هذا الحبيب يا محب 82


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، نحن الآن في غزوة خيبر.

قال: [آخر حصن يفتح] وكان لخيبر -مدينة اليهود- حصوناً عظيمة وتعددت، وها نحن مع آخر حصن.

[واصل الحبيب صلى الله عليه وسلم فتح حصون خيبر حصناً بعد حصن، وانتهى إلى آخر حصن، وهو الوطيح والسلالم، فحاصرهم بضع عشرة ليلة] أي: ثلاثة عشر يوماً تقريباً [وأثناء ذلك كانت مبارزات] يخرج البطل ويقول: هل من مبارز بين الصفوف؟ والمبارزة لها أثرها؛ إذ الضرب بالسيف والرمح أصعب من الضرب برصاصة على عشرة كيلو متر، فمواجهة الدماء صعبة، فمن تدبير الله للخليقة أن المعسكرين يقفان متقابلين والرماح والسيوف بأيديهم، ويحتاج اصطدام بعضهم ببعض دفعة قوية وحماس يلهبهم، فإذا خرج من أحد الجانبين مبارز، خرج له ضده من الجانب الآخر، فيتضاربان ويتقاتلان وبمجرد أن يسقط أحدهما وتسيل الدماء أو يصرخ، يهب أهل ذلك الرجل ويندفعون فيلتقي الجمعان ويستمر القتال، والآن أجبن الناس يضرب بصاروخ أو مدفع.

قال: [وأثناء ذلك كانت مبارزات منها مبارزة مرحب اليهودي ؛ إذ خرج من الحصن وقد جمع سلاحه وهو يرتجز ويقول] ماذا يقول هذا اليهودي؟

[قد علمت خيبر أني مرحـب شاكي السلاح بطل مجرب

أطعن أحياناً وحيناً أضرب إذا الليوث أقبلت تحرّب

إن حماي للحمى لا يُقرب يحجم عن صولتي المجرب] ويركض أو يهيج الجانب الثاني.

[فرد عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قائلاً] ابن عم الرسول وصهره

[أنا الذي سمتني أمي حيـدرة

كليث غابات شديد القسورة

أكيلكم بالصاع كيل السندرة

وقال: من يبارز؟] هذا اليهودي.

[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من لهذا؟ )] أي: من يخرج له؟ ويا ليتنا كنا معهم وقلنا: أنا يا رسول الله! وهذه بعيدة، لكن الأماني لا بأس بها [( فقال محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله )] ومحمد بن مسلمة هو الذي احتال على اليهودي ابن الأشرف وقتله [( أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس )] قتل أخوه في هذه الغزوة [فقال: ( فقم إليه، اللهم أعنه عليه ) فتصاولا فترة، ثم أمكن الله منه، فقتله محمد بن مسلمة استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يقول: من يبارز] أراد أن ينتقم لأخيه.

[فقال الزبير بن العوام: أنا لك، فقالت أمه صفية : لا يا رسول الله؛ يقتل ابني] وصفية وهي عمة نبينا صلى الله عليه وسلم [فقال لها: ( بل ابنك يقتله إن شاء الله ) فالتقيا فقتل الزبير ياسر اليهودي ، وبعد المبارزة اقتتل الناس، وكانت الراية عند أبي بكر رضي الله عنه وشعارهم يومئذ: يا منصور أمت أمت، فقاتل قتالاً شديداً، ثم وجع فأخذها عمر رضي الله عنه، فقاتل قتالاً شديداً هو أشد من الأول، ثم وجع، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أما والله لأعطينها غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرار )، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه وهو أرمد فتفل في عينيه، ثم قال: ( خذ هذه الراية فامض بها ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك )، فخرج يهرول بها حتى ركز الراية في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب قال: علوتم وما أنزل على موسى، فما رجع حتى فتح الله على يديه، ودخل المسلمون المدينة.

وبذلك انتهى فتح خيبر، وأصبحت دار الإسلام إلى اليوم، والحمد لله رب العالمين].

[مواقف يحسن أن تذكر، وهي:

أولاً: لقد كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر بإذن الله تعالى؛ إذ وعد الله عز وجل المؤمنين غنائم خيبر عند رجوعهم من الحديبية في قوله من سورة الفتح: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ [الفتح:20] وهي صلح الحديبية، والغنائم الكثيرة هي أموال خيبر.

ثانياً: كان عدد من استشهد في غزوة خيبر من المسلمين خمسة عشر رجلاً.

ثالثاً: لما لم يبق لليهود من حصن إلا الوطيح والسلالم -وقد فتحا عنوة- سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم في الأرض ويحقن دماءهم، ويتركوا له الأموال ففعل، ثم صالحهم على أن يبقوا على مزارعهم ونخيلهم على أن لهم الشطر وللرسول والمؤمنين الشطر، وأنه متى أراد إخراجهم أخرجهم، فوافقوا على ذلك وأبقاهم.

رابعاً: بعد سقوط خيبر في يد المسلمين لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ابني أبي الحقيق لنكثهم وخيانتهم، وكان أحدهما زوج صفية بنت حيي، فأمر بلالاً أن يذهب بـصفية إلى رحله مع بعض نساء السبي، فمر بهن على القتلى، فبكين، فعتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلال ، وقال: ( أنزعت الرحمة من قلبك يا بلال ؟! ) وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية الإسلام فأسلمت وتزوجها، وجعل مهرها عتقها، وبنى بها في طريق عودته إلى المدينة، وأولم عليها وليمة فاخرة، ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم إليها فرأى في وجهها خضرة إثر ضربة، فسألها، فقالت: كنت قد رأيت في منامي القمر زال من مكانه وسقط في حجري، فقصصتها على زوجي ابن أبي الحقيق فلطم وجهي، وقال: تتمنين هذا الملك بالمدينة، وأنا -والله- ما كنت أذكر من ذلك شيئاً.

خامساً: قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بعد فتحها على ستة وثلاثين سهماً، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين نصفها، والنصف الباقي لمن نزل عنده من الوفود، ونوائب المسلمين.

سادساً: سمّت النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث -امرأة سلام بن مشكم اليهودي- إذ أهدت للرسول صلى الله عليه وسلم شاة مصلية فيها سم، فأكل منها بشر بن البراء فمات، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم المرأة: لم فعلت هذا؟ قالت: أردت إن كنت ملكاً استرحنا منك، وإن كنت نبياً لم يضرك؛ فعفا عنها فأسلمت، وقيل: لما مات بشر قتلت به.

سابعاً: وصول جعفر بن أبي طالب وأصحابه -معهم الأشعريون- خيبر بعد فتحها، فأسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أسهم لأحد غاب عن خيبر إلا هم، لأنهم أدركوه فيها.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل جبهة جعفر ، وقال: ( والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ).

ثامناً: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصراً لبعض حصون خيبر، أتاه راع أسود، فقال: يا رسول الله! اعرض علي الإسلام فأسلم، ثم قال: يا رسول الله! إني كنت أجيراً لصاحب هذه الغنم -وهي أمانة عندي- فكيف أصنع بها؟ قال: ( اضرب في وجهها؛ فإنها سترجع إلى ربها ) فأخذ الأسود حفنة من الحصى ورمى بها في وجهها، وقال: ارجعي لصاحبك، فرجعت كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت الحصن، وتقدم الراعي إلى الحصن ليقاتل، فأصابه حجر فمات، فسجي بثوب، وأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: لم أعرضت عنه يا رسول الله؟ قال: (إنه معه زوجتيه الآن من الحور العين ).

تاسعاً: لما سمع أهل فدك بفتح خيبر، نزل بهم الرعب، فبعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من فدك، فصالحهم على ذلك، وكان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه فيء أفاءه الله عليه؛ إذ لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وإنما بعث إليهم من خيبر محيصة يدعوهم إلى الإسلام فصالحوا، وكان رئيسهم يوشع بن نون اليهودي].

نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ..