجاء آخر قال: يا رسول الله لم أكن أشعر, فحلقت قبل أن أرمي قال: ارم ولا حرج )، قال عبد الله بن عمرو : فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مما يجهل المرء أو ينسى من تقديم بعض الأمور على بعض إلا قال: يفعل ولا حرج.
وهذا -والله أعلم- إنما هو من باب إجابة السائل بنحو ما سأل, وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افعل ولا حرج )، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعل ولا حرج ) قاعدة وهو أن الأولى أن يطبق الإنسان فعل السنة على وقتها التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا عجز أو صعب عليه ذلك أو وجد في ذلك نصباً فالعبرة بأداء الفعل، وأرى أن هذه قاعدة عامة على أن العبادة إذا كان لها وقت ابتداء ووقت انتهاء, فإن الأولى أن يفعلها الإنسان في ابتداء الوقت، إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع في ابتدائها.
فعلى هذا يسوغ للإنسان أن يقدم أو يؤخر إذا فعله, ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( افعل ولا حرج )، يعني: لا تتركها، افعل, وهذا يأتينا في مسألة الرمي، هل يجوز الرمي قبل الزوال أو لا؟ كما سيأتي إن شاء الله.
ما يحل للحاج عند التحلل الأول
واختلف العلماء في قوله: (إلا النساء) ما معنى النساء؟ أجمعوا على أنه إذا رمى جمرة العقبة ونحر وحلق فقد تحلل التحلل الأول, وهذا هو المقصود, فيباح له كل شيء إلا النساء, ولكن العلماء اختلفوا ما هو النساء؟
فأجمعوا على أن المراد به الوطء، واختلفوا هل مقدماته تدخل في هذا الأمر أم لا؟ يعني كالقبلة والضم واللمس بشهوة أو غير ذلك هل تدخل أم لا؟
نقول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المحرم الممنوع من النساء عام، سواء كان بقبلة أو ضم أو غيرها من دواعي الاستمتاع أو الوطء محرم عليه حتى يرمي ويحلق أو يقصر وحتى يطوف طواف الزيارة أو طواف الإفاضة، فإذا فعل هذه الأشياء الثلاثة جاز له النساء, أما قبل ذلك فإن الله يقول: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197], فلا يجوز له ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إلا النساء), والنساء لفظ عام, والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم, ولو كان المقصود الوطء لقال: إلا الوطء أو قال إلا الجماع, فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إلا النساء ), دل ذلك على عمومه, وهذا هو ظاهر فعل الصحابة رضي الله عنهم.
وعلى هذا بعض الإخوة في يوم العيد يريد أن يعيّد زوجته وهو قد حج وزوجته لم تحج فتجده يراسلها بكلام لا يصلح أن يكون إلا لزوجته، وهذا يعد محظوراً من محظورات الإحرام، أو يكلمها وهي كانت قد حجت بكلام لا يصلح إلا للزوجة، ومعنى قولنا: كلاماً لا يصلح إلا للزوجة أن يكلمها شيئاً لا يحب أن يسمعه أحد إلا زوجته، أما قول: حبيبتي أو غير ذلك من الكلمات الدارجة فهذا لا بأس به، لأنه لم يتحلل التحلل الثاني، وعلى هذا فليتنبه بعض الحجاج الذي يراسلون زوجاتهم بعد التحلل الأول، وقبل التحلل الثاني أن يتأكدوا من هذا الأمر.
أقوال أهل العلم في وقت التحلل الأول ومناقشتها
القول الأول: أن التحلل يحصل برمي جمرة العقبة، وهذا القول هو قول مالك رحمه الله، ورواية عند الإمام أحمد رحمه الله. قواها ابن قدامة ونصرها، وقال: وهي الصحيحة عن الإمام أحمد رحمه الله، واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
ما رواه الإمام أحمد , و أبو داود من طريق الحجاج بن أرطأة، عن الزهري رحمه الله، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء )، وهذا الحديث ضعيف، فقد ضعفه أبو داود لأن في سنده الحجاج بن أرطأة , وهو مع ضعفه لم يسمع من الزهري ولم يدركه, فهو ظلمات بعضها فوق بعض, فالحديث إذاً ضعيف لا يعول عليه.
واستدلوا أيضاً بما رواه سفيان بن عيينة عن سلمة بن كهيل ، عن الحسن العرني ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رميتم جمرة العقبة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء )، وهذا الحديث ضعيف, فإن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس كما قال الإمام أحمد و أبو حاتم .
وهذا الحديث مع انقطاعه فإن الصحيح الذي رواه جمع كثير عن سفيان عن سلمة عن الحسن العرني عن ابن عباس إنما أوقفوه عن ابن عباس ولم يرفعوه، فالحديث مع ضعفه الصواب أنه موقوف وليس مرفوعاً.
وأقوى دليل يستدل به من يقول: إن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يتحلل مرفوعاً هو ما رواه النسائي رحمه الله من طريق عمر بن عبد الله بن عروة أن عروة بن الزبير ، و القاسم بن محمد أخبراه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذريرة بيدي للحل والإحرام حين أحرم وحينما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت ).
قالوا: فهذا يدل على أن الرسول تطيب بعدما رمى جمرة العقبة, فدل ذلك على أن الإنسان يحصل له التحلل من حين رمي جمرة العقبة.
والحديث في هذا الأمر فيه نظر, وأرى أنه ضعيف لأسباب:
أولاً: لأن عمر بن عبد الله بن عروة ذكره الحافظ في التقريب وقال: مقبول، وقال في الفتح: ثقة, والذي جعله يقول: ثقة لأن البخاري و مسلم رويا عنه في صحيحهما، فهو من رجال البخاري و مسلم ، ولنعلم أنه لا يلزم أن يكون الرجل من رجال الشيخين أن يكون حديثه صحيحاً، كما يقول الإمام المزني , فإن طريقة الإمام البخاري وطريقة الإمام مسلم ، وأكثر المحدثين ينتقون من أحاديث الضعيف ما علم أنه أصاب فيه، كما أنهم يتركون من أحاديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه.
فعلى هذا فـالبخاري و مسلم أنما رويا حديث عمر بن عبد الله بن عروة لما علما أنه أصاب فيه.
الثاني: أن البخاري و مسلم روياه من طريق عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة من غير ذكر هذه اللفظة, التي هي بعد ما رمى جمرة العقبة، قالت كما في الصحيحين بلفظ من حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة : ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، وهذا هو الثابت, قبل أن يطوف بالبيت، وأما بعدما رمى جمرة العقبة فهذه الزيادة فيها نكارة.
ثالثاً: أن الحديث بإسناد عمر بن عبد الله بن عروة ، عن عروة بن الزبير ، و القاسم بن محمد حدثاه عن عائشة ، قد ذكره البخاري و مسلم بهذا الإسناد من طريق محمد بن العلاء ، ولم يذكرا هذه اللفظة, فدل ذلك على أن البخاري و مسلم إنما تركا هذه الزيادة لعلمهما بأنها منكرة، و النسائي ذكرها من طريق آخر، وترك البخاري و مسلم لها مع وجودها من نفس الطريق يدل على أنها منكرة, كيف لا وقد روياه من غير طريق عمر بغير هذه اللفظة.
الأمر الرابع من حيث النظر: فإننا نقول: إن الرسول يبعد أن يكون قد تطيب بعدما رمى جمرة العقبة؛ لأنه كيف يرمي جمرة العقبة، ثم يتطيب، ثم ينحر، ثم يحلق ما فائدة الطيب؟ إنما فائدة الطيب أنه يتجمل به بأبي هو وأمي ثم يفيض إلى مكة ليطوف طواف الزيارة وطواف الإفاضة.
وعلى هذا فالصحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تحلل يعني لبس ثيابه وتطيب بعدما رمى ونحر وحلق، ثم ذهب إلى البيت.
القول الثاني في المسألة: هو قول عند الشافعية والحنابلة أن التحلل يحصل إذا رمى وحلق أو رمى وقصر، واستدلوا على ذلك بأدلة لكنها كلها ضعيفة يرويها الحجاج بن أرطأة من حديث عائشة : ( إذا رميتم جمرة العقبة وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء )، فهذا الحديث ضعيف, في سنده الحجاج بن أرطأة , وكذلك روي من حديث ابن عباس وفي سنده ضعف.
ولكننا نقول والله تبارك وتعالى أعلم: الأقرب أن الإنسان إذا رمى جمرة العقبة فهذا أوان الشروع في التحلل, ولا يسوغ له أن يتحلل إلا بما تحلل به النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحلق؛ لأنه قال لـحفصة : ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )، فإذا نحر فقد شرع في التحلل وهو الحلق هذا هو الأقرب, فإذا خالف فرمى جمرة العقبة ولبس ثيابه أو تطيب فنقول: أسأت وخالفت السنة ولا شيء عليك، ودليلنا لهذا القول أنه إذا رمى جمرة العقبة فقد شرع في التحلل لكن لا ينبغي له أن يتحلل إلا بالحلق.
أولاً: لأن الحلق نسك ومحظور من محظورات الإحرام، فلا ينبغي له أن يتحلل إلا بما تحلل به النبي صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم تحلل بالحلق هذا واحد.
الثاني: أننا نقول: لو أنه رمى جمرة العقبة فقد شرع في التحلل لأن العلماء أجمعوا كما ذكر ذلك ابن تيمية في شرح العمدة على أن الحاج إذا رمى جمرة العقبة ثم جامع أهله فإن حجه لا يفسد, مما يدل على أنه شرع في التحلل الأول، فلم يفسد حجه, وقد ذكره ابن تيمية عن الأئمة الأربعة, وهو قول الظاهرية أيضاً، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الحنابلة كـأبي يعلى , ورد عليه ابن تيمية رحمه الله.
ومما يقوي أنه لو رمى جمرة العقبة فقد شرع في التحلل أنه قول أكثر الصحابة، فقد ثبت عند ابن أبي شيبة بسند صحيح من طريق وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء.
وثبت أيضاً حديث عند ابن أبي شيبة بسند صحيح من طريق محمد بن المنكدر أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول ذلك, وقد رواه مالك في موطئه بسند صحيح من طريق نافع، وعبد الله بن دينار، كلاهما عن ابن عمر، عن عمر أنه قال: إذا جئتم منى, فإذا رميتم الجمرة فقد حل كل شيء حرم على الحاج إلا النساء والطيب. ومسألة الطيب اجتهاد من عمر .
وعلى هذا نقول: إن الحاج إذا رمى جمرة العقبة فقد شرع في التحلل، ولا يسوغ له أن يتحلل إلا بما تحلل به النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحلق، ولكنه لو خالف في ذلك فلبس ثيابه نقول: أسأت وخالفت السنة ولا شيء عليك؛ لأن هذا هو قول أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
عمدة الفقه - كتاب الحج [3] | 2651 استماع |
عمدة الفقه - كتاب البيع [1] | 2533 استماع |
عمدة الفقه - كتاب الحج [1] | 2450 استماع |
عمدة الفقه - كتاب الحج [17] | 2396 استماع |
عمدة الفقه - كتاب النكاح [4] | 2316 استماع |
عمدة الفقه - كتاب النكاح [16] | 2168 استماع |
عمدة الفقه - كتاب النكاح [5] | 2166 استماع |
عمدة الفقه - كتاب البيع [4] | 2127 استماع |
عمدة الفقه - كتاب الحج [2] | 2110 استماع |
عمدة الفقه - كتاب الحج [21] | 2106 استماع |