ففروا إلى الله


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

إن عنوان هذه المحاضرة (ففروا إلى الله).

ولقد بدا لي أن أعطي إطلالة عامة أمهد بها للدعاة الذين يأتون فيما بعد إن شاء الله عز وجل بتبيين معنى الفرار إلى الله، وأيضاً ذكر أقسامه، وكيف نفر إلى الله تبارك وتعالى، فقد رأيت أن هذا أعون على فهم مضمون هذا الأسبوع بما يتفق مع هذا العنوان.

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] آية وردت في سورة الذاريات لكنها من أعجب الآيات، إذ إن الفرار لا يكون إلا (من)، ولا يكون (إلى)؛ لأن الذي يفر إنما يفر لأنه خائف هارب، فالمناسب أن يفر (من)، لا يفر (إلى)، وقد عُدي هذا الفعل بحرف الجر (من) في القرآن الكريم في مواضع كثيرة كقوله تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18] وقال موسى لفرعون : فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ [الشعراء:21] ، فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51] ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8] فالفرار لا يكون إلا (من)، والعجيب أن الآية السابقة عُدي فيها هذا الفعل بـ(إلى) وهذا غير معهود، فترى ما هي النكتة في تعدية هذا الفعل بحرف الجر (إلى)؟!!

إذا استعرضت الآيات التي سبقت هذه الآية، والآيات التي تلت هذه الآية ظهر لك هذا المعنى بجلاء.

إن الله تبارك وتعالى هو الوحيد الذي تفر منه إليه؛ لأن الله عز وجل قال: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا [الرحمن:33] هذا تمام الإحاطة بالعباد، فالله محيط بالسموات والأرض فإذا أردت أن تفر منه فإلى من تذهب وهو محيط بالعالمين؟! تفر منه إليه، ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعلن هذا الفرار إلى الله كل ليلة، الأذكار الموظفة التي علمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذكار النوم كما رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم نم على شقك الأيمن، وقل: اللهم ألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) هذا هو الفرار (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت).

لما تقول هذا الذكر في كل ليلة فكأنك تستحضر هذا الفرار إلى الله عز وجل، وسنذكر النكتة بذكر لفظ الفرار (إلى) دون غيره، مع ما في الفرار من إشارات الرعب والهلع.

فأنا عندما أفر فإنما أفر (من)؛ لأن الذي يطلبني يريد إهلاكي؛ فأنا أفر منه، فإذا توجهت إلى الله عز وجل وهو غاية المطلوب فالمفترض أن أستريح، والمفترض أن يطمئن قلبي، فيعبر بلفظ آخر غير لفظ الفرار الذي يقتضي الرعب والهلع والفزع، فلماذا عبر أيضاً بلفظ الفرار وعدي بـ(إلى)؟

أي رجل فار له جهتان: مهرب، ومطلب؛ مهرب يهرب منه، ومطلب يرجوه.

من أول قول الله عز وجل : قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الذاريات:31-37] هذه أول واحدة.

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات:38-40] وهذه الثانية.

وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:38-42] وهذه الثالثة.

وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ [الذاريات:43-45].

وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات:46].

فما سبق كان هذا كله إهلاك، ثم قال: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47] والله إن ترتيب هذه الآيات عجيب! وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:47-50] (ففروا) يعني هناك إهلاك مستمر، فهذا هو مقتضى الفرار.

والعجيب أنه لم يذكر الجهة التي تفر منها، إنما ذكر الجهة المطلوبة، وفي هذا نكتة.. حدد الجهة المطلوبة، ولم يذكر الجهة التي تهرب منها.. لماذا؟ لأنها واضحة، من أول قصة قوم لوط عليه السلام بيان من الله بوجود إهلاك... فبعدما تقرأ هذه الآيات، وتعلم أنك إن أعرضت مثل هؤلاء حاق بك ما حاق بهم، إذاً قد وضحت الجهة التي منها تهرب وهي العذاب.

لكن تخلل السياق -ما بين (ففروا إلى الله) وإهلاك القوم- آيتان وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47] بـ(أيدٍ) أي: بقوة، (وإنا لموسعون) هذا اللفظ إما من التوسعة أو من السعة، واللفظ يحتمل، (وإنا لموسعون) من التوسعة على العباد، ومنه قول الله عز وجل: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]، أو من السعة التي هي البسط: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47].

فإذا استحضرت قول الله عز وجل: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57] ظهر لك عظمة الله عز وجل، وأن إهلاك القوم من أيسر ما يكون، إذ إن السماء -وهي أعظم خلقاً من الأرض ومن الإنسان- الله عز وجل يوسع فيها، يوسِّع أرزاقها، ويوسِّعها هي نفسها، فهذا إظهار لقدرة الله عز وجل وعظمته، وتأكيد بأن إهلاك الخلق من أيسر الأمور عليه عز وجل وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:48] فإذا كان الأمر كذلك فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50].

لما ذكر أبو إسماعيل الهروي منزلة الفرار قال: الفرار مِن من لم يكن إلى من لم يزل، وهو على ثلاث مراتب:

الفرار من الجهل إلى العلم

المرتبة الأولى: الفرار من الجهل إلى العلم عقداً وانسياقاً، ومن الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً.

فالذي يريد أن يفر إلى الله عز وجل يتأكد من تحقق هذه المنازل، فمطلع كلامه: (الفرار مِن من لم يكن) أي: من المخلوق، والمخلوق لم يكن له وجود قبل ذلك، أو الفرار من النار، والنار مخلوقة، فأنت تفر مِن من لم يكن إلى من لم يزل وهو الله عز وجل فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] وهو هنا يترجم معنى الآية، فرار مِن من لم يكن إلى من لم يزل، وهو ثلاثة مراتب:

الفرار من الجهل إلى العلم، وهذا الذي ذكره أبو إسماعيل مذكور في نفس الآية فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] والنذارة لا تكون إلا بعلم إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] فكيف تفر من شيء لا تعلم أنه يعطبك ويهلكك؟ إذن لابد من العلم للفرار، وشرط النجاة بالفرار العلم.

والملفت للنظر أيضاً: أن هذا المقطع من آخر الآية تكرر بألفاظه في الآية التي بعدها! وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:51] فهذا يدل على أن الفرار أول ما يكون من الشرك إلى التوحيد، إذ إن آية الفرار أعقبت بهذه الآية: وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الذاريات:51] إذاً: على هذا كيف نصل إلى التوحيد؟ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:51]، هذا يقتضي منا أن ندرس الوحي؛ لأن الله عز وجل قال: إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] إذاً الفرار من الجهل إلى العلم.

والعلم بالله عز وجل وصفاته أول ما ينبغي على العبد أن يطلبه للفرار إليه، ولذلك يقلب المرء كفيه عجباً لما يقرأ مذاهب أهل البدع في معرفة الله عز وجل، فقد ضلوا ضلالاً بعيداً؛ لأنهم ركبوا عقولهم في طلب معرفة الله عز وجل، حتى إن المعتزلة جعلت للعقل منزلة فوق منزلة الوحي، فهم يقولون: إن الله عز وجل تعبدنا بالعقل، وإذا لم يكن عندنا عقل سديد ما انتفعنا بالوحي، فيقولون: العقل ثم النقل. فقاسوا قياساً من أعجب ما يكون؛ إذ قاسوا الغائب على الشاهد، وهو قياس باطل بإجماع أهل العلم، قياس الغائب على الشاهد هذا قياس باطل؛ لانفكاك الجهة، فإن الله عز وجل ما رآه أحد، فإذا أثبت لنفسه صفة فكيف تنفيها أنت لأن لك نفس الصفة..؟!

فحادوا بذلك عن الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وأنت إذا أردت أن تفر لابد لك من طريق تسير عليه، وهذا الطريق لا يتعدد، بل هو طريق واحد فقط، كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر به في كل خطبة يخطبها أمام الصحابة، كان يقول: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) الطريق الذي يسلكه الفار إلى الله عز وجل طريق وحيد، إذا لم تعرف رسم هذا الطريق ضلت بك السبل.

أيها الهارب الذي طرفك منتبه دائماً، لا تكاد تغمض عينك، إن هناك من يطلبك، والطريق إلى الله عز وجل ليس كما قال المبتدعة بعدد أنفاس البشر، بل الطريق إلى الله عز وجل طريق واحد فقط، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

إذن إذا أردت النجاة لابد أن تعرف ماذا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تكلم هذه الكلمة، ثم ضم إليها قول الإمام مالك لما جاءه رجل فقال: ( يا إمام! من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة . قال: إني أريد أن أحرم من عند القبر -قبر النبي صلى الله عليه وسلم- ومن مسجده، فقال مالك له: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: يا إمام! بضعة أميال أزيدها؛ أبتغي الأجر بها.. أفتتن؟! فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة لم يفعلها رسول الله؟! ثم تلا قول الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ثم قال قولته اللامعة المضيئة: ما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً ).

فأنت انظر إلى سائر ما تعبد الله عز وجل به، هل كان هذا ديناً في القرون الثلاثة الأُول أم لا؟ فإذا بحثت فوجدت أن هذا الذي يأمرك به أي إنسان -كائناً من كان- ليس له وجود في القرون الثلاثة الأول، فإياك أن تعبد الله به (فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً أبداً).

إن اعتقادك أن هذا الشيء الذي لم يكن في القرون الثلاثة الأول ديناً طعن على كل تلك القرون، أنه فاتهم كل هذا الخير، وهذا فيه غمط لأشرف أمة .. أمة الوسط الذين مقدمهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

تعال إلى باب العقيدة الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) هؤلاء الثلاثة والسبعون تركز اختلافهم إلا في تعريف المؤمن والمسلم، والكافر والفاسق، فخلافهم كان في مسائل الإيمان والتوحيد، ولم يتركز على المسائل الفرعية، كالمسح على الخفين، والمسح على الجوربين، ومسح الرأس، وصفة الوضوء والتيمم.

إذاً بمقتضى هذه الكلمة: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) أيها الخوارج! الذين تخرجون الرجل من دائرة الإيمان بالمعصية، من سلفكم في هذا من القرن الأول؟! إن الخوارج -كما تعلمون- ظهروا في آخر القرن الأول. فمن سلفكم أيها الخوارج من الصحابة؟ ومن منهم قدوتكم؟ وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة من وقع في المعصية، فعلى ذلك فإن الذين رجمهم النبي عليه الصلاة والسلام إذا كنتم تكفرون بالمعصية فيلزمكم أن تستدركوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتقولوا: يا رسول الله! كيف لم تكفر هؤلاء؟ يعني: المرأة التي رجمها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) فهل النبي صلى الله عليه وسلم كفَّرها؟ لم يكفرها.

لما ذهب إليهم ابن عباس وناظرهم وجادلهم، في تلك المناظرة المشهورة رجع منهم أربعة آلاف بعد مناظرة ابن عباس ، وقد كانوا ستة آلاف قبل تلك المناظرة.

تصور أن هؤلاء يكفرون علي بن أبي طالب المقطوع له بالجنة، وهذه جرأة متناهية: أن يعرض للنص القطعي برأيه الفاسد! ويقول: هو إمام الكافرين؛ لأن المسألة عندهم إما أبيض أو أسود، قالوا: محا عن نفسه صفة أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

والخوارج أتباعهم هم جماعة التكفير والهجرة، وجماعة التوقف، وقد جربناهم ووجدناهم من أجهل الناس بالاستدلال، وبمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه..

المعتزلة والجهمية الذين نفوا الصفات عن الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟! أنا أبين لك لماذا تشعبت السبل بهؤلاء؟ لأنهم تركوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وركبوا عقولهم؛ فضلوا. وأنا هنا أبين لك طريق الفرار، فأنت تريد لنفسك النجاة، وأمامك ثلاث وسبعون طريقاً، فأي الطرق تسلك لتنجو؟ أنا أضع لك الآن ملامح الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وأنت هارب إلى الله عز وجل، فهذا هو طريق النجاة الوحيد.

هؤلاء الجهمية الذين نفوا صفات الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟

الصحابة الذين نقلوا لنا أحاديث العقائد تكلموا فيهم، فكان عمرو بن عبيد إذا ذكر سمرة بن جندب يقول: وما تفعلوا بـسمرة ، قبح الله سمرة .. يقول هذا عن صحابي! هذه خطة جهنمية شيطانية، أول معول هدم في العلماء.

وجماعة التكفير أول شيء كانوا يفعلونه هدم العلماء، بحيث أنك لا تجد عالماً معتمداً تستطيع أن تنقل كلامه إليهم، فنقول لمثل هؤلاء: عاملونا بأصولكم لا بأصلونا، أنت يا بني تقرأ عليَّ مذكرة شكري -وهي مذكرة كانوا يحفظونها كالقرآن- وتقيم عليَّ الحجة بعالمك أنت، فلماذا أخذت بقول لعالمك ورميت بعالمي..؟! خذ المسألة على أصولك.

وحتى إن منهم من كانوا لا يحسنون القراءة، مرة أحدهم ونحن نتكلم معه، يقرأ أمثلة، ثم قال: وعلى هذا فَقَس. قلت له: يعني البيض؟! بينما الصحيح هو (على هذا فقِس) فهو رجل لا يحسن حتى القراءة.

فأقول: عاملني بأصولك.. هذا هو العدل، أنت لك عالم تحتج به وتقيم عليَّ الحجة به، وأنا لي أيضاً عالمي، فيقول: لا، هم رجال ونحن رجال.

فأول لبنة يهدمونها أنهم لا يرفعون الرأس بعالم، بل ينبذونهم نبذ النواة، وهكذا المبتدعة، يأتي عمرو بن عبيد مع ما كان فيه من الزهد، حتى أن المأمون كان إذا رآه تمثل ببعض أبيات يشيد فيها بـعمرو بن عبيد الزاهد الورع، يقول:

كلكم يمشي رويد

غير عمرو بن عبيد

كلكم يمشي رويد، اللص لا يسير بسرعة، إنما يسير سيراً هادئاً..لماذا؟ لأنه يترقب ويتلفت، ماذا يسرق، ماذا يخطف، فيقول:

كلكم يمشي رويد

كلكم طالب صيد

غير عمرو بن عبيد

رجل متجاف عن دار الغرور، ورجل زاهد وعابد وورع؛ ولذلك أهل البدع يخطفون قلوب العوام بهذا الزهد الذي يظهرونه.

فيقول: من سمرة ؟ قبح الله سمرة .

والذين تكلموا في أبي هريرة وقالوا: (إنه يكذب) هم الرافضة الذين هم أشر الشيعة وغلاتهم، وقد كذبوا أبا هريرة في حياة أبي هريرة ، فقال لهم: (يا أهل العراق! تزعمون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لكم المهنأ وعليَّ المغرم..!! أشهد عدد هذا الحصى...) كان يحدثهم بحديث فردوه عليه، وكانوا يكذبونه.

فأول لبنة: أنهم لا يحترمون الصحابة ولا يوقرونهم.

فنقول: هؤلاء الصحابة هم الذين نقلوا إلينا بيان الوحي، كم من المسائل الفقهية التي اختلف الصحابة فيها فهل اختلف الصحابة كلهم في أي مسألة من مسائل العقيدة؟ أبداً، ونحن نقول للذين يذكرون اختلاف الصحابة: بيننا وبينكم الكتب، فتشوا فيها، ونمهلكم سنة، أن تأتونا بحرف صحيح أن صحابياً نقل حديثاً يتصل بالاعتقاد فرده عليه صحابي آخر، ونشترط الصحة.

ما يجدون إلى ذلك سبيلاً أبداً.. ما معنى هذا؟ معنى هذا: أنهم ما كانوا يردون كلام بعضهم البعض في مسائل الاعتقاد، بل كانوا يسلمون.

أبو سعيد الخدري الذي روى حديث الساق: (يكشف الجبار يوم القيامة عن ساقه) حديث أبي سعيد هذا في الصحيحين ، فيأتي نفاة الصفاة يقولون: إن الساق وردت غير مضافة في كتاب الله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق [القلم:42] قال لك: الساق هنا بمعنى الشدة، ويستشهدون بأشعار العرب: وكشف الحرب عن ساق.

فنقول: ورد ذكر الساق غير مضافٍ في كتاب الله عز وجل، لكنه ورد مضافاً في السنة، والسنة هي بيان القرآن، ولا نعلم عالماً قط اعترض على هذه الإضافة، ولا وهّم راوياً من رواة السند فيها.

فما هي حجة الرادين لهذا الحديث؟ ركبوا عقولهم، وقالوا: القول بأن الله له ساق، والعبد له ساق، هذا تشبيه لله عز وجل بخلقه؛ فردوه، أما نحن فنثبت الساق لله عز وجل كما يليق بجلاله، ونثبت كذلك سائر الصفات لله عز وجل.. لماذا؟ لأننا سلكنا الطريق الوحيد (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .

الزمخشري ، وكان من رءوس المعتزلة، ولعل ممن يقرأ في التفاسير ويقرأ في تفسير الكشاف للزمخشري لا يعلم أنه معتزلي قبيح جداً، كان يصف أهل السنة بالحمير الموكفة، وله أبيات شعر مشهورة، والحمير الموكفة يعني: (المبردعة) التي تكون جاهزة للركوب.

ومن يقرأ زهر الرياض في مناقب القاضي عياض ويقرأ طرفاً من هذه المعركة بين الزمخشري وبين علماء السنة، يجد العجب العجاب!

صنف الزمخشري كتاب الكشاف في التفسير لنصر مذهب الاعتزال، وقيض الله له ابن المنير السكندري -أحد العلماء المصريين، وكان يسكن في الإسكندرية - فوضع كتاباً سماه الانتصاف من الكشاف ، ورد عليه في مسائل الاعتزال رداً قوياً مفحماً.

كان الزمخشري يقول: من ذكر صفة السمع لله فأشار إلى أذنه قطعت يده.. لماذا تقطع يده؟ قال: لأن هذا مستلزم للتشبيه، إذا قلت: إن الله يرى فأشرت إلى عينك، كأنما قلت: إن عين الله كعينك. فهو يرى عقوبة لهذا الفعل أن تقطع يد المشير.

فهل القرون الثلاثة الأول كان فيها هذا الكلام؟ لا، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قرأ قوله عز وجل: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] فأشار إلى عينه وإلى أذنه) وهذا كاف في دحض هذه الفرية التي ظاهرها التنزيه.. وعندما يقال لهم: لماذا تنفون؟ يقولون: ننزه الله عز وجل؛ فهم جهلة بالسنن.

ولذلك كان أسدّ الناس طريقة أهل الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما: (قرأ قوله عز وجل: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أشار إلى عينه وأشار إلى أذنه) فأسد الناس طريقة أهل الحديث، إذا أردت أن تكون من السعداء -إن شاء الله عز وجل- فاسلك مذهب أهل الحديث، الذي اتفق العلماء جميعاً على أنه هو مذهب السنة والرشاد، ولذلك تجد دائماً هذه الكلمة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مذهب أهل السنة والحديث؛ لأن أهل الحديث لا يخرجون عن القرون الثلاثة الأول، وهم أسعد الناس بهذه الأسانيد.

ففروا إلى الله عز وجل، علمنا الطريق الذي نفر إليه.. وهذا الطريق له آلة، وآلته: الفرار من الجهل إلى العلم.

أول أسباب العلم: معرفتك بالمعين الذي تأخذ منه، لا تكن كصاحب الراعي الذي ذهب إلى الراعي فقال: أيها الراعي! إنني أريد منك شاة -اعطني أسمن شاة عندك- فكأن الراعي لمح أنه طماع ولا يكاد يرضى، قال له: دونك الغنم فخذ ما شئت، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم، فهو لما تركه إلى اختياره زل في الاختيار.. فهذا مثل الذي يسمع الحكمة أو يسمع القول فيأخذ شره، قال الله عز وجل: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55].

واحد يقول: (اتبعوا أحسن) يعني هل هناك أقل حسناً؟ هل هناك أردى؟ نقول: لا، أحسن خرجت على وزن أفعل، لكن ليست على بابها في المعنى، وهذا كقول الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] فهل هناك أشق؟ هل هناك شاق على الله عز وجل؟ فكلمة (أهون) وإن خرجت على وزن (أفعل) لكن ليست على بابها، إنما معناها: الأهون، وهو الأهون عليه، وكقول يوسف عليه السلام: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] فهل الزنا محبوب والسجن أحب؟ فهذا هو معنى (أفعل).. فهي ما خرجت على بابها (بل السجن الأحب إليَّ) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] هذا معنى.

المعنى الثاني: نعم هناك أحسن وهناك أقل حسناً بالنسبة لفعل المكلف واختياره، فمثلاً: الرخصة والعزيمة، انظر إلى فعل بلال ، وانظر إلى فعل عمار ، لما أخذوا بلالاً رضي الله عنه وعذبوه، فكان بلال يقول: (أحد أحد، ويقول: والله لو أعلم كلمة أغيظ لهم منها لقلتها) إنما عمار كان ضعيف البنية، فلما عذبوه لم يتحمل، قالوا له: سب محمداً ونحن نتركك. فسب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما برد جلده لام نفسه، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتوجع من هذا الذي فعل، فقال له: (يا عمار ! كيف تجد قلبك؟ فقال: يا رسول الله! أجده مطمئناً بالإيمان. فقال: يا عمار ! إن عادوا فعد).

فالعزيمة في حق بلال هي الأحسن، والرخصة في حق عمار هي الأحسن، قد لا يتحمل المرء البلاء، ولا يكون من أهل العزائم، فليست أحاديث العزيمة في حقه هي الأحسن، بل الرخصة في حقه هي الأحسن وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] بالنسبة لفعل المكلف، فإن الضعيف إذا أراد أن يأخذ مأخذ القوي انفسخ عزم قلبه وربما افتتن، فلا يكون الأخذ بالأشد في حقه أحسن، بل الأحسن أن يأخذ بما يناسب قدرته وطاقته.

إذاً هذه الآية إشارة إلى تنوع طاقات العباد في مقابل النص.

فنحن الآن أمامنا علم كثير، فنريد أن نأخذ الأحسن لنتزود به في طريقنا إلى الله عز وجل بعدما وضعنا أقدامنا على الطريق.

قواعد الاستدلال: إذا كنت عاجزاً عن الاستدلال لابد أن تكون واثقاً من علم من تقلده، وهذا أضعف شيء، حتى إن العلماء قالوا: العامي مقلد في كل شيء إلا في اختيار من يقلده، فإنه مجتهد، فهو مقلد في كل شيء.. لماذا؟ لأنه غير متحقق في مسائل الاجتهاد ودراسة الأصول... ولهذا يقال له: قلد العالم الفلاني، لكنه مجتهد في اختيار من يقلده، يقلد الأورع والأتقى والأعلم.

أول موارد الاستدلال: أن تحمل اللفظ على حقيقته.. وهذا باب عظيم يقيك من كثير مما زل فيه أهل البدع، فلو قلت لك: هات يدك. ما هو أول معنىً يخطر على بالك؟ هذه اليد التي خلقها الله عز وجل راحة وخمسة أصابع، لو قلت لك: هات يدك. هل تفهم مني أنني أقول لك: هات جنيهاً؟ وهل يخطر ببالك هذا الكلام؟!

فإذا قال لك قائل: خذ يدي، أو هات يدك، لا يخطر ببالك -وأنت رجل عربي- أنه يقصد هات جنيهاً أو هات خمسة أو هات عشرة.

لماذا أقول هذا الكلام ؟ لأن أحد معاني اليد: النعمة والعطاء والبذل، كما قال الله عز وجل حاكياً عن اليهود : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فذِكر اليد أحد معانيه: الإعطاء، لكن لو قلت لك: هات يدك. فلن يخطر ببالك إلا هذا المعنى المجرد وهو اليد المخلوقة.

وهذا معناه: حمل اللفظ على ظاهره، لكن لا يحمل اللفظ على ظاهره إذا كان هناك قرينة صارفة، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما نزل قول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] قام عدي بن حاتم وأتى بخيط أبيض وخيط أسود، وجعلهما أمامه، وجعل يأكل وهو يرقب، وعندما استطاع أن يميز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود كف عن الأكل.

ولو افترضنا أنك رجل نظرك قوي، وتستطيع أن تميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود قبل حلول الفجر، فأنت تكون بهذا قد حرمت نفسك من فسحة تأكل فيها وتشرب، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إنني أضع خيطين -خيطاً أبيض وخيطاً أسود- تحت وسادي وآكل حتى أميز الخيطين. فقال له: إنك لعريض القفا، أو إن وسادك لعريض، إنما هو خيط الليل والنهار).

إن كلمة خيط حين تسمعها فإن أول معنى يتبادر إلى هذا الذهن هو الخيط الذي فهمه عدي بن حاتم ، فما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحيد عن هذا المعنى الظاهر إلى هذا المعنى الآخر الذي ما خطر على بال عربي سليقة مثل عدي بن حاتم ؟ إنه سياق الآيات، فسياق الآيات يدل على أن المقصود بالخيط ليس هو الخيط الذي نعرفه وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] فكان هذا ينبغي أن يكون قيداً معروفاً صارفاً (الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فـ(من) هنا بيانية أو جنسية.

وكما يظهر هذا القيد في قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] فمع علمنا أن القرآن كله لا بعضه هدىً وشفاء للذين آمنوا، فـ(من) في هذه الآية ليست تبعيضية، أي ليست بمعنى: وننزل بعض القرآن هدىً وشفاء للذين آمنوا والبعض الآخر.. لا، القرآن كله هدىً وشفاء. إذاً (من) هنا بيانية، أي: ننزل من جنس القرآن.

إذاً (الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فكلمة (من الفجر) دلت على أن الخيط ليس هو الخيط الذي يقرع الذهن أول مرة وهو الخيط المعروف.

هذا الذي أذكره قانون ذكره علماء السلف في التعامل مع الوحي كتاباً وسنة، إنما أهل البدع أعرضوا عن كل هذا، وبدءوا يضعون قواعد من عند أنفسهم لفهم كلام الله ورسوله؛ فعاثوا في الأرض فساداً؛ لأنهم ما فروا إلى الله عز وجل.

إذاً عندنا: تصحيح الطريق، ثم تصحيح المعين الذي نأخذ منه الزاد ونحن نمضي إلى الله عز وجل.

إذاً العلم أولاً، والدلالة من ذلك قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] .

الفرار من الكسل إلى العلم

المرتبة الثانية للفرار: الفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، وهذه محنة يشتكي منها كثير من إخواننا، ويسأل البعض فيقول: أقرأ في سير السلف فأرى جدهم في العبادة، فأحاول أن أقلدهم لكن سرعان ما تفتر همتي، فما هو السبب؟ أريد كلما قرأت شيئاً عن السلف أن أكون مثلهم في الجد والعبادة، مثلاً أبو مسلم كان يصلي من الليل، فكلما تعبت قدماه كان له عكاز -عصا- يتعكز عليه، وكلما أدركه الفتور والتعب وأحس أن قدميه عجزتا عن حمله، يأخذ العصا ويضرب رجليه، ثم يقول: (والله إنكما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً؟! والله لأزاحمنهم على الحوض) ثم يقوم يستأنف الصلاة.

فإذا قرأ القارئ منا مثل هذه الحكاية، وقام يريد أن يصلي ويطيل في الصلاة، فبعد نحو نصف ساعة يشعر بالملل ويشعر أن الألم بدأ يدب في ساقيه، ثم سرعان ما يفتر وهو متألم أنه لم يكن كـأبي مسلم ، ثم يسأل: ما هو السبب في هذا الفتور؟

نظهر السبب، ونذكر العلاج في هذه المنزلة من منازل الفرار (والفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً).

إننا أمرنا أن نأخذ أوامر الله ورسوله بقوة وبلا تردد وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:93] لا تتردد وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7] بقوة، لا تتردوا في الأخذ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145] (أحسنها) هنا على نحو ما شرحناه في قوله عز وجل: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]. فإذا صح عن الله عز وجل قول، أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قول فلا تتردد في الأخذ به.

العزم ثم الجد، العزم هو: عقد الإرادة، والجد هو: عقد العمل. إذاً يلزمك عزم وجد.

إن زادك أيها الفار الهارب من النار إلى الله عز وجل هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة والتابعين، ولذلك نحن نوصي إخواننا بقراءة كتب التراجم التي عنيت بذكر سير العلماء، وأخص بالذكر منها الكتاب العظيم كتاب الإمام شمس الدين الذهبي سير أعلام النبلاء.

وكان أخذ الأمر بالقوة والعزم هو ما أمر الله به كل الأنبياء والأمم، وقد جاء هذا الأمر منه عز وجل لبني إسرائيل ولموسى عليه السلام وليحيى عليه السلام أن يأخذ الكتاب بقوة، وهذا يوجهنا إلى ألا نتردد في إظهار القوة في أخذ كلام الله ورسوله؛ لأن هذا له فوائد:

الفائدة الأول: أنك تشد من عضد أخيك الذي ينتظر إظهار هذه القوة.

الفائدة الثانية: أن عدوك يخشاك إذا أظهرت القوة في أخذ كلام الله عز وجل.

فهما فائدتان: فائدة لحبيبك، وفائدة لعدوك. فعدوك يخافك إذا رأى منك القوة، وصاحبك الذي ينتظر من يأخذ بيده يستفيد أيضاً من إظهار هذه القوة، ومن متابعة الأحداث على الساحة نحن نعلم علماً قطعياً لا يشوبه شك أن اليهود هم أجبن خلق الله عز وجل لأن هذا حكم الله عليهم أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ، لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14] فنحن نعلم أن هؤلاء الناس ضعاف جداً وجبناء، فبينما يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالتلويح بالقبضة الحديدية.. ويصر على دق أجراس الحروب، بينما سائر اليهود يطالبون بمواصلة عملية السلام حتى لا تضيع عليهم المكاسب التي حصلوا عليها من هذه العملية.

فهم بشكل عام يسيرون وفق مخطط مدروس، وبناء على خطة السلام المزعوم فكان من الواجب أن يتفق العرب مع اليهود على مكاسب معينة، ولكن هذا (النتن) جاء وشدهم إلى ما قبل الاتفاق، حتى إذا وصلوا إلى ما اتفقوا عليه أول مرة إذا بالعرب يفرحون به ويعدونه مكسباً؛ لأنهم ضعفاء لا حيلة لهم، فبعد هذا الشد القوي أول ما يبدأ يرخي فإنهم يعتبرون أن الجلوس معه -مجرد الجلوس معه- مكسب؛ وما ذاك إلا لأنه أظهر قوة أمام أناس في غاية الضعف.

ووفق المخططات اليهودية فإن حرباً توشك أن تندلع بيننا وبين اليهود، خلال عشر سنوات، وهذا ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، والتي ترجمت للعربية، إلا أن المسلمين لا يقرءون، فكل الذي جاء في تلك البروتوكولات من سنوات طويلة يحدث الآن بالحرف الواحد، ومن أراد أن يتأكد فليقرأ بروتوكولات حكماء صهيون، فالذي يحدث الآن على الساحة مكتوب، وهم يخططون قبل سنة ألفين أو بعد سنة ألفين بحولي سنتين لانقضاضة قوية على بلاد الإسلام، لكن لا يمكنهم الله عز وجل أمام هذا التنامي للصحوة الإسلامية في ديار المسلمين؛ لأن الدنيا تغيرت، ووجه الساحة تغير بهؤلاء الشباب .. هذا الجيل الذي استعبده الله عز وجل وخلقه لطاعته، فهذا يظهر القوة؛ فالضعيف يخاف، والقوي يضع يده في يده.

فكذلك أمر الله عز وجل إيانا أن نأخذ أوامره بقوة .. لا تخف؛ لأن الله عز وجل الذي أنزل هذا الكتاب هو المهيمن على أقدار الناس جميعاً، كما قال تبارك وتعالى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] .

إذاً المنزلة الثانية من منازل الفرار -بعدما صححت معين الأخذ، ووقفت على أول طريق النجاة-: أن تبدأ في العمل بهذا العلم الذي خرجت به من ظلمات الجهل.

السبب في أن عزمنا ينفسخ، ولا نستطيع أن نقلد أسلافنا: أن الدين على ثلاثة أنحاء: إسلام، وإيمان، وإحسان. اجتناب للحرمات -المحرمات- وفعل للواجبات والمستحبات.

أبو مسلم -الذي ضرب رجليه بالعصا، وهب منتفضاً كله عزم ونشاط ليواصل الصلاة- تمم الواجبات واجتنب المحرمات؛ فسهل عليه أن يصل إلى درجة الإحسان، لكن بعضنا مقصر في الواجبات، ملابس للمحرمات، لكن يدركه علو الإيمان في فترة من الفترات، فيقرأ مثل هذه الحكايات فيريد أن يرتفع، فإذا بالأغلال تشده.

من أراد أن يكون كهؤلاء السلف فليتمم أبواب الواجبات، وليكف عن أبواب المحرمات؛ ليصل تلقائياً إلى درجة الإحسان. لذلك يسيخ عزمنا بسرعة؛ للفرق الذي بيننا وبينهم.

ومن الأئمة الكبار، أبو حصين رحمه الله تعالى، وكان رجلاً عالماً، وكان شديد الورع في الفتوى، حتى أنه كان يقول: (إنكم لتفتون الفتوى التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر) يعني: يقول ما أجرأكم! لو عرضت هذه المسألة على عمر لخاف أن يفتي، ولجمع لها أهل بدر يستشيرهم، وكان أبو حصين من أعلم الناس.

وكذلك الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وكان له مذهب مثل مذاهب الأئمة الأربعة، لأن المذاهب الفقهية ليست محصورة في أربعة مذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.. لا، المذاهب الفقهية كانت كثيرة، كان هناك مذهب لـسفيان الثوري ، وكان هناك مذهب لـسفيان بن عيينة ، وكان هناك مذهب لـإسحاق بن راهويه ، وكان هناك مذهب لـداود بن علي ، وكان هناك مذهب للإمام الأوزاعي -الذي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي - وكان عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي من أقران الإمام مالك ، فـمالك كان في المدينة والأوزاعي كان في الشام ، وكان الأوزاعي جليلاً كبيراً، عظيماً معظماً عند العلماء، لدرجة أن سفيان الثوري -رضي الله عن سفيان كان شامة في جبين الزمان- لما رأى الأوزاعي في السوق يركب دابته أخذ سفيان الثوري بلجام دابة الأوزاعي يسله من الزحام، وهو يقول: أوسعوا لبغلة الشيخ.

وجاء رجل لـسفيان الثوري وقال: يا أبا محمد ! رأيت كأن وردة خرجت من أرض الشام إلى السماء. قال: ويحك! لو صدق ما تقول فإن الأوزاعي قد مات. فجاءه نعي الأوزاعي في آخر النهار.

وكان الإمام مالك رحمه الله يقول: لا زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي .

كان هذا الإمام الكبير قواماً بالليل، تالياً لكتاب الله عز وجل، سريع الدمعة، غزير العبرة، حتى قال مترجموه: أن أجفانه ذبلت من البكاء، فكان إذا صلى بالليل وأراد أن يخرج اكتحل، وشد أشفار عينيه حتى لا يظهر هذا الذبول.

وكذلك أيوب بن أبي تميمة السختياني -وهو من طبقة الإمام مالك أيضاً ، وإن كان أكبر منه في السن- كان إذا ذكر بالله عز وجل جرت العبرة من عينه فتخللت أنفه، فكان إذا شعر بذلك قال: سبحان الله! ما أشد الزكام! حتى لا يسأل عن هذا الماء الذي يتساقط من أنفه.

أنت إذا أردت أن تصل إلى مثل هذا كيف تصل وقد لابست بعض المحرمات؟! فهذه الأخبار وردت عن التابعين، والصور في حال الصحابة أجل وأعظم!

عبد الله بن عمرو بن العاص لولا صحة الأسانيد إلى حكايته ما كاد المرء أن يصدقها، عبد الله بن عمرو بن العاص كان يختم القرآن كل ليلة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : ( جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أختمه كل ليلة ) وكان رضي الله عنه شديد الاجتهاد في العبادة، وكان يشتاق للصلاة، فلما تزوج ترك ام

المرتبة الأولى: الفرار من الجهل إلى العلم عقداً وانسياقاً، ومن الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاءً.

فالذي يريد أن يفر إلى الله عز وجل يتأكد من تحقق هذه المنازل، فمطلع كلامه: (الفرار مِن من لم يكن) أي: من المخلوق، والمخلوق لم يكن له وجود قبل ذلك، أو الفرار من النار، والنار مخلوقة، فأنت تفر مِن من لم يكن إلى من لم يزل وهو الله عز وجل فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] وهو هنا يترجم معنى الآية، فرار مِن من لم يكن إلى من لم يزل، وهو ثلاثة مراتب:

الفرار من الجهل إلى العلم، وهذا الذي ذكره أبو إسماعيل مذكور في نفس الآية فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] والنذارة لا تكون إلا بعلم إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] فكيف تفر من شيء لا تعلم أنه يعطبك ويهلكك؟ إذن لابد من العلم للفرار، وشرط النجاة بالفرار العلم.

والملفت للنظر أيضاً: أن هذا المقطع من آخر الآية تكرر بألفاظه في الآية التي بعدها! وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:51] فهذا يدل على أن الفرار أول ما يكون من الشرك إلى التوحيد، إذ إن آية الفرار أعقبت بهذه الآية: وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الذاريات:51] إذاً: على هذا كيف نصل إلى التوحيد؟ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:51]، هذا يقتضي منا أن ندرس الوحي؛ لأن الله عز وجل قال: إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] إذاً الفرار من الجهل إلى العلم.

والعلم بالله عز وجل وصفاته أول ما ينبغي على العبد أن يطلبه للفرار إليه، ولذلك يقلب المرء كفيه عجباً لما يقرأ مذاهب أهل البدع في معرفة الله عز وجل، فقد ضلوا ضلالاً بعيداً؛ لأنهم ركبوا عقولهم في طلب معرفة الله عز وجل، حتى إن المعتزلة جعلت للعقل منزلة فوق منزلة الوحي، فهم يقولون: إن الله عز وجل تعبدنا بالعقل، وإذا لم يكن عندنا عقل سديد ما انتفعنا بالوحي، فيقولون: العقل ثم النقل. فقاسوا قياساً من أعجب ما يكون؛ إذ قاسوا الغائب على الشاهد، وهو قياس باطل بإجماع أهل العلم، قياس الغائب على الشاهد هذا قياس باطل؛ لانفكاك الجهة، فإن الله عز وجل ما رآه أحد، فإذا أثبت لنفسه صفة فكيف تنفيها أنت لأن لك نفس الصفة..؟!

فحادوا بذلك عن الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وأنت إذا أردت أن تفر لابد لك من طريق تسير عليه، وهذا الطريق لا يتعدد، بل هو طريق واحد فقط، كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر به في كل خطبة يخطبها أمام الصحابة، كان يقول: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) الطريق الذي يسلكه الفار إلى الله عز وجل طريق وحيد، إذا لم تعرف رسم هذا الطريق ضلت بك السبل.

أيها الهارب الذي طرفك منتبه دائماً، لا تكاد تغمض عينك، إن هناك من يطلبك، والطريق إلى الله عز وجل ليس كما قال المبتدعة بعدد أنفاس البشر، بل الطريق إلى الله عز وجل طريق واحد فقط، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

إذن إذا أردت النجاة لابد أن تعرف ماذا كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تكلم هذه الكلمة، ثم ضم إليها قول الإمام مالك لما جاءه رجل فقال: ( يا إمام! من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة . قال: إني أريد أن أحرم من عند القبر -قبر النبي صلى الله عليه وسلم- ومن مسجده، فقال مالك له: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: يا إمام! بضعة أميال أزيدها؛ أبتغي الأجر بها.. أفتتن؟! فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة لم يفعلها رسول الله؟! ثم تلا قول الله عز وجل: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ثم قال قولته اللامعة المضيئة: ما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً ).

فأنت انظر إلى سائر ما تعبد الله عز وجل به، هل كان هذا ديناً في القرون الثلاثة الأُول أم لا؟ فإذا بحثت فوجدت أن هذا الذي يأمرك به أي إنسان -كائناً من كان- ليس له وجود في القرون الثلاثة الأول، فإياك أن تعبد الله به (فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً أبداً).

إن اعتقادك أن هذا الشيء الذي لم يكن في القرون الثلاثة الأول ديناً طعن على كل تلك القرون، أنه فاتهم كل هذا الخير، وهذا فيه غمط لأشرف أمة .. أمة الوسط الذين مقدمهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

تعال إلى باب العقيدة الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) هؤلاء الثلاثة والسبعون تركز اختلافهم إلا في تعريف المؤمن والمسلم، والكافر والفاسق، فخلافهم كان في مسائل الإيمان والتوحيد، ولم يتركز على المسائل الفرعية، كالمسح على الخفين، والمسح على الجوربين، ومسح الرأس، وصفة الوضوء والتيمم.

إذاً بمقتضى هذه الكلمة: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) أيها الخوارج! الذين تخرجون الرجل من دائرة الإيمان بالمعصية، من سلفكم في هذا من القرن الأول؟! إن الخوارج -كما تعلمون- ظهروا في آخر القرن الأول. فمن سلفكم أيها الخوارج من الصحابة؟ ومن منهم قدوتكم؟ وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة من وقع في المعصية، فعلى ذلك فإن الذين رجمهم النبي عليه الصلاة والسلام إذا كنتم تكفرون بالمعصية فيلزمكم أن تستدركوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتقولوا: يا رسول الله! كيف لم تكفر هؤلاء؟ يعني: المرأة التي رجمها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم) فهل النبي صلى الله عليه وسلم كفَّرها؟ لم يكفرها.

لما ذهب إليهم ابن عباس وناظرهم وجادلهم، في تلك المناظرة المشهورة رجع منهم أربعة آلاف بعد مناظرة ابن عباس ، وقد كانوا ستة آلاف قبل تلك المناظرة.

تصور أن هؤلاء يكفرون علي بن أبي طالب المقطوع له بالجنة، وهذه جرأة متناهية: أن يعرض للنص القطعي برأيه الفاسد! ويقول: هو إمام الكافرين؛ لأن المسألة عندهم إما أبيض أو أسود، قالوا: محا عن نفسه صفة أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

والخوارج أتباعهم هم جماعة التكفير والهجرة، وجماعة التوقف، وقد جربناهم ووجدناهم من أجهل الناس بالاستدلال، وبمعرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه..

المعتزلة والجهمية الذين نفوا الصفات عن الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟! أنا أبين لك لماذا تشعبت السبل بهؤلاء؟ لأنهم تركوا الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى النجاة، وركبوا عقولهم؛ فضلوا. وأنا هنا أبين لك طريق الفرار، فأنت تريد لنفسك النجاة، وأمامك ثلاث وسبعون طريقاً، فأي الطرق تسلك لتنجو؟ أنا أضع لك الآن ملامح الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وأنت هارب إلى الله عز وجل، فهذا هو طريق النجاة الوحيد.

هؤلاء الجهمية الذين نفوا صفات الله عز وجل من سلفهم في القرن الأول الفاضل؟

الصحابة الذين نقلوا لنا أحاديث العقائد تكلموا فيهم، فكان عمرو بن عبيد إذا ذكر سمرة بن جندب يقول: وما تفعلوا بـسمرة ، قبح الله سمرة .. يقول هذا عن صحابي! هذه خطة جهنمية شيطانية، أول معول هدم في العلماء.

وجماعة التكفير أول شيء كانوا يفعلونه هدم العلماء، بحيث أنك لا تجد عالماً معتمداً تستطيع أن تنقل كلامه إليهم، فنقول لمثل هؤلاء: عاملونا بأصولكم لا بأصلونا، أنت يا بني تقرأ عليَّ مذكرة شكري -وهي مذكرة كانوا يحفظونها كالقرآن- وتقيم عليَّ الحجة بعالمك أنت، فلماذا أخذت بقول لعالمك ورميت بعالمي..؟! خذ المسألة على أصولك.

وحتى إن منهم من كانوا لا يحسنون القراءة، مرة أحدهم ونحن نتكلم معه، يقرأ أمثلة، ثم قال: وعلى هذا فَقَس. قلت له: يعني البيض؟! بينما الصحيح هو (على هذا فقِس) فهو رجل لا يحسن حتى القراءة.

فأقول: عاملني بأصولك.. هذا هو العدل، أنت لك عالم تحتج به وتقيم عليَّ الحجة به، وأنا لي أيضاً عالمي، فيقول: لا، هم رجال ونحن رجال.

فأول لبنة يهدمونها أنهم لا يرفعون الرأس بعالم، بل ينبذونهم نبذ النواة، وهكذا المبتدعة، يأتي عمرو بن عبيد مع ما كان فيه من الزهد، حتى أن المأمون كان إذا رآه تمثل ببعض أبيات يشيد فيها بـعمرو بن عبيد الزاهد الورع، يقول:

كلكم يمشي رويد

غير عمرو بن عبيد

كلكم يمشي رويد، اللص لا يسير بسرعة، إنما يسير سيراً هادئاً..لماذا؟ لأنه يترقب ويتلفت، ماذا يسرق، ماذا يخطف، فيقول:

كلكم يمشي رويد

كلكم طالب صيد

غير عمرو بن عبيد

رجل متجاف عن دار الغرور، ورجل زاهد وعابد وورع؛ ولذلك أهل البدع يخطفون قلوب العوام بهذا الزهد الذي يظهرونه.

فيقول: من سمرة ؟ قبح الله سمرة .

والذين تكلموا في أبي هريرة وقالوا: (إنه يكذب) هم الرافضة الذين هم أشر الشيعة وغلاتهم، وقد كذبوا أبا هريرة في حياة أبي هريرة ، فقال لهم: (يا أهل العراق! تزعمون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون لكم المهنأ وعليَّ المغرم..!! أشهد عدد هذا الحصى...) كان يحدثهم بحديث فردوه عليه، وكانوا يكذبونه.

فأول لبنة: أنهم لا يحترمون الصحابة ولا يوقرونهم.

فنقول: هؤلاء الصحابة هم الذين نقلوا إلينا بيان الوحي، كم من المسائل الفقهية التي اختلف الصحابة فيها فهل اختلف الصحابة كلهم في أي مسألة من مسائل العقيدة؟ أبداً، ونحن نقول للذين يذكرون اختلاف الصحابة: بيننا وبينكم الكتب، فتشوا فيها، ونمهلكم سنة، أن تأتونا بحرف صحيح أن صحابياً نقل حديثاً يتصل بالاعتقاد فرده عليه صحابي آخر، ونشترط الصحة.

ما يجدون إلى ذلك سبيلاً أبداً.. ما معنى هذا؟ معنى هذا: أنهم ما كانوا يردون كلام بعضهم البعض في مسائل الاعتقاد، بل كانوا يسلمون.

أبو سعيد الخدري الذي روى حديث الساق: (يكشف الجبار يوم القيامة عن ساقه) حديث أبي سعيد هذا في الصحيحين ، فيأتي نفاة الصفاة يقولون: إن الساق وردت غير مضافة في كتاب الله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق [القلم:42] قال لك: الساق هنا بمعنى الشدة، ويستشهدون بأشعار العرب: وكشف الحرب عن ساق.

فنقول: ورد ذكر الساق غير مضافٍ في كتاب الله عز وجل، لكنه ورد مضافاً في السنة، والسنة هي بيان القرآن، ولا نعلم عالماً قط اعترض على هذه الإضافة، ولا وهّم راوياً من رواة السند فيها.

فما هي حجة الرادين لهذا الحديث؟ ركبوا عقولهم، وقالوا: القول بأن الله له ساق، والعبد له ساق، هذا تشبيه لله عز وجل بخلقه؛ فردوه، أما نحن فنثبت الساق لله عز وجل كما يليق بجلاله، ونثبت كذلك سائر الصفات لله عز وجل.. لماذا؟ لأننا سلكنا الطريق الوحيد (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .

الزمخشري ، وكان من رءوس المعتزلة، ولعل ممن يقرأ في التفاسير ويقرأ في تفسير الكشاف للزمخشري لا يعلم أنه معتزلي قبيح جداً، كان يصف أهل السنة بالحمير الموكفة، وله أبيات شعر مشهورة، والحمير الموكفة يعني: (المبردعة) التي تكون جاهزة للركوب.

ومن يقرأ زهر الرياض في مناقب القاضي عياض ويقرأ طرفاً من هذه المعركة بين الزمخشري وبين علماء السنة، يجد العجب العجاب!

صنف الزمخشري كتاب الكشاف في التفسير لنصر مذهب الاعتزال، وقيض الله له ابن المنير السكندري -أحد العلماء المصريين، وكان يسكن في الإسكندرية - فوضع كتاباً سماه الانتصاف من الكشاف ، ورد عليه في مسائل الاعتزال رداً قوياً مفحماً.

كان الزمخشري يقول: من ذكر صفة السمع لله فأشار إلى أذنه قطعت يده.. لماذا تقطع يده؟ قال: لأن هذا مستلزم للتشبيه، إذا قلت: إن الله يرى فأشرت إلى عينك، كأنما قلت: إن عين الله كعينك. فهو يرى عقوبة لهذا الفعل أن تقطع يد المشير.

فهل القرون الثلاثة الأول كان فيها هذا الكلام؟ لا، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قرأ قوله عز وجل: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] فأشار إلى عينه وإلى أذنه) وهذا كاف في دحض هذه الفرية التي ظاهرها التنزيه.. وعندما يقال لهم: لماذا تنفون؟ يقولون: ننزه الله عز وجل؛ فهم جهلة بالسنن.

ولذلك كان أسدّ الناس طريقة أهل الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما: (قرأ قوله عز وجل: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أشار إلى عينه وأشار إلى أذنه) فأسد الناس طريقة أهل الحديث، إذا أردت أن تكون من السعداء -إن شاء الله عز وجل- فاسلك مذهب أهل الحديث، الذي اتفق العلماء جميعاً على أنه هو مذهب السنة والرشاد، ولذلك تجد دائماً هذه الكلمة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مذهب أهل السنة والحديث؛ لأن أهل الحديث لا يخرجون عن القرون الثلاثة الأول، وهم أسعد الناس بهذه الأسانيد.

ففروا إلى الله عز وجل، علمنا الطريق الذي نفر إليه.. وهذا الطريق له آلة، وآلته: الفرار من الجهل إلى العلم.

أول أسباب العلم: معرفتك بالمعين الذي تأخذ منه، لا تكن كصاحب الراعي الذي ذهب إلى الراعي فقال: أيها الراعي! إنني أريد منك شاة -اعطني أسمن شاة عندك- فكأن الراعي لمح أنه طماع ولا يكاد يرضى، قال له: دونك الغنم فخذ ما شئت، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم، فهو لما تركه إلى اختياره زل في الاختيار.. فهذا مثل الذي يسمع الحكمة أو يسمع القول فيأخذ شره، قال الله عز وجل: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55].

واحد يقول: (اتبعوا أحسن) يعني هل هناك أقل حسناً؟ هل هناك أردى؟ نقول: لا، أحسن خرجت على وزن أفعل، لكن ليست على بابها في المعنى، وهذا كقول الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] فهل هناك أشق؟ هل هناك شاق على الله عز وجل؟ فكلمة (أهون) وإن خرجت على وزن (أفعل) لكن ليست على بابها، إنما معناها: الأهون، وهو الأهون عليه، وكقول يوسف عليه السلام: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] فهل الزنا محبوب والسجن أحب؟ فهذا هو معنى (أفعل).. فهي ما خرجت على بابها (بل السجن الأحب إليَّ) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] هذا معنى.

المعنى الثاني: نعم هناك أحسن وهناك أقل حسناً بالنسبة لفعل المكلف واختياره، فمثلاً: الرخصة والعزيمة، انظر إلى فعل بلال ، وانظر إلى فعل عمار ، لما أخذوا بلالاً رضي الله عنه وعذبوه، فكان بلال يقول: (أحد أحد، ويقول: والله لو أعلم كلمة أغيظ لهم منها لقلتها) إنما عمار كان ضعيف البنية، فلما عذبوه لم يتحمل، قالوا له: سب محمداً ونحن نتركك. فسب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما برد جلده لام نفسه، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتوجع من هذا الذي فعل، فقال له: (يا عمار ! كيف تجد قلبك؟ فقال: يا رسول الله! أجده مطمئناً بالإيمان. فقال: يا عمار ! إن عادوا فعد).

فالعزيمة في حق بلال هي الأحسن، والرخصة في حق عمار هي الأحسن، قد لا يتحمل المرء البلاء، ولا يكون من أهل العزائم، فليست أحاديث العزيمة في حقه هي الأحسن، بل الرخصة في حقه هي الأحسن وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] بالنسبة لفعل المكلف، فإن الضعيف إذا أراد أن يأخذ مأخذ القوي انفسخ عزم قلبه وربما افتتن، فلا يكون الأخذ بالأشد في حقه أحسن، بل الأحسن أن يأخذ بما يناسب قدرته وطاقته.

إذاً هذه الآية إشارة إلى تنوع طاقات العباد في مقابل النص.

فنحن الآن أمامنا علم كثير، فنريد أن نأخذ الأحسن لنتزود به في طريقنا إلى الله عز وجل بعدما وضعنا أقدامنا على الطريق.

قواعد الاستدلال: إذا كنت عاجزاً عن الاستدلال لابد أن تكون واثقاً من علم من تقلده، وهذا أضعف شيء، حتى إن العلماء قالوا: العامي مقلد في كل شيء إلا في اختيار من يقلده، فإنه مجتهد، فهو مقلد في كل شيء.. لماذا؟ لأنه غير متحقق في مسائل الاجتهاد ودراسة الأصول... ولهذا يقال له: قلد العالم الفلاني، لكنه مجتهد في اختيار من يقلده، يقلد الأورع والأتقى والأعلم.

أول موارد الاستدلال: أن تحمل اللفظ على حقيقته.. وهذا باب عظيم يقيك من كثير مما زل فيه أهل البدع، فلو قلت لك: هات يدك. ما هو أول معنىً يخطر على بالك؟ هذه اليد التي خلقها الله عز وجل راحة وخمسة أصابع، لو قلت لك: هات يدك. هل تفهم مني أنني أقول لك: هات جنيهاً؟ وهل يخطر ببالك هذا الكلام؟!

فإذا قال لك قائل: خذ يدي، أو هات يدك، لا يخطر ببالك -وأنت رجل عربي- أنه يقصد هات جنيهاً أو هات خمسة أو هات عشرة.

لماذا أقول هذا الكلام ؟ لأن أحد معاني اليد: النعمة والعطاء والبذل، كما قال الله عز وجل حاكياً عن اليهود : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فذِكر اليد أحد معانيه: الإعطاء، لكن لو قلت لك: هات يدك. فلن يخطر ببالك إلا هذا المعنى المجرد وهو اليد المخلوقة.

وهذا معناه: حمل اللفظ على ظاهره، لكن لا يحمل اللفظ على ظاهره إذا كان هناك قرينة صارفة، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما نزل قول الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] قام عدي بن حاتم وأتى بخيط أبيض وخيط أسود، وجعلهما أمامه، وجعل يأكل وهو يرقب، وعندما استطاع أن يميز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود كف عن الأكل.

ولو افترضنا أنك رجل نظرك قوي، وتستطيع أن تميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود قبل حلول الفجر، فأنت تكون بهذا قد حرمت نفسك من فسحة تأكل فيها وتشرب، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إنني أضع خيطين -خيطاً أبيض وخيطاً أسود- تحت وسادي وآكل حتى أميز الخيطين. فقال له: إنك لعريض القفا، أو إن وسادك لعريض، إنما هو خيط الليل والنهار).

إن كلمة خيط حين تسمعها فإن أول معنى يتبادر إلى هذا الذهن هو الخيط الذي فهمه عدي بن حاتم ، فما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحيد عن هذا المعنى الظاهر إلى هذا المعنى الآخر الذي ما خطر على بال عربي سليقة مثل عدي بن حاتم ؟ إنه سياق الآيات، فسياق الآيات يدل على أن المقصود بالخيط ليس هو الخيط الذي نعرفه وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] فكان هذا ينبغي أن يكون قيداً معروفاً صارفاً (الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فـ(من) هنا بيانية أو جنسية.

وكما يظهر هذا القيد في قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] فمع علمنا أن القرآن كله لا بعضه هدىً وشفاء للذين آمنوا، فـ(من) في هذه الآية ليست تبعيضية، أي ليست بمعنى: وننزل بعض القرآن هدىً وشفاء للذين آمنوا والبعض الآخر.. لا، القرآن كله هدىً وشفاء. إذاً (من) هنا بيانية، أي: ننزل من جنس القرآن.

إذاً (الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فكلمة (من الفجر) دلت على أن الخيط ليس هو الخيط الذي يقرع الذهن أول مرة وهو الخيط المعروف.

هذا الذي أذكره قانون ذكره علماء السلف في التعامل مع الوحي كتاباً وسنة، إنما أهل البدع أعرضوا عن كل هذا، وبدءوا يضعون قواعد من عند أنفسهم لفهم كلام الله ورسوله؛ فعاثوا في الأرض فساداً؛ لأنهم ما فروا إلى الله عز وجل.

إذاً عندنا: تصحيح الطريق، ثم تصحيح المعين الذي نأخذ منه الزاد ونحن نمضي إلى الله عز وجل.

إذاً العلم أولاً، والدلالة من ذلك قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] .

المرتبة الثانية للفرار: الفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً، وهذه محنة يشتكي منها كثير من إخواننا، ويسأل البعض فيقول: أقرأ في سير السلف فأرى جدهم في العبادة، فأحاول أن أقلدهم لكن سرعان ما تفتر همتي، فما هو السبب؟ أريد كلما قرأت شيئاً عن السلف أن أكون مثلهم في الجد والعبادة، مثلاً أبو مسلم كان يصلي من الليل، فكلما تعبت قدماه كان له عكاز -عصا- يتعكز عليه، وكلما أدركه الفتور والتعب وأحس أن قدميه عجزتا عن حمله، يأخذ العصا ويضرب رجليه، ثم يقول: (والله إنكما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً؟! والله لأزاحمنهم على الحوض) ثم يقوم يستأنف الصلاة.

فإذا قرأ القارئ منا مثل هذه الحكاية، وقام يريد أن يصلي ويطيل في الصلاة، فبعد نحو نصف ساعة يشعر بالملل ويشعر أن الألم بدأ يدب في ساقيه، ثم سرعان ما يفتر وهو متألم أنه لم يكن كـأبي مسلم ، ثم يسأل: ما هو السبب في هذا الفتور؟

نظهر السبب، ونذكر العلاج في هذه المنزلة من منازل الفرار (والفرار من الكسل إلى التشمير جداً وعزماً).

إننا أمرنا أن نأخذ أوامر الله ورسوله بقوة وبلا تردد وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [البقرة:93] لا تتردد وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7] بقوة، لا تتردوا في الأخذ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145] (أحسنها) هنا على نحو ما شرحناه في قوله عز وجل: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55] يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]. فإذا صح عن الله عز وجل قول، أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قول فلا تتردد في الأخذ به.

العزم ثم الجد، العزم هو: عقد الإرادة، والجد هو: عقد العمل. إذاً يلزمك عزم وجد.

إن زادك أيها الفار الهارب من النار إلى الله عز وجل هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة الصحابة والتابعين، ولذلك نحن نوصي إخواننا بقراءة كتب التراجم التي عنيت بذكر سير العلماء، وأخص بالذكر منها الكتاب العظيم كتاب الإمام شمس الدين الذهبي سير أعلام النبلاء.

وكان أخذ الأمر بالقوة والعزم هو ما أمر الله به كل الأنبياء والأمم، وقد جاء هذا الأمر منه عز وجل لبني إسرائيل ولموسى عليه السلام وليحيى عليه السلام أن يأخذ الكتاب بقوة، وهذا يوجهنا إلى ألا نتردد في إظهار القوة في أخذ كلام الله ورسوله؛ لأن هذا له فوائد:

الفائدة الأول: أنك تشد من عضد أخيك الذي ينتظر إظهار هذه القوة.

الفائدة الثانية: أن عدوك يخشاك إذا أظهرت القوة في أخذ كلام الله عز وجل.

فهما فائدتان: فائدة لحبيبك، وفائدة لعدوك. فعدوك يخافك إذا رأى منك القوة، وصاحبك الذي ينتظر من يأخذ بيده يستفيد أيضاً من إظهار هذه القوة، ومن متابعة الأحداث على الساحة نحن نعلم علماً قطعياً لا يشوبه شك أن اليهود هم أجبن خلق الله عز وجل لأن هذا حكم الله عليهم أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ، لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14] فنحن نعلم أن هؤلاء الناس ضعاف جداً وجبناء، فبينما يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالتلويح بالقبضة الحديدية.. ويصر على دق أجراس الحروب، بينما سائر اليهود يطالبون بمواصلة عملية السلام حتى لا تضيع عليهم المكاسب التي حصلوا عليها من هذه العملية.

فهم بشكل عام يسيرون وفق مخطط مدروس، وبناء على خطة السلام المزعوم فكان من الواجب أن يتفق العرب مع اليهود على مكاسب معينة، ولكن هذا (النتن) جاء وشدهم إلى ما قبل الاتفاق، حتى إذا وصلوا إلى ما اتفقوا عليه أول مرة إذا بالعرب يفرحون به ويعدونه مكسباً؛ لأنهم ضعفاء لا حيلة لهم، فبعد هذا الشد القوي أول ما يبدأ يرخي فإنهم يعتبرون أن الجلوس معه -مجرد الجلوس معه- مكسب؛ وما ذاك إلا لأنه أظهر قوة أمام أناس في غاية الضعف.

ووفق المخططات اليهودية فإن حرباً توشك أن تندلع بيننا وبين اليهود، خلال عشر سنوات، وهذا ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، والتي ترجمت للعربية، إلا أن المسلمين لا يقرءون، فكل الذي جاء في تلك البروتوكولات من سنوات طويلة يحدث الآن بالحرف الواحد، ومن أراد أن يتأكد فليقرأ بروتوكولات حكماء صهيون، فالذي يحدث الآن على الساحة مكتوب، وهم يخططون قبل سنة ألفين أو بعد سنة ألفين بحولي سنتين لانقضاضة قوية على بلاد الإسلام، لكن لا يمكنهم الله عز وجل أمام هذا التنامي للصحوة الإسلامية في ديار المسلمين؛ لأن الدنيا تغيرت، ووجه الساحة تغير بهؤلاء الشباب .. هذا الجيل الذي استعبده الله عز وجل وخلقه لطاعته، فهذا يظهر القوة؛ فالضعيف يخاف، والقوي يضع يده في يده.

فكذلك أمر الله عز وجل إيانا أن نأخذ أوامره بقوة .. لا تخف؛ لأن الله عز وجل الذي أنزل هذا الكتاب هو المهيمن على أقدار الناس جميعاً، كما قال تبارك وتعالى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] .

إذاً المنزلة الثانية من منازل الفرار -بعدما صححت معين الأخذ، ووقفت على أول طريق النجاة-: أن تبدأ في العمل بهذا العلم الذي خرجت به من ظلمات الجهل.

السبب في أن عزمنا ينفسخ، ولا نستطيع أن نقلد أسلافنا: أن الدين على ثلاثة أنحاء: إسلام، وإيمان، وإحسان. اجتناب للحرمات -المحرمات- وفعل للواجبات والمستحبات.

أبو مسلم -الذي ضرب رجليه بالعصا، وهب منتفضاً كله عزم ونشاط ليواصل الصلاة- تمم الواجبات واجتنب المحرمات؛ فسهل عليه أن يصل إلى درجة الإحسان، لكن بعضنا مقصر في الواجبات، ملابس للمحرمات، لكن يدركه علو الإيمان في فترة من الفترات، فيقرأ مثل هذه الحكايات فيريد أن يرتفع، فإذا بالأغلال تشده.

من أراد أن يكون كهؤلاء السلف فليتمم أبواب الواجبات، وليكف عن أبواب المحرمات؛ ليصل تلقائياً إلى درجة الإحسان. لذلك يسيخ عزمنا بسرعة؛ للفرق الذي بيننا وبينهم.

ومن الأئمة الكبار، أبو حصين رحمه الله تعالى، وكان رجلاً عالماً، وكان شديد الورع في الفتوى، حتى أنه كان يقول: (إنكم لتفتون الفتوى التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر) يعني: يقول ما أجرأكم! لو عرضت هذه المسألة على عمر لخاف أن يفتي، ولجمع لها أهل بدر يستشيرهم، وكان أبو حصين من أعلم الناس.

وكذلك الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، وهو أحد الأئمة المجتهدين، وكان له مذهب مثل مذاهب الأئمة الأربعة، لأن المذاهب الفقهية ليست محصورة في أربعة مذاهب: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.. لا، المذاهب الفقهية كانت كثيرة، كان هناك مذهب لـسفيان الثوري ، وكان هناك مذهب لـسفيان بن عيينة ، وكان هناك مذهب لـإسحاق بن راهويه ، وكان هناك مذهب لـداود بن علي ، وكان هناك مذهب للإمام الأوزاعي -الذي هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي - وكان عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي من أقران الإمام مالك ، فـمالك كان في المدينة والأوزاعي كان في الشام ، وكان الأوزاعي جليلاً كبيراً، عظيماً معظماً عند العلماء، لدرجة أن سفيان الثوري -رضي الله عن سفيان كان شامة في جبين الزمان- لما رأى الأوزاعي في السوق يركب دابته أخذ سفيان الثوري بلجام دابة الأوزاعي يسله من الزحام، وهو يقول: أوسعوا لبغلة الشيخ.

وجاء رجل لـسفيان الثوري وقال: يا أبا محمد ! رأيت كأن وردة خرجت من أرض الشام إلى السماء. قال: ويحك! لو صدق ما تقول فإن الأوزاعي قد مات. فجاءه نعي الأوزاعي في آخر النهار.

وكان الإمام مالك رحمه الله يقول: لا زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي .

كان هذا الإمام الكبير قواماً بالليل، تالياً لكتاب الله عز وجل، سريع الدمعة، غزير العبرة، حتى قال مترجموه: أن أجفانه ذبلت من البكاء، فكان إذا صلى بالليل وأراد أن يخرج اكتحل، وشد أشفار عينيه حتى لا يظهر هذا الذبول.

وكذلك أيوب بن أبي تميمة السختياني -وهو من طبقة الإمام مالك أيضاً ، وإن كان أكبر منه في السن- كان إذا ذكر بالله عز وجل جرت العبرة من عينه فتخللت أنفه، فكان إذا شعر بذلك قال: سبحان الله! ما أشد الزكام! حتى لا يسأل عن هذا الماء الذي يتساقط من أنفه.

أنت إذا أردت أن تصل إلى مثل هذا كيف تصل وقد لابست بعض المحرمات؟! فهذه الأخبار وردت عن التابعين، والصور في حال الصحابة أجل وأعظم!

عبد الله بن عمرو بن العاص لولا صحة الأسانيد إلى حكايته ما كاد المرء أن يصدقها، عبد الله بن عمرو بن العاص كان يختم القرآن كل ليلة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : ( جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أختمه كل ليلة ) وكان رضي الله عنه شديد الاجتهاد في العبادة، وكان يشتاق للصلاة، فلما تزوج ترك امرأته وقام يصف قدميه لله عز وجل، حتى عتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجد في العبادة، وهذا الجد في الصيام، فقد كان يصوم كل يوم، ويختم القرآن كل ليلة، فهل كان رضي الله عنه عاطلاً؟! يعني ليس عنده عمل ولا شغل ولا أولاد مثلاً؟ لا، لكنه أعين من الله، وهذا هو الفرق.

فلو أتانا من يقول: لو قرأ القرآن هذّاً دون ترتيل لما ختمه في أقل من عشرين ساعة، فهل الليل عشرون ساعة؟ فنقول: المعانُ من الله عز وجل لا تسل عن الوقت في حقه، فإن عثمان بن عفان ختم القرآن في الوتر، وقد صح هذا بأكثر من أربعة أسانيد لا يتطرق إليها خلل، فقد ذهب عند حجر إسماعيل وختم القرآن كله في ليلة في ركعة الوتر، وعلي بن أبي طالب حمل صخرة عجز أربعون رجلاً عن زحزحتها من على الأرض، وهذه ليست خرافات، إنما تحكمنا بها الأسانيد، إن المعان من الله عز وجل لا تسل عن حاله، ولا تقل: كيف فعل ذلك؟ ولكن ارتق، خذ النص بقوة وبقلب جريء ولا تخف، كما كان يفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، إذا سمع آية ترجمها، فقرأ في كتاب الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] فقام وعبأ جيوبه سكراً، وخرج في الطرقات يوزع على الأطفال وعلى من يقابله، فقيل له في ذلك، قال: ( إن الله عز وجل قال: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وأنا أحب السكر ) فلما رجع إلى بيته -والآية لا زالت تتردد في ذهنه- كأنه استقل أن يخرج مثل هذا السكر.

وكان عبد الله بن عمر يحب جارية له -أظن كان اسمها رميثة - وهذه الجارية كان ابن عمر شديد الحب لها، فلما جلس في بيته ودارت الآية في ذهنه نادى نافعاً ، وقال له: ( زوجتك رميثة ) وكانت أحب إمائه إليه؛ عملاً بقول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] ورميثة هذه كانت أمة لـعبد الله، أي أن له أن يذهب بها إلى السوق ويبيعها ويقبض المال ويرجع، فهذا إنفاق مع ما علم من محبة الرجال للنساء.

وكان عبد الله بن عمر يحب الأتقياء من عبيده -الذين هم ملك يمينه- فكان إذا رأى رجلاً ورعاً تقياً أعتقه؛ كل هذا عملاً بهذه الآية وحدها، فهذا معنى: (خذها بقوة) لا تخف (أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) .

فكان جريء القلب في الإنفاق في الله عز وجل، فإذا رأى عبداً أو رجلاً يصلي بخشوع، ويحسن الصلاة ويحسن الركوع ويحسن السجود، يقول له: أنت حر لوجه الله. مما حدى بباقي عبيده أن يحرصوا على إظهار الخشوع وإظهار البكاء أمامه، فحين يمر بهم ابن عمر وينظر إلى دموع أحدهم وإخباته؛ يقول له: أنت حر.

فما مضى زمن يسير إلا وابن عمر قد أعتق مجموعة لا بأس بها من عبيده، فقال له ابنه: يا أبتي! إنهم يخدعونك بذلك. قال: ( يا بني! من خدعنا في الله خُدعنا له ) لا نأسى على ما كان في الله عز وجل.

وضاعت ناقة له، فبحث عنها فلم يجدها، فقال: هي في سبيل الله. ثم دخل المسجد فأتاه آتٍ فقال: وجدنا الناقة. فقام وأخذ نعله، فلما وضع رجله خارج المسجد قال: أستغفر الله! وتذكر أنه جعلها في سبيل الله. فلا ينبغي له أن يرجع في قوله، إذا قال: (هذا في سبيل الله) لا ينبغي له أن يرجع، فإن ما عند الله عز وجل أعظم ألف مرة من هذه الناقة التي سوف يستردها.

هذا معنى (فخذها بقوة)، والنصوص لا بد من ترجمة لها، ونحن في بيوتنا نحتاج إلى ترجمة النصوص.

فقد روى أبو بكر الشافعي في الفوائد: أن أبا عثمان النهدي دخل على أبي ذر وهو يصيح ويقول: أما والله لولا القصاص لكان لي معك شأن، فدخل فسلم عليه وقال: مالك يا أبا ذر ؟! قال: هذه المرأة -وهو يقصد امرأته- والله لولا القصاص لكان لي معها شأن. قال: وما القصاص؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يقتص للجلحاء من القرناء) يعني: شاتان ترعيان في الحقل: شاة جلحاء ليس لها قرون، وشاة لها قرون، الشاة التي لها قرون نطحت الشاة الجلحاء التي ليس لها قرون، فإن الله عز وجل يقتص للجلحاء يوم القيامة، وهذا من تمام عدله، مع أن الحيوانات غير مكلفة، لكن هذا من تمام إظهار العدل فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:7] فقال: (مثقال) فيقتص للجلحاء التي لا قرون لها من القرناء التي نطحتها وهي غير مكلفة.

فـأبو ذر رضي الله عنه لأجل هذا الحديث الذي فهمه وترجمه؛ كف عن ضرب امرأته أو عن أذاها، فكيف بالرجال الذين يضربون نساءهم على وجوههن! كمثل رجل لطم امرأته على وجهها، فأصبحت المرأة تطوف على الأطباء؛ لأنها ما عادت تبصر بعينها..!

وآخر لما وجد أن الضرب على الوجه حرام قام وضربها على قفاها فأطار عينها، فما عادت هي الأخرى تبصر بعينها.

وهذا الكلام كله يعرض على الإنسان فيستغرب هذه المعاملة، أما نترجم هذا الحديث (يقتص للجلحاء من القرناء)؟ لابد أن نعيش حياتنا كلها ترجمة للوحي قرآناً وسنة، وهذا هو القسم العملي أو المنزلة الثانية في الفرار: أن تفر من هذا الكسل إلى التشمير جداً وعزماً وترجمةً للنص.

أخذ الإمام أحمد حديثاً عن بعض شيوخه، وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا روى حديثاً أو تحمل حديثاً جديداً كان يترجمه، ويعمل به، فأول ما روى حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام أجره) دعا الحجام فحجمه، ثم أعطاه أجره، قيل له: أكان بك حاجة إلى الحجامة؟ قال: لا، ولكني رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وأعطى الحجام أجره فأحببت أن أفعل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذه هي الترجمة، بأن تعيش حياتك كلها خلال الوحي، ما من حديث تقرؤه إلا وتكون أول مترجم له.

أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، لما مات أبوها قامت في اليوم الثالث ودعت بطيب فتطيبت، ثم قالت: (والله ما بي من حاجة إلى طيب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحد امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر على ميت أكثر من ثلاثة أيام إلا على زوج) فهي تريد أن تترجم هذا، فتدعو بالطيب وتتطيب وما بها من حاجة إلى الطيب، وهذه ترجمة للوحي جداً وعزماً.

فلا تتردد، إذا انحزت إلى جنب الله عز وجل فأنت الربحان.