بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم.

اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، وبعد:

فقبل الولوج في هذا الشرح، لا بد من كلمة تثير الهمم، وتعين على الطلب؛ لأن طالب العلم لربما نظر ذات اليمين وذات الشمال، ورأى انصراف الناس عن علم الوحيين، حتى إنه ليخيل إليه حينما يستدل بالكتاب والسنة، أن الناس ربما يرغبون أكثر حينما يتحدث عن بعض فلاسفة العرب، ولربما ترنحوا أكثر من أن تقول لهم: قال أبو حنيفة ، أو قال مالك ، أو قال الشافعي ، أو قال أحمد ، أو أن تستدل بآثار سلف هذه الأمة، وهذه موجة تعتري الناس، مثلما تعتريهم موجات الأسهم، أو موجات العقار، أو موجات الانصراف إلى الدنيا.

العلم غاية مطلوب السائر إلى الدار الآخرة

ولا شك أن العلم هو غاية مطلوب السائر إلى الدار الآخرة، وهو عمدة من أراد بعمله الآخرة، وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134].

وثواب الآخرة هي جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وأقول هذا لأنه ربما ذكر الإنسان بالكتاب والسنة، فاستثقل ذلك بعض الناس، وذلك لأنهم بعيدون عن نور الوحيين، فإن الوحيين نور، ولهذا قال الله تعالى في حق كتابه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، فهو فخر لأهل الإيمان والتوحيد، ولمن أراد أن يعصمه الله من نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى.

وفي الفترات التي تعتري الأمة، فإنا وإن رأينا انصراف الناس عن العلم، فإنني أقول لكم مبشراً: إن هناك في بلاد المغرب، وفي بلاد الشام أناساً وهم في المهد، أو في أصلاب آبائهم يريدون أن يتعلموا ما أنتم عليه، ولأن انصرف الناس في هذا البلد عن العلم، فإن دروس الشروح في الأحاديث والفقه تلقى فيمتلئ المسجد حتى تقول: إن الأمة لن ترجع إلى ترك العلم، ثم شيئاً فشيئاً حتى ينصرف الناس عن العلم، بل يخذلك من كان معك، فيقول: علم الدروس في المساجد وانصرف هو وأقبل على الإعلام كالقنوات وغيرها.

لكني أقول لكم: إن في بلاد المغرب الآن كتونس وغيرها أناساً يسألون عن العلم، ويبحثون عن علم الوحيين، ويتصلون ويسألون ويشاركون، وما الأكاديمية الإسلامية المفتوحة -التي تحت إشراف قناة المجد- إلا أكبر دليل على أن ثمة أناس في بلاد المغرب الإسلامي يريدون العلم الذي انبثق من الكتاب والسنة، كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، فإذا انصرف الناس في هذا البلد عن العلم، فسوف يأتي بأهل بلد آخر يقبلون على العلم.

وأقول لكم: ماذا كانت هذه البلاد لولا انتشار علم الوحيين؟ وما هذه الخيرات إلا بسبب أن الله سبحانه وتعالى قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55]، فهذه البلاد عاشت عيشة أهل الإيمان، وعاشت عيشة أهل التقوى، فمنحهم الله شيئاً لم يمنحه أحداً غيرهم، فمنحهم من الدنيا ما يتمناه الغرب كلهم بل إنهم يحاربون لأجلها، وما كان ذاك ليكون لولا أن الله علم في قلوب أجدادنا وآبائنا من التقوى.

وحينما أقول هذا الكلام: فإنني أستشعر معنى قول الله جل جلاله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82]، فإننا لا ندري فلربما هذا النعيم الذي نعيشه، وهذه الخيرات التي نتفيؤها كان سببها أجدادنا وآباءنا الذين قد غطى الثرى قبورهم فبسبب صلاحهم وإيمانهم وتقواهم أنعم الله علينا.

فإن لم نتقو بها على طاعة الله، ونعين بها على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ونبث للناس ما يريدونه منا من الحضارة الحقيقة، وليس الحضارة التقنية، والحضارة الحقيقية هي حضارة الإيمان، والتقوى، والنزاهة، والعفة، ففي الوقت الذي يتكالب الأعداء في قنواتهم الماجنة وكليباتهم الساخرة، فإننا بحاجة إلى أن نبث هذا العلم، وهذا الدين، وهذا الوحي إلى الناس؛ لأنه نور، وروح، ووحي، ومن حرمه فقد حرم الخير كله.

أقول لكم ولست مبالغاً: بالأمس كان الإخوة يسألون عن الحديث، وعن الأثر، وعن الدليل في بلاد المغرب في ليبيا، وفي تونس، وفي مصر، وفي سوريا، وفي الأردن فلقد بدءوا يقبلون على العلم، بينما كانوا بالأمس لا يجدون من يبين لهم الحكم الشرعي والدليل، فلهذا اعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرفع من يشاء، ويخفض من يشاء بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، فالملك ليس ملك الرئاسة فقط، بل ملك المحبة في قلوب الخلق، وإذا كانت هذه البلاد قد اكتسبت محبة في قلوب الخلق من سائر الناس، فإنهم إن لم يستمروا على ما هم عليه، وإلا فإن الناس تعرف الخير من غيره، وتعرف الصلاح من غيره وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

أهمية التواصي بالحق والصبر عليه عند طالب العلم

فلنتواص بالحق، ولنتواص بالصبر، ولنتواص على إحسان الظن بإخواننا المسلمين والعاملين في خدمة الدين وفي خدمة أهله، واليوم أصبح الواحد منا إذا أراد أن يبث العلم، يجد من يخذله بأن هذا لم يكن عليه فلان أو علان، وكأن الناس قد أقبلوا كلهم على العلم، يراسلني أحدهم ويقول: كان فلان ابن فلان من المحدثين الذين لا يعرفون، كان يدرس شخصين، فلما جاء ثالث أقفل الدرس خوفاً من الشهرة، رحمك الله، وهل رأيت في كل مسجد حلقة يبث فيها العلم واحد أو اثنين، حتى يقال: قصة فلان وعلان؟ وهل فلان أو علان هو سلف هذه الأمة على سبيل الإطلاق؟

بعض الأخطاء الشائعة عند طلبة العلم

إن من الأخطاء الشائعة عند بعض طلبة العلم: أنه حينما يقرأ أن فلاناً من السلف صنع كذا سواء قرأها في حلية الأولياء، أو قرأها في صفة الصفوة، أو قرأها في سير أعلام النبلاء، يجعل السلف كلهم في فلان، ويختزلهم كلهم فيه، وهذا خطأ، فالسلف المراد به مجموعهم، أما فلان أو علان فيؤخذ من قوله ويترك.

والميزان هو الكتاب والسنة، ونشر العلم مطلب، ولا تبال بالمخذلين، أو من يقول: فلان لم يكن كذلك، أو لم يكونوا يعلمون عنه إلا إذا كبر، بل علم العلم، فإن كنت إمام مسجد فاقرأ للناس بهدوء، وبين لهم بعض الأحكام الشرعية، واقرأ عليهم كتاب رياض الصالحين، وعلق بعض الأشياء البسيطة التي ليس فيها تضييق على أرزاق الناس ومعاشهم بالتطويل؛ لأنهم ربما يكونون في اجتماع، أو في شغل، فأعطهم وجبةً إيمانية تذكرهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفوا، فيذكرونك ويتذكرونك؛ لأنك أعنتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى.

ولا يدري الإنسان فرب كلمة يقولها الإنسان لا يبالي بها، فيفتح الله بها على أناس، فقبل سبع سنوات أو ست سنوات حين غرق بعض الحجاج في منى في اليوم الثاني عشر، كان الناس يموجون، وكان الحجاج كثر، فبدأ الناس يبكون خائفين لا يدري أحدهم أين ثيابه؟ ولا أين شنطته؟ ولا أين أهله؟ وانصرف الناس من خيامهم، فبدأت النساء والرجال يأتون من مخيم إلى مخيم، وكان مخيم حملة الراجحي قريباً من السقوط، والناس يأتون إليها من الجبال، فبدأ الإخوة يتعاونون على إمساك فسطاط الخيمة، فلا أذكر ماذا كنا نقول. لكني ذكرت الإخوة بالعزيمة والصبر، وبذل ما يستطيعونه، وبعد سنين اتصل علي أحد الإخوة ولم يكن على هداية، فذكرني بهذا الموقف وقد فتح الله عليه وهداه، فالإنسان لا يدري أين الخير ولكن أهم شيء أن يذكر الآخرة، ويذكر بالإقبال على الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا علم منك الصدق؛ فسوف يسمعك ويسمع الآخرين، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:23].

والإسماع: ليس إسماع الأذن، بل هو إسماع القلب، وأما إسماع الأذن فما فيه خير ولا فائدة، ولهذا قال تعالى في حق المنافقين وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً [محمد:16]، فإذا علم الله سبحانه وتعالى من قلب الإنسان الصدق، وأقبل على العلم، واحترم أهل العلم، وقدر أهل العلم، فإن الله سبحانه وتعالى يحفظ عرضه، ويحفظ ذكره، ويحفظ علمه.

وأما من فرى لسانه بأعراض المسلمين، وأعراض أهل العلم؛ فإن الله لن يبارك له في علمه، وما أجمل! وما أروع! وما أحسن! وما أصفى! قلب ابن مسعود حينما كان ينظر إلى العاملين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في خدمة الدين فيقول: ما كنت أظن أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى أنزل الله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، ومن منا الآن يستطيع أن يقول: كل العاملين في خدمة الدين يريدون وجه الله! إن البعض منا لم يبق عنده من العاملين للدين إلا هؤلاء الذين ماتوا ابن باز و ابن عثيمين فقط، هذا واقعنا، فإذا تحدث أحدنا أن فلاناً عالم رباني قال: ليس هناك عالم رباني، لماذا؟ فهل لا بد أن يكون العالم الرباني مفتياً على حسب رغبتك؟ أو ينكر على حسب ما تريد؟ فالعالم الرباني هو الذي لا يقول منكراً، بل لا يقول إلا حقاً، وقد يجبن العالم الرباني عن قول الحق، لكن هذا لا يضيره.

فإن جمهور أهل العلم قالوا: إذا خاف الإنسان على نفسه أو ولده أو ماله؛ يجوز له ألا يتكلم بالحق، فأحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن ما خرج على السلطان وقال: لا، بل القرآن ليس مخلوقاً، بل كان يختبئ ويختبئ، حتى كان الجند يطرقون عليه الباب يبحثون عنه، فإذا قالوا: أحمد بن حنبل في البيت؟ قال: ليس هنا وأشار إلى كفه، وكان يفعل ذلك خوفاً من أن يكذب رحمه الله، حتى قبضوا عليه وامتحنوه؛ فصبر رضي الله عنه.

فالإنسان أحياناً لا يستطيع أن يبين الحق بالتي هي أحسن، فإن رضي الناس؛ فالحمد لله، وإن لم يرضوا؛ فالحمد لله، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ ، ينهون أو يزيلون؟ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ [هود:116]، إذاً: أوجب الله على أهل العلم، وعلى طلبة العلم أن يبينوا أن هذا منكر وهذا ليس بمنكر، أما بقاء المنكر، أو صولة أهل المنكر، فهذا ليس من مسئوليتهم، ومهم جداً أن نفقه هذا الأمر.

وأنا أقول لكم: إنه لا يوجد منكر في هذا البلد إلا وقد أنكر، علمه من علمه وجهله من جهله، لكن لا يلزم من إنكاره إزالته؛ لأن الله لم يكلفنا هذا الأمر، إنما كلفنا بيان أن هذا منكر، لأجل أن يعلم الناس أن ما يقعون فيه منكر، وأعظم من ذلك أن يفتى بأن هذا المنكر ليس بمنكر، وهو التقول على الله بغير علم، والتوقيع عن رب العالمين: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116]، وأنا أقول لكم: كل من يفتي، أو يكتب، أو يتحدث في وسائل الإعلام، ويتقول على الله وعلى دينه وعلى أهل العلم بشيء، والله الذي لا إله غيره أنه لن يفلح، ولا بد أن يفضح، وأن ينبذ، ولو اقترب من السلطان زمناً، فإنه سوف ينبذه السلطان، هذه سنة الله في خلقه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116].

إذاً: فهم لا يفلحون في الدنيا، ولا يفلحون في الآخرة، وما يحصل لهم من شيء فإنما هو متاع قليل، وإن ربك لبالمرصاد.

ومما يجعلك تطمئن وترتاح، ويطيب حالك، ويسعد بالك أن تعلم أن الحق منصور.

والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن

والإنسان يخطئ، لكن لا ينبغي أن نشدد على خطئه، خاصةً إذا كان من عامة الناس، فنبين له، ونتحبب إليه، وصاحب المنكر إذا علم منك أنك تحبه، والله إنه سوف يجاملك ويترك هذا المنكر، وأذكر أن أحد الدعاة كان يقول بالغناء قبل عشرين سنة، ويفتي به، وكتب عنه في إحدى الجرائد المحلية قبل عشرين سنة، فدعاه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وطلب منه أن يحضر؛ فحضر، فقال له الشيخ: يا فلان! أما تخاف الله؟ هذا منكر، قال به فلان، وبدأ الشيخ عبد العزيز يبكي ثم رفع يديه وهو يدعو: اللهم اهد قلب فلان ابن فلان، يقول: فمن هذا الموقف تركت الغناء وتركت الفتوى به، وهداني ربي؛ لأنني علمت أن الشيخ صادق في هذا الأمر.

فالناس بحاجة إلى قلب صادق، قلب يحمل لإخوانه المحبة، وإذا قام داعية أو طالب علم يريد أن يتكلم في الحق، فإذا كان في قلبك أنك تتمنى أن يخطئ أو أن تكون أفضل منه، فاعلم أن قلبك ليس بقلب صافي، واعلم أنك لست بمخلص، وإذا علمت أن فلاناً سوف يتحدث عن قضية من القضايا، أو قال قولاً فذهبت وسجدت لله دعوت: اللهم ثبت فلاناً، اللهم أره الحق حقاً وارزقه اتباعه، وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه، فإنك استفدت أمرين:

أولاً: سوف يظهر الحق الذي تكلم به فلان.

ثانياً: أن الملك سوف يقول لك: آمين ولك بمثل، فإذا صلح حال أهل الخير وأهل العلم وأهل الدعوة؛ فإن الأمة بخير. أما أن يكون كل حزب بما لديهم فرحون، فهذا والله! الذي ما كان ولا يكون، ولهذا حينما فقط رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة يختلفون في القرآن، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، وليس لهم مرجعية علمية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ( خرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان وقال: أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه ).

أهمية التدريس والتأليف والإفتاء لطالب العلم

ولقد ضعفت الهمم في طلب العلم فبعض الطلاب يقول: الدروس موجودة، فيبقى أسبوعاً أو أسبوعين أو شهراً يستمع إلى الدروس ثم ينقطع، وأقول لكم: اقرءوا كلام الإمام الشاطبي في الموافقات: فإنه لا يكون الإنسان عالماً ربانياً إلا إذا جثى على الركب عند أهل العلم، وهذا شيء سار عليه سلف هذه الأمة، وتعليم الناس في القنوات ربما يكون مفتاحاً لهم لأجل أن يجلسوا في المساجد، أو في حلق العلم، ولا يلزم أن تكون حلق العلم في المساجد، وهذه البلاد وغيرها من البلاد أنعم الله عليها أن تقام فيها الدروس في المساجد، لكن بعض البلاد لا تقام فيها الدروس في المساجد، وإنما تقام في بيوتهم، ومع ذلك فالعلم لا يكون إلا بالتلقي من أفواه الرجال، ودونه فإنما هي نتف من هنا أو هناك.

ولا يبقى العلم للعالم إلا إذا جثى على الركب، وصبر في تعليم الناس، وإذا انصرف إلى التأليف أو الفتاوى أو غيره، فإنه علمه يضمر، فإذا لم يقوه بالمذاكرة، والمراجعة، والبحث، والدرس؛ فإنه سوف يضمر، مهما بلغ من الحفظ، ومهما بلغ من الجلد، ولا أريد أن أقول لكم: إن بعض العلماء المعاصرين وهو مكثر من التأليف في سائر أبواب الفقه، وسائر أبواب الحديث، ربما إذا سئل في مسألة صغيرة يخطئ فيها، والسبب أنه لم يعلم طلابه دروس العلم؛ لأن دروس العلم تعين طالب العلم على استحضار المسائل، واستحضار العلم، وشيئاً فشيئاً حتى يتراكم العلم، ولهذا تجد بعض طلبة العلم ربما يكون فقيهاً، لكن ليس عنده دروس، فإذا طلب منه أن يفتي، قال: الفتوى صعبة، وليست صعبة، وإنما صعبت عليه؛ لأنه لم يعتاد أن يفتح دروساً للناس في أبواب الفقه، أو أبواب الحديث ويستحضر المسائل، فبسبب قصور فيه يعلق ذلك على صعوبة الفتوى، وإلا فالفتوى سهلة. فلماذا يجيب إذا سئل عن حكم قراءة الفاتحة كأنه سيل عرمرم، ولماذا يجيب عن مسألة حكم الترتيب في الوضوء بديهة، ولماذا يسأل عن أحكام في الطهارة فيجيب؛ لأنها حاضرة في حياته.

ولو أن مسائل العلم في المعاملات، وفي فقه الأسرة، وفي بعض مسائل العبادات حاضرة في ذهنه تدريساً وسؤالاً ومناقشة وبحثاً لسهل عليه الفتوى، ولسهل عليه العلم، والله أعلم.

ولا شك أن العلم هو غاية مطلوب السائر إلى الدار الآخرة، وهو عمدة من أراد بعمله الآخرة، وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا [آل عمران:145]، مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134].

وثواب الآخرة هي جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وأقول هذا لأنه ربما ذكر الإنسان بالكتاب والسنة، فاستثقل ذلك بعض الناس، وذلك لأنهم بعيدون عن نور الوحيين، فإن الوحيين نور، ولهذا قال الله تعالى في حق كتابه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، فهو فخر لأهل الإيمان والتوحيد، ولمن أراد أن يعصمه الله من نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى.

وفي الفترات التي تعتري الأمة، فإنا وإن رأينا انصراف الناس عن العلم، فإنني أقول لكم مبشراً: إن هناك في بلاد المغرب، وفي بلاد الشام أناساً وهم في المهد، أو في أصلاب آبائهم يريدون أن يتعلموا ما أنتم عليه، ولأن انصرف الناس في هذا البلد عن العلم، فإن دروس الشروح في الأحاديث والفقه تلقى فيمتلئ المسجد حتى تقول: إن الأمة لن ترجع إلى ترك العلم، ثم شيئاً فشيئاً حتى ينصرف الناس عن العلم، بل يخذلك من كان معك، فيقول: علم الدروس في المساجد وانصرف هو وأقبل على الإعلام كالقنوات وغيرها.

لكني أقول لكم: إن في بلاد المغرب الآن كتونس وغيرها أناساً يسألون عن العلم، ويبحثون عن علم الوحيين، ويتصلون ويسألون ويشاركون، وما الأكاديمية الإسلامية المفتوحة -التي تحت إشراف قناة المجد- إلا أكبر دليل على أن ثمة أناس في بلاد المغرب الإسلامي يريدون العلم الذي انبثق من الكتاب والسنة، كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، فإذا انصرف الناس في هذا البلد عن العلم، فسوف يأتي بأهل بلد آخر يقبلون على العلم.

وأقول لكم: ماذا كانت هذه البلاد لولا انتشار علم الوحيين؟ وما هذه الخيرات إلا بسبب أن الله سبحانه وتعالى قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55]، فهذه البلاد عاشت عيشة أهل الإيمان، وعاشت عيشة أهل التقوى، فمنحهم الله شيئاً لم يمنحه أحداً غيرهم، فمنحهم من الدنيا ما يتمناه الغرب كلهم بل إنهم يحاربون لأجلها، وما كان ذاك ليكون لولا أن الله علم في قلوب أجدادنا وآبائنا من التقوى.

وحينما أقول هذا الكلام: فإنني أستشعر معنى قول الله جل جلاله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82]، فإننا لا ندري فلربما هذا النعيم الذي نعيشه، وهذه الخيرات التي نتفيؤها كان سببها أجدادنا وآباءنا الذين قد غطى الثرى قبورهم فبسبب صلاحهم وإيمانهم وتقواهم أنعم الله علينا.

فإن لم نتقو بها على طاعة الله، ونعين بها على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ونبث للناس ما يريدونه منا من الحضارة الحقيقة، وليس الحضارة التقنية، والحضارة الحقيقية هي حضارة الإيمان، والتقوى، والنزاهة، والعفة، ففي الوقت الذي يتكالب الأعداء في قنواتهم الماجنة وكليباتهم الساخرة، فإننا بحاجة إلى أن نبث هذا العلم، وهذا الدين، وهذا الوحي إلى الناس؛ لأنه نور، وروح، ووحي، ومن حرمه فقد حرم الخير كله.

أقول لكم ولست مبالغاً: بالأمس كان الإخوة يسألون عن الحديث، وعن الأثر، وعن الدليل في بلاد المغرب في ليبيا، وفي تونس، وفي مصر، وفي سوريا، وفي الأردن فلقد بدءوا يقبلون على العلم، بينما كانوا بالأمس لا يجدون من يبين لهم الحكم الشرعي والدليل، فلهذا اعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرفع من يشاء، ويخفض من يشاء بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1]، فالملك ليس ملك الرئاسة فقط، بل ملك المحبة في قلوب الخلق، وإذا كانت هذه البلاد قد اكتسبت محبة في قلوب الخلق من سائر الناس، فإنهم إن لم يستمروا على ما هم عليه، وإلا فإن الناس تعرف الخير من غيره، وتعرف الصلاح من غيره وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

فلنتواص بالحق، ولنتواص بالصبر، ولنتواص على إحسان الظن بإخواننا المسلمين والعاملين في خدمة الدين وفي خدمة أهله، واليوم أصبح الواحد منا إذا أراد أن يبث العلم، يجد من يخذله بأن هذا لم يكن عليه فلان أو علان، وكأن الناس قد أقبلوا كلهم على العلم، يراسلني أحدهم ويقول: كان فلان ابن فلان من المحدثين الذين لا يعرفون، كان يدرس شخصين، فلما جاء ثالث أقفل الدرس خوفاً من الشهرة، رحمك الله، وهل رأيت في كل مسجد حلقة يبث فيها العلم واحد أو اثنين، حتى يقال: قصة فلان وعلان؟ وهل فلان أو علان هو سلف هذه الأمة على سبيل الإطلاق؟

إن من الأخطاء الشائعة عند بعض طلبة العلم: أنه حينما يقرأ أن فلاناً من السلف صنع كذا سواء قرأها في حلية الأولياء، أو قرأها في صفة الصفوة، أو قرأها في سير أعلام النبلاء، يجعل السلف كلهم في فلان، ويختزلهم كلهم فيه، وهذا خطأ، فالسلف المراد به مجموعهم، أما فلان أو علان فيؤخذ من قوله ويترك.

والميزان هو الكتاب والسنة، ونشر العلم مطلب، ولا تبال بالمخذلين، أو من يقول: فلان لم يكن كذلك، أو لم يكونوا يعلمون عنه إلا إذا كبر، بل علم العلم، فإن كنت إمام مسجد فاقرأ للناس بهدوء، وبين لهم بعض الأحكام الشرعية، واقرأ عليهم كتاب رياض الصالحين، وعلق بعض الأشياء البسيطة التي ليس فيها تضييق على أرزاق الناس ومعاشهم بالتطويل؛ لأنهم ربما يكونون في اجتماع، أو في شغل، فأعطهم وجبةً إيمانية تذكرهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفوا، فيذكرونك ويتذكرونك؛ لأنك أعنتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى.

ولا يدري الإنسان فرب كلمة يقولها الإنسان لا يبالي بها، فيفتح الله بها على أناس، فقبل سبع سنوات أو ست سنوات حين غرق بعض الحجاج في منى في اليوم الثاني عشر، كان الناس يموجون، وكان الحجاج كثر، فبدأ الناس يبكون خائفين لا يدري أحدهم أين ثيابه؟ ولا أين شنطته؟ ولا أين أهله؟ وانصرف الناس من خيامهم، فبدأت النساء والرجال يأتون من مخيم إلى مخيم، وكان مخيم حملة الراجحي قريباً من السقوط، والناس يأتون إليها من الجبال، فبدأ الإخوة يتعاونون على إمساك فسطاط الخيمة، فلا أذكر ماذا كنا نقول. لكني ذكرت الإخوة بالعزيمة والصبر، وبذل ما يستطيعونه، وبعد سنين اتصل علي أحد الإخوة ولم يكن على هداية، فذكرني بهذا الموقف وقد فتح الله عليه وهداه، فالإنسان لا يدري أين الخير ولكن أهم شيء أن يذكر الآخرة، ويذكر بالإقبال على الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا علم منك الصدق؛ فسوف يسمعك ويسمع الآخرين، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:23].

والإسماع: ليس إسماع الأذن، بل هو إسماع القلب، وأما إسماع الأذن فما فيه خير ولا فائدة، ولهذا قال تعالى في حق المنافقين وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً [محمد:16]، فإذا علم الله سبحانه وتعالى من قلب الإنسان الصدق، وأقبل على العلم، واحترم أهل العلم، وقدر أهل العلم، فإن الله سبحانه وتعالى يحفظ عرضه، ويحفظ ذكره، ويحفظ علمه.

وأما من فرى لسانه بأعراض المسلمين، وأعراض أهل العلم؛ فإن الله لن يبارك له في علمه، وما أجمل! وما أروع! وما أحسن! وما أصفى! قلب ابن مسعود حينما كان ينظر إلى العاملين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في خدمة الدين فيقول: ما كنت أظن أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى أنزل الله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، ومن منا الآن يستطيع أن يقول: كل العاملين في خدمة الدين يريدون وجه الله! إن البعض منا لم يبق عنده من العاملين للدين إلا هؤلاء الذين ماتوا ابن باز و ابن عثيمين فقط، هذا واقعنا، فإذا تحدث أحدنا أن فلاناً عالم رباني قال: ليس هناك عالم رباني، لماذا؟ فهل لا بد أن يكون العالم الرباني مفتياً على حسب رغبتك؟ أو ينكر على حسب ما تريد؟ فالعالم الرباني هو الذي لا يقول منكراً، بل لا يقول إلا حقاً، وقد يجبن العالم الرباني عن قول الحق، لكن هذا لا يضيره.

فإن جمهور أهل العلم قالوا: إذا خاف الإنسان على نفسه أو ولده أو ماله؛ يجوز له ألا يتكلم بالحق، فأحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن ما خرج على السلطان وقال: لا، بل القرآن ليس مخلوقاً، بل كان يختبئ ويختبئ، حتى كان الجند يطرقون عليه الباب يبحثون عنه، فإذا قالوا: أحمد بن حنبل في البيت؟ قال: ليس هنا وأشار إلى كفه، وكان يفعل ذلك خوفاً من أن يكذب رحمه الله، حتى قبضوا عليه وامتحنوه؛ فصبر رضي الله عنه.

فالإنسان أحياناً لا يستطيع أن يبين الحق بالتي هي أحسن، فإن رضي الناس؛ فالحمد لله، وإن لم يرضوا؛ فالحمد لله، فالله سبحانه وتعالى يقول: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ ، ينهون أو يزيلون؟ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ [هود:116]، إذاً: أوجب الله على أهل العلم، وعلى طلبة العلم أن يبينوا أن هذا منكر وهذا ليس بمنكر، أما بقاء المنكر، أو صولة أهل المنكر، فهذا ليس من مسئوليتهم، ومهم جداً أن نفقه هذا الأمر.

وأنا أقول لكم: إنه لا يوجد منكر في هذا البلد إلا وقد أنكر، علمه من علمه وجهله من جهله، لكن لا يلزم من إنكاره إزالته؛ لأن الله لم يكلفنا هذا الأمر، إنما كلفنا بيان أن هذا منكر، لأجل أن يعلم الناس أن ما يقعون فيه منكر، وأعظم من ذلك أن يفتى بأن هذا المنكر ليس بمنكر، وهو التقول على الله بغير علم، والتوقيع عن رب العالمين: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116]، وأنا أقول لكم: كل من يفتي، أو يكتب، أو يتحدث في وسائل الإعلام، ويتقول على الله وعلى دينه وعلى أهل العلم بشيء، والله الذي لا إله غيره أنه لن يفلح، ولا بد أن يفضح، وأن ينبذ، ولو اقترب من السلطان زمناً، فإنه سوف ينبذه السلطان، هذه سنة الله في خلقه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116].

إذاً: فهم لا يفلحون في الدنيا، ولا يفلحون في الآخرة، وما يحصل لهم من شيء فإنما هو متاع قليل، وإن ربك لبالمرصاد.

ومما يجعلك تطمئن وترتاح، ويطيب حالك، ويسعد بالك أن تعلم أن الحق منصور.

والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن

والإنسان يخطئ، لكن لا ينبغي أن نشدد على خطئه، خاصةً إذا كان من عامة الناس، فنبين له، ونتحبب إليه، وصاحب المنكر إذا علم منك أنك تحبه، والله إنه سوف يجاملك ويترك هذا المنكر، وأذكر أن أحد الدعاة كان يقول بالغناء قبل عشرين سنة، ويفتي به، وكتب عنه في إحدى الجرائد المحلية قبل عشرين سنة، فدعاه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وطلب منه أن يحضر؛ فحضر، فقال له الشيخ: يا فلان! أما تخاف الله؟ هذا منكر، قال به فلان، وبدأ الشيخ عبد العزيز يبكي ثم رفع يديه وهو يدعو: اللهم اهد قلب فلان ابن فلان، يقول: فمن هذا الموقف تركت الغناء وتركت الفتوى به، وهداني ربي؛ لأنني علمت أن الشيخ صادق في هذا الأمر.

فالناس بحاجة إلى قلب صادق، قلب يحمل لإخوانه المحبة، وإذا قام داعية أو طالب علم يريد أن يتكلم في الحق، فإذا كان في قلبك أنك تتمنى أن يخطئ أو أن تكون أفضل منه، فاعلم أن قلبك ليس بقلب صافي، واعلم أنك لست بمخلص، وإذا علمت أن فلاناً سوف يتحدث عن قضية من القضايا، أو قال قولاً فذهبت وسجدت لله دعوت: اللهم ثبت فلاناً، اللهم أره الحق حقاً وارزقه اتباعه، وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه، فإنك استفدت أمرين:

أولاً: سوف يظهر الحق الذي تكلم به فلان.

ثانياً: أن الملك سوف يقول لك: آمين ولك بمثل، فإذا صلح حال أهل الخير وأهل العلم وأهل الدعوة؛ فإن الأمة بخير. أما أن يكون كل حزب بما لديهم فرحون، فهذا والله! الذي ما كان ولا يكون، ولهذا حينما فقط رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة يختلفون في القرآن، هذا يقول كذا، وهذا يقول كذا، وليس لهم مرجعية علمية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ( خرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان وقال: أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه ).

ولقد ضعفت الهمم في طلب العلم فبعض الطلاب يقول: الدروس موجودة، فيبقى أسبوعاً أو أسبوعين أو شهراً يستمع إلى الدروس ثم ينقطع، وأقول لكم: اقرءوا كلام الإمام الشاطبي في الموافقات: فإنه لا يكون الإنسان عالماً ربانياً إلا إذا جثى على الركب عند أهل العلم، وهذا شيء سار عليه سلف هذه الأمة، وتعليم الناس في القنوات ربما يكون مفتاحاً لهم لأجل أن يجلسوا في المساجد، أو في حلق العلم، ولا يلزم أن تكون حلق العلم في المساجد، وهذه البلاد وغيرها من البلاد أنعم الله عليها أن تقام فيها الدروس في المساجد، لكن بعض البلاد لا تقام فيها الدروس في المساجد، وإنما تقام في بيوتهم، ومع ذلك فالعلم لا يكون إلا بالتلقي من أفواه الرجال، ودونه فإنما هي نتف من هنا أو هناك.

ولا يبقى العلم للعالم إلا إذا جثى على الركب، وصبر في تعليم الناس، وإذا انصرف إلى التأليف أو الفتاوى أو غيره، فإنه علمه يضمر، فإذا لم يقوه بالمذاكرة، والمراجعة، والبحث، والدرس؛ فإنه سوف يضمر، مهما بلغ من الحفظ، ومهما بلغ من الجلد، ولا أريد أن أقول لكم: إن بعض العلماء المعاصرين وهو مكثر من التأليف في سائر أبواب الفقه، وسائر أبواب الحديث، ربما إذا سئل في مسألة صغيرة يخطئ فيها، والسبب أنه لم يعلم طلابه دروس العلم؛ لأن دروس العلم تعين طالب العلم على استحضار المسائل، واستحضار العلم، وشيئاً فشيئاً حتى يتراكم العلم، ولهذا تجد بعض طلبة العلم ربما يكون فقيهاً، لكن ليس عنده دروس، فإذا طلب منه أن يفتي، قال: الفتوى صعبة، وليست صعبة، وإنما صعبت عليه؛ لأنه لم يعتاد أن يفتح دروساً للناس في أبواب الفقه، أو أبواب الحديث ويستحضر المسائل، فبسبب قصور فيه يعلق ذلك على صعوبة الفتوى، وإلا فالفتوى سهلة. فلماذا يجيب إذا سئل عن حكم قراءة الفاتحة كأنه سيل عرمرم، ولماذا يجيب عن مسألة حكم الترتيب في الوضوء بديهة، ولماذا يسأل عن أحكام في الطهارة فيجيب؛ لأنها حاضرة في حياته.

ولو أن مسائل العلم في المعاملات، وفي فقه الأسرة، وفي بعض مسائل العبادات حاضرة في ذهنه تدريساً وسؤالاً ومناقشة وبحثاً لسهل عليه الفتوى، ولسهل عليه العلم، والله أعلم.