بلوغ المرام - كتاب الطهارة [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا يشريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علماً وعملاً يا كريم.

وبعد: فنسأله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الرشد والصواب! وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين! ولا إلى أحد من خلقه.

وقد وصلنا إلى الحديث العاشر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طهور إناء أحدكم... ).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتاب بلوغ المرام: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب ) أخرجه مسلم، وفي لفظ له: ( فليرقه )، و للترمذي : ( أخراهن أو أولاهن بالتراب ) ].

تخريج حديث: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب...) والروايات الواردة فيه

هذا الحديث كما يقول المصنف (أخرجه مسلم )، يعني: أخرجه مسلم في صحيحه، وقد أخرجه مسلم من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث روي عن أبي هريرة من طرق تصل إلى العشر، إلا أن محمد بن سيرين تفرد بهذا الحديث عن أبي هريرة بذكر التراب؛ لأنه قال: ( أولاهن بالتراب ).

والحديث رواه عن أبي هريرة خلق كثير يصلون العشرة، منهم الأعرج و أبو صالح و أبو رزين وغيرهم كثير كثير، كلهم لم يذكر لفظة التراب.

وقد اختلف أهل العلم في صحة هذه الرواية، فقال بعضهم: إن الرواية بهذه الزيادة صحيحة، قالوا: لأن الحديث رواه مسلم في صحيحه، من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، وأصح الرجال عن محمد بن سيرين هو هشام بن حسان فدل ذلك على أن هشام مع كثرة ملازمته لـمحمد بن سيرين فإن الرواية حينئذ تكون صحيحة.

ومن المعلوم أن الحديث رواه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة ، إلا أن البخاري لم يذكر لفظة التراب، والحديث رواه البخاري و مسلم بلفظ: ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )، وكذا رواه مالك في موطئه، فدل على أن هذه اللفظة تفرد بها محمد بن سيرين .

وهل صحيح أن هشام بن حسان تفرد بالرواية عن محمد بن سيرين في هذا؟ الواقع أن أيوب السختياني روى هذا الحديث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وذكر فيه التراب، إلا أن بعض أهل الحديث رأوا أن أيوب السختياني اختلفت الرواية عنه؛ فرواها حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلا ذكر التراب، ورواها بعضهم عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة بذكر التراب.

وهذا من المعلوم عند أهل الحديث كـالنسائي أن رواية حماد بن زيد عن أيوب أصح من رواية غيره، وإن كان حماد بن زيد قد أخطأ في بعض الأحاديث مثل زيادة: ( اغسل ذكرك وأنثييك )، رواها حماد بن زيد عن أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه، وقالوا: أن لفظة (أنثييك) تفرد بها حماد بن زيد ، فهذا يدلك على أن الراوي مهما بلغ من العلم، ومهما بلغ من الحفظ، ومهما بلغ من الاستحضار، إلا أنه يهم بكثرة محفوظاته؛ ولهذا تجدون أن أكثر الذين يحفظون يقعون في الخطأ، وأما الذين حفظهم قليل فإنهم ربما لا يخطئون، ولهذا تجدون أن الضعفاء ربما لم نعرف عن أحاديثهم إلا عشرة، ومع ذلك حكم الأئمة بأنهم ضعفاء؛ لأنه أخطأ في حديثين أو ثلاثة، فثلاثة أحاديث مع قلة مروياته حكم الأئمة بأن أكثر أحاديثه الوهم، لكن إذا جاءك مثل هشام بن حسان أو جاءك مثل أيوب السختياني أو جاءك مثل حماد بن زيد ، وقد رووا أحاديث كثيرة عن الأئمة، فإذا وهم الواحد بحديث أو حديثين أو عشرة أو بمقدار الأصابع فإنها لا تعد شيئاً، ولأجل هذا وجدنا من الأئمة من كان مع عظم حفظه وسعة محفوظاته لا يحدث إلا بكتاب، كالإمام أحمد رحمه الله، فإن الإمام أحمد رحمه الله لا يحدث إلا بكتاب، وكل ذلك من باب عدم الوهم وإن كانوا يحفظون الشيء حفظاً.

قال قتادة بن دعامة لأحد الرواة: خذ صحيفة جابر فإن حديث جابر معي، فوضعها عنده، قال: افتح المصحف، ففتح المصحف، فقرأ سورة البقرة لم يخرم منه حرفاً، كأنه يقرؤه من مصحف، فلما انتهى قتادة قال: إيه أتراني حفظت البقرة؟ يعني: ما أخطأ ولا مرة، قال: نعم، قال: والذي نفسي بيده لحفظي لأحاديث جابر أشد حفظاً من سورة البقرة، الله أكبر! فالمسألة تدل على أن الله سبحانه وتعالى حفظ دينه بهؤلاء، يترك الواحد طعامه وشرابه كل ذلك لحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والباب في هذا يطول، لكن أحببنا أن نعرج كما ذكرنا لكم في مثل هذه الأشياء.

إذا ثبت هذا فإن المؤلف يقول: وفي لفظ له ( فليرقه )، هذه هي لفظة مسلم ، وقد أخرجها أبو عوانة وغيره بلفظ: (فليهرقه)، والحديث رواه مسلم في صحيحه من طريق علي بن مسهر ، قال: أخبرنا الأعمش سليمان بن مهران قال: أنبأنا أبو رزين و أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه.

إذاً: علي بن مسهر رواه عن الأعمش أنبأنا أبو رزين و أبو صالح قالا: حدثنا أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات )، وهذه الزيادة تفرد بها علي بن مسهر عن جميع رواة الأعمش وهذا يعرف بما يسمونه بدراسة الأسانيد، تجمع طرق الحديث وتنظر، هذا مدار الحديث كلمة (فليرقه) على الأعمش ، الأعمش يرويه عن أبي رزين و أبي صالح كلاهما عن أبي هريرة .

إذاً: أنت لست بحاجة إلى أن تبحث عن الذين قبل الأعمش تقول: هل أبو رزين أصاب أم أخطأ؟ لأنهم لم يختلفوا عن الأعمش في هذا الحديث من غير زيادة: ( فليرقه )، فوجدنا علي بن مسهر رواه عن الأعمش بلفظ (فليرقه)، ثم وجدنا شعبة و أبا معاوية وخلق، تسعة أنفس رووه عن الأعمش بهذا الإسناد لم يذكروا (فليرقه)، إذاً أنت تكون مطمئناً على أن هذه اللفظة تجعل الإنسان يتوقف، علي بن مسهر ثقة لكن له غرائب يعني: له مفاريد، يعني: يخطئ.

طيب، كيف أنا أحكم أن هذه اللفظة منكرة؟ أنظر إلى مدار الحديث، إلى من؟ إلى الأعمش، ثم أنظر وأبحث عن كلام أهل العلم من أوثق الناس في الأعمش ، حتى أنظر هل أصاب علي بن مسهر فوافق أصحاب الأعمش أم لم يوافقه.

فقال يحيى بن معين : أثبت الناس في أصحاب الأعمش بعد سفيان يعني: الثوري و شعبة هو أبو معاوية الضرير وهو محمد بن خازم الضرير ، فإن أبا معاوية لا يكاد يخطئ في رواية الأعمش وإن كان يخطئ في رواية غيره، فوجدنا الحديث يرويه شعبة عن الأعمش ، ويرويه أبو معاوية عن الأعمش وخلق كلهم يروونه عن الأعمش عن أبي رزين و أبي صالح عن أبي هريرة من غير ذكر (فليرقه)، الآن صار عندي نوع اطمئنان أكثر، فإذا أردت أن أتكلم في هذه الزيادة فأقول: أبحث عن علي بن مسهر ، هل علي بن مسهر يخطئ في الحديث أم لا؟ هل هو ملازم الأعمش أم لا؟ فوجدت أن علي بن مسهر تكلم فيه الأئمة فقالوا: له غرائب، يعني: مفاريد، إذا قال المحدثون: فلان هذا حديثه فيه غرائب فاعلم أنها دلالة على الضعف، فأفهم أن علي بن مسهر حينما تفرد بهذه الرواية عن الأعمش ، ووجدت أن تسعة أنفس يروون على الأعمش من غير هذه الزيادة، ورأيت أن أصحاب الأعمش كـشعبة و أبي معاوية يروونه من غير هذا اللفظة. إذاً أنا عندي أربع قرائن تدل على أن لـعلي بن مسهر أخطاء:

القرينة الأولى: في علي نفسه أنه أحياناً يهم، وهذا لعله منها.

الثانية: أنه رواه عن الأعمش تسعة أنفس لم يذكروا هذه اللفظة، فهذه قرينة ثانية: وهي يسميها العلماء بكثرة المتابعات.

الثالثة: وجدت أن أصحاب الأعمش وأوثق الناس في الأعمش لا يذكرون هذه اللفظة كـشعبة و أبي معاوية .

الرابعة: أن الحديث تابع أبا رزين و أبا صالح محمد بن سيرين و الأعرج وغيرهم ولم يذكروا هذه اللفظة.

إذاً أجزم بأربع احتمالات قوية تجعلني أقول: إن رواية علي بن مسهر رواية شاذة.

ولأجل هذا قال الإمام النسائي : لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: (فليرقه)، وكذلك قال أبو عمر بن عبد البر و ابن مندة كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح والتلخيص الحبير.

لكن بعض أهل العلم قوى هذه اللفظة، وهذه طريقة المتأخرين من أهل الحديث كـالعراقي و ابن الملقن صاحب البدر المنير قالوا: إن هذه الزيادة صحيحة؛ لأن علي بن مسهر ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة.

لكن المتقدمين كـالنسائي وغيره كـابن مندة و أبي عمر قالوا: إن هذه اللفظة منكرة.

إذاً: تعرف أن ثمة منهج عند متأخري أهل الحديث وعند متقدمي أهل الحديث؛ فالمتأخرون يرون أن في الرجل الثقة إذا تفرد بالرواية فالأصل في حديثه الثقة، وهذا ليس بصحيح، يقولون: ما لم يخالف، ولو جمعت الأحاديث التي يرويها الثقات ويتفردون بها عن الرواة الآخرين بمخالفة لرأيتها لا تعدو خمسة أحاديث، من ذلك رواية سفيان الثوري عن حجر بن العنبس عن وائل بن حجر في حديث قال: ( آمين ورفع بها صوته سفيان يقول: ( ورفع بها صوته )، وشعبة يقول: ( خفض بها صوته )، هذا دليل على المخالفة، هذا حديث واحد، وثلاثة أحاديث أخر.

إذاً: قول بعض المحدثين: إن زيادة الثقة مقبولة ما لم تخالف، قال: لن تجد مخالفات بهذا الاعتبار.

إذاً: المخالفة عند المتقدمين معناه أن يأتي الراوي بشيء لم يأت به غيره، وهذا يدل على معرفة بالقرائن وجمع الطرق حتى يتبين للإنسان هذا الأمر، هذه منهجية في دراسة الأسانيد، ولهذا نجد أن بعض المتأخرين يصححون أحاديث تكلم فيها الأئمة، بأجل هذا صححت بعض الأحاديث التي تكلم فيها أهل العلم.

قال المؤلف: (وللترمذي ( أخراهن أو أولاهن بالتراب ) )، المؤلف ذكر رواية: ( أخراهن أو أولاهن بالتراب )، كذا في البلوغ في جميع طبعات البلوغ أما عند الترمذي فإنه قال: ( أولاهن أو أخراهن بالتراب )، بلفظة غير اللفظة التي ذكرها المؤلف، قدم الأولى: ( أولاهن أو أخراهن بالتراب )، والحديث أخرجه الترمذي قال: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت أيوب السختياني يحدث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا ولغ الكلب في الإناء فليغسله سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب ).

وهذا الحديث مداره على المعتمر بن سليمان ، وقد اختلف الرواة عنه؛ فرواه الترمذي عن سوار بن عبد الله العنبري عن المعتمر بهذا الإسناد يقولون: به، يعني: بهذا الإسناد، ما هو الإسناد؟ المعتمر عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة فبدل ما يذكرون هذا يقولون: المعتمر به، فرواه سوار بزيادة: ( أولاهن أو أخراهن بالتراب )، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق المقدمي عن المعتمر بهذا الإسناد ولم يذكر ( أخراهن أو أولاهن بالتراب ).

إذاً: تعلم أن هذه اللفظة ضعيفة.

نقول: أولاً: اختلف عن الرواية عن المعتمر ، المقدمي رواها من غير ذكر (أخراهن)، وسوار رواها بهذا اللفظة، والعجب أن الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح، ولو نظرنا على طريقة أهل الحديث لوجدنا أن المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي اختلف عليه، ثم وجدنا إذا جئت تتأكد انظر بعد المعتمر من هو؟

أيوب ، وأيوب يرويه عنه المعتمر ويرويه عنه حماد بن زيد ويرويه عنه خلق، لم يذكر كل الرواة عن أيوب هذه الزيادة، فدل ذلك على أنه تفرد بها سوار عن المعتمر .

ثم وجدنا أيوب يرويه عن محمد بن سيرين ، وقد رواه خلق كثير عن محمد من غير زيادة لفظ: ( أخراهن أو أولاهن بالتراب )، ثم وجدنا أبا هريرة وقد رواه عشرة أنفس لم يذكروا هذه اللفظة، هذه أربع قرئن أو خمس قرائن تجعلك تطمئن أن هذه اللفظة منكرة، وقد رواها البزار وغيره بلفظ: (إحداهن)، وهذه منكرة والدارقطني وهذه منكرة، نذكر هذه الروايات؛ لأن هذه الروايات فيها خلاف عند أهل العلم، في مسألة من المسائل الفقهية.

الحديث أصله له شواهد:

الشاهد الأول: حديث عبد الله بن مغفل الذي رواه مسلم في صحيحه و أحمد و أبو داود و النسائي و ابن ماجه كلهم من طريق شعبة ، حدثنا أبو التياح عن مطرف بن عبد الله الشخير عن عبد الله بن مغفل (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ورخص في كلب الصيد، وكلب الغنم )، ثم قال: ( إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب )، وهذا الحديث إسناده صحيح.

الحديث الآخر: حديث ابن عمر كما عند ابن ماجه بلفظ: ( إذا ولغ )، ولكن العلماء قالوا: إن الحديث في سنده ضعف؛ لأنه يرويه عبد الله بن عمر العمري المكبر عن نافع و عبد الله ضعيف.

شرح ألفاظ حديث: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب...) والروايات الواردة فيه

أما ألفاظ الحديث فإن قوله صلى الله عليه وسلم: ( طهور إناء أحدكم ) يروى بالفتح ويروى بالضم ( طُهور إناء أحدكم )، ومعناه أي: مطهر إناء أحدكم، أو تطهير إناء أحدكم، وهذا يدل على أنه مبتدأ والخبر المصدر أي: يغسله.

وقوله: ( إذا ولغ الكلب )، الولوغ: من ولغ بفتح اللام والغين والواو من ولغ يلغ، ومعناه: تحريك لسان الكلب في الإناء، سواء شرب أم لم يشرب، فإذا حرك الكلب لسانه في الإناء قيل: إنه ولغ إذا كان في الإناء شيء، وأما إذا لم يكن في الإناء شيء فإنا نسميه اللحس، لحس الكلب الإناء إذا كان الإناء فارغاً.

وقوله: ( إذا ولغ الكلب )، تفيد الاستغراق، وهي قاعدة لغوية، أن الألف واللام إذا دخلت على المفرد أو اسم العلم دل على استغراقه، فيدخل في ذلك كل الكلاب كما أشار إلى ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام ، فأنتم تعلمون أن الكلب يطلق على الكلب المعروف، ويطلق على كل ما يكلب،كما قال الله تعالى: مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4]، فهذا يدل على أن كل ما ولغ فيه الكلب يعم، سواء كان كلب الصيد أم كلب الماشية أم كلب الزرع، وسواء كان الكلب مأذوناً فيه أم ليس مأذوناً فيه، فيعم كل أنواع الكلاب.

وهل يعم كل ما يكلب بدلالة الاستغراق؟ نقول: إن الحديث إنما أريد به الكلب المعروف بجميع أنواعه، بمعنى أنه كلب الزرع أو كلب الماشية أو كلب الصيد، وأما ما يكلب فإنه لا يطلقه الشارع إلا مقيداً، والله أعلم.

نقول: قوله صلى الله عليه وسلم إذا صح الحديث، وإلا فإن الراجح أن هذه لم يقلها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأما في الحديث: ( فليرقه )، في رواية أبي عوانة كما مر ( فليهرقه )، وأهرقت الماء أو أرقت الماء أي: أفرغته مما فيه، يعني: أفرغت الإناء مما فيه.

وقوله: ( أولاهن بالتراب ) صفة لسبع مرات، ( سبع مرات أولاهن أو أخراهن بالتراب )، والباء للمصاحبة، يعني: مع التراب، وهذا قول جمهور أهل العلم؛ لأن التراب ليس غسلة زائدة على السبع كما سوف يأتي بيانه.

وأما قوله: (

هذا الحديث كما يقول المصنف (أخرجه مسلم )، يعني: أخرجه مسلم في صحيحه، وقد أخرجه مسلم من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث روي عن أبي هريرة من طرق تصل إلى العشر، إلا أن محمد بن سيرين تفرد بهذا الحديث عن أبي هريرة بذكر التراب؛ لأنه قال: ( أولاهن بالتراب ).

والحديث رواه عن أبي هريرة خلق كثير يصلون العشرة، منهم الأعرج و أبو صالح و أبو رزين وغيرهم كثير كثير، كلهم لم يذكر لفظة التراب.

وقد اختلف أهل العلم في صحة هذه الرواية، فقال بعضهم: إن الرواية بهذه الزيادة صحيحة، قالوا: لأن الحديث رواه مسلم في صحيحه، من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، وأصح الرجال عن محمد بن سيرين هو هشام بن حسان فدل ذلك على أن هشام مع كثرة ملازمته لـمحمد بن سيرين فإن الرواية حينئذ تكون صحيحة.

ومن المعلوم أن الحديث رواه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة ، إلا أن البخاري لم يذكر لفظة التراب، والحديث رواه البخاري و مسلم بلفظ: ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )، وكذا رواه مالك في موطئه، فدل على أن هذه اللفظة تفرد بها محمد بن سيرين .

وهل صحيح أن هشام بن حسان تفرد بالرواية عن محمد بن سيرين في هذا؟ الواقع أن أيوب السختياني روى هذا الحديث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وذكر فيه التراب، إلا أن بعض أهل الحديث رأوا أن أيوب السختياني اختلفت الرواية عنه؛ فرواها حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلا ذكر التراب، ورواها بعضهم عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة بذكر التراب.

وهذا من المعلوم عند أهل الحديث كـالنسائي أن رواية حماد بن زيد عن أيوب أصح من رواية غيره، وإن كان حماد بن زيد قد أخطأ في بعض الأحاديث مثل زيادة: ( اغسل ذكرك وأنثييك )، رواها حماد بن زيد عن أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه، وقالوا: أن لفظة (أنثييك) تفرد بها حماد بن زيد ، فهذا يدلك على أن الراوي مهما بلغ من العلم، ومهما بلغ من الحفظ، ومهما بلغ من الاستحضار، إلا أنه يهم بكثرة محفوظاته؛ ولهذا تجدون أن أكثر الذين يحفظون يقعون في الخطأ، وأما الذين حفظهم قليل فإنهم ربما لا يخطئون، ولهذا تجدون أن الضعفاء ربما لم نعرف عن أحاديثهم إلا عشرة، ومع ذلك حكم الأئمة بأنهم ضعفاء؛ لأنه أخطأ في حديثين أو ثلاثة، فثلاثة أحاديث مع قلة مروياته حكم الأئمة بأن أكثر أحاديثه الوهم، لكن إذا جاءك مثل هشام بن حسان أو جاءك مثل أيوب السختياني أو جاءك مثل حماد بن زيد ، وقد رووا أحاديث كثيرة عن الأئمة، فإذا وهم الواحد بحديث أو حديثين أو عشرة أو بمقدار الأصابع فإنها لا تعد شيئاً، ولأجل هذا وجدنا من الأئمة من كان مع عظم حفظه وسعة محفوظاته لا يحدث إلا بكتاب، كالإمام أحمد رحمه الله، فإن الإمام أحمد رحمه الله لا يحدث إلا بكتاب، وكل ذلك من باب عدم الوهم وإن كانوا يحفظون الشيء حفظاً.

قال قتادة بن دعامة لأحد الرواة: خذ صحيفة جابر فإن حديث جابر معي، فوضعها عنده، قال: افتح المصحف، ففتح المصحف، فقرأ سورة البقرة لم يخرم منه حرفاً، كأنه يقرؤه من مصحف، فلما انتهى قتادة قال: إيه أتراني حفظت البقرة؟ يعني: ما أخطأ ولا مرة، قال: نعم، قال: والذي نفسي بيده لحفظي لأحاديث جابر أشد حفظاً من سورة البقرة، الله أكبر! فالمسألة تدل على أن الله سبحانه وتعالى حفظ دينه بهؤلاء، يترك الواحد طعامه وشرابه كل ذلك لحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والباب في هذا يطول، لكن أحببنا أن نعرج كما ذكرنا لكم في مثل هذه الأشياء.

إذا ثبت هذا فإن المؤلف يقول: وفي لفظ له ( فليرقه )، هذه هي لفظة مسلم ، وقد أخرجها أبو عوانة وغيره بلفظ: (فليهرقه)، والحديث رواه مسلم في صحيحه من طريق علي بن مسهر ، قال: أخبرنا الأعمش سليمان بن مهران قال: أنبأنا أبو رزين و أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه.

إذاً: علي بن مسهر رواه عن الأعمش أنبأنا أبو رزين و أبو صالح قالا: حدثنا أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات )، وهذه الزيادة تفرد بها علي بن مسهر عن جميع رواة الأعمش وهذا يعرف بما يسمونه بدراسة الأسانيد، تجمع طرق الحديث وتنظر، هذا مدار الحديث كلمة (فليرقه) على الأعمش ، الأعمش يرويه عن أبي رزين و أبي صالح كلاهما عن أبي هريرة .

إذاً: أنت لست بحاجة إلى أن تبحث عن الذين قبل الأعمش تقول: هل أبو رزين أصاب أم أخطأ؟ لأنهم لم يختلفوا عن الأعمش في هذا الحديث من غير زيادة: ( فليرقه )، فوجدنا علي بن مسهر رواه عن الأعمش بلفظ (فليرقه)، ثم وجدنا شعبة و أبا معاوية وخلق، تسعة أنفس رووه عن الأعمش بهذا الإسناد لم يذكروا (فليرقه)، إذاً أنت تكون مطمئناً على أن هذه اللفظة تجعل الإنسان يتوقف، علي بن مسهر ثقة لكن له غرائب يعني: له مفاريد، يعني: يخطئ.

طيب، كيف أنا أحكم أن هذه اللفظة منكرة؟ أنظر إلى مدار الحديث، إلى من؟ إلى الأعمش، ثم أنظر وأبحث عن كلام أهل العلم من أوثق الناس في الأعمش ، حتى أنظر هل أصاب علي بن مسهر فوافق أصحاب الأعمش أم لم يوافقه.

فقال يحيى بن معين : أثبت الناس في أصحاب الأعمش بعد سفيان يعني: الثوري و شعبة هو أبو معاوية الضرير وهو محمد بن خازم الضرير ، فإن أبا معاوية لا يكاد يخطئ في رواية الأعمش وإن كان يخطئ في رواية غيره، فوجدنا الحديث يرويه شعبة عن الأعمش ، ويرويه أبو معاوية عن الأعمش وخلق كلهم يروونه عن الأعمش عن أبي رزين و أبي صالح عن أبي هريرة من غير ذكر (فليرقه)، الآن صار عندي نوع اطمئنان أكثر، فإذا أردت أن أتكلم في هذه الزيادة فأقول: أبحث عن علي بن مسهر ، هل علي بن مسهر يخطئ في الحديث أم لا؟ هل هو ملازم الأعمش أم لا؟ فوجدت أن علي بن مسهر تكلم فيه الأئمة فقالوا: له غرائب، يعني: مفاريد، إذا قال المحدثون: فلان هذا حديثه فيه غرائب فاعلم أنها دلالة على الضعف، فأفهم أن علي بن مسهر حينما تفرد بهذه الرواية عن الأعمش ، ووجدت أن تسعة أنفس يروون على الأعمش من غير هذه الزيادة، ورأيت أن أصحاب الأعمش كـشعبة و أبي معاوية يروونه من غير هذا اللفظة. إذاً أنا عندي أربع قرائن تدل على أن لـعلي بن مسهر أخطاء:

القرينة الأولى: في علي نفسه أنه أحياناً يهم، وهذا لعله منها.

الثانية: أنه رواه عن الأعمش تسعة أنفس لم يذكروا هذه اللفظة، فهذه قرينة ثانية: وهي يسميها العلماء بكثرة المتابعات.

الثالثة: وجدت أن أصحاب الأعمش وأوثق الناس في الأعمش لا يذكرون هذه اللفظة كـشعبة و أبي معاوية .

الرابعة: أن الحديث تابع أبا رزين و أبا صالح محمد بن سيرين و الأعرج وغيرهم ولم يذكروا هذه اللفظة.

إذاً أجزم بأربع احتمالات قوية تجعلني أقول: إن رواية علي بن مسهر رواية شاذة.

ولأجل هذا قال الإمام النسائي : لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: (فليرقه)، وكذلك قال أبو عمر بن عبد البر و ابن مندة كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح والتلخيص الحبير.

لكن بعض أهل العلم قوى هذه اللفظة، وهذه طريقة المتأخرين من أهل الحديث كـالعراقي و ابن الملقن صاحب البدر المنير قالوا: إن هذه الزيادة صحيحة؛ لأن علي بن مسهر ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة.

لكن المتقدمين كـالنسائي وغيره كـابن مندة و أبي عمر قالوا: إن هذه اللفظة منكرة.

إذاً: تعرف أن ثمة منهج عند متأخري أهل الحديث وعند متقدمي أهل الحديث؛ فالمتأخرون يرون أن في الرجل الثقة إذا تفرد بالرواية فالأصل في حديثه الثقة، وهذا ليس بصحيح، يقولون: ما لم يخالف، ولو جمعت الأحاديث التي يرويها الثقات ويتفردون بها عن الرواة الآخرين بمخالفة لرأيتها لا تعدو خمسة أحاديث، من ذلك رواية سفيان الثوري عن حجر بن العنبس عن وائل بن حجر في حديث قال: ( آمين ورفع بها صوته سفيان يقول: ( ورفع بها صوته )، وشعبة يقول: ( خفض بها صوته )، هذا دليل على المخالفة، هذا حديث واحد، وثلاثة أحاديث أخر.

إذاً: قول بعض المحدثين: إن زيادة الثقة مقبولة ما لم تخالف، قال: لن تجد مخالفات بهذا الاعتبار.

إذاً: المخالفة عند المتقدمين معناه أن يأتي الراوي بشيء لم يأت به غيره، وهذا يدل على معرفة بالقرائن وجمع الطرق حتى يتبين للإنسان هذا الأمر، هذه منهجية في دراسة الأسانيد، ولهذا نجد أن بعض المتأخرين يصححون أحاديث تكلم فيها الأئمة، بأجل هذا صححت بعض الأحاديث التي تكلم فيها أهل العلم.

قال المؤلف: (وللترمذي ( أخراهن أو أولاهن بالتراب ) )، المؤلف ذكر رواية: ( أخراهن أو أولاهن بالتراب )، كذا في البلوغ في جميع طبعات البلوغ أما عند الترمذي فإنه قال: ( أولاهن أو أخراهن بالتراب )، بلفظة غير اللفظة التي ذكرها المؤلف، قدم الأولى: ( أولاهن أو أخراهن بالتراب )، والحديث أخرجه الترمذي قال: حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت أيوب السختياني يحدث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا ولغ الكلب في الإناء فليغسله سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب ).

وهذا الحديث مداره على المعتمر بن سليمان ، وقد اختلف الرواة عنه؛ فرواه الترمذي عن سوار بن عبد الله العنبري عن المعتمر بهذا الإسناد يقولون: به، يعني: بهذا الإسناد، ما هو الإسناد؟ المعتمر عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة فبدل ما يذكرون هذا يقولون: المعتمر به، فرواه سوار بزيادة: ( أولاهن أو أخراهن بالتراب )، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق المقدمي عن المعتمر بهذا الإسناد ولم يذكر ( أخراهن أو أولاهن بالتراب ).

إذاً: تعلم أن هذه اللفظة ضعيفة.

نقول: أولاً: اختلف عن الرواية عن المعتمر ، المقدمي رواها من غير ذكر (أخراهن)، وسوار رواها بهذا اللفظة، والعجب أن الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح، ولو نظرنا على طريقة أهل الحديث لوجدنا أن المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي اختلف عليه، ثم وجدنا إذا جئت تتأكد انظر بعد المعتمر من هو؟

أيوب ، وأيوب يرويه عنه المعتمر ويرويه عنه حماد بن زيد ويرويه عنه خلق، لم يذكر كل الرواة عن أيوب هذه الزيادة، فدل ذلك على أنه تفرد بها سوار عن المعتمر .

ثم وجدنا أيوب يرويه عن محمد بن سيرين ، وقد رواه خلق كثير عن محمد من غير زيادة لفظ: ( أخراهن أو أولاهن بالتراب )، ثم وجدنا أبا هريرة وقد رواه عشرة أنفس لم يذكروا هذه اللفظة، هذه أربع قرئن أو خمس قرائن تجعلك تطمئن أن هذه اللفظة منكرة، وقد رواها البزار وغيره بلفظ: (إحداهن)، وهذه منكرة والدارقطني وهذه منكرة، نذكر هذه الروايات؛ لأن هذه الروايات فيها خلاف عند أهل العلم، في مسألة من المسائل الفقهية.

الحديث أصله له شواهد:

الشاهد الأول: حديث عبد الله بن مغفل الذي رواه مسلم في صحيحه و أحمد و أبو داود و النسائي و ابن ماجه كلهم من طريق شعبة ، حدثنا أبو التياح عن مطرف بن عبد الله الشخير عن عبد الله بن مغفل (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ورخص في كلب الصيد، وكلب الغنم )، ثم قال: ( إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب )، وهذا الحديث إسناده صحيح.

الحديث الآخر: حديث ابن عمر كما عند ابن ماجه بلفظ: ( إذا ولغ )، ولكن العلماء قالوا: إن الحديث في سنده ضعف؛ لأنه يرويه عبد الله بن عمر العمري المكبر عن نافع و عبد الله ضعيف.