بلوغ المرام - كتاب الطهارة [8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه! وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد وصلنا إلى أحاديث باب الآنية, وسوف نشرح إن شاء الله حديثين: حديث حذيفة وحديث أم سلمة .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: [ عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة ) متفق عليه.

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) متفق عليه ].

أولاً: الآنية: جمع إناء، كأسقية جمع سقاء, وهي الأوعية، والمراد بها الأوعية والأواني التي يستخدمها الإنسان في الأكل والشرب والوضوء وسائر الاستعمالات, والأصل في الآنية هو الحل والطهارة, فإذا رأيت إناء فالأصل أنه طاهر, حتى يأتي شيء ينقل هذا الأصل إلى غيره؛ لقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]. ‏

تخريج حديث: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة...)

دلالة ألفاظ حديث: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة...)

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا تشربوا ), الخطاب فيه معلوم أنه خطاب للحاضرين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( تشربوا ), ولكن هذا عند علماء الأصول عام للرجال والنساء, وعلى هذا فقوله: ( لا تشربوا ), لفظ عام, فيكون تطبيقه عليّ وعليك، وعلى النساء وعلى الرجال، وعلى الفقير وعلى الغني, وهذا من باب تحقيق المناط, فيكون لفظاً عاماً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وفي غيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا في صحافها ), الصحاف: جمع صحفة؛ وهي الإناء التي تشبع الخمسة, وهي الصحفة ما بين القصعة والمئكلة؛ لأن المئكلة يأكلها الواحد والاثنان فهي أقل, والقصعة يأكلها العشرة, وأكبر منها الجفان. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا في صحافها ), هذا يسميه العلماء: ما خرج مخرج الغالب أو المثال, وإلا فإن كل إناء فيه ذهب أو فضة فإنه يحرم الأكل فيه؛ لعموم: ( فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة ), فيكون لفظ: الصحاف إنما خرجت مخرج الغالب؛ لأنها كانت عادة فعلهم.

والقاعدة عند علماء الأصول: أن كل ما خرج مخرج الغالب فإنه لا مفهوم له, فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا في صحافها ), مفهومه: أن غير الصحاف يجوز؛ لأنه يمكن يفهم معنى آخر منه, لكن هذا ليس مراداً عند علماء الأمة؛ لأن العلماء يقولون: إن هذا خرج مخرج الغالب, وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وهذا يدل على أن لغة العرب يؤخذ منها علم الأصول, فإن من موضوع علم الأصول علم العربية.

يقول صلى الله عليه وسلم: ( فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة ), وفي رواية: ( ولكم في الآخرة ), هذه بلا شك جملة تعليلية, وهي باعتبار الواقع, لا باعتبار الجواز لهم, فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإنها لهم في الدنيا ), ليس معناها: أنها تجوز لهم في الدنيا, ولكن معناها: أنها خرجت مخرج الاستعمال والواقع, وهي جملة تعليلية يعني: سبب المنع لأنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة, وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( أن من شرب في إناء الذهب والفضة لم يشربها في الجنة ولو دخل الجنة لم يشربها ), وهذه عقوبة له حينما فرط في ذلك, وهذا حرمان, والضمير في قوله: (لهم), يعني: للكفار, وهذا معلوم من السياق كما قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26], فالضمير عائد على الأرض. وفي هذا الحديث مسائل:

الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة

المسألة الأولى: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة, وهذا قول عامة أهل العلم, بل قد حكى النووي الإجماع على ذلك, وأشار إلى أن الإمام الشافعي في قديم قوله كان يرى الكراهة, ولكن هذا القول تراجع عنه الشافعي , وعلى هذا فلا يعد قولاً. وذهب داود الظاهري إلى أن الحكم إنما هو خاص في الشرب دون الأكل؛ وسبب ذلك هو ما رواه البخاري و مسلم من حديث أم سلمة -كما سوف يأتي إسناد هذا الحديث- الذي يرويه زيد بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أم سلمة : ( أن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ), فقال: هذا خاص بالشرب, ولعله لم يبلغ حديث حذيفة , وإلا فإنه نص في المسألة. وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه ذهب إلى الكراهة, يعني: كراهة استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب, وقال: إن الحكمة من ذلك هو التشبه بالأعاجم, والتشبه بالأعاجم منه ما هو محرم, ومنه ما هو مكروه, والراجح وهو قول عامة أهل العلم؛ أن استعمال آنية الذهب والفضة أكلاً أو شرباً محرم.

الحكمة من تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

وهذا الخلاف مبني على الحكمة من التحريم, هل الحكمة هي لأنها تشبه بالكفار؟ وهذا قول قوي, وقد حكاه أبو العباس بن تيمية رحمه الله عن العلماء, قالوا: ولهذا حمل العلماء النهي لأجل التشبه, فهذا عام, وهذا قول عامة أهل العلم.

والتمسوا أيضاً عللاً, قالوا: إن في ذلك كسراً لقلوب الفقراء, والواقع أن مثل هذه العلل ليست قوية, والذي يظهر والله أعلم أنها غير منضبطة, فالآن الألماس أغلى من الذهب والفضة, والبلاتين أغلى من الذهب والفضة, فهل معنى هذا أن الفقير إذا رأى عليك الألماس وانكسر قلبه, أن ذلك حرام عليك لبسه؟ لا؛ ولهذا فإن الراجح والله أعلم: أن العلة هي التشبه بالكفار؛ ولأنها حلية أهل الجنة, فأراد الله سبحانه وتعالى ألا يلبسها عباده في الدنيا؛ لكي يتنعموا بها في الآخرة, فمن شرب في إناء الذهب والفضة في الدنيا لم يشرب فيهما في الآخرة.

وذكر ابن القيم تعليلات أخرى, منها: أنها تخالف الهيئة التي مقصودها عبودية العبد لله سبحانه وتعالى, فإن العبد إذا استعمل آنية الذهب والفضة يأتيه من الفخر والكبر والعزة ما لا يكون في غيرها؛ لكن لو قيل بذلك لحرم على النساء. إذاً فالراجح والله أعلم -كما هو قول عامة أهل العلم- أن الحكمة من ذلك هي التشبه بالكفار؛ ولأن الله سبحانه وتعالى جعلها خالصة للمؤمنين في الجنة.

وعلى هذا فالذين كرهوا ذلك أخطئوا, وهذا مسلك عند بعض أهل العلم, وهذا طريقة بعض الذين اهتموا بالمقاصد, إذا جاءنا حكم عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يعلل هذا الحكم, فالتمس العلماء لهذا الحكم علة, فإن من الفقه ألا نعلق الحكم وجوباً أو استحباباً على وجود هذه العلة؛ لأن هذه العلة تسمى عن العلماء مستنبطة, والعلة المستنبطة لا يمكن أن يدور الحكم عليها وجوداً وعدماً.

إذا عرفنا ذلك فإن من الأخطاء أننا نقول: إنه إذا وجد كسر لقلوب الفقراء فإنه يمنع, وإذا لم يوجد فإنه يجوز, مع العلم أن هذه العلة مستنبطة, وهذا من الأخطاء.

والراجح والله أعلم: أنه كما قال الشاطبي فإن من أعظم مقصود الشارع امتثال المأمور, وهذا منها.

شمول النهي عن الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة للرجال والنساء

واعلم أن هذا الحديث: ( ولا تأكلوا ) عام في الرجال والنساء, فالمرأة مع أنه يجوز لها أن تلبس الذهب؛ لكن لا يجوز لها أن تأكل في إناء الذهب, ولا أن تشرب في كأس فيه ذهب, وقد جاء من حديث يحيى بن محمد الجاري قال: حدثنا زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي يشرب في إناء الذهب والفضة, أو في إناء فيه ذهب أو فضة ), فيدخل فيه المموه, والذي فيه جزء من الذهب والفضة, وهذا الحديث لو صح لكان واضحاً في الحكم؛ لكن الحديث ضعيف؛ إذ أن يحيى بن محمد الجاري قال فيه البخاري : تكلم فيه, والحديث أنكره الإمام الذهبي وقال: حديث منكر, ولكننا نقول: إن كل إناء فيه جزء من الذهب والفضة فهو داخل في عموم حديث حذيفة , ولو كان ضعيفاً.

فعموم الحديث يفيد أن كل إناء فيه ذهب أو فضة، أو جزء من الذهب والفضة فإنه يمنع.

حكم الإناء المطلي بالذهب والفضة

واعلم أن المطلي بالذهب والفضة يأخذ حكمه, فلو كان عندك إناء من صفرة يعني: من نحاس, ثم طليته بالذهب أو الفضة فإنه يأخذ حكمه بشرط واحد؛ وهو أنك إذا عرضته على النار خرج شيء من الذهب والفضة, أما إذا عرضته على النار فزال فهذا لا بأس به, وهذا الذي يسمي ورق ذهب, وورق الذهب نوع من الصبغة لأجل بقائه, لكنك لو عرضته على النار, لا يبقى منه جرم. إذاً هذا لبقاء لونه وليس لبقاء وجود الذهب, فعلى هذا فالذين يجدون بعض الملاعق أو بعض الكؤوس, أو بعض الأواني الصغيرة فيها ذهب وفضة يقول لك: فيها مطلي, تسأله ما معنى المطلي؟ فإن قال: مطلي بمعنى أنه لبقاء اللون بحيث لو عرض على النار لم يبق منه شيء, فهذا لا بأس, وهذه لبقاء اللون فقط, وإلا لو كان له جرم لكان قيمته عالية الثمن كما لا يخفى, إذاً الحكم منوط بأن يبقى جزء فيه ذهب وفضة, وأما لبقاء اللون فإنه لا حكم له, ويعرف هذا بسعر الملاعق أو بسعر الأواني, وأن المقصود بها بقاء اللون, فهذا ليس له حكم كما أشار إلى ذلك الفقهاء من الحنابلة والشافعية والحنفية وغيرهم, بحيث لو عرض على النار لم يبق منه شيء.

إذاً المطلي بحيث لو عرض على النار بقي منه شيء هو المحرم, وأما إذا لم يبق منه شيء فهذا لا حكم له، والله تبارك وتعالى أعلم.

استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب

المسألة الثانية وهي مهمة: ثبت في قول عامة أهل العلم على أن استعمال الذهب والفضة في الأكل والشرب محرم؛ لحديث حذيفة , فهل الحكم مقتصر على الأكل والشرب أم هو عام في كل الاستعمالات؟ بمعنى: الآن لا يجوز لنا أن نأكل أو نشرب في آنية الذهب, لا يجوز لنا أن نستخدم شوكة أو ملعقة أو إناء في الأكل, لكن هل يجوز لنا أن نستعملها في غير الأكل والشرب؟ مثل: عندنا مجمرة -المبخرة هذه- أو بعض الأواني التي فيها نوع ذهب, أو مثلاً مكحلة للمرأة, هل لها أن تستخدمها؟ أو مثلاً قلم نستعمله, هذا استعمال في غير الأكل والشرب, هل هذا جائز أم لا؟ ومثل هذه الكبكات أو الأزرة, تكون من ذهب أو من فضة, هذا يسمى استعمالاً, وبعضهم يخفف في الأزرة؛ يقول: لأنها مثل حكم اللباس, لكن دعونا من الأزرة, لكن نحن نقول: مثل القلم, مثل لبس الساعة, مثل النظارة, هذه الاستعمالات المعروفة, المكحلة وغير ذلك, ما حكمها؟ هل الحكم عام وأن ذكر الأكل والشرب إنما خرج مخرج الغالب أم أن الحكم مقتصر على الأكل والشرب؟

أقول: في هذه المسألة أقوال:

القول الأول: ذهب عامة أهل العلم -وهو قول الأئمة الأربعة- إلى أن الحكم عام في جميع الاستعمالات, هذا هو مذهب الحنفية والمالكية, والصحيح عند الشافعية؛ لأن القول الثاني ضعيف, وهو قول الحنابلة، بل حكى النووي الإجماع على ذلك, فقال: انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمالات في إناء الذهب أو الفضة, إلا ما حكي عن داود وقول الشافعي في القديم, ثم قال: فهذا مردود بالنصوص والإجماع, ثم قال: فحصل مما ذكرنا أن الإجماع منعقد على تحريم استعمال إناء الذهب وإناء الفضة في الأكل والشرب والطهارة والتجمر, والبول في الإناء فيهما, ومنها المكحلة والميل, وظرف الغالية -الذي هو الطيب- وغير ذلك, ولا شك أن في نقل الإجماع نظراً؛ فإن ثمة خلاف معروف عند أهل العلم, ولهذا كان القرطبي أدق في عبارته قال: وهو قول جمهور أهل العلم سلفاً وخلفاً, ثم قال: وروي عن بعض السلف الترخص بالاستعمال، وهذا مردود بالأحاديث العامة.

إذاً نحن نعرف أن قول الأئمة الأربعة أن الاستعمالات كلها حرام, مثل ما ذكرنا: الكباك أو القلم أو النظارة وغير ذلك, ما دليلهم؟ قالوا: لعموم الأحاديث الدالة على المنع من استعمال الذهب والفضة في الأكل والشرب, قالوا: فالأكل والشرب استعمال, وفي غير الأكل والشرب بنفي الفارق, إذ أن الحكمة التي منعت بالأكل والشرب موجودة في الاستعمال, إذ لا فرق, بل إنه أحياناً يكون الاستعمال أشد من الأكل والشرب؛ لأن في الغالب الذي يأكل ويشرب يكون في مكان ليس عاماً, بخلاف استعماله بالقلم واستعماله بالنظارة, واستعماله في بعض الحاجات, فإن إظهار ذلك على الملأ أكثر, فمنعه من باب أولى, فهذا يسميه العلماء: قياساً مساوياً, وكما قلت: إن هذا هو قول عامة أهل العلم, قالوا: كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10], ومن المعلوم أن أكل أموال اليتامى لا يقتصر على الأكل, بل بمجرد الأخذ والانتفاع به من غير الأكل داخل في هذا الحكم, فدل على أن ذكر الأكل والشرب إنما خرج مخرج الغالب, والقاعدة: أن ما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له.

القول الثاني: قالوا: إن التحريم خاص في الأكل والشرب, وأما سائر الاستعمالات فلا بد فيه من دليل، ولا دليل.

والغريب أن هذه المسألة نقل الإجماع عليها خلق كثير؛ منهم النووي و ابن القيم , بل قال ابن القيم : فيعم سائر وجوه الانتفاع, يقول: وهذا أمر لا يشك فيه عالم, هذا قول ابن القيم , والمسألة فيها خلاف, وممن خالف في هذه المسألة الصنعاني كما في سبل السلام, و الشوكاني كما في نيل الأوطار, وشيخنا محمد بن عثيمين كما في الشرح الممتع, وأما قول عامة أهل العلم فإنهم قالوا: لا يجوز الاستعمال.

ودليل أصحاب القول الثاني: قالوا: إن قياس الاستعمال على الأكل والشرب قياس مع الفارق, فثمة فرق بين الأكل والشرب والاستعمال, هذا قول الشوكاني , والذي يظهر والله أعلم: أنه لا يوجد فارق كبير, نعم فارق بأنك تأكل بالشيء أو لا تأكل به؛ لكن هذا الفارق غير مؤثر بدليل أن المقصود الأعظم من الاستعمال هو مشابهة الكفار, والكفار يستعملون في الأكل والشرب وفي غيرها.

واستدلوا أيضاً بما عند البخاري أن أم سلمة ( اتخذت جلجلاً من فضة, فيه شعرة من شعرات رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان إذا مرض المريض تأخذ من هذه الشعرات وفيها الماء, تصب على المريض فيشفى بإذن الله ), الشاهد: أن أم سلمة التي روت حديث الشرب والأكل هي التي اتخذت جلجلاً من فضة, هذا قول الشوكاني و الصنعاني وشيخنا محمد بن عثيمين .

والغريب أن الشوكاني قال: والوقوف على ذلك الأصل المعتضد بالبراءة الأصلية هي وظيفة المنصف الذي لم يخبط بصوت هيبة الجمهور, والبراءة الأصلية هي الحل, فيقول الشوكاني : إن هذا القول هو الذي يظهر, أما أن تدعي الإجماع فليس ثمة إجماع, والذي يظهر والله أعلم: أن القول بحرمة الأكل والشرب فحسب ظاهرية مخالفة لقول عامة أهل العلم, فمن أخذ بالاعتبارات والأقيسة وعدم الفارق, فليس ثمة فارق أصلاً بين الأكل والشرب؛ لأن العلة التي منعت من الأكل والشرب موجودة في غيرها, بل ربما تكون في الاستعمال أظهر وأكثر انتشاراً من الأكل والشرب؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يأكل إلا في زواء وانطواء, لا يكون في الغالب على الملأ.

اتخاذ الذهب والفضة دون استعمال

القسم الثالث: اتخاذ الذهب والفضة، وليس أن تستعملها ولكن تتخذها, وهذا أوسع, ونحن حينما نتحدث يا إخوان! إنما نتحدث عن الأواني والاستعمالات, لا نتحدث عن اللباس؛ لأننا سوف نذكر اللباس, فاتخاذ الأواني مثل: اتخاذ الثريا إذا كانت مطلية بذهب أو مطلية بفضة, أو اتخاذ بعض التحف والمناظر المطلية, أو اتخاذ بعض الجدر والأسقف المطلية، أو العمدان التي تكون في بعض القصور مطلية بذهب, هذا يسميه العلماء اتخاذاً, وهذا أخف من الاستعمال وإن كان الخلاف فيه قوي.

فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والأصح عند الشافعية والمذهب عند الحنابلة وهو قول جمهور أهل العلم إلى أن المنع في الاتخاذ كالمنع في الاستعمال, وعلى هذا فلا يجوز اتخاذ الذهب والفضة.

وهذا القول -كما قلت- هو قول جماهير أهل العلم؛ قالوا: لأن كل ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه, كآلات اللهو, فلا يجوز استعمال آلات اللهو فلا يجوز اتخاذها, ولا يجوز استعمال الخمر فلا يجوز اتخاذه, وقالوا: ولأن الاتخاذ وسيلة إلى الاستعمال, والوسائل لها أحكام الغايات, وقالوا: ولأن العلة الموجودة في الاستعمال موجودة في الاتخاذ, وفيه من ضياع المال ما لا يخفى, هذا قول الجمهور.

القول الثاني في المسألة: قول أبي حنيفة وقول عند الشافعية ورواية عند الحنابلة, قالوا: إن الاتخاذ ليس بحرام, وقالوا: إن النهي إنما ورد في الأكل والشرب, فيدخل في كل ما كان أكلاً أو شرباً أو استعمالاً, وأما الاتخاذ فهو ليس بأكل ولا شرب ولا في معنى الأكل والشرب.

وقالوا: لأن النص ورد بالأكل والشرب, فذكر الاتخاذ على أنه في عموم النص محل توقف, قالوا: ومما يدل على ذلك: أنه روي عن بعض السلف أنه اتخذ شيئاً من ذلك, كما أنه انكسر قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس فاتخذ مكانه سلسة من فضة, وقالوا: هذا يمكن أنه لا يكون مستعملاً؛ لأنه إذا انكسر واتخذه سلسلة ربما يصب الماء بالجوانب, فهذا نوع من الاتخاذ, وكذلك حديث أم سلمة . ولا شك أن الاتخاذ أخف بكثير من الاستعمال, ولكننا نقول: إنه يمنع لا لأنه محرم؛ ولكنه من باب ضياع الأموال, والله تبارك وتعالى أعلم. فالنهي للكراهة الشديدة, والإسراف.

الوضوء بإناء الذهب والفضة

إذا ثبت هذا وعلمنا أن استعمال الذهب والفضة لا يجوز فما حكم الوضوء بإناء الذهب والفضة؟

ذهب عامة أهل العلم إلى أن استعمال إناء الذهب والفضة في الوضوء محرم والوضوء صحيح؛ قالوا: لأن النهي هنا ليس عائداً على ماهية العبادة, ولا على وصفها الذي لا ينفسخ عنها, إذ أن النهي محرم في الصلاة وفي الوضوء وفي غيرها, فيكون وضوء العبد صحيحاً مع الإثم.

وذهب الحنابلة رحمهم الله إلى بطلان هذا الوضوء, ونسبه بعضهم إلى ابن تيمية رحمه الله؛ لأن ابن تيمية رأى أن النهي إذا كان عائداً لحق الله فسدت به العبادة, وإذا كان عائداً على حق المخلوق توقف برضاه, وعلى هذا القاعدة فيكون ابن تيمية رحمه الله -كما نقل ذلك صاحب الإنصاف وغيره- يرى فساد العبادة, وإن كان له قول كما في مجموع الفتاوى نص على أن الصلاة صحيحة مع الإثم, وأن الوضوء صحيح مع الإثم, فلعله يكون له قولان في هذا, والله تبارك وتعالى أعلم.

لبس الذهب والفضة

نحن ذكرنا الاستعمال والاتخاذ, وما حكم اللباس الذي فيه الذهب؟

جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أن اللباس- لباس الذهب والفضة- محرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذان -وجعل في أحد يديه الحرير والذهب- حرامان على ذكور أمتي, حل لإناثهم ), وهذا الحديث ضعيف لا يصح, وقالوا: إن لبس الذهب والفضة محرم, ولا شك أيها الإخوة! أن الاستعمال في اللباس مثل الاستعمال في غير اللباس, وعلى هذا فالكبك والأزرة داخلة في العموم, وعلى هذا فقول جمهور أهل العلم داخل في عموم النهي, وأما حديث علي بن أبي طالب : ( هذان حرامان ), وحديث أبي موسى كلها أحاديث لا تصح.

القول الثاني في المسألة: هو تجويز الفضة, وأما الذهب فيجوز أن يكون تابعاً, وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله، ورواية عند الإمام أحمد .

استدلوا على ذلك قالوا: فأما الفضة فلحديث: ( فأما الفضة فالعبوا فيها ) -والراجح: أن هذا الحديث ضعيف- واستدلوا أيضاً بالفضة يقول ابن تيمية : فإذا جاز لبس خاتم فضة في حق الرجال, فإنه يجوز ما كان بمثله في غير الخاتم, يعني: إذا كان الخاتم وزنه مائة وخمسون جراماً, أو مائتان جرام، فإنه يجوز للرجل بمثل هذا, يقول: ومن فرق بينهما لم يصب, والواقع والله أعلم أن قول أبي العباس هنا قوي؛ لأنه إذا جاز لنا لبس الخاتم فإنما يجوز لنا أن نستعمل الفضة بمقدار الخاتم, فإذا كان هناك ساعة فيها فضة بمقدار مائة وخمسين جراماً, أو مائتين جراماً فضة, فإنه لا فرق بين الساعة وبين الخاتم, وإذا جاز لبس الخاتم فوجود القلم في استعمال الفضة مثله، والله أعلم.

وعلى هذا فاستعمال الفضة في اللباس أو المكحلة بمقدار جرامات الخاتم يجوز, إذ لا فرق بين الخاتم وغيره, كما أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية , هذا القول الثاني.

قالوا: وأما الذهب فإنما يجوز مقطعاً؛ لحديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً ), وهذا الحديث الراجح أنه حديث ضعيف, ثم إنه لو صح فقد اختلف العلماء في تفسير معنى (مقطعاً), مما يدل على أن الحديث مشكل؛ ولهذا فالراجح والله أعلم أن الحديث ضعيف, وابن تيمية جوز يقول: كالأزرة, واستدلوا: ( بأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أقبية بين أصحابه, ولم يعط مخرمة شيئاً, فقال مخرمة لابنه: يا بني! اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما وقفا على الباب, قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أقبية فقال: خبأت هذا لك, فقال: رضي مخرمة ), وفي رواية البخاري : ( أقبية مزررة بذهب ), قالوا: فهذا يدل على أن ما كان تابعاً كالأزرة فلا بأس, هذا قول ابن تيمية , أقبية مثل التي السديريرة, مثل الفروة التي تربط, مثل الدقلة.

والجمهور قالوا: أما حديث المسور بن مخرمة : ( مزرراً بذهب ), فقالوا: هذا كان في أول الإسلام, ثم إنه يحتمل أنه ليس للبس الرجال؛ إنما أعطاه لأجل ينتفع بها, كما: ( أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر حريراً فقال: يا رسول الله! كرهته لنفسك ثم أعطيتنيه فما لي؟ قال: لم أعطك لتلبسه؛ إنما أعطيتك لتوزعه بين نسائك ), فلعل هذا منها.

والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم: أن لبس الذهب في حق الرجال محرم, فلا يجوز للرجل أن يلبس الساعة التي فيها ذهب -وهناك ساعات كثيرة فيها ذهب- وأما على رأي ابن تيمية فإذا كانت الساعة أكثرها نيكل, أو أكثرها حديد ثم فيها شيء من الذهب فهو تابع, فيخفف فيها ابن تيمية , والجمهور على المنع, والأولى المنع, وأما إذا كانت ساعة كاملة فهذه ليست تابعة.

وأما الفضة فالراجح والله أعلم أنه يجوز فيها بمقدار جرامات الخاتم, إذ لا فرق بين أن يجوز النبي صلى الله عليه وسلم لبس الخاتم وبين أن يجوز ما كان مثله أو دون.

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا تشربوا ), الخطاب فيه معلوم أنه خطاب للحاضرين؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( تشربوا ), ولكن هذا عند علماء الأصول عام للرجال والنساء, وعلى هذا فقوله: ( لا تشربوا ), لفظ عام, فيكون تطبيقه عليّ وعليك، وعلى النساء وعلى الرجال، وعلى الفقير وعلى الغني, وهذا من باب تحقيق المناط, فيكون لفظاً عاماً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وفي غيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا في صحافها ), الصحاف: جمع صحفة؛ وهي الإناء التي تشبع الخمسة, وهي الصحفة ما بين القصعة والمئكلة؛ لأن المئكلة يأكلها الواحد والاثنان فهي أقل, والقصعة يأكلها العشرة, وأكبر منها الجفان. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا في صحافها ), هذا يسميه العلماء: ما خرج مخرج الغالب أو المثال, وإلا فإن كل إناء فيه ذهب أو فضة فإنه يحرم الأكل فيه؛ لعموم: ( فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة ), فيكون لفظ: الصحاف إنما خرجت مخرج الغالب؛ لأنها كانت عادة فعلهم.

والقاعدة عند علماء الأصول: أن كل ما خرج مخرج الغالب فإنه لا مفهوم له, فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا في صحافها ), مفهومه: أن غير الصحاف يجوز؛ لأنه يمكن يفهم معنى آخر منه, لكن هذا ليس مراداً عند علماء الأمة؛ لأن العلماء يقولون: إن هذا خرج مخرج الغالب, وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وهذا يدل على أن لغة العرب يؤخذ منها علم الأصول, فإن من موضوع علم الأصول علم العربية.

يقول صلى الله عليه وسلم: ( فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة ), وفي رواية: ( ولكم في الآخرة ), هذه بلا شك جملة تعليلية, وهي باعتبار الواقع, لا باعتبار الجواز لهم, فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإنها لهم في الدنيا ), ليس معناها: أنها تجوز لهم في الدنيا, ولكن معناها: أنها خرجت مخرج الاستعمال والواقع, وهي جملة تعليلية يعني: سبب المنع لأنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة, وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( أن من شرب في إناء الذهب والفضة لم يشربها في الجنة ولو دخل الجنة لم يشربها ), وهذه عقوبة له حينما فرط في ذلك, وهذا حرمان, والضمير في قوله: (لهم), يعني: للكفار, وهذا معلوم من السياق كما قال الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26], فالضمير عائد على الأرض. وفي هذا الحديث مسائل:

المسألة الأولى: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على تحريم الأكل والشرب في إناء الذهب والفضة, وهذا قول عامة أهل العلم, بل قد حكى النووي الإجماع على ذلك, وأشار إلى أن الإمام الشافعي في قديم قوله كان يرى الكراهة, ولكن هذا القول تراجع عنه الشافعي , وعلى هذا فلا يعد قولاً. وذهب داود الظاهري إلى أن الحكم إنما هو خاص في الشرب دون الأكل؛ وسبب ذلك هو ما رواه البخاري و مسلم من حديث أم سلمة -كما سوف يأتي إسناد هذا الحديث- الذي يرويه زيد بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أم سلمة : ( أن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ), فقال: هذا خاص بالشرب, ولعله لم يبلغ حديث حذيفة , وإلا فإنه نص في المسألة. وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه ذهب إلى الكراهة, يعني: كراهة استعمال آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب, وقال: إن الحكمة من ذلك هو التشبه بالأعاجم, والتشبه بالأعاجم منه ما هو محرم, ومنه ما هو مكروه, والراجح وهو قول عامة أهل العلم؛ أن استعمال آنية الذهب والفضة أكلاً أو شرباً محرم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [21] 2515 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24] 2328 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [14] 2132 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [22] 2118 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [15] 2099 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [4] 2094 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [26] 2035 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23] 2024 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [16] 1827 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [12] 1717 استماع