خطب ومحاضرات
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد ذكر فيما سبق حديث النهي عن البول في الماء الراكد، وذكرنا مسألتين متعلقتين به والآن نواصل المسائل المتعلقة به.
الماء الدائم بعد انغماس الجنب واغتساله فيه
الغريب أن هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال, وأنا أذكرها؛ لكي نلتمس العذر لعلمائنا المعاصرين إذا وقع في فتاواهم شيء من النكارة, والعجب أن في السابق إذا أخطأ العالم يعذر بخطئه, ويدعى له فيقال: غفر الله لنا وله, أما اليوم لو يخطئ الواحد, يقولون: حسبي الله عليك! هذا الواقع, أو يقال: انتبهوا له! عليكم عليه, روحوا لا يختل, لا يتغير رأيه, لا يصير تغير, فتجد أن الناس كأن عندهم وصاية على علمائهم, في حين أن العلماء هم أولى بالوصاية على عوامهم, لكننا أحياناً تختلف الموازين كما يقولون؛ ولهذا تجد بعض طلبة العلم يهاب العوام أكثر من هيبته من السلطان, وهذا عجب, فتجد أنه ربما يفتي فتوى وإن كانت من باب سد الذرائع رغبة في المحيط الذي يعيش معه, في حين أنه ربما يفتي فتوى تضر ببدنه وبنفسه وبماله, لكنها لا تضر من حوله من مخالفيه.
ولهذا أنا أنصحكم كطلاب علم, في مسائل الفتوى لا تتعجل في الفتوى, لكن إذا أردت أن تبين حكم مسألة, فانظر إلى علمائك, انظر إلى الميت, فإن الحي لا تؤمن عليه فتنة كما قال ابن مسعود .
ثانياً: إذا أخذت بقول كن واثقاً فيه بحيث كأنك تسأل عنه يوم القيامة, لماذا قلت بهذا؟ فتجد أن عندك جواباً تحاج به يوم القيامة, مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65], أجبت بكذا وكذا وكذا, بحيث تطمئن.
ولا يجوز لك أن تقول: هذا حرام أو هذا حلال؛ لأجل الأتباع, فبعض الناس يقول: محرم, تقول: والدليل؟ يقول: هذا الأحوط, هذا خطأ, ما يجوز لك تقول: محرم, وإذا طلب منك الدليل قلت: أحوط؛ لأن الاحتياط ليس دليلاً كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية , قول: الأولى تركه, والأحوط تركه, والأحوط ليس دليلاً ولا حكماً كما يقول ابن تيمية , فبعض المفتين يقول: حرام, فإذا ناقشته, قال: هذا القول أحوط, لا ما يسوغ لك أن تفتي وتتقول على الله ما لم يقل, وأنت ليس عندك فيه برهان, بل قل: إن فلاناً يقول بالتحريم, ابن تيمية يقول: بكذا, لكنك لا تنسب أو تقول: محرم والدليل على ذلك كذا, وأنت تعلم أن هذا الدليل فيه صارف, أو ليس ظاهراً, ولكن ممدوحة ذلك أن تقول: ذهب جمهور العلماء إلى حرمة ذلك واستدلوا بكذا والله أعلم, أما أن تنسب على الله ما لم يقله, ولا ترى أن ذلك ظاهر في الدليل, فلا يسوغ لك ذلك.
إذاً: حكم الماء بعد انغماس الجنب على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن كان الماء كثيراً فإنه طهور, وإن كان قليلاً فإنه يسلبه الطهورية إلى الطاهرية, هذا هو مذهب أبي حنيفة في المشهور عنه, وهو مذهب الشافعية وهو مذهب الحنابلة.
وسبق أدلتهم حينما ذكرنا خلاف أهل العلم في تقسيم المياه إلى ثلاثة أقسام, واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ), قالوا: فهذا يدل على أن تبوله في الماء الدائم إن تغير بالنجاسة فهذا نجس بالإجماع, وإن لم يتغير بالنجاسة فكان قليلاً فهو طاهر؛ لهذا الحديث؛ لأنه نهي عن أن يغتسل منه, ولم ينه أن يغتسل منه إلا لأنه لم يرفع حدثه, فسلبه الطهورية.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب مالك و الأوزاعي ورواية عند الشافعي و أحمد , وهو اختيار ابن المنذر و ابن حزم و ابن تيمية وغيرهم, على أن الماء ما زال طهوراً؛ لأن الماء لا ينجس إلا بتغير النجاسة, وما دام اسم الماء يطلق عليه فهو طهور.
بالمناسبة سألني بعض الإخوة قال: ما حكم الوضوء بالشاي؟ قلت: لا يصح, قال: لماذا؟ قلت: لأنه طاهر.
قال: إذاً نحن نرى تقسيم المياه إلى ثلاثة أقسام.
نقول له: لا لم نقل: تقسم المائعات إلى ثلاثة أقسام, نعم الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام, طهور ونجس وطاهر, لكننا نقول: إن الماء لا ينقسم إلا إلى قسمين, فمتى جاز إطلاق مسمى الماء عليه فإنه يرتفع حدث المرء وإن وقع فيه النجاسات إذا لم يتغير, أما إذا تغير بالنجاسة فلا يرتفع الحدث, هذا هو القول الثاني وهو الراجح.
القول الثالث: هو قول أبي يوسف رحمه الله تلميذ أبي حنيفة , ونسبه رواية عند أبي حنيفة , قالوا: إن الماء ينجس, وأنا ذكرت هذا القول؛ لأجل أن أبين بعض الذين أخطئوا على مذهب أبي حنيفة , فقالوا: إن أبا حنيفة لا يأخذ بالدليل, والصحيح كما قال ابن تيمية رحمه الله كما في المجلد الثامن عشر: وحاشا الأئمة أن يعلموا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوها, يقول ابن تيمية : حتى إن أبا حنيفة رأى جواز الوضوء من النبيذ وإن كان مخالفاً للقياس, ورأى بطلان الوضوء من الضحك في الصلاة مع مخالفته للقياس؛ لقول ابن مسعود , فإذا كان يأخذ بقول الصحابي الفقيه وإن خالف القياس فسنة النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى, فـأبو يوسف يرى: أن الماء ينجس, ودليله قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل ), أو: ( ثم يغتسل منه ), أو ( فيه ), قال: فهذا الحديث يفيد النهي بالجزم, يفيد النهي عن التبول في الماء الدائم, ويفيد النهي عن الاغتسال وهو جنب في الماء الدائم, وإذا قلنا: إن النهي عن التبول في الماء الدائم إذا كان قليلاً يحرم, وينجس, فكذلك نقول: إن الاغتسال في الماء الدائم القليل يحرم وينجس.
إذاً دليل أبي يوسف يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل منه ), أو ( فيه ), فتكون النهي عن التبول والنهي عن الاغتسال, قال: فإذا كان النهي عن التبول في الماء القليل يحرم وينجسه, فكذلك النهي عن الاغتسال في الماء الدائم يحرم وينجسه, وهذه المسألة عند علماء الأصول تسمى دلالة الاقتران, أو الاستدلال بالقران, هذه مسألة عند علماء الأصول, وقد أخذ بها أبو يوسف وجماعة من أهل العلم, ونسبها الباجي إلى بعض المالكية, وذهب جمهور الفقهاء إلى عدم الأخذ بدلالة الاقتران, والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم: أن دلالة الاقتران منها ما هو حجة, ومنها ما ليست بحجة, وهي أن نقول: إن اقتران الجمل والجمل مع انفصال كل جزء بحكم, وكل جملة تفيد معنى وحكماً وسبباً فإنه لا يحتج بها.
إذاً: دلالة الاقتران إذا كانت بين جملتين أو أكثر, وكل جملة مستقلة تماماً عن الجملة الأخرى, فهذه جملة مفيدة لمعناها وحكمها وسببها, والأخرى جملة مفيدة لحكمها وسببها ومعناها, فهذا لا يسوغ فيه الاقتران ولا يحتج به.
مثاله: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل منه ), فهذه جملة مستقلة, وهذه جملة مستقلة، فلهذا لا يجوز الاحتجاج به, ومن ذلك قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141], فقوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:141], جملة مستقلة، وقوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141], جملة مستقلة تماماً فهذا أمر له وهذا أمر له، وكل واحدة منهما جملة مستقلة تماماً, فهذا لا يحتج بدلالة الاقتران, ومن ذلك: ( لا يبولن ).
أما النوع الثاني من دلالة الاقتران: هو اقترانهما في حكم واحد, إذا جيء بالعطف بينهما (عطف المفردات) على حكم واحد, أو على أمر واحد, أو على نهي واحد, فهذا يدل على أن حكمهن واحد, مثل: ( حقاً على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة, وأن يمس من طيب امرأته وسواكه ), يعني: الحديث حقاً عليك أن تغتسل وحقاً عليك أن تمس الطيب, وحقاً عليك أن تتسوك, فحق عطفت ثلاث مرات, الاغتسال والطيب والسواك, وإذا كان الطيب والسواك يوم الجمعة ليس بواجب بالإجماع, دل على أن الاغتسال ليس بواجب؛ لأن اقترانهما كان في حكم واحد بينهما, قد تقول لي: من أين لك هذا؟ أقول: بفقه الصحابة رضي الله عنهم, فقد روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم, عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196], قال بوجوب العمرة, وقال: إنها لقرينة الحج في كتاب الله, فجعل ابن عباس أن العمرة واجبة؛ لأنها قرينة الحج, وتجدون أن كل حديث فيه الأمر بالحج والعمرة أمرهما واحد, وهذا أيضاً هو قول ابن عباس كما رواه أيضاً الطحاوي و البخاري وغيرهما كــجابر ونحوه, واستدل مالك على ذلك أيضاً من أمثلة ذلك قال: بعدم وجوب الزكاة في الخيل, لماذا؟ قال: لأن الله يقول: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8], الآن الخيل والبغال والحمير كلهما معطوفات على أمر واحد.
يقول مالك : فإذا لم تجب الزكاة في البغال والحمير بالإجماع دل على أن الخيل أيضاً ما تجب فيها الزكاة, هذه لغة العرب مستقيمة تماماً, وهذه هي دلالة الاقتران, وعلى هذا فهل هذا الحديث حجة في دلالة الاقتران من أبي يوسف أم حجة على هذا القول؟ حجة على هذا القول؛ لأن دلالة الاقتران إذا كانت بين جمل كلها جملة مستقلة تماماً عن صاحبتها, ومستقلة بحكم وأمر.
إذاً: فلا دلالة في هذا الحديث أن حكمهما واحد, ولا شك أن القول بنجاسة هذا الماء قول مجافٍ للسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن أبا يوسف أخذ بظاهر الحديث وإن كان القياس يخالفه؛ لهذا جاء عند البخاري من حديث المسور بن مخرمة في قصة صلح الحديبية قال: ( فكانوا إذا توضأ يقتتلون على وضوئه ), وهذا دليل على جواز استعمال الماء المستعمل, ولو كان نجساً لما جاز لهم أن يستعملوه, وجاء في البخاري من حديث أبي موسى ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: دعا بماء, فتوضأ وغسل وجهه, ومج فيه, ثم قال لـ
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافاً له حظ من النظر.
البول في الماء الراكد
القول الأول: بتحريم التبول, سواء كان الماء قليلاً أم كثيراً, وهذا هو مذهب أبي حنيفة والظاهرية, ورواية عند الشافعية, وهذا هو الراجح؛ لأننا إن قلنا بتحريم الاغتسال فالتبول من باب أشد.
والقول الثاني: هو مذهب الشافعية والحنابلة قالوا: إذا كان الماء كثيراً, فيكره التبول, قالوا: لأن خشية الاستقذار إذا كان الماء كثيراً فيكره التبول, قالوا: لأجل أن النهي ليس للتحريم؛ لأجل أنه تستقذره النفوس, ولكن الراجح هو التحريم.
الماء الذي وقع فيه بول
المسألة قالوا: اختلف العلماء فيه على قولين:
القول الأول: قالوا: يختلف الحكم من كون الماء كثيراً أم قليلاً, فإن كان كثيراً فإنه طهور ما لم يسلبه الطهورية بالنجاسة, إلا أن يكون قد تغير بالنجاسة, وهذا هو قول أبي حنيفة و الشافعي و أحمد بناء على اختلافهم في تقسيم المياه, وأنهم يرون أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القول الثاني في المسألة: الماء طهور مطهر ما لم يتغير بالنجاسة, وهذا هو قول مالك ورواية عند الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية , وهو قول ابن المنذر و ابن حزم , وقد ذكره ابن المنذر في الأوسط عن علي و ابن عمر و أبي أمامة وهو قول عطاء و الحسن البصري و مكحول و النخعي .
وهل التغوط مثل التبول أم لا؟ أكثر أهل العلم يرى أن التبول كالتغوط, وذهب الحنابلة إلى أن التغوط أشد, بل إن الحنابلة حرموا التغوط في الماء الدائم, أو الماء الذي يجري؛ لأن النفوس تستقذره ولا تستعمله, ولو لم يكن فيه نجاسة, وبالغ الظاهرية رحمهم الله وقالوا: إنه لا بأس بالتغوط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن التبول, مع أنكم ربما تتعجبون؛ ولأجل هذا القول الذي قال داود الظاهري و ابن حزم بالغ المالكية في الشناءة على مذهب الظاهرية, وأنتم تعملون أن الظاهرية, مهما كان الإنسان الذي يعيش مع مخالفه أكثر حدة مع من لم يعش معه.
فتجد أن المالكية شديدي الغلظة على الظاهرية؛ لأن الظاهرية كانوا في الأندلس, والمالكية في الأندلس, فكانت المناظرة بين ابن حزم وبين المالكية شديدة جداً, واقرأ المحلى تجد إنكار ابن حزم على مذهب المالكية كثيراً حتى جاء أبو الوليد الباجي إلى الأندلس, ففرح المالكية وقالوا: الآن يفلج أبو الوليد الباجي ابن حزم , فتناظرا في مجالس كثيرة, حتى يقال: إن السامع يجد أن قول أبي الوليد الباجي أظهر, إلا أنهم يقولون: تعادلا حينما أراد أبو الوليد الباجي أن يعتذر في قلة بضاعته في العلم, الله المستعان! قال لـابن حزم : سامحني! فإنني لا أكاد اقرأ الكتب إلا على ضوء القمر, يعني: أنا ما عندي سراج أشعل فيه الكتب لأقرأ, يعني: ما أستطيع أسهر في الليل إلا على حسب القمر, قال ابن حزم وكان وزيراً, قال: وأنت اعذرني! فإني لا أكاد أقرأ الكتب إلا على ضوء بريق الذهب والفضة, يعني: أن انشغالي بالعلم مع غناي أقوى من انشغالك مع فقرك, فكان الناس يقولون: إن كل واحد منهما قد غلب على صاحبه, والمقصود ليس في المناظرة أن يفلج الآخر صاحبه, وهذا من الخطأ الذي كان السلف يعنفون عليه؛ ذلك أن السلف كانت المناظرة بينهم في الفروع, يعني: في الفروع الفقهية مقصوداً بها إظهار الحق, وإعذار الخلق؛ ولهذا ما أجمل ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: قولي صواب, يحتمل الخطأ, وقول غيري خطأ يحتمل الصواب؛ ولهذا كانت مناظرة السلف هو أبين لك وجهة نظري حتى تعذرني, وتبين لي وجهة نظرك حتى أعذرك, أما اليوم يقول الواحد منا: تعال أقنعك, يعني: هو واضع في نفسه وأن قوله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب, وهذا من الأخطاء الكثيرة؛ ولهذا تجد في المناظرة والمناقشات أن كل واحد يبدي رأيه, فيقول الآخر: قبل أن يكمل, كذا! طيب, تعال: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى [سبأ:46], ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46], دائماً عود نفسك في المناقشات إذا جاءك وارد لا ترده بسرعة؛ لأنك كأنك ترد على الله وعلى رسوله من غير برهان, ربما لم تبحث هذه المسألة, ولا تتكلف الرد على الأحاديث وأنت لم تتحملها, ولهذا دائماً أنا أغضب حينما أقرأ بعض البحوث الماجستير أو الدكتوراه أو البحوث التكميلية, فيأتي الطالب وقد وضع في خلد نفسه قولاً, فإذا جاء حديث قال: وهذا الحديث يحتمل كذا, ويحتمل كذا, ويحتمل كذا, والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال, وبس تنتهي, هذا خطأ يا أخي! الاحتمال لا بد أن يكون بدليل, ليس احتمالات عقلية, لابد أن تكون احتمالات يعضدها الدليل, وإلا فإنه لا يجوز للإنسان أن يحمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلا على ما أراده الله وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم, لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر كما يقول أبو العباس بن تيمية ؛ ولهذا أنا أنصح نفسي وأنصح إخواني أنه إذا جاءهم مسألة أو قول لم يروه أو لم يتأملوه أن يتعظوا, ولا يلزم إذا رجحت قولاً أن ترد على كل حديث, يمكنك أن ترجح قولاً, وإذا جاءك حديث يعارضه تسكت فيه؛ ولهذا جمعت عن أحمد مسائل يرجح أحد القولين ويسكت عن القولين, كل ذلك تعظيماً للنص الشرعي.
ولهذا قال ابن القيم في شفاء العليل: وليس من وظيفة المجتهد أن يرد على كل شبهة؛ ولهذا قال أحمد في رواية الميموني و أبي طالب قال: كنت أقول بطلاق السكران ثم تبينته, فلو أوقعته لوقعت في ثلاثة محاذير, ولو لم أوقعه لوقعت في محذورين, فرأى أن يقع في محذورين أولى من أن يقع في ثلاث, قال: لأني إن أوقعته حرمتها على زوجها الأول, وأبحتها لزوجها الثاني, وإذا أبقيتها فقد أحللتها لزوجها الأول, وهذا يدل على فقه الإمام أحمد رحمه الله؛ ولهذا يجب علينا أن نتمشى على منهاج وسيرة سلفنا, نظفر بالحسنيين, وننعم برضا ربنا سبحانه وتعالى, نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
المسألة الثالثة: ما حكم الماء بعد أن انغمس فيه المجنب لرفع حدثه؟
الغريب أن هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال, وأنا أذكرها؛ لكي نلتمس العذر لعلمائنا المعاصرين إذا وقع في فتاواهم شيء من النكارة, والعجب أن في السابق إذا أخطأ العالم يعذر بخطئه, ويدعى له فيقال: غفر الله لنا وله, أما اليوم لو يخطئ الواحد, يقولون: حسبي الله عليك! هذا الواقع, أو يقال: انتبهوا له! عليكم عليه, روحوا لا يختل, لا يتغير رأيه, لا يصير تغير, فتجد أن الناس كأن عندهم وصاية على علمائهم, في حين أن العلماء هم أولى بالوصاية على عوامهم, لكننا أحياناً تختلف الموازين كما يقولون؛ ولهذا تجد بعض طلبة العلم يهاب العوام أكثر من هيبته من السلطان, وهذا عجب, فتجد أنه ربما يفتي فتوى وإن كانت من باب سد الذرائع رغبة في المحيط الذي يعيش معه, في حين أنه ربما يفتي فتوى تضر ببدنه وبنفسه وبماله, لكنها لا تضر من حوله من مخالفيه.
ولهذا أنا أنصحكم كطلاب علم, في مسائل الفتوى لا تتعجل في الفتوى, لكن إذا أردت أن تبين حكم مسألة, فانظر إلى علمائك, انظر إلى الميت, فإن الحي لا تؤمن عليه فتنة كما قال ابن مسعود .
ثانياً: إذا أخذت بقول كن واثقاً فيه بحيث كأنك تسأل عنه يوم القيامة, لماذا قلت بهذا؟ فتجد أن عندك جواباً تحاج به يوم القيامة, مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65], أجبت بكذا وكذا وكذا, بحيث تطمئن.
ولا يجوز لك أن تقول: هذا حرام أو هذا حلال؛ لأجل الأتباع, فبعض الناس يقول: محرم, تقول: والدليل؟ يقول: هذا الأحوط, هذا خطأ, ما يجوز لك تقول: محرم, وإذا طلب منك الدليل قلت: أحوط؛ لأن الاحتياط ليس دليلاً كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية , قول: الأولى تركه, والأحوط تركه, والأحوط ليس دليلاً ولا حكماً كما يقول ابن تيمية , فبعض المفتين يقول: حرام, فإذا ناقشته, قال: هذا القول أحوط, لا ما يسوغ لك أن تفتي وتتقول على الله ما لم يقل, وأنت ليس عندك فيه برهان, بل قل: إن فلاناً يقول بالتحريم, ابن تيمية يقول: بكذا, لكنك لا تنسب أو تقول: محرم والدليل على ذلك كذا, وأنت تعلم أن هذا الدليل فيه صارف, أو ليس ظاهراً, ولكن ممدوحة ذلك أن تقول: ذهب جمهور العلماء إلى حرمة ذلك واستدلوا بكذا والله أعلم, أما أن تنسب على الله ما لم يقله, ولا ترى أن ذلك ظاهر في الدليل, فلا يسوغ لك ذلك.
إذاً: حكم الماء بعد انغماس الجنب على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن كان الماء كثيراً فإنه طهور, وإن كان قليلاً فإنه يسلبه الطهورية إلى الطاهرية, هذا هو مذهب أبي حنيفة في المشهور عنه, وهو مذهب الشافعية وهو مذهب الحنابلة.
وسبق أدلتهم حينما ذكرنا خلاف أهل العلم في تقسيم المياه إلى ثلاثة أقسام, واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ), قالوا: فهذا يدل على أن تبوله في الماء الدائم إن تغير بالنجاسة فهذا نجس بالإجماع, وإن لم يتغير بالنجاسة فكان قليلاً فهو طاهر؛ لهذا الحديث؛ لأنه نهي عن أن يغتسل منه, ولم ينه أن يغتسل منه إلا لأنه لم يرفع حدثه, فسلبه الطهورية.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب مالك و الأوزاعي ورواية عند الشافعي و أحمد , وهو اختيار ابن المنذر و ابن حزم و ابن تيمية وغيرهم, على أن الماء ما زال طهوراً؛ لأن الماء لا ينجس إلا بتغير النجاسة, وما دام اسم الماء يطلق عليه فهو طهور.
بالمناسبة سألني بعض الإخوة قال: ما حكم الوضوء بالشاي؟ قلت: لا يصح, قال: لماذا؟ قلت: لأنه طاهر.
قال: إذاً نحن نرى تقسيم المياه إلى ثلاثة أقسام.
نقول له: لا لم نقل: تقسم المائعات إلى ثلاثة أقسام, نعم الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام, طهور ونجس وطاهر, لكننا نقول: إن الماء لا ينقسم إلا إلى قسمين, فمتى جاز إطلاق مسمى الماء عليه فإنه يرتفع حدث المرء وإن وقع فيه النجاسات إذا لم يتغير, أما إذا تغير بالنجاسة فلا يرتفع الحدث, هذا هو القول الثاني وهو الراجح.
القول الثالث: هو قول أبي يوسف رحمه الله تلميذ أبي حنيفة , ونسبه رواية عند أبي حنيفة , قالوا: إن الماء ينجس, وأنا ذكرت هذا القول؛ لأجل أن أبين بعض الذين أخطئوا على مذهب أبي حنيفة , فقالوا: إن أبا حنيفة لا يأخذ بالدليل, والصحيح كما قال ابن تيمية رحمه الله كما في المجلد الثامن عشر: وحاشا الأئمة أن يعلموا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوها, يقول ابن تيمية : حتى إن أبا حنيفة رأى جواز الوضوء من النبيذ وإن كان مخالفاً للقياس, ورأى بطلان الوضوء من الضحك في الصلاة مع مخالفته للقياس؛ لقول ابن مسعود , فإذا كان يأخذ بقول الصحابي الفقيه وإن خالف القياس فسنة النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى, فـأبو يوسف يرى: أن الماء ينجس, ودليله قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل ), أو: ( ثم يغتسل منه ), أو ( فيه ), قال: فهذا الحديث يفيد النهي بالجزم, يفيد النهي عن التبول في الماء الدائم, ويفيد النهي عن الاغتسال وهو جنب في الماء الدائم, وإذا قلنا: إن النهي عن التبول في الماء الدائم إذا كان قليلاً يحرم, وينجس, فكذلك نقول: إن الاغتسال في الماء الدائم القليل يحرم وينجس.
إذاً دليل أبي يوسف يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل منه ), أو ( فيه ), فتكون النهي عن التبول والنهي عن الاغتسال, قال: فإذا كان النهي عن التبول في الماء القليل يحرم وينجسه, فكذلك النهي عن الاغتسال في الماء الدائم يحرم وينجسه, وهذه المسألة عند علماء الأصول تسمى دلالة الاقتران, أو الاستدلال بالقران, هذه مسألة عند علماء الأصول, وقد أخذ بها أبو يوسف وجماعة من أهل العلم, ونسبها الباجي إلى بعض المالكية, وذهب جمهور الفقهاء إلى عدم الأخذ بدلالة الاقتران, والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم: أن دلالة الاقتران منها ما هو حجة, ومنها ما ليست بحجة, وهي أن نقول: إن اقتران الجمل والجمل مع انفصال كل جزء بحكم, وكل جملة تفيد معنى وحكماً وسبباً فإنه لا يحتج بها.
إذاً: دلالة الاقتران إذا كانت بين جملتين أو أكثر, وكل جملة مستقلة تماماً عن الجملة الأخرى, فهذه جملة مفيدة لمعناها وحكمها وسببها, والأخرى جملة مفيدة لحكمها وسببها ومعناها, فهذا لا يسوغ فيه الاقتران ولا يحتج به.
مثاله: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري, ثم يغتسل منه ), فهذه جملة مستقلة, وهذه جملة مستقلة، فلهذا لا يجوز الاحتجاج به, ومن ذلك قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141], فقوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:141], جملة مستقلة، وقوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141], جملة مستقلة تماماً فهذا أمر له وهذا أمر له، وكل واحدة منهما جملة مستقلة تماماً, فهذا لا يحتج بدلالة الاقتران, ومن ذلك: ( لا يبولن ).
أما النوع الثاني من دلالة الاقتران: هو اقترانهما في حكم واحد, إذا جيء بالعطف بينهما (عطف المفردات) على حكم واحد, أو على أمر واحد, أو على نهي واحد, فهذا يدل على أن حكمهن واحد, مثل: ( حقاً على كل مسلم أن يغتسل يوم الجمعة, وأن يمس من طيب امرأته وسواكه ), يعني: الحديث حقاً عليك أن تغتسل وحقاً عليك أن تمس الطيب, وحقاً عليك أن تتسوك, فحق عطفت ثلاث مرات, الاغتسال والطيب والسواك, وإذا كان الطيب والسواك يوم الجمعة ليس بواجب بالإجماع, دل على أن الاغتسال ليس بواجب؛ لأن اقترانهما كان في حكم واحد بينهما, قد تقول لي: من أين لك هذا؟ أقول: بفقه الصحابة رضي الله عنهم, فقد روى البخاري معلقاً بصيغة الجزم, عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196], قال بوجوب العمرة, وقال: إنها لقرينة الحج في كتاب الله, فجعل ابن عباس أن العمرة واجبة؛ لأنها قرينة الحج, وتجدون أن كل حديث فيه الأمر بالحج والعمرة أمرهما واحد, وهذا أيضاً هو قول ابن عباس كما رواه أيضاً الطحاوي و البخاري وغيرهما كــجابر ونحوه, واستدل مالك على ذلك أيضاً من أمثلة ذلك قال: بعدم وجوب الزكاة في الخيل, لماذا؟ قال: لأن الله يقول: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8], الآن الخيل والبغال والحمير كلهما معطوفات على أمر واحد.
يقول مالك : فإذا لم تجب الزكاة في البغال والحمير بالإجماع دل على أن الخيل أيضاً ما تجب فيها الزكاة, هذه لغة العرب مستقيمة تماماً, وهذه هي دلالة الاقتران, وعلى هذا فهل هذا الحديث حجة في دلالة الاقتران من أبي يوسف أم حجة على هذا القول؟ حجة على هذا القول؛ لأن دلالة الاقتران إذا كانت بين جمل كلها جملة مستقلة تماماً عن صاحبتها, ومستقلة بحكم وأمر.
إذاً: فلا دلالة في هذا الحديث أن حكمهما واحد, ولا شك أن القول بنجاسة هذا الماء قول مجافٍ للسنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن أبا يوسف أخذ بظاهر الحديث وإن كان القياس يخالفه؛ لهذا جاء عند البخاري من حديث المسور بن مخرمة في قصة صلح الحديبية قال: ( فكانوا إذا توضأ يقتتلون على وضوئه ), وهذا دليل على جواز استعمال الماء المستعمل, ولو كان نجساً لما جاز لهم أن يستعملوه, وجاء في البخاري من حديث أبي موسى ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: دعا بماء, فتوضأ وغسل وجهه, ومج فيه, ثم قال لـ
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافاً له حظ من النظر.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [21] | 2515 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [8] | 2428 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24] | 2328 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [14] | 2132 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [22] | 2118 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [15] | 2099 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [26] | 2035 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23] | 2024 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [16] | 1827 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [12] | 1717 استماع |