أرشيف المقالات

تفسير: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ)

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .
تفسير قوله تعالى
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ...

 

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 6 - 10].
 
(فاسق) الفاسق: الخارج من حدود الله، والفسق في أصل الاشتقاق: موضوع لما يدل على معنى الخروج، وسمي الفاسق فاسقًا؛ لانسلاخه عن الخير، وفي لسان العرب لابن منظور المصري رحمه الله تعالى:
والفسق: العصيان والترك لأمر الله، والخروج عن طريق الحق، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ [الكهف: 50]، والفواسق من النساء: الفواجر.
 
قال الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات في غريب القرآن):
والفسق أعم من الكفر؛ لأنه يقع بالقليل والكثير من الذنوب، ولكن تعورف فيما كان بالكثير، وأكثر ما يقال لمن كان مؤمنًا ثم أخل بجميع الأحكام أو ببعضها، فالفاسق أعم من الكافر، والظالم أعم من الفاسق، وسميت الفأرة (فويسقة) لما اعتقد فيها من الخبث والفسق، وقيل: لخروجها من بيتها مرة بعد أخرى[1].
 
(بنبأ): النبأ في اللغة: الخبر، والجمع أنباء، ويرى بعض اللغويين أنه لا يقال للخبر: نبأ حتى يكون مهمًّا ذا فائدة عظيمة، قال تعالى: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22].
 
(فتبيَّنوا): التبيُّن: طلب البيان والتعرف، وقريب منه التثبُّت، والمراد به هنا: التحقُّق والتثبت من الخبر؛ حتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره.
 
معنى الآيات الكريمات:
إن جاءكم فاسق بنبأ عظيم له نتائج خطيرة، فلا تقبلوا قوله، حتى تتثبتوا وتتحققوا من صدقه؛ لتأمنوا العاقبة.
 
(بجهالة) أي: جاهلين حالهم، أو تصيبوهم بسبب جهالتكم أمرهم.
 
(نادمين): الندم: الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، يقال: ندم ندمًا وندامة، وتندم: أَسِفَ؛ كذا في لسان العرب.
 
(لَعَنِتُّمْ): أي: لوقعتم في العَنَت، قال ابن الأثير: العَنَت: المشقة والفساد والهلاك، وقوله تعالى: ﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ﴾؛ أي: لوقعتم في الفساد والهلاك.
 
(الراشدون): جمع راشد، وهو المهتدي إلى محاسن الأمور، ومنه سمي الخلفاء الراشدون، والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلُّب فيه؛ من الرشاد، وهو الصخر[2].
 
(بَغَتْ) البغيُ: التطاول والفساد، قال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ﴾ [القصص: 76]، وأصل البغي: مجاوزة الحد في الظلم والطغيان.
 
والفئة الباغية: هي الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل، وفي الحديث: ((ويحَ عمارٍ، تقتله الفئة الباغية)).
 
(تَفِيءَ): أي: ترجع إلى الطاعة، وفاءَ إلى الشيء: رجع إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 226]؛ أي: رجعوا، والفيء: ما رجع إلى المسلمين من الكفار بدون حرب.
 
(المُقْسِطِينَ): العادلين المحقين، من الفعل الرباعي أقسط بمعنى عدل، وأما قسط فمعناه ظلَم.
 
سبب نزول الآية الكريمة: روى الإمام أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعي أنه قال:
(قدمت على رسول الله، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله، أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فيُرسلُ إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً لإبَّان كذا وكذا، ليأتيك ما جمعت من الزكاة...
فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ زمان الوعد الذي أراد رسول الله أن يبعث إليه، احتبس الرسول فلم يأتِ، فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله، فدعا سروات[3] قومه، فقال لهم: إن رسول الله كان وقَّت لي وقتًا يرسل إليَّ رسوله ليقبضَ ما كان عندنا من الزكاة، وليس من رسول الله الخُلْفُ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلِقوا فنأتي رسول الله، وبعث رسول الله (الوليد بن عقبة) إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق، فرق[4] فرجع، فأتى رسول الله فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله البعث[5] إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتى استقبله البعث وقد فصل عن المدينة، قالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال: إلى أين؟ قالوا: إليك، قال: ولِمَ؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك (الوليد بن عقبة) فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق ما رأيته، ولا أتاني، فلما دخل الحارث على النبي قال: ((منعت الزكاة وأردتَ قتل رسولي؟!))، قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ خَشِيتُ أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله؛ فنزلت الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا...
[الحجرات: 6][6].
 
وأما قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ [الحجرات: 9]، فذكر في سبب نزولها ما أخرجه البخاري ومسلم، وابن جرير وغيرهم، عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: (قيل للنبي: لو أتيت (عبدالله بن أُبَيٍّ) فانطلق إليه وركب حمارًا، وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي قال: إليك عني[7]، فو الله لقد آذاني نَتْنُ حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمارُ رسول الله أطيبُ ريحًا منك، فغضب لعبدالله رجل من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله فيهم: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...
[الحجرات: 9].
 
وجوه القراءات:
1- قوله تعالى: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ قرأ الجمهور: (فتَبَيَّنُوا) من التبين، وقرأ حمزة والكسائي: (فتَثَبَّتُوا) من التثبُّت، والمعنى واحد؛ لأن التبين معناه في اللغة التثبُّت والتحقق.
 
2- قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ قرأ الجمهور: (اقْتَتَلُوا) بصيغة الجمع، وقرأ أُبَيُّ بن كعب وابن مسعود: (اقتَتَلَا) بالتثنية على فعل مذكرين، وقرأ أبو المتوكل وابن أبي عبلة (اقتَتَلتَا) بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنتين مؤنثتين.
 
3- قوله تعالى: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾، قرأ الأكثرون: (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) بياء التثنية، وقرأ أُبَيُّ بن كعب وابن جبير: (بَيْنَ إخوتِكُمْ) بالتاء على الجمع، وقرأ الحسن وابن سيرين: (بَيْنَ إخوانِكُمْ) بالنون والألف قبلها، ويكون المراد بين الأَوْسِ والخَزْرَجِ[8].
 
المعنى الإجمالي للآيات الكريمات:
يقول الله تبارك وتعالى ما معناه: يا من اتصفتم بالإيمان، وصدقتم بكتاب الله، وآمنتم برسوله، وعلمتم علمَ اليقين أن ما جاءكم به الرسول حق؛ لأنه من عند الله، لا تسمعوا لكل خبر، ولا تصدقوا كل إنسان، بل تحقَّقوا وتثبَّتوا من الأمر، قبل أن تصيبوا إخوة لكم مؤمنين، بسبب خبر لم تتحققوا من صحته، وكلام لما تتأكدوا من صدقه، فتندموا على ما فرَط منكم، ولكن لا ينفعكم حينئذٍ الندم.
 
واعلموا - أيها المؤمنون - أن فيكم النبي المُعظَّم (رسول الله)، المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، الذي يُطلعه الله على الخفايا، فلا تحاولوا أن تستميلوه لرأيكم، ولو أنه استجاب لكم وأطاعكم في غالب ما تشيرون به عليه، لوقعتم في الجَهْد والهلاك، ولكن الله - بمنه وفضله - حفظه وحفظكم، ونوَّر بصائر أتباعه المؤمنين، وحبب إليهم الإيمان، وبغَّض إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأرشدهم إلى سبيل الخير والسعادة.
 
ثم عقَّب تعالى بما يترتب على سماع مثل هذه (الأنباء المكذوبة) من تخاصم وتباغض وتقاتل، فقال: إذا رأيتم - أيها المؤمنون - طائفتين من إخوانكم جنحتا إلى القتال والعدوان، فابذلوا جهدكم للتوفيق بينهما، وادعوهما إلى النزول على حكم الله؛ فإن اعتدَتْ إحدى الطائفتين على الأخرى، وتجاوزت حدَّها بالظلم والطغيان، وأرادت أن تبغي في الأرض، فقاتلوا تلك الطائفة الباغية، حتى تؤوب إلى رشدها، وترضى بحكم الله عز وجل، وتقلع عن البغي والعدوان، فإذا كفَّت عن العدوان، فأصلحوا بينهما بالعدل؛ لأنهم إخوانكم في الدين، ومن واجب المسلمين أن يصلحوا بين الإخوان، لا أن يتركوا البغضاء تدب، والفرقة تعمل عملها؛ لأن المؤمنين جميعًا إخوة، جمعتهم (رابطة الإيمان)، وليس ثمة طريق إلى إعادة الصفاء إلا بالإصلاح بين المتخاصمين، فهو سبيل الفلاح، وطريق الفوز والنجاح، واتقوا الله لتنالكم رحمته، وتسعدوا بمرضاته ولقائه[9].
 
لطائف وفوائد:
1- سورة الحجرات تُسمَّى سورة (الأخلاق والآداب)؛ فقد أرشدت إلى مكارم الأخلاق، وجاء فيها النداء بوصف الإيمان بقوله تعالى: ﴿ يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ﴾ خمس مرات، وفي كل مرة إرشاد إلى مكرمة من المكارم، وفضيلة من الفضائل.
 
2- قوله تعالى: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ ﴾ في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون حَذِرًا يقظًا، لا يقبل كل كلام يُلقى على عواهنه دون أن يعرف المصدر، وتنكير (فاسق) للتعميم؛ لأنها نكرة في سياق الشرط، وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم، كما قرره علماء الأصول، والمعنى: إن جاءكم أيُّ فاسق فتثبتوا من خبره، وجاء بحرف التشكيك (إن)، ولم يقل: (إذا) التي تفيد التحقيق؛ ليشير إلى أن وقوع مثل هذا إنما هو على سبيل (الندرة)؛ إذ الأصل في المؤمن أن يكون صادقًا.
 
3- قوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ تقديم خبر "أن" على اسمها؛ ليفيد معنى الحصر المتتبع لزيادة التوبيخ على ما فرط منهم في حق الرسول، وفي الكلام إشعار بأنهم زينوا بين يدي الرسول الإيقاع بالحارث وقومه، وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.
 
4- قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾ الطائفة في اللفظ مفرد، وفي المعنى جمع؛ لأنها تدل على عدد كبير من الناس؛ ولهذا جاء التعبير بقوله: (اقْتَتَلُوا) رعايةً للمعنى؛ فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة، ثم قال تعالى: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾، ولم يقل بينهم؛ رعايةً للفظ.
 
والنكتة[10] في هذا هو ما قيل: إنهم عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة، وهم مختلطون؛ فلذا جُمع الضمير، وفي حال الصلح تتفق كلمة كل طائفة حتى يكون كنفسين؛ فلذا ثُنِّي الضمير.
 
5- سُئِل بعض العلماء عما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم من قتال، فقال: تلك دماء قد طهَّر الله منها أيديَنا، فلا نلوِّثُ بها ألسنتنا، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته.
 
وسئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شَهِدَه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغِبْنَا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتَّبعنا، واختلفوا فوقفنا[11].
 
ما ترشد إليه الآيات الكريمات:
1- وجوب التثبت من الأخبار، وعدم الوثوق بخبر الفاسق الخارج عن طاعة الله.
2- وجوب التريُّث قبل الحكم على الأشخاص لمجرد سماع الأنباء؛ خشية الظلم والعدوان عليهم.
3- الرسول صلى الله عليه وسلم هو المرجع للمؤمنين؛ فلا يجوز لأحد من أهل الإيمان أن يقطع بأمر دونه.
4- وجوب الإصلاح بين طوائف المؤمنين عند حصول النزاع؛ خشية تصدع الصف وتفرُّق الكلمة.
5- إذا بغت إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم يمكن الإصلاح، وجب قبر الفتنة بحدِّ السيف.
6- المؤمنون إخوة جمعتهم رابطة (العقيدة والإيمان)، وهذه الرابطة أقوى من رابطة النسب والدم.
7- يجب على المؤمنين مقاومة أهل البغي؛ إبقاءً لوحدة الأمة الإسلامية، ودفعًا للظلم عن المستضعفين[12].
 
الأحكام الشرعية في الآيات الكريمات:
1- هل يُقبل خبر الواحد إذا كان عدلاً؟
استدل العلماء بهذه الآية الكريمة: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ ﴾ على قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت في خبر الفاسق، ولو كان خبر الواحد العدل لا يُقبل لمَا كان ثمة فائدة من ذكر التثبت، وهذا الاستدلال كما يقول علماء الأصول هو (مفهوم المخالفة)، كما أن العلة في رد الخبر هي (الفسق)، فإذا انتفت انتفى الرد، أما خبر المجهول الذي لا تُعلم عدالتُه ولا فسقه، فإن صحَّ أن الأصل العدالة فهو باقٍ على عدالته حتى يتبين خلافها، وإن كان الأصل عدمَها، فهو داخل في حكم الفسق حتى تتبين عدالتُه.
 
2- هل يجب البحث عن عدالة الصحابة في الشهادة والرواية؟
رأي جمهور علماء السلف والخلف أن الصحابة كلهم عدول، ولا يبحث في عدالتهم في رواية ولا شهادة؛ وذلك ببركة صحبة النبي، ومزيد ثناء الله عليهم في كتابه، كقوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: عدولاً، وقوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110]، وقوله: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [المائدة: 119]، وقوله: ﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]، وكذلك ما ثبت في السنة المطهرة من مدحهم والثناء عليهم، وبيان أنهم أفضل الناس بعد رسول الله على الإطلاق، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))[13]، وقوله: ((لا تَسُبُّوا أصحابي؛ فوَالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثلَ أُحُد ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه))[14].
 
والقول بأن بعض الصحابة قد وقع في الذنب والمخالفة - بناءً على الاعتقاد بعدم عصمتهم - لا يعني أنهم غير عدول؛ لأن الفاسق الذي تُردُّ شهادته وروايته هو الذي يصرُّ على الذنب والمعصية، وليس في الصحابة مَن يصر على ذلك.
 
وقد ذكر الإمام الفخر الرازي أن هذه الآية لم تنزل خاصة بسبب (الوليد بن عقبة)، وهو صحابي قطعًا؛ وإنما نزلت عامة في بيان حكم كل فاسق، وأنها نزلت في ذلك الوقت الذي حدثت فيه تلك القصة، فهي مثل التاريخ لنزول الآية، لا أنها نزلت لتشهد بفسق (الوليد بن عقبة) رضي الله عنه.
 
3- هل تقبل شهادة الفاسق أو المبتدع؟
اتَّفق العلماء على أن شهادة الفاسق لا تقبل؛ عملاً بقوله ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ...
﴾، وكذلك لا تقبل روايته؛ لأن الرواية عن رسول الله أمانة ودين، والفسق يبطلها؛ لاحتمال كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
قال القرطبي: ومن ثَبَت فسقُه، بطَل قولُه في الأخبار إجماعًا؛ لأن الخبر أمانة والفسق قرينة يبطلها.
 
واستثنى العلماء من قبول خبر الفاسق أمورًا تتعلق بالمعاملات، وليس فيها شهادة على غيره؛ منها:
أ- قبول قوله في الإقرار على نفسه؛ مثل: لفلان عندي مائة درهم، فيقبل قوله كما يقبل في ذلك قول الكافر؛ لأنه إقرار لغيره بحق على نفسه؛ فلا تشترط فيه العدالة.
 
ب- قبول قوله في الهدية والوكالة؛ مثل: إذا قال: إن فلانًا أهدى إليك هذا، يجوز له قبوله وقبضه،ومثل هذا جميع أخبار المعاملات، إذا لم يكن فيها شهادة على غيره.
 
ج- وكذلك في الإذن بالدخول ونحوه، كما إذا استأذن إنسان فقال له: ادخل، لا تشترط فيه العدالة.
 
واختلف العلماء في أمر الولاية بالنكاح:
فذهب الشافعي وغيره إلى أن الفاسق لا يكون وليًّا في النكاح؛ لأنه يسيء التصرف، وقد يضر بمن يلي أمرَ نكاحها بسبب فسوقه، وقال أبو حنيفة ومالك: تصح ولايته؛ لأنه يلي مالها، فيلي بُضعَها كالعدل، وإذا وُلِّي المال فالنكاح أولى (القرطبي).
 
وأما المبتدع وهو الفاسق الذي يكون فسقُه بسبب الاعتقاد، وهو متأول للنصوص كالجبرية والقدرية، ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، فمن الأصوليين مَن ردَّ شهادته وروايته كالإمام الشافعي رحمه الله، ومنهم من قبلها، وفرَّق الحنفية قالوا: تُقبَل منه الشهادة، ولا تقبل منه الرواية؛ لأن مَن ابتدع بدعة بسبب الدين فلا يبعد أن ينتصر لهواه، ويدعو الناس إلى ذلك، فنرد روايته دون شهادته؛ لأن الدعوة إلى مذهبه داعية إلى النقل، فلا يؤتمن على الرواية، وهذا مذهب جمهور أئمة الفقه والحديث.
 
4- هل يجب قتال أهل البغي؟
ذهب جمهور العلماء إلى وجوب قتال أهل البغي الخارجين على الإمام أو أحد المسلمين، ولكن بعد دعوتهم إلى الوفاق والصلح والسير بينهم بما يصلح ذات البين، فإن أقاموا على البغي وجب قتالُهم؛ عملاً بقوله تعالى: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...
[الحجرات: 9].
 
قال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل، لما أقيم حدٌّ، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرَّم الله عليهم من أموال المسلمين، وسَبْيِ نسائهم، وسفك دمائهم؛ بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم.
 
وقال الجصاص في كتابه أحكام القرآن (ج3، ص: 401):
ولم يختلف أصحاب رسول الله في وجوب قتال (الفئة الباغية) بالسيف إذا لم يردعها غيره، ألا ترى أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج، ولو لم يروا قتال الخوارج وقعدوا عنهم، لقتلوهم وسبَوْا ذراريَّهم ونساءهم.
 
5- هل تكون أموال البغاة غنيمة للمسلمين؟
اختلف العلماء في حكم أموال البغاة: هل تكون غنيمة للمسلمين، أم ترد إليهم بعد الصلح وانتهاء الحرب؟
قول الجمهور: إن بغيهم يُحِلُّ قتالهم ولا يحل أموالهم وذراريهم؛ لأنهم ليسوا كفارًا وإنما هم مؤمنون باغون، أو فاسقون خارجون عن الطاعة، والأمرُ بقتالهم من أجل ردهم إلى صف المسلمين، وهو القول الراجح.
 
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
(والمعول في ذلك عندنا أن الصحابة رضي الله عنهم في حروبهم لم يتبعوا مدبرًا، ولا ذففوا[15] على جريح، ولا قتلوا أسيرًا، ولا ضمنوا نفسًا ولا مالاً، وهم القدوة)[16].
 
قال الشيخ أبو بكر الجزائري في قوله تعالى: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾:
الآية دليل على أن اسم الإيمان لا يزول بالبغي، فأثبت أخوة الإيمان ولم يسقطها بالبغي، وروي أن عليًّا رضي الله عنه سئل عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصِفِّين: أمشركون هم؟ قال: لا، من الشرك فَرُّوا، فقيل: أمنافقون؟ قال: لا؛ لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، فقيل له: فما حالهم؟ قال: إخواننا بَغَوْا علينا[17].

[1] المفردات في غريب القرآن - الراغب الأصفهاني ص: 382.

[2] تفسير القرطبي رحمه الله تعالى ج 16 ص: 314.

[3] سروات: جمع سراة، وهم أشراف القوم، وسراة كل شيء: أعلاه.
(مختار الصحاح).

[4] فرق: أي: خاف وفزع.

[5] البعث: فرقة من المقاتلين، وجمعها بعوث.

[6] رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات؛ كذا في مجمع الزوائد ج 7 / ص: 109.

[7] إليك عني: أي: تنحَّ وابتعد عني.

[8]روائع البيان - الصابوني ج 2 ص: 483.

[9] نفس المصدر السابق.

[10] النكتة: هي المسألة العلمية الدقيقة أو الاستنباط الدقيق، وجمعها: نكت.

[11] روائع البيان - الصابوني ص: 479 - 482.

[12] روائع البيان - الصابوني ج 2 ص: 494.

[13] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي رحمهم الله تعالى.

[14] رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي رحمهم الله تعالى.

[15] ذففوا: أي أجهزوا على جريح.

[16] روائع البيان - الصابوني ج 2 ص 484 - 493.

[17] أيسر التفاسير - الجزائري ج 2 ص: 1505.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن