بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم ربي أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم.

أما بعد: فقد شرعنا في كتاب الحيض، وقرأنا حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن حمنة بنت جحش .

وتكلمنا على الحديث وقلنا: إن أهل العلم اختلفوا في إسناده، والأقرب والله أعلم أن هذا الحديث لم يتفرد بحكم مستقل، وإن كان عبد الله بن محمد بن عقيل ممن يضعف في الحديث، ولكنه إذا أتى بما يوافق عليه غيره أو الثقات فإنه يقبل، ولأجل هذا قلنا: إن الإمام أحمد رحمه الله رجع إلى آخر الأمرين إلى حديث حمنة بنت جحش ، وأن الإمام البخاري رحمه الله له روايتان: مرة قال: حديث صحيح، كما نقل ذلك الترمذي ، ومرة قال: إن عبد الله بن محمد بن عقيل روايته عن إبراهيم بن محمد بن طلحة لا أدري أهي من قديم حديثه أم من حديثه.

يعني: هل هذه الرواية من القديم أو من الجديد؟ إن كان من الجديد لم يقبله، وإن كان من القديم قبله.

قال: وكان أحمد يقول: هو حديث صحيح، فهذا يدل على أن إسناد الحديث إن شاء الله لا بأس به، خاصة أنه لم يأت بما يتفرد به، ولا أقول: صحيح، إنما أقول: هو حسن في الجملة.

وأما مسألة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تجمع بين الصلاتين، فهذا الأقرب والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً بأن تغتسل، كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله، وهذه فائدة، وهي أن الإنسان والعالم قد يرى أن الحديث حسن، لكنه حسن في الجملة، فيأخذ بما يوافق القواعد العامة، وإن كان أصله لا يحتج به، وهذه الطريقة وجدت أن عامة أهل العلم -خاصة أهل الحديث- عليها.

ولهذا الإمام البخاري رحمه الله في كتاب أفعال العباد، عندما ذكر قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام قال: ( إن كلام الله يسمعه القريب، كما يسمعه البعيد )، قال البخاري : فدل ذلك على أن كلام الله كلام يليق بجلاله وعظمته، ليس ككلام المخلوق، فالمخلوق يفرق بين البعيد والقريب، فجعل البخاري هذه الرواية -وإن كان إسنادها ضعيفاً- تفرقة بين كلام الله وكلام المخلوق، وأن كلام الله ثابت أصلاً بالقرآن.

أما مسألة أن كلام الله غير كلام المخلوق، فهذا أمر مجمع عليه؛ لأن المخلوق لا يشابه خالقه، ولأن الله سبحانه وتعالى كامل الصفات، بخلاف المخلوق فإنه ممكن الوجود، ناقص الصفة ولو كانت صفة كمال، هذه قاعدة، وعلى هذا فهذا أمر تداوله الأئمة في القديم والحديث في الفروع وغيره.

وحينما نقول هذا فإنه لا ينبغي أن نقول: هذا يخالف القاعدة التي ثبتت عند أهل العلم: ألا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله بالأحاديث الصحيحة، كما نقل ذلك الإمام أحمد ، نعم هذا صحيح، ولا نخالف هذه القاعدة؛ لكن بيان المعنى الصحيح الثابت في الجملة بحديث ضعيف لا حرج فيه؛ ولهذا من قرأ كتاب الإمام أحمد في رده على الجهمية، وجد بعض الآثار عن الزهري ، وبعض الآثار المقطوعة، كيف أن أحمد احتج بها! كل هذا من أجل أن يبين لك: أن هذه الآثار تبين أصلاً ثابتاً عند السلف؛ ولهذا في قصة ( موسى عندما قال له: يا رب! أريد أن أكلمك قال: لن تستطيع أن تتحمل كلامي ) كما روى ذلك الزهري.

هذا حديث لا يصح، لكن الإمام أحمد ذكر هذا من باب أن كلام الله ليس ككلام المخلوق، والله أعلم.

إذا ثبت هذا فإن هذا الحديث الذي معنا فيه مسألة والحديث الذي بعده فيه مسألة.

قال الحافظ رحمه الله في كتاب الطهارة، باب الحيض: [ وعن عائشة رضي الله عنها، ( أن أم حبيبة بنت جحش شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي. فكانت تغتسل لكل صلاة ). رواه مسلم ، وفي رواية للبخاري : ( وتوضئي لكل صلاة ) وهي لـأبي داود وغيره من وجه آخر ].

تخريج حديث: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ...) ودرجته

هذا الحديث حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو هكذا عند مسلم ( أنها -أي أم حبيبة بنت جحش- شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي )، يقول الراوي: ( فكانت تغتسل لكل صلاة )، زاد مسلم في رواية الليث بن سعد قال: ( ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تغتسل كل صلاة، وإنما هذا شيء رأته هي )، وهذا يدل على أن رواية: (أمرها بأن تغتسل لكل صلاة)، فيها كلام كما سوف يأتي، وإلا فلو كانت تغتسل لكل صلاة، لا يلزم من فعلها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها.

وهذا الحديث يرويه الإمام مسلم من طريق الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها.

ورواها البخاري ؛ ولهذا قال: وفي رواية البخاري : ( وتوضئي لكل صلاة ) فقد رواها البخاري من طريق أبي معاوية قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قال عندما ذكر الحديث: قال أبي: ( ثم توضئي لكل صلاة )، وهذا البخاري رواه مرتين، مرة من غير رواية: قال أبي، ومرة فيها: قال أبي، وهذا يدل على أن البخاري لم يروها مرفوعة، وإنما رواها من قول عروة، وهكذا هي طريقة البخاري، أنه أحياناً يجزئ الحديث، فمرة يرويه موصولاً، ومرة يبين علته؛ كما جاء في طريقة البخاري في قصة المخالعة، حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يطلقها -وفي رواية- فطلقها تطليقة ) فزيادة ( فطلقها تطليقة ) ذكرها الحافظ وقال: رواه البخاري.

ويخطئ كثير من الفقهاء حينما يقول: والحديث رواه البخاري ؛ لأن البخاري لم يروه موصولاً، إنما قال: وقال خالد بن معدان عن عكرمة عن ابن عباس ، فيكون البخاري رواها معلقة، ورواها موصولة بطريق آخر عن عكرمة، فيكون البخاري رواها موصولة من مرسلة، فيكون رواه مرتين، وهذا مثله، فإن البخاري رحمه الله بين أن رواية أبي معاوية إنما رواها من قول عروة ، فدل ذلك على أن الأمر بالوضوء لكل صلاة، إنما هو من قول عروة ، ولم يروه عن البخاري موصولاً.

نعم، رواها أبو داود ولهذا قال: (وهي عند أبي داود وغيره من وجه آخر).

أولاً: المستحاضة التي جاءت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال مسلم : هي أم حبيبة بنت جحش، وقال إبراهيم الحربي رحمه الله: ليست هي أم حبيبة ، وإنما الصحيح أن المستحاضة هي أم حبيب واسمها حبيبة بنت جحش .

قال الدارقطني رحمه الله: وقول إبراهيم صحيح، وكان من أعلم الناس بهذا الشأن، أي: بأسماء الرجال والرواة، فأسماء الرجال والرواة فن آخر غير فن العلل والروايات، وكان الإمام شعبة رحمه الله آية في معرفة الإسناد والاتصال والضعف، إلا أنه رحمه الله يخطئ في أسماء الرجال، ولهذا يقولون: إذا اختلف شعبة و الثوري ، فالقول قول الثوري ؛ لأن شعبة يخطئ في الرجال، فيقول: عن حجر بن العنبس عن أبي الحجر بن العنبس عن وائل بن حجر، ويهم في بعض الرجال فهذا الحديث الصحيح ورد فيه أنها أم حبيب وهي حبيبة بنت جحش ، لكن تداول الناس والعلماء على أنها أم حبيبة ، والخطب في هذا يسير.

أما الأمر بالاغتسال فلم يروها مسلم في صحيحه، ولكنه روى أنه من فعلها هي؛ ولهذا قال الليث بن سعد : ولم يذكر ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة وإنما هو شيء رأته هي، ورواها أهل السنن من قول ابن شهاب نفسه: أنه لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال؛ ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: ولا أشك إن شاء الله أن غسلها كان تطوعاً غير ما أمرت به، وذلك واسع لها، فالأمر في هذا واسع.

وأما ما رواه الإمام أحمد و أبو داود و ابن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك، فقد قال الإمام ابن رجب رحمه الله: فأما الذين لم يرفعوه فإنهم ثقات حفاظ، وأما من رفعه، فرواه ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة .

إذاً: الثقات كـ الليث بن سعد وأصحاب الزهري لم يرفعوه، وإنما الذي رفعه هو محمد بن إسحاق ، وتابعه على ذلك غيره، وهو سليمان بن كثير ، وروايتهما عن الزهري مضطربة خاصة إذا خالفا الثقات.

و ابن حزم رحمه الله قوى الأمر بالاغتسال، والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بالاغتسال؛ ولهذا قال الإمام ابن رجب و ابن إسحاق و سليمان بن كثير: في روايتهما عن الزهري اضطراب كثير.

وهذه فائدة لطالب العلم أن يعلم أن الرجل قد يجزأ حديثه، وهذه الطريقة تجزئة الراوي للحديث إنما عرفت أساساً بالتفصيل هذا عن طريق عبد الرحمن المعلمي رحمه الله، ثم سار عليها العلماء وطلبة العلم إلى يومنا هذا، وإن كانوا يقولون: هو ثقة إلا في روايته عن فلان، لكنها خفيت هذه السنة وهذه الطريقة لم يشر إليها الحافظ إلا يسيراً كما في رواية سماك بن حرب قال الحافظ: ما روى عنه سفيان و شعبة عن عكرمة فإنها تقبل، وما لم يرويا عنه لم تقبل، وزاد يعقوب بن سفيان أن رواية أبي الأحوص عن سماك عن عكرمة مقبولة، وإلا فإن النسائي لم يقبل رواية سماك عن عكرمة وقال: وكان إذا لقن تلقن، ومعنى أنه إذا لقن تلقن قالوا له: هذا عن فلان، يقول: نعم عن فلان؛ لأنه ما يتثبت، فـ عبد الرحمن المعلمي بدأ يجزئ الرواة، فـ محمد بن إسحاق تجد كلام المتأخرين إنما يذكرونه على أنه حسن الحديث إذا صرح بالسماع فقط، والأقرب والله أعلم تجزئة حديثه، فإذا روى محمد بن إسحاق في المغازي والسير وصرح بالتحديث، فهو ثقة حجة، وإذا روى في المغازي والسير ولم يصرح بالتحديث، فالأقرب والله أعلم أنها محتملة السماع، وإذا روى أحاديث الأحكام وصرح بالتحديث ولم يأت بما ينكر فهو حسن الحديث، وإذا روى أحاديث الأحكام ولو صرح بالتحديث وأتى بما ينكر، فلا يقبل حديثه، بل يكون شاذاً؛ ولهذا حكم الأئمة في روايته لحديث جابر أنه قال: ( ثم رأيت قبل أن يقبض بعام مستقبل القبلة ) فهذا حديث ضعيف، وإن صرح محمد بن إسحاق بالتحديث.

وما رواه محمد بن إسحاق في الأحكام ولم يصرح بالسماع، فإن حديثه فيه ضعف، وإن كان يروي أحاديث الأحكام، ولم يصرح بالسماع ويأتي بما ينكر، فيكون حديثه ضعيفاً.

ومحمد بن إسحاق إمام من أئمة المسلمين.

وسوف نأتي إلى محمد بن إسحاق في حديث آخر، وأنه قد اتهم بالكذب كما سوف يأتي إن شاء الله، لكن المهم أن نعلم أن الأمر بالاغتسال لم يصح فيه حديث.

أما رواية الوضوء، فقد مر أن رواية البخاري : ( وتوضئي لكل صلاة ) الصحيح أنها من قول عروة ورواها أبو داود و النسائي من طرق:

الطريق الأول: أخرجها أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني ، و حماد بن زيد روايته عن أيوب ثقة إلا في هذا الحديث، وإن تابعه حماد بن سلمة فإن هناك شبه إجماع أن هذا وهم من حماد بن زيد ، يعني: أوثق الناس في أيوب هو حماد بن زيد، فما بالك إذا تابعه غيره وهو حماد بن سلمة ، ومع ذلك حكم الأئمة بأن هذه الرواية ضعيفة، مما يدلك على أن الأئمة رحمهم الله، وإن رأوا أن الحديث ظاهره الصحة فإنهم لا يقبلونه، ومع ذلك لم يتفرد حماد عن أيوب بهذا الإسناد، فقد رواه أبو داود من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اغتسلي لكل صلاة وصلي ) وهذا منكر؛ لأن حبيب بن أبي ثابت لا يعول عليه إذا لم يصرح بالسماع، فدل ذلك على أن رواية الاغتسال كلها ضعيفة، والصحيح أن الأمر بالاغتسال إنما هو من قول عائشة ، كما يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتاب فتح الباري.

اغتسال المستحاضة لكل صلاة

المسألة الأولى: حكم الاغتسال مع الوضوء للمستحاضة.

الراجح هو مذهب الأئمة الأربعة أن ذلك لا يجب، فإن اغتسلت فلا شك أن الاغتسال نور على نور، ولكنه يجب مع الاغتسال الوضوء إذا كانت محدثة غير الاستحاضة، هذا مذهب الأئمة الأربعة في الاغتسال.

القول الثاني: أنها يستحب لها أن تغتسل مرتين أو ثلاثاً يومياً بحيث تجمع الظهر والعصر جمع تأخير وتغتسل، وتجمع المغرب والعشاء جمع تأخير وتغتسل، وتغتسل بعد ذلك للفجر، وهذا مروي عن بعض السلف، كما ذكر ذلك ابن المنذر و النووي وغيرهما.

والقول الثالث: أنها تغتسل لكل صلاة، وهذا مروي عن بعض السلف ولا يصح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وضوء المستحاضة لكل صلاة

المسألة الثانية: مسألة الوضوء، أولاً: مر معنا أن رواية الوضوء الصحيح أنها من قول عروة كما رواها البخاري ورواها أحمد و النسائي و أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني ، وقد أنكرها كثير من أهل العلم، وإن كان حماد بن زيد تابعه عليه حماد بن سلمة ، ومع ذلك فقد اختلف أهل العلم في حكم الوضوء لكل صلاة، في من حدثه دائم، كالمستحاضة، ومن به سلس البول، أو من به حدث الضراط والريح على قولين مشهورين:

القول الأول: هو مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة: أنها تتوضأ على خلاف بينهم، والقول الثاني: أن الوضوء في حقها مستحب وليس بواجب، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك ، وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية في بعض أقواله، وهو رأي شيخنا محمد بن عثيمين .

واستدل مالك على ما ذهب إليه بأمور:

الأول: أنه لم يصح حديث بالأمر بالوضوء، الثاني: لأن حدثها قائم، فلا ينفع وضوءها إذا كان حدثها سوف يستمر، وهذا الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد، وهو -كما قلنا- اختيار ابن تيمية في أحد أقواله، وهو رأي شيخنا محمد بن عثيمين وقد رجع إليه في آخر فتاويه.

ويقول شيخنا محمد : وإنما رجعت إلى ذلك؛ لأنني حينما قرأت كلام الحافظ ابن رجب في فتح الباري: أنه ضعف هذه الرواية، فذهبت إلى مذهب مالك . وقد أشار إلى هذا في مجالسه وفي اللقاء المفتوح.

وهذا القول قول قوي، وإن كان القول الأول أحوط؛ لأن مما يدل على قوة هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الحائض بأكثر من أن قال: ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي )، ومثلها يجهل؛ لأنها لما كانت تظن أن مجرد الدم حيض فتركت الصلاة؛ فدل ذلك على أن مثلها ممن يجهل، فلما لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أن أمرها بأن تغتسل عند آخر حيضها؛ دل ذلك على أنها لم تؤمر بأكثر من ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

فالمعلوم أن من أحدث يجب أن يتوضأ، لكن إذا كان الحدث دائماً، ما فائدة أن تتوضأ مع أنه مستمر؟ ولهذا تقول عائشة : ( كانت إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تعتكف معه، وكانت تصلي والطست تحتها ).

أما أدلة القول الأول على أنها تتوضأ لكل صلاة فهي:

أولاً: صحة هذه الرواية، وأن حماد بن زيد قد تابعه حماد بن سلمة ، وقد قلنا: إن الراجح أن هذه الرواية ضعيفة.

الدليل الثاني: قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى أمر كل من أراد أن يصلي إذا دخل الوقت أن يتوضأ بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، قالوا: فهذا الأمر لمن أحدث ومن لم يحدث، فخرج من لم يحدث بحديث بريدة ( عمداً صنعته يا عمر )، فبقي كل من بقي على حدثه يؤمر بالوضوء، وهذا أشار إليه الإمام الشافعي في كتاب الأم حيث قال: ولا أعلم أحداً أمره بالوضوء مع الطهارة، إلا ما يحكى عن عكرمة ، وأشار إلى ذلك القرطبي في جامع الأحكام: وقد أجمعوا على أن من أحدث؛ وجب عليه أن يتوضأ.

وهذا القول قول قوي وهو أحوط، إلا أني أقول: لم يكن واجباً؛ لأن أصحاب هذا القول قد اختلفوا هل يتوضأ لكل صلاة فريضة، أم يتوضأ لدخول وقت كل صلاة فريضة؟

القول الأول: ذهب أبو حنيفة و أحمد إلى أنه يتوضأ لدخول وقت كل صلاة فريضة، قالوا: فإذا توضأ لدخول وقت كل صلاة فريضة، فلا ضير بعد ذلك أن يصلي ما فرض الله عليه أو ما تطوع به، وإذا خرج الوقت وجب عليه أن يعيد وضوءه.

القول الثاني: ذهب إليه الشافعي وهو أنه أمره أن يتوضأ لكل فريضة، فإذا أراد أن يتوضأ لفريضة، جاز له أن يصلي بما شاء من تطوع، فإذا أراد أن يصلي فريضة ثانية فلا بد أن يتوضأ.

وقد رد ابن حزم على هذا القول فقال: ولم يوجد في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً يتوضأ فيؤمر بصلاة التطوع ولا يصح له أن يصلي به الفرض، وهذا القول قوي أنه لا يؤمر.

وإذا كان هذا القول قوياً، فإن الأمر بالوضوء لكل صلاة على قول الشافعي يشكل فيه ما إذا أراد أن يصلي الجمعة وبه حدث دائم، وقلنا: إن الراجح أن وقت الجمعة يدخل بعد الزوال، فإذا كان قد جاء قبل الزوال ثم حضر الإمام؛ فيلزمه أن يتوضأ بعد الزوال، وهذا مما يشق؛ ولهذا القول بأن هذا القول أحوط سواء لدخول وقت كل صلاة أو لوقت كل فريضة كله جائز، ولكن لا نلزمه بذلك؛ لأن المسألة الحقيقة مشكلة جداً، وأنا كنت أقول بوجوب الوضوء لكل صلاة أو لدخول وقت كل صلاة، لأن المقصود الوضوء، ولما لم يتبين لي الأمر بالوضوء لكل فريضة أم لدخول وقت الصلاة، فإن الشارع لا يوجب أمراً مجملاً، وهذه قاعدة: أجمع أهل العلم على أن المجمل لا يعمل به، وهذا الأمر مجمل، أنه مأمور بالوضوء؛ لأنه أحدث، لكن هل تأمرونه بأن يتوضأ لكل صلاة، أم تأمرونه بأن يتوضأ لدخول وقت كل صلاة؟ وكلنا نجمع على أن من أحدث وجب عليه أن يتوضأ، هذا الأمر معلوم، لكن تفصيله مجمل.

والقاعدة في الشرع: أن المجمل لا يعمل به ولا يأمر الشارع بمجمل، فهذا الذي جعلنا نقول: قول الإمام مالك قوي. أما أقوى دليل لأصحاب القول الأول أنه أحدث، والقاعدة: أن الله ( لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، لكن المشكل أن هذا الأمر كيفية العمل به مجملة، فهل يتوضأ لدخول وقت كل صلاة -ويشكل في ذلك الجمعة- أو يتوضأ لكل فريضة؟ فدل ذلك على أن مثل هذه الأشياء مما هي مجملة، فلا يأمر الشارع بأمر تطبيقه مجمل؛ لأن القاعدة: أن المجمل لا يعمل به، فدل ذلك على أن هذا ليس بمأمور شرعاً به، وإن كان الوضوء حسن للآية، هذا أحسن ما وجدنا به.

وأنا أقول: هذه المناقشة لم أجد أحداً من أهل العلم قال بها، ولكنها بعد التأمل والتحرير قلت: هذا من المجمل؛ لأنه لو لم يرد فيه حديث، فإن القول بالوضوء قوي؛ لأنه أحدث، ومن أحدث يتوضأ، لكن أمره بالوضوء مجمل، هل يتوضأ لكل صلاة، أم يتوضأ لدخول وقت كل صلاة؟ ولا يصح أن نقول: يتوضأ لدخول وقت كل صلاة إذا كان ممكناً، ويتوضأ لكل فريضة إذا كان ممكناً، لأن هذا تلفيق بين القولين.

إذاً مذهب مالك : أن الوضوء لأجل الحدث الدائم ليس بناقض، فـمالك يقول: هذا الحدث ليس بحدث؛ لأنه لما كان مستمراً خرج من أن يكون على الوجه المعتاد؛ فدل على أنه ليس بحدث، وهذا هو مذهب مالك ، أما أن نقول: إنه يجب أن يتوضأ ثم لا نجزم، وليس عندنا حديث يدل على أنه يتوضأ لكل صلاة، أو لدخول وقت كل صلاة، فهذا المشكل، ورأيت بعض أهل العلم من خفف في القولين، وأرى أن التخفيف مشكل؛ لأن التخفيف تلفيق بين القولين، من حيث ما الذي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم به؟ وأي الدين الذي تؤمر به؟ مع أن هذا من المشقة، يشكل ذلك على كثير من النساء اللاتي يذهبن إلى البراري أو يذهبن إلى العمل، فإنه يشق عليهن ذلك مشقةً غير معتادة؛ ولهذا قلت: إن القول بالوضوء أحوط إذا كان الأمر ممكناً، وإلا فإن الإنسان لا يؤمر خاصة يوم الجمعة بأن يخرج، وقد جاء المسجد مبكراً، والله أعلم.

على كل حال المسألة البحث فيها قائم، وقد سبقنا فيها من هم أعلم منا، ولا نكاد نجتمع.

مدة أقل الحيض

من المسائل أيضاً: استدل بهذا الحديث بعض أهل العلم، كما أشار إلى ذلك ابن المنذر و النووي ، واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله على أنه ليس للحيض حد في أقله ولا حد في أكثره، ولا حد في الطهر بين الحيضتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق بالحيض أحكاماً حال وجوده، ورفعها حال رفعه، فقال: ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك )، وهذا القول من حيث النظر قول قوي.

ويشكل عليه رواية: ( قدر ما كانت تحبسك حيضتك )؛ لأن التقدير هنا لا بد فيه من حد، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: امكثي قدر ما كان الدم موجوداً؛ بل قال: ( قدر ما كانت تحبسك حيضتك )، فدل ذلك على أن هذا مما يقدر بالتقدير، والتقدير لا علاقة له بالوصف الذي هو وصف الدم، فالعادة شيء، والوصف شيء آخر، دم أبيض، دم أحمر، دم كذا هذا وصف آخر، فعلقها النبي صلى الله عليه وسلم على التحديد التي اعتادت عليه؛ ولهذا القول: بأنه ليس هناك حد مشكل جداً، فإذا كانت المرأة لها عادة فكيف يقال لها: العبرة بوجود الدم، هذا يشكل عليها إشكالاً كبيراً.

ولأجل هذا اختلف العلماء في أقل الحيض على أقوال:

القول الأول: أقل الحيض يوم وليلة، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم من الشافعية والحنابلة.

والقول الثاني: أن أقل الحيض ثلاثة أيام، وهذا مذهب أبي حنيفة .

القول الثالث: وهو قول مالك : أن أقل الحيض ولو ثجة يعني: لو دم نزل.

واختار أبو العباس بن تيمية أنه ليس لأقل الحيض حد محدود، وأنت ترى أنه ليس ثمة حديث ثابت في هذا الباب من حيث التحديد إلا شيئاً واحداً، كما قلناه في القاعدة: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث حمنة بنت جحش : ( تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً كما تحيض النساء )، فدل ذلك: على أن للنساء حد اعتدن عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: ( قدر ما كانت تحبسك حيضتك ).

والعادة محكمة، وهنا العادة أننا لم نجد أن الحيض المعتاد يكون أقل من يوم وليلة في الجملة، فمن خالفت عادتها -عادة النساء- في أقل من يوم وليلة، فإننا نقول: لا بد أن نعلم حقيقة حيضها، فإن اعتادت أن يأتيها أقل من يوم وليلة؛ فإن هذه صارت هكذا عادتها، وإلا فإن الأصل أن المرأة لا تحيض أقل من يوم وليلة، وهذا القول أظهر، وهو جمع بين الأقوال.

إذاً ما هو أقل الحيض؟ الراجح كما هو مذهب أحمد و الشافعي : أن أقل الحيض في العادة يوم وليلة، فمن أتاها الدم أقل من ذلك؛ فالراجح أنها لا تعتد به، إلا إن اعتادت ذلك، يعني: يأتيها نصف يوم ثم يرتفع وتطهر بعد ذلك، فيكون هذا مع الاستمرار هو عادتها، أما إن كانت لها عادة ثم جاءها الدم نصف يوم أو ثلاثة أيام، فإننا نقول: لا تعتبره شيئاً، وهذا فيه فائدة عند النساء، فالمرأة أحياناً بمجرد تبولها يخرج قطرات من الدم، فلو قيل بمذهب مالك لكانت بذلك حائضاً، وهذا مشكل، ولو كان مالك يرى أنه أقل الحيض أو غير ذلك، لكن الراجح: أن أقل الحيض يوم وليلة إلا من كانت عادتها أقل من ذلك ثم تطهر بعد ذلك، فتكون هذه حيضها قد خالفت عادة النساء.

وأنتم تعلمون أنه لا تعول على عادة النساء من كان لها عادة، أما من ليس لها عادة فإنها تعتاد بعادة النساء، وعادة النساء في الجملة لا تقل عن يوم وليلة، فإن أتانا شخص وقال: ثبت أن المرأة تحيض أقل من يوم وليلة، وهذا يدل على أنه ليس هناك تحديداً لأقل الحيض، نقول: لا، هذا يوم وليلة أقل الحيض وهو عادة غالب النساء، فمن جاءها الحيض أقل من ذلك واعتادت صار هو حيضها، والله أعلم.

إذاً فالراجح: أن أقل الحيض عادة عند غالب النساء يوم وليلة، فمن كان يأتيها الدم المعتاد أقل من ذلك واستمرت على ذلك فيكون هو أقل الحيض، إذاً ما يمكن أن يصير للمرأة عادتين، خمسة أيام ثم بعد في أثناء الحيض يأتيها نصف يوم؟ نقول: لا تعتد به؛ لأنها لا تجمع المرأة عادتين، هذا القول أحوط

هذا الحديث حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو هكذا عند مسلم ( أنها -أي أم حبيبة بنت جحش- شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي )، يقول الراوي: ( فكانت تغتسل لكل صلاة )، زاد مسلم في رواية الليث بن سعد قال: ( ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تغتسل كل صلاة، وإنما هذا شيء رأته هي )، وهذا يدل على أن رواية: (أمرها بأن تغتسل لكل صلاة)، فيها كلام كما سوف يأتي، وإلا فلو كانت تغتسل لكل صلاة، لا يلزم من فعلها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرها.

وهذا الحديث يرويه الإمام مسلم من طريق الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها.

ورواها البخاري ؛ ولهذا قال: وفي رواية البخاري : ( وتوضئي لكل صلاة ) فقد رواها البخاري من طريق أبي معاوية قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قال عندما ذكر الحديث: قال أبي: ( ثم توضئي لكل صلاة )، وهذا البخاري رواه مرتين، مرة من غير رواية: قال أبي، ومرة فيها: قال أبي، وهذا يدل على أن البخاري لم يروها مرفوعة، وإنما رواها من قول عروة، وهكذا هي طريقة البخاري، أنه أحياناً يجزئ الحديث، فمرة يرويه موصولاً، ومرة يبين علته؛ كما جاء في طريقة البخاري في قصة المخالعة، حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يطلقها -وفي رواية- فطلقها تطليقة ) فزيادة ( فطلقها تطليقة ) ذكرها الحافظ وقال: رواه البخاري.

ويخطئ كثير من الفقهاء حينما يقول: والحديث رواه البخاري ؛ لأن البخاري لم يروه موصولاً، إنما قال: وقال خالد بن معدان عن عكرمة عن ابن عباس ، فيكون البخاري رواها معلقة، ورواها موصولة بطريق آخر عن عكرمة، فيكون البخاري رواها موصولة من مرسلة، فيكون رواه مرتين، وهذا مثله، فإن البخاري رحمه الله بين أن رواية أبي معاوية إنما رواها من قول عروة ، فدل ذلك على أن الأمر بالوضوء لكل صلاة، إنما هو من قول عروة ، ولم يروه عن البخاري موصولاً.

نعم، رواها أبو داود ولهذا قال: (وهي عند أبي داود وغيره من وجه آخر).

أولاً: المستحاضة التي جاءت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال مسلم : هي أم حبيبة بنت جحش، وقال إبراهيم الحربي رحمه الله: ليست هي أم حبيبة ، وإنما الصحيح أن المستحاضة هي أم حبيب واسمها حبيبة بنت جحش .

قال الدارقطني رحمه الله: وقول إبراهيم صحيح، وكان من أعلم الناس بهذا الشأن، أي: بأسماء الرجال والرواة، فأسماء الرجال والرواة فن آخر غير فن العلل والروايات، وكان الإمام شعبة رحمه الله آية في معرفة الإسناد والاتصال والضعف، إلا أنه رحمه الله يخطئ في أسماء الرجال، ولهذا يقولون: إذا اختلف شعبة و الثوري ، فالقول قول الثوري ؛ لأن شعبة يخطئ في الرجال، فيقول: عن حجر بن العنبس عن أبي الحجر بن العنبس عن وائل بن حجر، ويهم في بعض الرجال فهذا الحديث الصحيح ورد فيه أنها أم حبيب وهي حبيبة بنت جحش ، لكن تداول الناس والعلماء على أنها أم حبيبة ، والخطب في هذا يسير.

أما الأمر بالاغتسال فلم يروها مسلم في صحيحه، ولكنه روى أنه من فعلها هي؛ ولهذا قال الليث بن سعد : ولم يذكر ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة وإنما هو شيء رأته هي، ورواها أهل السنن من قول ابن شهاب نفسه: أنه لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال؛ ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: ولا أشك إن شاء الله أن غسلها كان تطوعاً غير ما أمرت به، وذلك واسع لها، فالأمر في هذا واسع.

وأما ما رواه الإمام أحمد و أبو داود و ابن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك، فقد قال الإمام ابن رجب رحمه الله: فأما الذين لم يرفعوه فإنهم ثقات حفاظ، وأما من رفعه، فرواه ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة .

إذاً: الثقات كـ الليث بن سعد وأصحاب الزهري لم يرفعوه، وإنما الذي رفعه هو محمد بن إسحاق ، وتابعه على ذلك غيره، وهو سليمان بن كثير ، وروايتهما عن الزهري مضطربة خاصة إذا خالفا الثقات.

و ابن حزم رحمه الله قوى الأمر بالاغتسال، والصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بالاغتسال؛ ولهذا قال الإمام ابن رجب و ابن إسحاق و سليمان بن كثير: في روايتهما عن الزهري اضطراب كثير.

وهذه فائدة لطالب العلم أن يعلم أن الرجل قد يجزأ حديثه، وهذه الطريقة تجزئة الراوي للحديث إنما عرفت أساساً بالتفصيل هذا عن طريق عبد الرحمن المعلمي رحمه الله، ثم سار عليها العلماء وطلبة العلم إلى يومنا هذا، وإن كانوا يقولون: هو ثقة إلا في روايته عن فلان، لكنها خفيت هذه السنة وهذه الطريقة لم يشر إليها الحافظ إلا يسيراً كما في رواية سماك بن حرب قال الحافظ: ما روى عنه سفيان و شعبة عن عكرمة فإنها تقبل، وما لم يرويا عنه لم تقبل، وزاد يعقوب بن سفيان أن رواية أبي الأحوص عن سماك عن عكرمة مقبولة، وإلا فإن النسائي لم يقبل رواية سماك عن عكرمة وقال: وكان إذا لقن تلقن، ومعنى أنه إذا لقن تلقن قالوا له: هذا عن فلان، يقول: نعم عن فلان؛ لأنه ما يتثبت، فـ عبد الرحمن المعلمي بدأ يجزئ الرواة، فـ محمد بن إسحاق تجد كلام المتأخرين إنما يذكرونه على أنه حسن الحديث إذا صرح بالسماع فقط، والأقرب والله أعلم تجزئة حديثه، فإذا روى محمد بن إسحاق في المغازي والسير وصرح بالتحديث، فهو ثقة حجة، وإذا روى في المغازي والسير ولم يصرح بالتحديث، فالأقرب والله أعلم أنها محتملة السماع، وإذا روى أحاديث الأحكام وصرح بالتحديث ولم يأت بما ينكر فهو حسن الحديث، وإذا روى أحاديث الأحكام ولو صرح بالتحديث وأتى بما ينكر، فلا يقبل حديثه، بل يكون شاذاً؛ ولهذا حكم الأئمة في روايته لحديث جابر أنه قال: ( ثم رأيت قبل أن يقبض بعام مستقبل القبلة ) فهذا حديث ضعيف، وإن صرح محمد بن إسحاق بالتحديث.

وما رواه محمد بن إسحاق في الأحكام ولم يصرح بالسماع، فإن حديثه فيه ضعف، وإن كان يروي أحاديث الأحكام، ولم يصرح بالسماع ويأتي بما ينكر، فيكون حديثه ضعيفاً.

ومحمد بن إسحاق إمام من أئمة المسلمين.

وسوف نأتي إلى محمد بن إسحاق في حديث آخر، وأنه قد اتهم بالكذب كما سوف يأتي إن شاء الله، لكن المهم أن نعلم أن الأمر بالاغتسال لم يصح فيه حديث.

أما رواية الوضوء، فقد مر أن رواية البخاري : ( وتوضئي لكل صلاة ) الصحيح أنها من قول عروة ورواها أبو داود و النسائي من طرق:

الطريق الأول: أخرجها أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني ، و حماد بن زيد روايته عن أيوب ثقة إلا في هذا الحديث، وإن تابعه حماد بن سلمة فإن هناك شبه إجماع أن هذا وهم من حماد بن زيد ، يعني: أوثق الناس في أيوب هو حماد بن زيد، فما بالك إذا تابعه غيره وهو حماد بن سلمة ، ومع ذلك حكم الأئمة بأن هذه الرواية ضعيفة، مما يدلك على أن الأئمة رحمهم الله، وإن رأوا أن الحديث ظاهره الصحة فإنهم لا يقبلونه، ومع ذلك لم يتفرد حماد عن أيوب بهذا الإسناد، فقد رواه أبو داود من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اغتسلي لكل صلاة وصلي ) وهذا منكر؛ لأن حبيب بن أبي ثابت لا يعول عليه إذا لم يصرح بالسماع، فدل ذلك على أن رواية الاغتسال كلها ضعيفة، والصحيح أن الأمر بالاغتسال إنما هو من قول عائشة ، كما يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتاب فتح الباري.

المسألة الأولى: حكم الاغتسال مع الوضوء للمستحاضة.

الراجح هو مذهب الأئمة الأربعة أن ذلك لا يجب، فإن اغتسلت فلا شك أن الاغتسال نور على نور، ولكنه يجب مع الاغتسال الوضوء إذا كانت محدثة غير الاستحاضة، هذا مذهب الأئمة الأربعة في الاغتسال.

القول الثاني: أنها يستحب لها أن تغتسل مرتين أو ثلاثاً يومياً بحيث تجمع الظهر والعصر جمع تأخير وتغتسل، وتجمع المغرب والعشاء جمع تأخير وتغتسل، وتغتسل بعد ذلك للفجر، وهذا مروي عن بعض السلف، كما ذكر ذلك ابن المنذر و النووي وغيرهما.

والقول الثالث: أنها تغتسل لكل صلاة، وهذا مروي عن بعض السلف ولا يصح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.