بلاط الشهداء بعد الف ومائتي عام
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
للأستاذ محمد عبد الله عناق
(2)
وكان أثناء غاراته أو رحلاته في (اكوتين) قد اتصل بأميرها الدوق (أودو) وتفاهم معه، وكان الدوق مذ رأى خطر الفتح الإسلامي يهدد ملكه يسعى إلى مهادنة المسلمين، وقد فاوضهم فعلا، فأنتهز كارل مارتل محافظ القصر وزعيم الفرنج هذه الفرصة لإعلان الحرب على الدوق، وكان يخشى نفوذه واستقلاله، وغزا كوتين مرتين وهزم الدوق فكان أودو في الواقع بين نارين يخشى الفرنج من الشمال والعرب من الجنوب، وكانت جيوش كارل مارتل تهدده وتعيث في أرضه (سنة 731 م) في نفس الوقت الذي سعى فيه عثمان بن أبي لسعه لمحالفته والاستعانة به على تنفيذ مشروعه في الخروج على حكومة الأندلس والاستقلال بحكم الولايات الشمالية , فرحب الدوق بهذا التحالف وقدم ابنته الحسناء (لاميجيا) عروسا لعثمان، وفي بعض الروايات أن أبن أبي نسعة أسر ابنة الدوق في بعض غاراته على اكوتين ثم هام بها حبا وتزوج منها. وعلى أي حال فقد وثقت المصاهرة عرى التحالف بين الدوق والزعيم المسلم، ورأى ابن أبي نسعة كتمانا لمشروعه ان يسبغ على هذا الاتفاق صفة هدنة عقدت بينه وبين الفرنج، ولكن عبد الرحمن ارتاب في أمر الثائر ونياته، وأبى قرارالهدنة التي عقدها وأرسل إلى الشمال جيشا بقيادة ابن زيان للتحقق والتحوط لسلامة الولايات الشمالية، ففر ابن أبي نسعة من مقامه بمدينة الباب الواقعة على (البرنيه) إلى شعب الجبال الداخلية فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة حتى أخذ وقتل مدافعا عن نفسه، وأسرت زوجه لاميجيا وأرسلت إلى بلاط دمشق حيث زوجت هناك من أمير مسلم.
ولما رأى أودو ما حل بحليفه واستشعر الخطر الداهم تأهب للدفاع عن مملكته، وأخذ الفرنج والقوط في الولايات الشمالية يتحركون لمهاجمة المواقع الإسلامية، وكان عبد الرحمن يتوق إلى الانتقام لمقتل السمح وهزيمة المسلمين عند أسوار تولوشة، ويتخذ العدة منذ بدء ولايته لاجتياح مملكة الفرنج كلها، فلما رأى الخطر محدقا بالولايات الشمالية لم يرَ بداً من السير إلى الشمال قبل أن يستكمل كل أهبته، على انه استطاع ان يجمع أعظم جيش سيّره المسلمون إلى (غاليا) منذ الفتح، وفي أوائل سنة732م (أوائل سنة 114هـ) سار عبد الرحمن إلى الشمال مخترقا أراغون (الثغر الأعلى) ونافار (بلاد البشكنس) ودخل فرنسا في ربيع سنة 732م، وزحف تواً على مدينة (آرل) الواقعة على نهر الرون لتخلفها عن أداء الجزية واستولى عليها بعد معركة عنيفة نشبت على ضفاف النهر بينه وبين قوات الدوق أودو، ثم زحف غرباً وعبر نهر الجارون وانقض المسلمون كالسيل على ولاية اكوتين يثخنون في مدنها وضياعها، فحاول أودو ان يقف زحفهم، والتقى الفريقان على ضفاف الدوردون فهزم الدوق هزيمة فادحة، ومزق جيشه شر ممزق، قال ايزيدور الباجي: (والله وحده يعلم كم قتل في تلك الموقعة من النصارى) وطارد عبد الرحمن الدوق حتى عاصمته بوردو (بردال) واستولى عليها بعد حصار قصير، وفر الدوق في نفر من صحبه إلى الشمال، وسقطت اكوتين كلها بيد المسلمين ثم ارتد عبد الرحمن نحو الرون كرّة أخرى، واخترق الجيش الإسلامي برجونيا واستولى على ليون وبيزانصون ووصلت سريّاته حتى صانص التي تبعد عن باريس نحو مائة ميل فقط، وارتد عبد الرحمن بعد ذلك غرباً إلى ضفاف اللوار ليتم فتح هذه المنطقة ثم يقصد إلى عاصمة الفرنج.
وتم هذا السير الباهر.
وافتتح نصف فرنسا الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر فقط.
قال أدوار جيبون.
(وامتد خط الظفر مدى ألف ميل من صخرة طارق إلى ضفاف اللوار.
وقد كان اقتحام مثل هذه المسافة يحمل العرب إلى حدود بولونيا وربى ايكوسيا.
فليس الراين بأمنع من النيل او الفرات، ولعل أسطولاً عربيا كان يصل إلى مصب التايمز دون معركة بحربة، بل ربما كانت أحكام القرآن تدرَّس الآن في معاهد أكسفورد وربما كانت منابرها تؤيد لمحمد صدق الوحي والرسالة). أجل كان اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، والشرق والغرب، على وشك الوقوع.
وكان اجتياح الإسلام للعالم القديم سريعا مدهشا، فانه لم يمضِ على وفاة النبي العربي نصف قرن حتى سحق العرب دولة الفرس الشامخة، واستولوا على معظم أقطار الدولة الرومانية الشرقية من الشام إلى أقاصي المغرب، وقامت دولة الخلافة قوية راسخة الدعائم فيما بين السند شرقا والمحيط غربا، وامتدت شمالاً حتى قلب الأناضول، وكانت سياسة الفتح الإسلامي مذ توطدت دولة الإسلام ترمي إلى غاية أبعد من ضم الأقطار وبسطة السلطان والملك.
فقد كان الإسلام يواجه في الأقطار التي افتتحها من العالم القديم، أنظمة راسخة مدنية واجتماعية تقوم على أصول وثنية أو نصرانية، وكانت النصرانية قد سادت أقطار الدولة الرومانية منذ القرن الرابع، فكان على الخلافة ان تهدم هذا الصرح القديم وان تقيم فوق أنقاضه في الأمم المفتوحة نظما حديثة، تستمد روحها من الإسلام.
وان تذلل النصرانية لصولة الإسلام سواء بنشر الإسلام بين الشعوب المفتوحة او بإخضاعها من الوجهة المدنية والاجتماعية لنفوذ الإسلام وسلطانه، وكان هذا الصراع بين الإسلام والنصرانية قصير الأمد في الشام ومصر وافريقية، فلم يمضِ نصف قرن حتى غيّر الإسلام هذه الأمم بسيادته ونفوذه، وقامت فيها مجتمعات إسلامية قوية شاملة، وغاضت الأنظمة والأديان القديمة ثم دفعت الخلافة فتوحها إلى أقاصي الأناضول من المشرق وجازت إلى إسبانيا من المغرب.
فأما في المشرق فقد حاول الإسلام ان ينفذ إلى الغرب من طريق قسطنطينية، وبعثت الخلافة جيوشها وأساطيلها الزاخرة إلى عاصمة الدولة الشرقية مرتين: الأولى في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 48هـ (668م) والثانية في عهد سليمان بن عبد الملك سنة 98هـ (717م) وكانت قوى الخلافة في كل مرة تبدي في محاصرة قسطنطينية غاية الإصرار والعزم والجلد ولكنها فشلت في المرتين وارتدت عن أسوار قسطنطينية منهوكة خائرة.