بلوغ المرام - كتاب الطهارة [14]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لمرضاته، وأن يجعلنا من حملة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، الذابين عن عرضه وسنته وشريعته يا رب العالمين.

وقد وصلنا إلى حديث عائشة من أحاديث بلوغ المرام من باب الوضوء، وهو حديث عائشة المعروف: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه كله ).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه بلوغ المرام: [ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله ) متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم ) أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة .

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته، وعلى العمامة والخفين ) أخرجه مسلم .

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال صلى الله عليه وسلم: ( ابدءوا بما بدأ الله به ) أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر.

وعنه رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ) أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) أخرجه أحمد و أبو داود و ابن ماجه بإسناد ضعيف.

و للترمذي عن سعيد بن زيد و أبي سعيد نحوه، وقال أحمد : لا يثبت فيه شيء ].

تخريج حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن ...)

شرح ألفاظ حديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن ...)

وأما ألفاظ الحديث فإن رواية البخاري : ( كان يعجبه )، ومعنى الإعجاب: هو السرور، والغبطة، والرضا، والارتضاء، والرغبة فيه، فكان عليه الصلاة والسلام يحب، ويرغب، ويرتضي، وقد ذكر بعض العلماء كما ذكر ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم في محبته للتيمن أنه من باب الفأل باليمن والبركة؛ لأنه جاء في حديث عند الإمام أحمد و ابن حبان : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل الحسن ).

ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم للتيمن إنما هي لأمور:

أولاً: امتثالاً لأمر الله فيما فرضه الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ابدءوا بما بدأ الله به )، وقد بدأ في الوضوء بالميامن؛ امتثالاً لمجمل الأمر.

ثانياً: أنه من باب البركة، فإن التيمن واليمن يطلق على البداءة باليمين، ويطلق أيضاً على البركة، ولهذا جاء في الحديث: ( إن من يمن المرأة يسر خطبتها وتيسير صداقها )، وهذا يدل على البركة.

ثالثاً: أن في البداءة باليمين تكرمة لليمين نفسها، ولأجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: ( كل بيمينك قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر )، وهذا تكرمة لليمين، ومن تكبر عن ذلك فقد باء بالخسران.

وأما قوله: (التنعل)، أي: لبس النعل، جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا خلع فليبدأ باليسار، ولتكن اليمنى أولهما تنتعل وآخرهما تنزع).

وقوله: (الترجل) ومعنى الترجل: تقول: ترجل فلان إذا نزل من فرسه، ويطلق الترجل على تسريح الشعر، ولذا سمي المشط مرجل، وهذا هو المقصود في الحديث، وقال: ( وفي طُهوره ) بضم الطاء، والمراد: فعل الطهارة، أما بالفتح فالمراد الماء نفسه، وقد ذكر ابن الأثير عن سيبويه : أنه يجوز بالفتح إرادة المصدر وإرادة الفعل، فيشمل المعنيين، فيكون (طَهوره) يشمل على الماء نفسه ويشمل الفعل، والمقصود في هذا الحديث أصالة الفعل، فهو يحب التيمن باغتساله، وفي وضوئه، وفي شأنه كله.

وقوله: ( وفي شأنه كله ) يعني: في شأن كل أمره، وهذا الحديث ليس على عمومه، ولكن هذا العموم يفيد رغبته عليه الصلاة والسلام على فعل اليمين، وإن كان ما لم يكن فيه تكرمة لليمين فلا يفعل في اليمين، فالمقصود هو الدخول باليمين والأكل والشرب واللباس وغير ذلك، وكل ما له ميمنة وميسرة فالأفضل فعل اليمين، وهل هذا على عمومه؟ قلنا: الصحيح أن هذا ليس على عمومه، فإن الخلاء والتنظف وغير ذلك إنما يفعل باليسار، ولأجل هذا جاءت رواية حفصة وفيها: ( كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والإمام أحمد ، وإن كان في سنده رجل يقال له: أبو أيوب الأفريقي وهو ضعيف، ومثله حديث عائشة أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى )، وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق إبراهيم النخعي عن عائشة ، والأئمة كـابن المديني وغيره يقولون: إن إبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة ، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن معناه صحيح، وعلى هذا أكثر أئمة الدين، وأكثر شراح الحديث فذهب إليه ابن دقيق العيد و النووي و أبو العباس بن تيمية ، و ابن المنقب وغيرهم كثير كثير على أن اليسار تفعل في كل ما فيه تنظف أصالةً، وقولنا: أصالةً؛ لأن التنظف إن دخل تبعاً فإنه لا يفهم منه اليسار.

البداءة باليمين في الوضوء

المقصود من ذلك في هذا الحديث قد ذكره الحافظ رحمه الله إشارة إلى أن البداءة باليمين في الوضوء مأمور بها وهو مشروع بالإجماع، إلا أن عامة أهل العلم، بل نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن البداءة باليمين مستحبة، نقل الإجماع أبو عمر بن عبد البر و ابن المنذر و النووي و ابن قدامة وغيرهم على أن البداءة باليمين في كل ما له ميمنة وميسرة مستحب، وهو قول الصحابة فلا يعلم لهم مخالف، صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما أبالي بأي يدي بدأت إذا أنا أتممت الوضوء، وهذا هو قول عامة أهل العلم.

وزعم الفخر الرازي أن أحمد رحمه الله يقول -رواية عند الإمام أحمد- بوجوب البداءة باليمين، وهذا ليس بصحيح، فقد حكم الزركشي رحمه الله في شرحه للخرقي أن هذه الرواية منكرة شاذة، بل قال صاحب الإنصاف: بغير نزاع نعلمه، وهذا يدل على أن هذه اللفظة منكرة عن أحمد ، ونسبها أيضاً للإمام أحمد الرافعي الشافعي بشرحه للوجيه وليس بصحيح، وإن كان هذا قول الإمامية والزيدية كما نقل ذلك الشوكاني في السيل الجرار، ولكن أئمة الدين على أن البداءة مستحبة، والله تبارك وتعالى أعلم.

الأفضل في التسوك بين اليمين واليسار

المسألة الثانية: اختلف العلماء أيهما أفضل في التسوك هل يكون باليمين أم يكون باليسار؟ ومسألة السواك ذكرناها في حديث: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ... ).

الذي في البلوغ بلفظ: (في الوضوء)، وهذا رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وأما ( مع كل صلاة ) فهو متفق عليه من حديث أبي هريرة .

ذكرنا هذه المسألة وقلنا: إن القول الأول: استحباب اليسار نص عليه أحمد ، بل قال ابن تيمية رحمه الله: ولم أعلم إماماً خالف فيه، وهذا هو قول القرطبي رحمه الله في المفهم، و العراقي في طرح التثريب، بل قال القرطبي : ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بالسواك في المسجد ولا في محافل الناس؛ لأن هذا من باب الأذى والقذر والتنظف، فلم يكن من سنته أن يتسوك في المسجد، فهذا القول غريب.

قال ابن تيمية : وكان السلف يتسوكون في المساجد، فكيف يقال: إنه يكره؟ وهذا هو معروف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسوك بأبي هو وأمي إذا بدأ في الصلاة كما مر معنا، وكان السلف يصنعون ذلك، فكيف يقال: إن ذلك مكروه؟ أما إذا تسوك الإنسان بقصد التنظف من مأكله، فهذا ينبغي له ألا يفتح فمه؛ لأن هذا من غير المروءة مثل: إذا أكل الإنسان شيئاً من المكسرات وغيرها، وأراد أن يتسوك عند الناس بأن يبالغ في التنظف حتى ربما تقزز الناس من منظره فهذا ليس من السنة، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتد أن توجد منه الريح، وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يأتي إلى الناس بمثل ما يحب أن يأتوه به.

القول الثاني: قالوا باستحباب اليمين، وهذا هو قول المجد أبو البركات جد أبي العباس بن تيمية ، وقد استغرب كثير من العلماء أصحاب الحنابلة كيف يقول ابن تيمية : لا أعلم إماماً خالف فيه، وجده يقول باستحباب اليمين، والذي يظهر والله أعلم بلا تكلف أن الإنسان بشر مهما أوتي من علم، فقد تخفى عليه السنة، فـابن تيمية رحمه الله خفي عليه قول جده، ولا يقال: إن ابن تيمية إنما قصد إماماً ممن يسمى إماماً كالأئمة الأربعة، ولا يقصد من سماه الناس إماماً فإن المجد لم يكن له مذهب يقتدى به، فقد حاول بعضهم كـابن قندس في حواشي الفروع أن يقول ذلك، ولكن الذي يظهر أن ذلك وهم من أبي العباس ، ومما يدل على ذلك أنه نقل عن مالك أنه قال: الأمر فيه واسع، لكن هذا القول الثاني قالوا باستحباب ذلك، وله أدلة منها:

حديث ابن عمر كما في الصحيحين، و مسلم رواه معلقاً -يقال: لا يكاد يوجد أحاديث معلقة عند مسلم إلا خمسة، هذا منها- قال: ( رأيتني وأنا في المنام، وأنا أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، فدفعت السواك إلى الأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر، فدفعت للأكبر )، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يتسوك ثم دفعه دليل على أنه لم يكن يعطي بالشمال، فدل على أنه كان يتسوك باليمين، فلو كان يتسوك باليسار لقال: فأخذ بيده اليسرى إلى اليمنى كما قال في وضوئه: ( وأفرغ بيده اليمنى ) في الوضوء.

الدليل الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين في قصة وفاته عليه الصلاة والسلام ( إذ دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وهو يتسوك، قالت: فرأيته ينظر إليه، فقلت: أتحب أن تتسوك؟ فأشار برأسه أي نعم، قالت: فأخذته فقضمته ثم بللته، فأعطيته إياه، فأخذه فتسوك، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسوك أحسن مما تسوك يومئذ )، وهذا دليل على أنه حينما أخذه من عائشة كان باليمين، ولو كان عليه الصلاة والسلام يتسوك بالشمال لأخبرت عائشة بذلك بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وهذا واضح وظاهر.

واستدل بعضهم على ذلك ( بأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) فهو عبادة، ولو قيل كقول مالك : إن الأمر فيه واسع لم يكن ببعيد، فإن أي عبادة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا صفتها دل على أن صفتها جائزة على الإطلاق، وأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، ويبعد أن يكون الصحابة لم ينقل عن واحد منهم أنه يستحب اليمين أو الشمال، فلم ينقل عن واحد منهم، فيبعد أن يكون ذلك من الفاضل الذي يرغب فيه، فدل ذلك على أن الأمر فيه واسع، وقد جاء في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يحب التيمن في ترجله، وتنعله، وطهوره، وتسوكه )، وهذا الحديث رواه ابن ماجه وفيه ضعف، وهو ضعيف، فاللفظة شاذة وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أنه جائز، سواء باليمين أو بالشمال. والله تبارك وتعالى أعلم.

بعض المسائل التي لا يستحب فيها تقديم اليمين

وأما الحديث ففيه فوائد منها:

استحباب اليمين في شأنه كله، وهذا كما قلنا: في ما له ميمنة وميسرة، وهل يقال في ذلك: استحباب اليمين حينما يتنازع الناس في الدخول إلى البيت، أو الدخول إلى الغرفة، فبعضهم مجتمع هل يقدم اليمين أم ماذا؟ فنحن نمشي فإذا وصلنا إلى الباب قلنا: ( الأيمنون ) حديث أنس في الصحيحين، على التيمن أو يبدأ بالكبير، أو ليس فيه سنة؟

الذي يظهر والله أعلم في مثل هذه الصورة أنه ليس فيها سنة واضحة، ولم يبلغنا قصة عن الصحابة أو عن السلف في ذلك، إلا ما روي عن محمد بن نصر المروزي أنه كان مع إسحاق بن إبراهيم ومعهم جماعة فأراد أن يدخلوا البيت، فقال إسحاق: تقدم، يمن، فقال محمد بن نصر : بل كبر، فأنت أكبر مني سناً وأكبر مني علماً، وهذا من تواضع محمد بن نصر ، وهذا آخر ما وجدت، ولم أجد قصة في مثل هذا إلا هذه، والذي يظهر، والله أعلم، أن هذه مثلها، مثل ما لو جاء إنسان بماء إلى جماعة هل يقدم من في يمين المجلس أم يقدم الكبير؟ الذي يظهر والله أعلم أنه يقدم كبير القوم، فإن الرجل كما في الصحيحين من حديث سهل ( أنه جاء بقدح من لبن، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم -فالرسول بأبي هو وأمي أكبر علماً وأفضل مقاماً وأعلى شأناً- ثم دفعه النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو عن يمينه، فاستأذن الأعرابي فقال: تأذن أن أعطي الشيوخ، قال: والله لن نؤثر بشربتك أحداً، فتلّه)، يعني: كأن الرسول غضب حينما لم يؤته، ونحن نقول: إن الأقرب والله أعلم أنه يكبر كما قال صلى الله عليه وسلم: ( كبر كبر )، إلا في حال واحدة وهي كلما كان فيه قربة؛ لأنه إذا كان فيه قربة، فإن الله يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

الإيثار في القرب

ذكر السيوطي رحمه الله، و العز بن عبد السلام في قواعده أنه يكره الإيثار في القرب، والذي يظهر والله أعلم أن الإيثار في القرب على نوعين:

النوع الأول: إذا قصد به الزهد، فإن هذا مكروه مثل أن يتقدم شخص إلى المسجد فيزهد أن يجلس في الصف الأول فيجلس في الصف الأخير، أو يبتعد عن قربه من الإمام، فينبغي له أن يتقدم إلى المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد : ( تقدموا وائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله )، وفي حديث مسلم من حديث أبي مسعود البدري : ( ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ).

النوع الثاني: إذا قصد به تأليف القلب، يعني: مثل أن أمشي مع شخص فقلت له: تفضل، قال: لا، تفضل أنت، هذا من باب الكرم والتقديم وإدخال السرور، فإذا قصد إدخال السرور فلا حرج.

فلو قال قائل: هذا ليس فيه قربة قلنا: هناك أدلة تدل على ما ذكرت منها: قصة عائشة عندما جاءها رسول عمر فقالت: إن عمر يستأذنك أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: والله! لقد كنت أرغب في ذلك ولأوثرنه في ذلك.

وذكر ابن القيم في المجلد الثالث من زاد المعاد عندما ذكر هذه المسألة قال في قصة المغيرة بن شعبة حينما ( ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره خبر القوم في فتح مكة، فقال أبو بكر : نشدتك الله إلا جعلتني أن أخبره )، ليريد أن يدخل السرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن القيم : في هذا دلالة على أن الإيثار في القرب إذا قصد به إدخال السرور على أخيه المسلم فلا حرج، فـأبو بكر طلب من المغيرة أن يدخل السرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن إدخال السرور على رسول الله قربة.

وكان عمر رضي الله عنه إذا ( رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بان على وجهه أثر الغضب قال: لأضحكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل السرور، وإذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب يقول: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، يكررها حتى يسكن غضبه صلى الله عليه وسلم ) كما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة .

وفي مرة من المرات ( رأى عليه الصلاة والسلام واجماً ساكتاً وأثر الغضب على وجهه، قال: فلما دخلت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وإذا هو واجم ساكت، وعنده نساؤه، فقلت: والله! لأقولن شيئاً يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! -وهو لا يدري ما شأن رسول الله؟ ولماذا هو غاضب- فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة حينما سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها يعني: زوجته، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة -فالرسول إنما ضحك يعني: أنت يا عمر ! قد تصنع ذلك لكن أنا لا أستطيع أن أصنعه من كرمه- فلما رأى أبو بكر ضحك رسول الله لفعل عمر ، قام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر لـعائشة : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة؟ وقال عمر لـحفصة : تسألن رسول الله نفقة؟ فقلن: والله! لا نسأله أبداً ) الحديث، وهذه دلالة على أن إدخال السرور مطلب، طيب! إذاً هذه صورتان يجوز فيها الإيثار في القرب، وما عدا ذلك فلا يستحب.

ويستحب للإنسان أيضاً أن يقصد في أفعاله حتى الدنيوية البركة واليمن والفأل، ودائماً استشعر الفأل في حياتك، واستشعر الفأل في قراءتك للعلم، وفي حضورك، حتى حضورك للعلم وأنت مرهق وقد أذن العشاء أو أذن المغرب وتعلم أن عندك درساً، وتقول: الله المستعان أنا متعب لعلي أؤجل هذا، فاستشعر البركة التي أتت فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ما جلس قوم في مجلس من بيوت الله يتدارسون كتاب الله فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده ) استشعر هذا الأمر، واستشعر وأنت تطيع والدك أن ذلك من البركة التي تكون لك ولأولادك بعدك، واستشعر وأنت تطلب العلم أن ذلك نعمة من الله سبحانه وتعالى وبركة لك، فمن استشعر هذا الأمر صار علمه نعمة له.

ولهذا ( كان صلى الله عليه وسلم يسأل، فيقول: اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا )، فالعلم بركة، وهذا في شأنك، حتى في نومك، ولهذا قال معاذ : وإني أحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي، وهذا مهم جداً، حتى إن أحدهم لو أراد أن يأتي أهله يقول: ( اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يرزق ولد لم يضره الشيطان أبداً )، وهو يريد أن يفرغ شهوته، ومع ذلك يستشعر أن يحصل له ولد بسبب ذلك، فيبارك الله له.

ويقول لي أحد الرجال: والله! ما أتيت أهلي إلا تمنيت أن يولد لي أناس يجاهدون في سبيل الله، وهذا الفأل نعمة عظيمة، وقد رزق كما قال فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، فاستشعار هذه النعمة مطلب، والله أعلم.

وأما ألفاظ الحديث فإن رواية البخاري : ( كان يعجبه )، ومعنى الإعجاب: هو السرور، والغبطة، والرضا، والارتضاء، والرغبة فيه، فكان عليه الصلاة والسلام يحب، ويرغب، ويرتضي، وقد ذكر بعض العلماء كما ذكر ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم في محبته للتيمن أنه من باب الفأل باليمن والبركة؛ لأنه جاء في حديث عند الإمام أحمد و ابن حبان : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل الحسن ).

ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم للتيمن إنما هي لأمور:

أولاً: امتثالاً لأمر الله فيما فرضه الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ابدءوا بما بدأ الله به )، وقد بدأ في الوضوء بالميامن؛ امتثالاً لمجمل الأمر.

ثانياً: أنه من باب البركة، فإن التيمن واليمن يطلق على البداءة باليمين، ويطلق أيضاً على البركة، ولهذا جاء في الحديث: ( إن من يمن المرأة يسر خطبتها وتيسير صداقها )، وهذا يدل على البركة.

ثالثاً: أن في البداءة باليمين تكرمة لليمين نفسها، ولأجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: ( كل بيمينك قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر )، وهذا تكرمة لليمين، ومن تكبر عن ذلك فقد باء بالخسران.

وأما قوله: (التنعل)، أي: لبس النعل، جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا خلع فليبدأ باليسار، ولتكن اليمنى أولهما تنتعل وآخرهما تنزع).

وقوله: (الترجل) ومعنى الترجل: تقول: ترجل فلان إذا نزل من فرسه، ويطلق الترجل على تسريح الشعر، ولذا سمي المشط مرجل، وهذا هو المقصود في الحديث، وقال: ( وفي طُهوره ) بضم الطاء، والمراد: فعل الطهارة، أما بالفتح فالمراد الماء نفسه، وقد ذكر ابن الأثير عن سيبويه : أنه يجوز بالفتح إرادة المصدر وإرادة الفعل، فيشمل المعنيين، فيكون (طَهوره) يشمل على الماء نفسه ويشمل الفعل، والمقصود في هذا الحديث أصالة الفعل، فهو يحب التيمن باغتساله، وفي وضوئه، وفي شأنه كله.

وقوله: ( وفي شأنه كله ) يعني: في شأن كل أمره، وهذا الحديث ليس على عمومه، ولكن هذا العموم يفيد رغبته عليه الصلاة والسلام على فعل اليمين، وإن كان ما لم يكن فيه تكرمة لليمين فلا يفعل في اليمين، فالمقصود هو الدخول باليمين والأكل والشرب واللباس وغير ذلك، وكل ما له ميمنة وميسرة فالأفضل فعل اليمين، وهل هذا على عمومه؟ قلنا: الصحيح أن هذا ليس على عمومه، فإن الخلاء والتنظف وغير ذلك إنما يفعل باليسار، ولأجل هذا جاءت رواية حفصة وفيها: ( كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل شماله لما سوى ذلك )، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والإمام أحمد ، وإن كان في سنده رجل يقال له: أبو أيوب الأفريقي وهو ضعيف، ومثله حديث عائشة أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى )، وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق إبراهيم النخعي عن عائشة ، والأئمة كـابن المديني وغيره يقولون: إن إبراهيم النخعي لم يسمع من عائشة ، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن معناه صحيح، وعلى هذا أكثر أئمة الدين، وأكثر شراح الحديث فذهب إليه ابن دقيق العيد و النووي و أبو العباس بن تيمية ، و ابن المنقب وغيرهم كثير كثير على أن اليسار تفعل في كل ما فيه تنظف أصالةً، وقولنا: أصالةً؛ لأن التنظف إن دخل تبعاً فإنه لا يفهم منه اليسار.

المقصود من ذلك في هذا الحديث قد ذكره الحافظ رحمه الله إشارة إلى أن البداءة باليمين في الوضوء مأمور بها وهو مشروع بالإجماع، إلا أن عامة أهل العلم، بل نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أن البداءة باليمين مستحبة، نقل الإجماع أبو عمر بن عبد البر و ابن المنذر و النووي و ابن قدامة وغيرهم على أن البداءة باليمين في كل ما له ميمنة وميسرة مستحب، وهو قول الصحابة فلا يعلم لهم مخالف، صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما أبالي بأي يدي بدأت إذا أنا أتممت الوضوء، وهذا هو قول عامة أهل العلم.

وزعم الفخر الرازي أن أحمد رحمه الله يقول -رواية عند الإمام أحمد- بوجوب البداءة باليمين، وهذا ليس بصحيح، فقد حكم الزركشي رحمه الله في شرحه للخرقي أن هذه الرواية منكرة شاذة، بل قال صاحب الإنصاف: بغير نزاع نعلمه، وهذا يدل على أن هذه اللفظة منكرة عن أحمد ، ونسبها أيضاً للإمام أحمد الرافعي الشافعي بشرحه للوجيه وليس بصحيح، وإن كان هذا قول الإمامية والزيدية كما نقل ذلك الشوكاني في السيل الجرار، ولكن أئمة الدين على أن البداءة مستحبة، والله تبارك وتعالى أعلم.

المسألة الثانية: اختلف العلماء أيهما أفضل في التسوك هل يكون باليمين أم يكون باليسار؟ ومسألة السواك ذكرناها في حديث: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ... ).

الذي في البلوغ بلفظ: (في الوضوء)، وهذا رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وأما ( مع كل صلاة ) فهو متفق عليه من حديث أبي هريرة .

ذكرنا هذه المسألة وقلنا: إن القول الأول: استحباب اليسار نص عليه أحمد ، بل قال ابن تيمية رحمه الله: ولم أعلم إماماً خالف فيه، وهذا هو قول القرطبي رحمه الله في المفهم، و العراقي في طرح التثريب، بل قال القرطبي : ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بالسواك في المسجد ولا في محافل الناس؛ لأن هذا من باب الأذى والقذر والتنظف، فلم يكن من سنته أن يتسوك في المسجد، فهذا القول غريب.

قال ابن تيمية : وكان السلف يتسوكون في المساجد، فكيف يقال: إنه يكره؟ وهذا هو معروف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسوك بأبي هو وأمي إذا بدأ في الصلاة كما مر معنا، وكان السلف يصنعون ذلك، فكيف يقال: إن ذلك مكروه؟ أما إذا تسوك الإنسان بقصد التنظف من مأكله، فهذا ينبغي له ألا يفتح فمه؛ لأن هذا من غير المروءة مثل: إذا أكل الإنسان شيئاً من المكسرات وغيرها، وأراد أن يتسوك عند الناس بأن يبالغ في التنظف حتى ربما تقزز الناس من منظره فهذا ليس من السنة، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتد أن توجد منه الريح، وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يأتي إلى الناس بمثل ما يحب أن يأتوه به.

القول الثاني: قالوا باستحباب اليمين، وهذا هو قول المجد أبو البركات جد أبي العباس بن تيمية ، وقد استغرب كثير من العلماء أصحاب الحنابلة كيف يقول ابن تيمية : لا أعلم إماماً خالف فيه، وجده يقول باستحباب اليمين، والذي يظهر والله أعلم بلا تكلف أن الإنسان بشر مهما أوتي من علم، فقد تخفى عليه السنة، فـابن تيمية رحمه الله خفي عليه قول جده، ولا يقال: إن ابن تيمية إنما قصد إماماً ممن يسمى إماماً كالأئمة الأربعة، ولا يقصد من سماه الناس إماماً فإن المجد لم يكن له مذهب يقتدى به، فقد حاول بعضهم كـابن قندس في حواشي الفروع أن يقول ذلك، ولكن الذي يظهر أن ذلك وهم من أبي العباس ، ومما يدل على ذلك أنه نقل عن مالك أنه قال: الأمر فيه واسع، لكن هذا القول الثاني قالوا باستحباب ذلك، وله أدلة منها:

حديث ابن عمر كما في الصحيحين، و مسلم رواه معلقاً -يقال: لا يكاد يوجد أحاديث معلقة عند مسلم إلا خمسة، هذا منها- قال: ( رأيتني وأنا في المنام، وأنا أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، فدفعت السواك إلى الأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر، فدفعت للأكبر )، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يتسوك ثم دفعه دليل على أنه لم يكن يعطي بالشمال، فدل على أنه كان يتسوك باليمين، فلو كان يتسوك باليسار لقال: فأخذ بيده اليسرى إلى اليمنى كما قال في وضوئه: ( وأفرغ بيده اليمنى ) في الوضوء.

الدليل الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين في قصة وفاته عليه الصلاة والسلام ( إذ دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وهو يتسوك، قالت: فرأيته ينظر إليه، فقلت: أتحب أن تتسوك؟ فأشار برأسه أي نعم، قالت: فأخذته فقضمته ثم بللته، فأعطيته إياه، فأخذه فتسوك، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسوك أحسن مما تسوك يومئذ )، وهذا دليل على أنه حينما أخذه من عائشة كان باليمين، ولو كان عليه الصلاة والسلام يتسوك بالشمال لأخبرت عائشة بذلك بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وهذا واضح وظاهر.

واستدل بعضهم على ذلك ( بأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) فهو عبادة، ولو قيل كقول مالك : إن الأمر فيه واسع لم يكن ببعيد، فإن أي عبادة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا صفتها دل على أن صفتها جائزة على الإطلاق، وأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، ويبعد أن يكون الصحابة لم ينقل عن واحد منهم أنه يستحب اليمين أو الشمال، فلم ينقل عن واحد منهم، فيبعد أن يكون ذلك من الفاضل الذي يرغب فيه، فدل ذلك على أن الأمر فيه واسع، وقد جاء في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يحب التيمن في ترجله، وتنعله، وطهوره، وتسوكه )، وهذا الحديث رواه ابن ماجه وفيه ضعف، وهو ضعيف، فاللفظة شاذة وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أنه جائز، سواء باليمين أو بالشمال. والله تبارك وتعالى أعلم.

وأما الحديث ففيه فوائد منها:

استحباب اليمين في شأنه كله، وهذا كما قلنا: في ما له ميمنة وميسرة، وهل يقال في ذلك: استحباب اليمين حينما يتنازع الناس في الدخول إلى البيت، أو الدخول إلى الغرفة، فبعضهم مجتمع هل يقدم اليمين أم ماذا؟ فنحن نمشي فإذا وصلنا إلى الباب قلنا: ( الأيمنون ) حديث أنس في الصحيحين، على التيمن أو يبدأ بالكبير، أو ليس فيه سنة؟

الذي يظهر والله أعلم في مثل هذه الصورة أنه ليس فيها سنة واضحة، ولم يبلغنا قصة عن الصحابة أو عن السلف في ذلك، إلا ما روي عن محمد بن نصر المروزي أنه كان مع إسحاق بن إبراهيم ومعهم جماعة فأراد أن يدخلوا البيت، فقال إسحاق: تقدم، يمن، فقال محمد بن نصر : بل كبر، فأنت أكبر مني سناً وأكبر مني علماً، وهذا من تواضع محمد بن نصر ، وهذا آخر ما وجدت، ولم أجد قصة في مثل هذا إلا هذه، والذي يظهر، والله أعلم، أن هذه مثلها، مثل ما لو جاء إنسان بماء إلى جماعة هل يقدم من في يمين المجلس أم يقدم الكبير؟ الذي يظهر والله أعلم أنه يقدم كبير القوم، فإن الرجل كما في الصحيحين من حديث سهل ( أنه جاء بقدح من لبن، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم -فالرسول بأبي هو وأمي أكبر علماً وأفضل مقاماً وأعلى شأناً- ثم دفعه النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو عن يمينه، فاستأذن الأعرابي فقال: تأذن أن أعطي الشيوخ، قال: والله لن نؤثر بشربتك أحداً، فتلّه)، يعني: كأن الرسول غضب حينما لم يؤته، ونحن نقول: إن الأقرب والله أعلم أنه يكبر كما قال صلى الله عليه وسلم: ( كبر كبر )، إلا في حال واحدة وهي كلما كان فيه قربة؛ لأنه إذا كان فيه قربة، فإن الله يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

ذكر السيوطي رحمه الله، و العز بن عبد السلام في قواعده أنه يكره الإيثار في القرب، والذي يظهر والله أعلم أن الإيثار في القرب على نوعين:

النوع الأول: إذا قصد به الزهد، فإن هذا مكروه مثل أن يتقدم شخص إلى المسجد فيزهد أن يجلس في الصف الأول فيجلس في الصف الأخير، أو يبتعد عن قربه من الإمام، فينبغي له أن يتقدم إلى المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد : ( تقدموا وائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله )، وفي حديث مسلم من حديث أبي مسعود البدري : ( ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ).

النوع الثاني: إذا قصد به تأليف القلب، يعني: مثل أن أمشي مع شخص فقلت له: تفضل، قال: لا، تفضل أنت، هذا من باب الكرم والتقديم وإدخال السرور، فإذا قصد إدخال السرور فلا حرج.

فلو قال قائل: هذا ليس فيه قربة قلنا: هناك أدلة تدل على ما ذكرت منها: قصة عائشة عندما جاءها رسول عمر فقالت: إن عمر يستأذنك أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: والله! لقد كنت أرغب في ذلك ولأوثرنه في ذلك.

وذكر ابن القيم في المجلد الثالث من زاد المعاد عندما ذكر هذه المسألة قال في قصة المغيرة بن شعبة حينما ( ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره خبر القوم في فتح مكة، فقال أبو بكر : نشدتك الله إلا جعلتني أن أخبره )، ليريد أن يدخل السرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن القيم : في هذا دلالة على أن الإيثار في القرب إذا قصد به إدخال السرور على أخيه المسلم فلا حرج، فـأبو بكر طلب من المغيرة أن يدخل السرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن إدخال السرور على رسول الله قربة.

وكان عمر رضي الله عنه إذا ( رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بان على وجهه أثر الغضب قال: لأضحكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل السرور، وإذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب يقول: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، يكررها حتى يسكن غضبه صلى الله عليه وسلم ) كما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة .

وفي مرة من المرات ( رأى عليه الصلاة والسلام واجماً ساكتاً وأثر الغضب على وجهه، قال: فلما دخلت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وإذا هو واجم ساكت، وعنده نساؤه، فقلت: والله! لأقولن شيئاً يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! -وهو لا يدري ما شأن رسول الله؟ ولماذا هو غاضب- فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة حينما سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها يعني: زوجته، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة -فالرسول إنما ضحك يعني: أنت يا عمر ! قد تصنع ذلك لكن أنا لا أستطيع أن أصنعه من كرمه- فلما رأى أبو بكر ضحك رسول الله لفعل عمر ، قام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أبو بكر لـعائشة : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة؟ وقال عمر لـحفصة : تسألن رسول الله نفقة؟ فقلن: والله! لا نسأله أبداً ) الحديث، وهذه دلالة على أن إدخال السرور مطلب، طيب! إذاً هذه صورتان يجوز فيها الإيثار في القرب، وما عدا ذلك فلا يستحب.

ويستحب للإنسان أيضاً أن يقصد في أفعاله حتى الدنيوية البركة واليمن والفأل، ودائماً استشعر الفأل في حياتك، واستشعر الفأل في قراءتك للعلم، وفي حضورك، حتى حضورك للعلم وأنت مرهق وقد أذن العشاء أو أذن المغرب وتعلم أن عندك درساً، وتقول: الله المستعان أنا متعب لعلي أؤجل هذا، فاستشعر البركة التي أتت فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ما جلس قوم في مجلس من بيوت الله يتدارسون كتاب الله فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده ) استشعر هذا الأمر، واستشعر وأنت تطيع والدك أن ذلك من البركة التي تكون لك ولأولادك بعدك، واستشعر وأنت تطلب العلم أن ذلك نعمة من الله سبحانه وتعالى وبركة لك، فمن استشعر هذا الأمر صار علمه نعمة له.

ولهذا ( كان صلى الله عليه وسلم يسأل، فيقول: اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا )، فالعلم بركة، وهذا في شأنك، حتى في نومك، ولهذا قال معاذ : وإني أحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي، وهذا مهم جداً، حتى إن أحدهم لو أراد أن يأتي أهله يقول: ( اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يرزق ولد لم يضره الشيطان أبداً )، وهو يريد أن يفرغ شهوته، ومع ذلك يستشعر أن يحصل له ولد بسبب ذلك، فيبارك الله له.

ويقول لي أحد الرجال: والله! ما أتيت أهلي إلا تمنيت أن يولد لي أناس يجاهدون في سبيل الله، وهذا الفأل نعمة عظيمة، وقد رزق كما قال فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، فاستشعار هذه النعمة مطلب، والله أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [21] 2516 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [8] 2428 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24] 2328 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [22] 2118 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [15] 2099 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [4] 2095 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [26] 2036 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23] 2025 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [16] 1828 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [12] 1717 استماع