العقول المعطلة


الحلقة مفرغة

الطهور مفتاح الصلاة، ولا يقبل صلاة أحد بغير طهور، ولقضاء الحاجة آداب وضوابط، منها أن يطلب المكان الخالي، ولا يكون المكان رخواً، وأن يقدم رجله اليسرى عند الدخول ورجله اليمنى عند الخروج، وأن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، وألا يستجمر بعظم ولا روث ولا ما فيه منفعة، وأن يقطع الاستجمار على وتر وغيرها.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، هو ربنا واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

رد الحق تقليداً للآباء

معاشر المؤمنين! إن منطق الجاهلية وأهلها هو: رد الحق إما لضعف الداعي إليه، أو لفقره، أو لقلة أعوانه وأنصاره، أو لأن أهل الباطل من أهل الجاهلية قد درجوا ومضوا على هذا الباطل وألفوا آباءهم وأجدادهم يفعلونه، وتلكم عقدة مرض كثير من المصرين على الذنوب والمعاصي، وعقدة مرض كثير من المتحمسين للبدع والمخالفات، وعقدة كثير من الذين لا يرغبون إصلاح أنفسهم وأوضاعهم، وهذا مرض قد بينه القرآن في غير ما موضع من كتاب الله، ولو تأمل أولئك المعاندون منطق الحق لعلموا وتيقنوا أن الحق أبلج والباطل لجلج، ولكنه كما قال ربنا عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170] يدعون إلى الله فيأبون، ويحتجون بما ألفوا عليه آباءهم أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] فأولئك يمتنعون عن قبول الحق بحجة ما درج عليه آباؤهم وأجدادهم.

قال ابن كثير : وإذا قيل لهؤلاء الكفرة: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال، قالوا: بل نتبع ما ألفينا ووجدنا عليه آباءنا، من عبادة الأصنام والأنداد، فقال ربنا عز وجل منكراً عليهم: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [البقرة:170] أي الذين يقتدون ويقتفون أثرهم أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] يعني: هم يصرون على ما وجدوا عليه الآباء، ولو كان آباؤهم ليس لهم عقلٌ ولا هداية.

ويقول عز وجل أيضاً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة:104] أولئك الذين إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وترك ما حرمه، قالوا: حسبنا ويكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد، أيكفيكم ما وجدتم عليه آباءكم حتى ولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يعقلونه ولا يهتدون إليه، فكيف تتبعونه إذاً؟!!

استدلالهم على فعل الفاحشة بفعل الآباء

وأخبث من هذا: أن بعضهم يفعل الفاحشة والمنكر ويصر عليها ويحتج على فعلها، بل ويستدل على جواز فعله بما وجد عليه آباءه وأهله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:28-29].

قال ابن كثير في معنى هذه الآية: وكانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثياب لبسوها، ويتأولون ذلك أنهم لا يطوفون في ثيابٍ عصوا الله فيها، وكانت قريش -وتسمى: الحمس- يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسياً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً ولم يعره أحمسيٌ ثوباً طاف عرياناً، وربما كانت المرأة من غير قريش تطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً يستره وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله     فما بدا منه فلا أحله

وأكثر ما كن النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئاً ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرعٍ منه، فأنكر ذلك عليهم ربنا عز وجل، وبين كذبه وما يدعون بقوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] فرد عليهم عز وجل بقوله: قُلْ أي: يا محمد إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] بل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النحل:90] إن الله لا يأمر بالفحشاء، إن هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة والله لا يأمر بمثل ذلك: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].

وإن العبرة في نصوص القرآن والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا أردنا أن نطبق هذه الآيات على واقعنا اليوم لوجدنا بعض المسلمين هداهم الله يفعلون بعض المنكرات، ويرتكبونها، ويصرون عليها، بحجة فعل آبائهم لها، بل ويستدلون بفعل آبائهم على جوازها وإباحتها.

كذلك الحال في كثير من المعاصي والمنكرات، والبدع والخرافات، بل وما وقع فيه الناس في كثير من العادات والأعراف، وخذ على سبيل المثال: بدع الموالد، وبدع الإسراء والمعراج، وبدع الهجرة، وكشف النساء وجوههن لغير المحارم، ومصافحة النساء للرجال في كثير من البلدان، ومخالطة الرجال لغير المحارم أيضاً، والإسراف في الولائم والحفلات والمناسبات، وكثير من العادات التي لا تجوز مما يصدق عليه أو يصنف في شأن العادات، أو العقائد أو غير ذلك، تجد أن الذي يفعلونه يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم.

إن الله عز وجل مقت أولئك وبين شأنهم فقال فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الحج:3] إذا أقيمت عليهم الحجة، ونصبت لهم المحجة، ووصف لهم الصراط، ودعوا إلى الهدى؛ يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21] لم يكن لهم حجة إلا اتباع آبائهم.

علاج المقلدين للآباء والأجداد

وخير علاج لهؤلاء المقلدين المصرين على التقليد هو حوارهم وردهم إلى العقل الصحيح؛ لأن العقل الصحيح لا يتعارض مع النقل الصريح، يقول الله عز وجل في شأن حوار إبراهيم لقومه: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:51-54] لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال ولذا قال: قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54] أي الكلام معكم كالكلام مع آبائكم.

والعجب يا عباد الله! في هذا الزمان الذي درس فيه كثير من الخلق وتعلموا، وفقهوا، ودرسوا ألواناً من العلوم، وفنوناً من التقنية، وأضراباً مما بلغت إليه البشرية في علوم الاختراعات والاتصالات والإلكترونيات، تجد الواحد منهم طبيباً أو مهندساً أو صيدلياً أو متخصصاً في أجهزة الحاسوب وهندسته؛ فإذا جاء الأمر مع شيء يتعلق بالآباء والأجداد، ألغى عقله الذي يحل به أعقد المعادلات واتبع طريقة الآباء والأجداد، إنها مصيبة عجيبة أن تجد من أولئك -الذين درسوا وتعلموا- إصرارهم على ما يفعله آباؤهم.

لو أن طائفة من المصرين على فعل الآباء والأجداد، من الأميين، والجهلة، من الذين لم يتعلموا فلربما يعذرون بشيء من الجهل، وتقوم عليهم الحجة بالبيان والدعوة، أما أن يُدْعى طائفة من الذين تعلموا ودرسوا أدق المعادلات، وأعقد المعاملات، وإذا جيء إلى حوارهم في أمر يتعلق بعادات أو أمر يدعون فيه إلى الدين، قالوا: وجدنا عليه آباءنا: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170].

معاشر المؤمنين! إن منطق الجاهلية وأهلها هو: رد الحق إما لضعف الداعي إليه، أو لفقره، أو لقلة أعوانه وأنصاره، أو لأن أهل الباطل من أهل الجاهلية قد درجوا ومضوا على هذا الباطل وألفوا آباءهم وأجدادهم يفعلونه، وتلكم عقدة مرض كثير من المصرين على الذنوب والمعاصي، وعقدة مرض كثير من المتحمسين للبدع والمخالفات، وعقدة كثير من الذين لا يرغبون إصلاح أنفسهم وأوضاعهم، وهذا مرض قد بينه القرآن في غير ما موضع من كتاب الله، ولو تأمل أولئك المعاندون منطق الحق لعلموا وتيقنوا أن الحق أبلج والباطل لجلج، ولكنه كما قال ربنا عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170] يدعون إلى الله فيأبون، ويحتجون بما ألفوا عليه آباءهم أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] فأولئك يمتنعون عن قبول الحق بحجة ما درج عليه آباؤهم وأجدادهم.

قال ابن كثير : وإذا قيل لهؤلاء الكفرة: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال، قالوا: بل نتبع ما ألفينا ووجدنا عليه آباءنا، من عبادة الأصنام والأنداد، فقال ربنا عز وجل منكراً عليهم: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ [البقرة:170] أي الذين يقتدون ويقتفون أثرهم أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170] يعني: هم يصرون على ما وجدوا عليه الآباء، ولو كان آباؤهم ليس لهم عقلٌ ولا هداية.

ويقول عز وجل أيضاً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة:104] أولئك الذين إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وترك ما حرمه، قالوا: حسبنا ويكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد، أيكفيكم ما وجدتم عليه آباءكم حتى ولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يعقلونه ولا يهتدون إليه، فكيف تتبعونه إذاً؟!!

وأخبث من هذا: أن بعضهم يفعل الفاحشة والمنكر ويصر عليها ويحتج على فعلها، بل ويستدل على جواز فعله بما وجد عليه آباءه وأهله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:28-29].

قال ابن كثير في معنى هذه الآية: وكانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثياب لبسوها، ويتأولون ذلك أنهم لا يطوفون في ثيابٍ عصوا الله فيها، وكانت قريش -وتسمى: الحمس- يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسياً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً ولم يعره أحمسيٌ ثوباً طاف عرياناً، وربما كانت المرأة من غير قريش تطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً يستره وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله     فما بدا منه فلا أحله

وأكثر ما كن النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئاً ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرعٍ منه، فأنكر ذلك عليهم ربنا عز وجل، وبين كذبه وما يدعون بقوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] فرد عليهم عز وجل بقوله: قُلْ أي: يا محمد إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] بل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النحل:90] إن الله لا يأمر بالفحشاء، إن هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة والله لا يأمر بمثل ذلك: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].

وإن العبرة في نصوص القرآن والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا أردنا أن نطبق هذه الآيات على واقعنا اليوم لوجدنا بعض المسلمين هداهم الله يفعلون بعض المنكرات، ويرتكبونها، ويصرون عليها، بحجة فعل آبائهم لها، بل ويستدلون بفعل آبائهم على جوازها وإباحتها.

كذلك الحال في كثير من المعاصي والمنكرات، والبدع والخرافات، بل وما وقع فيه الناس في كثير من العادات والأعراف، وخذ على سبيل المثال: بدع الموالد، وبدع الإسراء والمعراج، وبدع الهجرة، وكشف النساء وجوههن لغير المحارم، ومصافحة النساء للرجال في كثير من البلدان، ومخالطة الرجال لغير المحارم أيضاً، والإسراف في الولائم والحفلات والمناسبات، وكثير من العادات التي لا تجوز مما يصدق عليه أو يصنف في شأن العادات، أو العقائد أو غير ذلك، تجد أن الذي يفعلونه يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم.

إن الله عز وجل مقت أولئك وبين شأنهم فقال فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الحج:3] إذا أقيمت عليهم الحجة، ونصبت لهم المحجة، ووصف لهم الصراط، ودعوا إلى الهدى؛ يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21] لم يكن لهم حجة إلا اتباع آبائهم.

وخير علاج لهؤلاء المقلدين المصرين على التقليد هو حوارهم وردهم إلى العقل الصحيح؛ لأن العقل الصحيح لا يتعارض مع النقل الصريح، يقول الله عز وجل في شأن حوار إبراهيم لقومه: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:51-54] لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال ولذا قال: قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54] أي الكلام معكم كالكلام مع آبائكم.

والعجب يا عباد الله! في هذا الزمان الذي درس فيه كثير من الخلق وتعلموا، وفقهوا، ودرسوا ألواناً من العلوم، وفنوناً من التقنية، وأضراباً مما بلغت إليه البشرية في علوم الاختراعات والاتصالات والإلكترونيات، تجد الواحد منهم طبيباً أو مهندساً أو صيدلياً أو متخصصاً في أجهزة الحاسوب وهندسته؛ فإذا جاء الأمر مع شيء يتعلق بالآباء والأجداد، ألغى عقله الذي يحل به أعقد المعادلات واتبع طريقة الآباء والأجداد، إنها مصيبة عجيبة أن تجد من أولئك -الذين درسوا وتعلموا- إصرارهم على ما يفعله آباؤهم.

لو أن طائفة من المصرين على فعل الآباء والأجداد، من الأميين، والجهلة، من الذين لم يتعلموا فلربما يعذرون بشيء من الجهل، وتقوم عليهم الحجة بالبيان والدعوة، أما أن يُدْعى طائفة من الذين تعلموا ودرسوا أدق المعادلات، وأعقد المعاملات، وإذا جيء إلى حوارهم في أمر يتعلق بعادات أو أمر يدعون فيه إلى الدين، قالوا: وجدنا عليه آباءنا: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة:170].