خطب ومحاضرات
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [16]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، أما بعد:
فنسأل الله سبحانه وتعالى ألا يشغلنا عن طاعته، ولا عن طلب العلم، فإن الانقطاع عن العلم مهما بلغ الإنسان من الحفظ والذكاء ينسي العلم، ولهذا قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتابه الفذ العظيم التمهيد، عندما ذكر حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها )، قال: وكان العلم في ذلك الوقت هو الحديث والكتاب، يعني: القرآن؛ لأن سليقتهم وفهمهم لمراد النبي صلى الله عليه وسلم تتأتاها طبيعتهم فكيف وقد تغيرت الطباع، وتغيرت المفاهيم، وأصبح الإنسان لأجل أن يفهم الكتاب أو الحديث لا بد له من علم الرجال، ولا بد له من علم أصول الفقه، ولا بد أن يكون عنده علم الآلة، فتفلت العلم في حق المتأخرين أولى، وهذا واضح وظاهر، فنسأل الله سبحانه وتعالى ألا يشغلنا عن طاعته ولا عن طلب العلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: [ عن عبد الله بن أبي بكر رحمه الله : ( أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ
أراد الحافظ بكلمة (رحمه الله) ألا يفهم أحد أنه هو عبد الله بن أبي بكر الصحابي الصغير المعروف، وهذا ليس هو، وإنما هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن حزم عندما كان أميراً على أهل اليمن: ( ألا يمس القرآن إلا طاهر ).
تخريج حديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر)
القول الأول: قول من حكم عليه بالضعف، وذلك لأن الصحيح في هذا الحديث أنه مرسل كما رواه مالك في الموطأ، فرواه عن عبد الله بن أبي بكر هو ابن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم لــعمرو بن حزم ، فدل ذلك على أن عبد الله هذا هو ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وأخطأ صاحب شرح بلوغ المرام وهو المغربي في كتابه البدر التمام، فنسبه إلى عبد الله بن أبي بكر الصحابي المعروف، وأخطأ في ذلك أيضاً الصنعاني ، وهذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ لا بد أن ينظر إلى من سبقه، فربما تبعه على أخطائه، واليوم يشدد على الناس في مثل هذه الأشياء، ويقولون: سرقة علمية، وينبغي ألا يشدد في هذه المسائل، لكنه ينبغي له إذا قيل له: من أين لك هذا ألا ينسبه إلى نفسه؛ لأن نسبته إلى نفسه نوع من التشبع، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )، وكما يوجد الآن في بعض المقالات والصحف فقد تحدثت عن بعض الدعاة حينما أخذ من بعض الكتب المطبوعة، فبعضهم قال: يا ليتني ما دريت ولا تليت، وهذا لا ينبغي؛ لأن المسألة خطبها يسير، وأذكر أن شيخنا الشيخ بكر أبو زيد عندما طبع كتاب شرح عمدة الأحكام لـابن الملقن فوجد أن كثيراً مما كتبه الحافظ ابن حجر في فتح الباري مأخوذ من كلام ابن الملقن ، فيقول الشيخ بكر وكان شديداً في السرقات العلمية: يا ليتني ما دريت ولا تليت، ولكن ليس نشهد إلا من وجدنا بضاعتنا عنده، يعني: بذلك أن الكلام كلام ابن الملقن .
و ابن الملقن ممن فتح الله عليه في التأليف، وأنا أنصح طلاب العلم أن يقرءوا كتبه، فله البدر المنير تخريج أحاديث الرافعي الذي اختصره الحافظ ابن حجر ، وله كتاب أيضاً عظيم في شرح عمدة الأحكام، وله كتاب تحفة المحتاج على المنهاج، فهو ممن وفقه الله جل جلاله في التأليف، ومن العلماء من يفتح الله عليه في التأليف ما لا يفتحه عليه في الكلام، ومنهم من يفتح الله عليه في الكلام ما لا يفتح عليه في التأليف، ومنهم من جمع الله له بين الأمرين، وأحسب أن أبا العباس ابن تيمية قد ضرب بذلك بعطن رضي الله عنه ورحمه.
وعلى كل حال: فقد ضعف الحديث أبو داود رحمه الله، وقال: إن الصحيح المرسل يعني: رواية مالك ، وضعف الموصول، ورأى أن الحكم بن موسى وهم في هذا الحديث؛ وذلك لأنه رواه من طريق يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود ، و سليمان بن داود هذا ليس هو ابن داود والصحيح أنه سليمان بن أرقم ، و سليمان بن أرقم كثيراً ما يروي عن الزهري أحاديث باطلة، فبعض العلماء قال: إن هذا وهم، والصحيح أنه سليمان بن أرقم وليس سليمان بن داود ، وهذه طريقة الإمام أبي داود و أبي زرعة وبعضهم يرى أن سليمان بن داود هو سليمان بن أرقم ، وأن سليمان بن داود هو اسمه و الأرقم لقبه، ولهذا قال أبو حاتم قيل: هما واحد، والله أعلم في ذلك، فهو لم يتحقق من ذلك إلا أنه أشار إلى أن الحديث ضعيف، فسواء قلنا: هو سليمان بن داود أو قلنا: سليمان بن أرقم فـسليمان بن داود مجهول، وكذلك رجح المرسل الإمام الدارقطني رحمهم الله جميعاً، وضعفه أيضاً عبد الحق الإشبيلي و ابن حزم وغيرهم.
ومن العلماء من صحح هذا الحديث، إلا أنهم اختلفوا في طريقة تصحيحه، فبعضهم نظر إلى ظاهر الإسناد وصححه على ضوء ذلك، ومنهم من نظر إلى أصل الكتاب فصححه لذلك، وممن صححه لظاهر الإسناد -وهي طريقته- الإمام ابن حبان و الحاكم ، فإنهما صححاه لظاهر الإسناد؛ لأن الحكم بن موسى حسن الحديث، ورواه عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود وهو الدمشقي فقالوا: إن الحديث حسن، فصححوه لأجل ذلك، ولا شك أن الأقرب والله أعلم أن الحديث معلول، كما قال الحافظ ابن حجر ، وذلك أن سليمان هذا هو سليمان بن الأرقم وأن تصحيحه بناءً على ظاهرية هذا الإسناد محل نظر.
وقول الحافظ : (حديث معلول) يشير إلى أن الحديث فيه علة، وإن كان ظاهر إسناده الصحة، وكلمة معلول تتداول عند الفقهاء وعند المحدثين، وليست بمستغربة عند المتقدمين، وعلى هذا فكلام الحافظ ابن الصلاح في مقدمة كتابه أن كلمة معلول كلمة مبذولة مرذولة عند أهل النحو واللغة هكذا يقول، ثم قال: والصحيح أنه يقال: حديث معل، والذي يظهر والله أعلم أنه لا بأس بإطلاق حديث معلول؛ لأنه من الفعل الثلاثي عل يعل، أو عل فهو معلول كما ذكر ذلك الجوهري ، والكلام ليس في علم اللغة، بل في علم الاصطلاح لأهل الحديث، فهل وجدنا لأهل الحديث كلاماً قبل الحافظ ابن حجر ؟ نعم وجدنا، فـالبخاري رحمه الله ضعف حديثاً كما ذكر ذلك الترمذي في العلل قال: سألت محمد بن إسماعيل فقال: هذا حديث معلول ولم يذكر علته، يعني بذلك: ( من أعمر عمرى فهي له ولمن ورثه )، وحديث عبد الله بن الزبير ضعفه البخاري وقال: حديث معلول، كذلك قاله البيهقي رحمه الله، فأشار في السنن الكبرى إلى أن هذا حديث معلول، وليس هذا الحديث بل حديث آخر، وكذلك كثيراً ما يقول الإمام العقيلي في كتابه الضعفاء، فإنه يقول: حديث معلول، وكذلك يقولها ابن رجب وغيرهم.
إذاً: كلمة معلول لا غضاضة فيها عند أهل الحديث.
القسم الثاني: ممن صححه فإنما نظر إلى شهرة هذا الكتاب، وأن الكتاب الذي أرسله نبينا صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم ثابت، ولأجل هذا فلسنا بحاجة إلى أن ننظر إلى إسناده بعد ما تثبتنا أنه كتاب، ويكون أبو بكر بن محمد بن حزم عن أبيه لم يسمعه من جده، أو لم يسمعه من أبيه، وأبوه لم يسمعه من جده؛ لأنه وجده كتاباً، ولأجل هذا صحح كثير من أهل العلم هذا الحديث، فممن صححه لأجل شهرة الكتاب الإمام الشافعي ، فإنه صحح الحديث كما في كتابه الرسالة، وقال رحمه الله ورضي عنه: لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مسائل أبي القاسم البغوي عن الإمام أحمد أن الإمام أحمد سئل عن حديث الصدقات فقال: أرجو أن يكون صحيحاً، وحديث الصدقات هو حديث عمرو بن حزم وهذا يدل على أن الإمام أحمد قوى كتاب عمرو بن حزم .
ومنهم: يعقوب بن سفيان تلميذ علي بن المديني المعروف، فإنه قال: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم ، كذلك ذكره أبو عمر بن عبد البر فقال: فإن هذا معروف عند أهل العلم متفق عليه إلا قليلاً، وقال: إن تلقي الأمة له بالقبول يغني عن إسناده، وكذلك قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: إن هذا مشهور مستفيض عند أهل العلم، وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الآحاد العدل المتصل، وهو صحيح بإجماعهم، يعني: إن كتاب عمرو بن حزم وإن كان لم يرد بإسناد صحيح لكن شهرته أقوى من حيث اليقين من خبر الواحد العدل المتصل، يعني: أن الأمة تلقت كتاب عمرو بن حزم بالقبول، فالشأن في وجود هذا الحديث في كتاب عمرو بن حزم لا في إسناد عمرو بن حزم .
فإذا قال قائل: إن هذا الحديث موجود في كتاب عمرو بن حزم نقول: أثبت أنه موجود في كتاب عمرو فإن ثبت فلسنا بحاجة إلى صحة الإسناد لأنها وجادة وهي قوية، وهذه طريقة محكمة وهي صحيحة؛ وعلى هذا فكل حديث جاء عن عمرو بن حزم لا بد أن نثبت هل صحيح أنه موجود في كتاب عمرو بن حزم أم لا؟ فإن ثبت لدينا فإننا نقول: نعمل به على أنه خبر مشهور أحسن من خبر الآحاد.
شواهد حديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر)
الشاهد الأول: حديث حكيم بن حزام : ( ألا يمس القرآن إلا على طهارة )، وهذا الحديث رواه الدارقطني و الحاكم وحسنه الحازمي وضعفه النووي ، والحديث ضعيف، وكذلك ضعفه ابن عبد الهادي قال: إسناده فيه نظر؛ وذلك لأن في سنده مَطَر أو مُطْر أو مَطْر بن طهمان الوراق ، وعنه سويد أبو حاتم ، وهما ضعيفان.
الحديث الثاني من الشواهد: ما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، والحديث إلى الضعف أقرب.
والحديث الثالث: حديث ابن عمر : ( ألا يمس القرآن إلا طاهر )، وهذا الحديث قال عنه الحافظ ابن حجر : إسناده لا بأس به، وذكر الأثرم أن الإمام أحمد احتج به، وقال الجوزقاني في الأباطيل: هذا حديث مشهور حسن، والحديث فيه كلام، وفي إسناده سليمان بن موسى قال عنه البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي.
أقول: إن الأقرب أن الحديث فيه كلام، ولكن مع كتاب عمرو بن حزم فإنه يدل على أن الحديث له أصلاً، وأنه إلى الحسن أقرب، أعني حديث ابن عمر فهو موقوف على ابن عمر ، وقد صح عن سلمان الفارسي ، فقد قال علقمة : كنا عند سلمان فقضى حاجته، فقلنا: توضأ فإنا نريد أن نسألك عن آية في القرآن فقال: سلوني إني لست أمسه، وفي رواية أنه قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، وهذا الحديث إسناده جيد عن سلمان .
وكذلك ما رواه مالك في الموطأ، و البيهقي بسند جيد، أن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: كنت أمسك القرآن لأبي يعني: مثل الذي نسميه مراجعة، قال: فحككت نفسي أو جسدي، فقال: ما لك، لعلك مسست ذكرك؟ قلت: نعم، قال: اذهب فتوضأ، وهذا يشير إلى أن سعد بن أبي وقاص كان معروفاً عنده أن مس القرآن لا بد فيه من طهارة، وأن مس الذكر ينقض الوضوء، وهذا ما أردت أن أبينه.
مس المصحف بغير طهارة
ثم إن تصحيحهم لا يلزم منه أن يكون الرجل ثقة ثبتاً أو حسن الحديث؛ لأنهم ينتقون من الضعيف ما علم أنه أصاب فيه، ولو كان الحديث الضعيف دائماً ضعيفاً لأشبهناه بالموضوع الكذاب، ولأجل هذا فلا نستعجل في مخالفة الأئمة رحمهم الله، و ابن حزم خالف الأئمة؛ لأنه على منهج ارتضاه لنفسه، وأنكره جمع من أهل العلم، بل ذكر إمام الحرمين و ابن العربي إجماع أهل العلم على أن الظاهرية غير معتد بهم في مخالفة الإجماع، وهذه أيضاً مبالغة.
على كل حال أدلة الجمهور واضحة: الأول: أحاديث الباب، الثاني: وآثار الصحابة.
الثالث: قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، من هم؟ قولان: المعروف والله أعلم أن قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] ليس المقصود به القرآن، وإنما المقصود به الكتاب الذي في اللوح المحفوظ؛ لأنه لو أريد به القرآن لكان المخاطب به المتوضئين، ولما قال جل جلاله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]؛ ولقال: لا يمسه إلا المتطهرون؛ لأن المتوضئ متطهر، وليس مطهراً دائماً كالملائكة، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
الثاني: أنه لو أريد به النهي لقال: لا يمسسه بالجزم كما ذكر ذلك ابن القيم و ابن تيمية ، ومع ذلك وهذا الشاهد يقول ابن تيمية : ويستدل به بدلالة الإشارة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر؛ لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله، فهذه الصحف يعني: القرآن أولى ألا يمسها إلا طاهر، وهذا يسميه العلماء دلالة الإشارة، أو إن شئت قل: بدلالة اللزوم والإيماء، فإن الدلالات ثلاثة: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، وهذا المقصود والله أعلم.
إذاً: عندنا في هذه المسألة قول الصحابة، وصحة حديث عمرو بن حزم ، والآية بدلالة التنبيه والإشارة.
القول الثاني: جواز مس المصحف ولو على غير طهارة، وهو قول ابن حزم ، وهو أيضاً قول الشوكاني ، وقالوا: إنه لو صح الحديث فلا يفيد الطهارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر )، وكلمة طاهر تحتمل الطهارة من الشرك، وتحتمل الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وتحتمل الطهارة الحسية من النجاسة، وهذه المعاني الثلاث لا يمكن حملها على واحد منها إلا بدليل، ولا دليل يصار إليه فهو مجمل، ولا شك أن هذا القول ليس بشيء؛ لأننا نقول لهم: لا شك أن الفهم الذي فهمتموه يلزم منه أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات ولم يبلغ البلاغ المبين، وهذا لا يجوز، ولهذا تجد كلاماً عند بعض علماء الأصول بعيداً عن واقع السنة أحياناً، ولهذا يقول ابن القيم : إن بعض علماء الأصول أبعد عن فهم الأحاديث، حتى إن صغار أهل الحديث أعلم منهم بسبب أن الإنسان قد يفكر بالمسألة من غير تصور. فتقول: أليس الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أرسله إلى عمرو بن حزم فهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مراده، فإما أن يكون لم يفهم، وإما أن يكون قد فهم، فإن لم يكن قد فهم فيبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعله إماماً لقومه وهو لا يفهم، فيكون هذا القدح في النبوة وحاشا محمداً صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون قد فهم، فإما أن يكون فهماً سقيماً، وإما أن يكون فهماً صحيحاً، ويبعد أن يكون الصحابي قد فهم فهماً سقيماً، ولا بد أن يكون قد فهماً صحيحاً، وهذا هو المراد.
إذاً: يجب أن ننظر إلى كلام علماء الأصول حينما يتحدثون عن المجمل، فإنهم إذا سئلوا أحياناً قالوا: هذا لفظ مجمل، والمجمل يحتاج إلى دليل ولا دليل، فنقول: ولا دليل عندك، لكن ليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الغزالي : ليس ثمة لفظ مجمل لم يدل عليه دليل إلا وقت نزول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19]، فلو سكت عن قوله: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20-21] لكان مجملاً، فلما بين تبين، إذاً: المجمل في حق المجتهد، وليس في نفس النصوص الشرعية.
وعلى هذا فإن كلمة (طاهر) لفظ مشترك، وقد اختلف علماء الأصول في اللفظ المشترك المجرد، هل يمكن حمله على جميع معانيه، أم لا بد من حمل معنى واحد؟ فذهب الإمام الشافعي و أبو بكر الباقلاني ، ونسبه بعضهم إلى جمهور أهل الفقه إلى أنه يحمل على جميع معانيه ما لم يكن ثمة دليل يعارضه، ومعنى دليل يعارضه: مثل القرء، فإن القرء فيه تعارض طهر وحيض، فلا يمكن حمله على جميع معانيه، فإن أمكن حمله على جميع معانيه، فالأصل هو حمله على جميع معانيه، فلا يمس القرآن إلا طاهر من الطهارة الكبرى، وطاهر من الطهارة الصغرى، وطاهر الطهارة الحسية، وطاهر من الحدث الأكبر، فإن قال قائل: إن المقصود به الطهارة من الشرك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أرسل هذا الكتاب إلى عمرو بن حزم فإن أهل اليمن كانوا أهل شرك، فليس المقصود به الطهارة الصغرى والكبرى، هذا قاله الشوكاني ، والجواب عليه: أنه يبعد أن يكون المخاطب به الكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، فكيف ينهى عن سفره إلى أرض العدو، ثم يقول: لا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث المعنوي الذي هو الشرك، فالمقصود به خطاب أهل الإيمان، وإذا ثبت أنه خطاب لأهل الإيمان فهو قطعاً مقصود به الطهارة الشرعية، وهي النظافة والطهر، وهي تشمل الحسية وتشمل الحدث الأصغر والحدث الأكبر.
وعلى هذا فهذا المسألة واضحة بإذن الله، فلا يجوز أن يمس الإنسان القرآن إلا على طهارة.
المقصود بالقرآن الذي لا يجوز مسه إلا على طهارة
أما القرآن الإلكتروني فإن الإنسان لا يستطيع أن يفتحه في الآي فون، مثل نسخة بنك التمويل الكويتي إلا إذا وضع إصبعه، فهل يجوز مسه؟ نعم؛ لأنه لا يعتبر مساً؛ لأن هناك حائلاً، ولو أنك أدخلت يدك لخرب الجهاز، فبينك وبينه حائل فلا حرج إن شاء الله.
وإنما ذكره الحافظ هنا لبيان أن مس القرآن يشترط فيه الطهارة مثل الصلاة، وعلى هذا فإن مس المصحف من غير طهارة يأثم صاحبه، ويؤجر على القراءة، فهي علاقتان منفصلتان، والله أعلم.
الحديث رواه مالك مرسلاً بهذا الإسناد، ورواه النسائي موصولاً، لكنه لم يذكر الشاهد الذي ذكره المؤلف، وإنما ذكره الحافظ ابن حبان في كتابه الإحسان، فإنه ذكر هذا الحديث موصولاً من طريق الحكم بن موسى قال: حدثنا يحيى بن حمزة قال: حدثنا سليمان بن داود ، عن محمد بن شهاب الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، هذا هو الإسناد الموصول، وقد رواه موصولاً النسائي و ابن حبان و البيهقي و الحاكم وغيرهم، إلا أن أهل العلم اختلفوا في هذا الحديث هل هو ضعيف أم صحيح؟
القول الأول: قول من حكم عليه بالضعف، وذلك لأن الصحيح في هذا الحديث أنه مرسل كما رواه مالك في الموطأ، فرواه عن عبد الله بن أبي بكر هو ابن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم لــعمرو بن حزم ، فدل ذلك على أن عبد الله هذا هو ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وأخطأ صاحب شرح بلوغ المرام وهو المغربي في كتابه البدر التمام، فنسبه إلى عبد الله بن أبي بكر الصحابي المعروف، وأخطأ في ذلك أيضاً الصنعاني ، وهذا يدل على أن الإنسان مهما بلغ لا بد أن ينظر إلى من سبقه، فربما تبعه على أخطائه، واليوم يشدد على الناس في مثل هذه الأشياء، ويقولون: سرقة علمية، وينبغي ألا يشدد في هذه المسائل، لكنه ينبغي له إذا قيل له: من أين لك هذا ألا ينسبه إلى نفسه؛ لأن نسبته إلى نفسه نوع من التشبع، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )، وكما يوجد الآن في بعض المقالات والصحف فقد تحدثت عن بعض الدعاة حينما أخذ من بعض الكتب المطبوعة، فبعضهم قال: يا ليتني ما دريت ولا تليت، وهذا لا ينبغي؛ لأن المسألة خطبها يسير، وأذكر أن شيخنا الشيخ بكر أبو زيد عندما طبع كتاب شرح عمدة الأحكام لـابن الملقن فوجد أن كثيراً مما كتبه الحافظ ابن حجر في فتح الباري مأخوذ من كلام ابن الملقن ، فيقول الشيخ بكر وكان شديداً في السرقات العلمية: يا ليتني ما دريت ولا تليت، ولكن ليس نشهد إلا من وجدنا بضاعتنا عنده، يعني: بذلك أن الكلام كلام ابن الملقن .
و ابن الملقن ممن فتح الله عليه في التأليف، وأنا أنصح طلاب العلم أن يقرءوا كتبه، فله البدر المنير تخريج أحاديث الرافعي الذي اختصره الحافظ ابن حجر ، وله كتاب أيضاً عظيم في شرح عمدة الأحكام، وله كتاب تحفة المحتاج على المنهاج، فهو ممن وفقه الله جل جلاله في التأليف، ومن العلماء من يفتح الله عليه في التأليف ما لا يفتحه عليه في الكلام، ومنهم من يفتح الله عليه في الكلام ما لا يفتح عليه في التأليف، ومنهم من جمع الله له بين الأمرين، وأحسب أن أبا العباس ابن تيمية قد ضرب بذلك بعطن رضي الله عنه ورحمه.
وعلى كل حال: فقد ضعف الحديث أبو داود رحمه الله، وقال: إن الصحيح المرسل يعني: رواية مالك ، وضعف الموصول، ورأى أن الحكم بن موسى وهم في هذا الحديث؛ وذلك لأنه رواه من طريق يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود ، و سليمان بن داود هذا ليس هو ابن داود والصحيح أنه سليمان بن أرقم ، و سليمان بن أرقم كثيراً ما يروي عن الزهري أحاديث باطلة، فبعض العلماء قال: إن هذا وهم، والصحيح أنه سليمان بن أرقم وليس سليمان بن داود ، وهذه طريقة الإمام أبي داود و أبي زرعة وبعضهم يرى أن سليمان بن داود هو سليمان بن أرقم ، وأن سليمان بن داود هو اسمه و الأرقم لقبه، ولهذا قال أبو حاتم قيل: هما واحد، والله أعلم في ذلك، فهو لم يتحقق من ذلك إلا أنه أشار إلى أن الحديث ضعيف، فسواء قلنا: هو سليمان بن داود أو قلنا: سليمان بن أرقم فـسليمان بن داود مجهول، وكذلك رجح المرسل الإمام الدارقطني رحمهم الله جميعاً، وضعفه أيضاً عبد الحق الإشبيلي و ابن حزم وغيرهم.
ومن العلماء من صحح هذا الحديث، إلا أنهم اختلفوا في طريقة تصحيحه، فبعضهم نظر إلى ظاهر الإسناد وصححه على ضوء ذلك، ومنهم من نظر إلى أصل الكتاب فصححه لذلك، وممن صححه لظاهر الإسناد -وهي طريقته- الإمام ابن حبان و الحاكم ، فإنهما صححاه لظاهر الإسناد؛ لأن الحكم بن موسى حسن الحديث، ورواه عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود وهو الدمشقي فقالوا: إن الحديث حسن، فصححوه لأجل ذلك، ولا شك أن الأقرب والله أعلم أن الحديث معلول، كما قال الحافظ ابن حجر ، وذلك أن سليمان هذا هو سليمان بن الأرقم وأن تصحيحه بناءً على ظاهرية هذا الإسناد محل نظر.
وقول الحافظ : (حديث معلول) يشير إلى أن الحديث فيه علة، وإن كان ظاهر إسناده الصحة، وكلمة معلول تتداول عند الفقهاء وعند المحدثين، وليست بمستغربة عند المتقدمين، وعلى هذا فكلام الحافظ ابن الصلاح في مقدمة كتابه أن كلمة معلول كلمة مبذولة مرذولة عند أهل النحو واللغة هكذا يقول، ثم قال: والصحيح أنه يقال: حديث معل، والذي يظهر والله أعلم أنه لا بأس بإطلاق حديث معلول؛ لأنه من الفعل الثلاثي عل يعل، أو عل فهو معلول كما ذكر ذلك الجوهري ، والكلام ليس في علم اللغة، بل في علم الاصطلاح لأهل الحديث، فهل وجدنا لأهل الحديث كلاماً قبل الحافظ ابن حجر ؟ نعم وجدنا، فـالبخاري رحمه الله ضعف حديثاً كما ذكر ذلك الترمذي في العلل قال: سألت محمد بن إسماعيل فقال: هذا حديث معلول ولم يذكر علته، يعني بذلك: ( من أعمر عمرى فهي له ولمن ورثه )، وحديث عبد الله بن الزبير ضعفه البخاري وقال: حديث معلول، كذلك قاله البيهقي رحمه الله، فأشار في السنن الكبرى إلى أن هذا حديث معلول، وليس هذا الحديث بل حديث آخر، وكذلك كثيراً ما يقول الإمام العقيلي في كتابه الضعفاء، فإنه يقول: حديث معلول، وكذلك يقولها ابن رجب وغيرهم.
إذاً: كلمة معلول لا غضاضة فيها عند أهل الحديث.
القسم الثاني: ممن صححه فإنما نظر إلى شهرة هذا الكتاب، وأن الكتاب الذي أرسله نبينا صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم ثابت، ولأجل هذا فلسنا بحاجة إلى أن ننظر إلى إسناده بعد ما تثبتنا أنه كتاب، ويكون أبو بكر بن محمد بن حزم عن أبيه لم يسمعه من جده، أو لم يسمعه من أبيه، وأبوه لم يسمعه من جده؛ لأنه وجده كتاباً، ولأجل هذا صحح كثير من أهل العلم هذا الحديث، فممن صححه لأجل شهرة الكتاب الإمام الشافعي ، فإنه صحح الحديث كما في كتابه الرسالة، وقال رحمه الله ورضي عنه: لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي مسائل أبي القاسم البغوي عن الإمام أحمد أن الإمام أحمد سئل عن حديث الصدقات فقال: أرجو أن يكون صحيحاً، وحديث الصدقات هو حديث عمرو بن حزم وهذا يدل على أن الإمام أحمد قوى كتاب عمرو بن حزم .
ومنهم: يعقوب بن سفيان تلميذ علي بن المديني المعروف، فإنه قال: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم ، كذلك ذكره أبو عمر بن عبد البر فقال: فإن هذا معروف عند أهل العلم متفق عليه إلا قليلاً، وقال: إن تلقي الأمة له بالقبول يغني عن إسناده، وكذلك قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: إن هذا مشهور مستفيض عند أهل العلم، وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الآحاد العدل المتصل، وهو صحيح بإجماعهم، يعني: إن كتاب عمرو بن حزم وإن كان لم يرد بإسناد صحيح لكن شهرته أقوى من حيث اليقين من خبر الواحد العدل المتصل، يعني: أن الأمة تلقت كتاب عمرو بن حزم بالقبول، فالشأن في وجود هذا الحديث في كتاب عمرو بن حزم لا في إسناد عمرو بن حزم .
فإذا قال قائل: إن هذا الحديث موجود في كتاب عمرو بن حزم نقول: أثبت أنه موجود في كتاب عمرو فإن ثبت فلسنا بحاجة إلى صحة الإسناد لأنها وجادة وهي قوية، وهذه طريقة محكمة وهي صحيحة؛ وعلى هذا فكل حديث جاء عن عمرو بن حزم لا بد أن نثبت هل صحيح أنه موجود في كتاب عمرو بن حزم أم لا؟ فإن ثبت لدينا فإننا نقول: نعمل به على أنه خبر مشهور أحسن من خبر الآحاد.
وإذا ثبت هذا فاعلم أن الحديث أعني الشاهد منه: ( ألا يمس القرآن إلا طاهر )، لم يتفرد به عمرو بن حزم ، فقد جاء عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فله ثلاثة شواهد:
الشاهد الأول: حديث حكيم بن حزام : ( ألا يمس القرآن إلا على طهارة )، وهذا الحديث رواه الدارقطني و الحاكم وحسنه الحازمي وضعفه النووي ، والحديث ضعيف، وكذلك ضعفه ابن عبد الهادي قال: إسناده فيه نظر؛ وذلك لأن في سنده مَطَر أو مُطْر أو مَطْر بن طهمان الوراق ، وعنه سويد أبو حاتم ، وهما ضعيفان.
الحديث الثاني من الشواهد: ما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، والحديث إلى الضعف أقرب.
والحديث الثالث: حديث ابن عمر : ( ألا يمس القرآن إلا طاهر )، وهذا الحديث قال عنه الحافظ ابن حجر : إسناده لا بأس به، وذكر الأثرم أن الإمام أحمد احتج به، وقال الجوزقاني في الأباطيل: هذا حديث مشهور حسن، والحديث فيه كلام، وفي إسناده سليمان بن موسى قال عنه البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي.
أقول: إن الأقرب أن الحديث فيه كلام، ولكن مع كتاب عمرو بن حزم فإنه يدل على أن الحديث له أصلاً، وأنه إلى الحسن أقرب، أعني حديث ابن عمر فهو موقوف على ابن عمر ، وقد صح عن سلمان الفارسي ، فقد قال علقمة : كنا عند سلمان فقضى حاجته، فقلنا: توضأ فإنا نريد أن نسألك عن آية في القرآن فقال: سلوني إني لست أمسه، وفي رواية أنه قال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، وهذا الحديث إسناده جيد عن سلمان .
وكذلك ما رواه مالك في الموطأ، و البيهقي بسند جيد، أن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: كنت أمسك القرآن لأبي يعني: مثل الذي نسميه مراجعة، قال: فحككت نفسي أو جسدي، فقال: ما لك، لعلك مسست ذكرك؟ قلت: نعم، قال: اذهب فتوضأ، وهذا يشير إلى أن سعد بن أبي وقاص كان معروفاً عنده أن مس القرآن لا بد فيه من طهارة، وأن مس الذكر ينقض الوضوء، وهذا ما أردت أن أبينه.
المسألة الفقهية في هذا الحديث: هي مسألة مس المصحف هل تجوز من غير طهارة أم لا؟ وهذا يدلك على الاهتمام بفقه السلف، فقد ذهب الصحابة ولا يعلم لهم مخالف، وهو قول سلمان الفارسي و عبد الله بن عمر و سعد بن أبي وقاص ، كما يقول ابن تيمية ، وكذلك ابن قدامة إلى أن مس المصحف لا بد فيه من الطهارة، وهو قول الأئمة الأربعة، ولا يعرف خلاف في ذلك عند المتقدمين إلا ما ينقل عن داود الظاهري وهو قول ابن حزم ، والصحيح قول الجماهير، وداود الظاهري و ابن حزم حينما ضعفوا الحديث قالوا: الأصل البراءة الأصلية، وهذا يدل على أنه لا ينبغي لطالب العلم أن يتعجل، وأن يكون بادي الرأي في المسائل فإذا رأيت الأئمة الكبار كالصحابة، أو الأئمة الأربعة على قول، فلا تستعجل في المخالفة، وهذه مهمة جداً، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله عندما ذكر حديث بسرة بنت صفوان قال: فكان عروة يفتي خلاف ذلك، فلما بلغه حديث بسرة أفتى بحديث بسرة وكذلك ابن عمر ، قال: وهذه طريقة أهل الفقه والعلم، وهي أنهم ينظرون إلى المشهور من الأحاديث التي عمل بها الأئمة، ولو كان ظاهر إسنادها الضعف، ولهذا قال ابن تيمية في المجلد الثامن عشر قال: إذا رأيت الأئمة صححوا حديثاً وهو عندنا ضعيف، فاعلم أنهم ما صححوه إلا عن علم وأسانيد لم تبلغنا بعد، يعني: هم صححوه لأن عندهم علماً.
ثم إن تصحيحهم لا يلزم منه أن يكون الرجل ثقة ثبتاً أو حسن الحديث؛ لأنهم ينتقون من الضعيف ما علم أنه أصاب فيه، ولو كان الحديث الضعيف دائماً ضعيفاً لأشبهناه بالموضوع الكذاب، ولأجل هذا فلا نستعجل في مخالفة الأئمة رحمهم الله، و ابن حزم خالف الأئمة؛ لأنه على منهج ارتضاه لنفسه، وأنكره جمع من أهل العلم، بل ذكر إمام الحرمين و ابن العربي إجماع أهل العلم على أن الظاهرية غير معتد بهم في مخالفة الإجماع، وهذه أيضاً مبالغة.
على كل حال أدلة الجمهور واضحة: الأول: أحاديث الباب، الثاني: وآثار الصحابة.
الثالث: قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، من هم؟ قولان: المعروف والله أعلم أن قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] ليس المقصود به القرآن، وإنما المقصود به الكتاب الذي في اللوح المحفوظ؛ لأنه لو أريد به القرآن لكان المخاطب به المتوضئين، ولما قال جل جلاله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]؛ ولقال: لا يمسه إلا المتطهرون؛ لأن المتوضئ متطهر، وليس مطهراً دائماً كالملائكة، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
الثاني: أنه لو أريد به النهي لقال: لا يمسسه بالجزم كما ذكر ذلك ابن القيم و ابن تيمية ، ومع ذلك وهذا الشاهد يقول ابن تيمية : ويستدل به بدلالة الإشارة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر؛ لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله، فهذه الصحف يعني: القرآن أولى ألا يمسها إلا طاهر، وهذا يسميه العلماء دلالة الإشارة، أو إن شئت قل: بدلالة اللزوم والإيماء، فإن الدلالات ثلاثة: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، وهذا المقصود والله أعلم.
إذاً: عندنا في هذه المسألة قول الصحابة، وصحة حديث عمرو بن حزم ، والآية بدلالة التنبيه والإشارة.
القول الثاني: جواز مس المصحف ولو على غير طهارة، وهو قول ابن حزم ، وهو أيضاً قول الشوكاني ، وقالوا: إنه لو صح الحديث فلا يفيد الطهارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر )، وكلمة طاهر تحتمل الطهارة من الشرك، وتحتمل الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وتحتمل الطهارة الحسية من النجاسة، وهذه المعاني الثلاث لا يمكن حملها على واحد منها إلا بدليل، ولا دليل يصار إليه فهو مجمل، ولا شك أن هذا القول ليس بشيء؛ لأننا نقول لهم: لا شك أن الفهم الذي فهمتموه يلزم منه أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات ولم يبلغ البلاغ المبين، وهذا لا يجوز، ولهذا تجد كلاماً عند بعض علماء الأصول بعيداً عن واقع السنة أحياناً، ولهذا يقول ابن القيم : إن بعض علماء الأصول أبعد عن فهم الأحاديث، حتى إن صغار أهل الحديث أعلم منهم بسبب أن الإنسان قد يفكر بالمسألة من غير تصور. فتقول: أليس الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أرسله إلى عمرو بن حزم فهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مراده، فإما أن يكون لم يفهم، وإما أن يكون قد فهم، فإن لم يكن قد فهم فيبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعله إماماً لقومه وهو لا يفهم، فيكون هذا القدح في النبوة وحاشا محمداً صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون قد فهم، فإما أن يكون فهماً سقيماً، وإما أن يكون فهماً صحيحاً، ويبعد أن يكون الصحابي قد فهم فهماً سقيماً، ولا بد أن يكون قد فهماً صحيحاً، وهذا هو المراد.
إذاً: يجب أن ننظر إلى كلام علماء الأصول حينما يتحدثون عن المجمل، فإنهم إذا سئلوا أحياناً قالوا: هذا لفظ مجمل، والمجمل يحتاج إلى دليل ولا دليل، فنقول: ولا دليل عندك، لكن ليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الغزالي : ليس ثمة لفظ مجمل لم يدل عليه دليل إلا وقت نزول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19]، فلو سكت عن قوله: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20-21] لكان مجملاً، فلما بين تبين، إذاً: المجمل في حق المجتهد، وليس في نفس النصوص الشرعية.
وعلى هذا فإن كلمة (طاهر) لفظ مشترك، وقد اختلف علماء الأصول في اللفظ المشترك المجرد، هل يمكن حمله على جميع معانيه، أم لا بد من حمل معنى واحد؟ فذهب الإمام الشافعي و أبو بكر الباقلاني ، ونسبه بعضهم إلى جمهور أهل الفقه إلى أنه يحمل على جميع معانيه ما لم يكن ثمة دليل يعارضه، ومعنى دليل يعارضه: مثل القرء، فإن القرء فيه تعارض طهر وحيض، فلا يمكن حمله على جميع معانيه، فإن أمكن حمله على جميع معانيه، فالأصل هو حمله على جميع معانيه، فلا يمس القرآن إلا طاهر من الطهارة الكبرى، وطاهر من الطهارة الصغرى، وطاهر الطهارة الحسية، وطاهر من الحدث الأكبر، فإن قال قائل: إن المقصود به الطهارة من الشرك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أرسل هذا الكتاب إلى عمرو بن حزم فإن أهل اليمن كانوا أهل شرك، فليس المقصود به الطهارة الصغرى والكبرى، هذا قاله الشوكاني ، والجواب عليه: أنه يبعد أن يكون المخاطب به الكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، فكيف ينهى عن سفره إلى أرض العدو، ثم يقول: لا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث المعنوي الذي هو الشرك، فالمقصود به خطاب أهل الإيمان، وإذا ثبت أنه خطاب لأهل الإيمان فهو قطعاً مقصود به الطهارة الشرعية، وهي النظافة والطهر، وهي تشمل الحسية وتشمل الحدث الأصغر والحدث الأكبر.
وعلى هذا فهذا المسألة واضحة بإذن الله، فلا يجوز أن يمس الإنسان القرآن إلا على طهارة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [21] | 2516 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [8] | 2428 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24] | 2328 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [14] | 2132 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [22] | 2118 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [15] | 2099 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [4] | 2095 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [26] | 2035 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23] | 2025 استماع |
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [12] | 1717 استماع |