طريق الفلاح لمن أراد الإصلاح (3)
مدة
قراءة المادة :
27 دقائق
.
طريق الفلاح لمن أراد الإصلاح (3)كلَّما زاد الشَّرُّ واستفحل تعطشتِ النفوسُ الخيرة والقلوب الطَّاهرة إلى الإصلاح، واشتعلت الحربُ بين الفريقين، وفي خضم المعركةِ بين الحقِّ والباطل تضطربُ النفوسُ وتذهل العقول، لذلك وجب على المؤمنين أن يقفوا كالصفِّ الواحدِ والبنيان المرصوصِ يساندُ بعضُهم بعضًا؛ ليجددوا النيةَ ويصلحوا النَّفس، ويحدِّدوا الوجهة، فإذا تكلَّمنا عن الإصلاح؛ فأيُّ إصلاحٍ نريد؟ هل هو إصلاحٌ سياسي؟ أم إصلاحٌ اجتماعي؟ أم إصلاحٌ اقتصادي؟ أم إصلاحٌ فكري وحضاري؟ هل هو إصلاحٌ ديني؟ أم إصلاحٌ دنيوي؟ وهل بينهما تعارُض؟ ويا ترى ما الفرقُ بين الصَّلاحِ والإصلاح، وهل بينهما عَلاقة؟ ما هو طريقُ الإصلاحِ وماهيته، وكيف نحقِّقُه؟ وحتى لا نكثر الأسئلةَ فهيا بنا نبحثُ وننقِّبُ، هل هناك إجابةٌ عن هذه الأسئلةِ في الكتاب والسنة؟
قال من لا ينطقُ عن الهوى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قد تركتُكم على البيضاءِ؛ ليلها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعِشْ منكم فسيرى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتُم من سنتي وسنةِ الخلفاء الرَّاشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وعليكم بالطَّاعةِ وإن عبدًا حبشيًّا، فإنَّما المؤمنُ كالجملِ الأَنِف، حيثما قِيد انقاد))؛ صحيح.
فالحقُّ واضحٌ أبلج، والباطلُ مظلم لَجْلَج، ولكن كما أنَّه لا يرى نورَ الشَّمس أعمى العين، فإنَّه لا يرى نورَ الحقِّ أعمى البصيرة، فنسألُ اللهَ أن يصلحَ قلوبَنا، ويقويَ بصائرَنا، ويأخذَ بأيدينا للحق.
الإصلاحُ الذي يدعو إليه الإسلامُ يشملُ كلَّ شؤونِ الدنيا والدين، فلا تعارضَ بين الإصلاحِ الديني والإصلاحِ الدنيوي، بل إنَّ الإسلامَ يدعو إلى الإصلاحِ الدنيوي ويأمرُ به، ولكنَّ الفرقَ بين نظرةِ الإسلام للإصلاحِ الدنيوي ونظرةِ المناهج الأخرى مختلفة، فالمناهجُ الأخرى تنظرُ للإصلاحِ الدنيوي على أنَّه الغايةُ، فالدنيا عندهم هي الغايةُ؛ لأنَّهم لا يؤمنون بالآخرة، أمَّا في الإسلامِ فليست الغايةُ الدنيا، وإنَّما إصلاحُ الدنيا وشؤون الحياة ابتغاء وجهِ الله والدار الآخرة، وليس لذاتِ الدنيا، إذًا الإسلامُ يدعو إلى الإصلاحِ الديني والدنيوي وليس الديني فقط، ولا الدنيوي فقط، فمَنْ كان يريدُ الإصلاحَ الدنيوي فقط دون الديني فقد خسرَ خسرانًا مبينًا في الدنيا والآخرة، ومن أراد الإصلاحَ الديني فيلزمُه بذلك الإصلاح الدنيوي؛ لأنَّهما يتفقانِ ولا يختلفان، فالإسلامُ يدعو إلى التقدُّمِ بأسمى معانيه الروحية والمادية؛ يدعو إلى إصلاحِ العقائد والأخلاق والرُّوح، ويدعو إلى التقدمِ الاقتصادي والاجتماعي والسِّياسي والعلمي، بل كلَّما ازداد تمسُّكُ النَّاسِ بالإسلامِ وشرائعه كلَّما ازداد الإصلاحُ الدنيوي.
وليس التقدمُ الدنيوي الانسلاخ من الإسلامِ أبدًا، بل كلما ازداد التمسُّكُ بالإسلامِ والرَّغبة في الآخرةِ ازداد الإصلاحُ الدنيوي، وكلما ازداد البُعدُ عن الإسلامِ والرَّغبة في الدنيا ازدادَ الفسادُ في الدنيا؛ قال الإمام الماوردي - رحمه الله -: "الدِّينُ أقوى قاعدة في صلاحِ الدُّنيا واستقامتها، وأجدى الأمورِ نفعًا في انتظامِها وسلامتها، ولذلك لم يُخْلِ الله - تعالى - خلقَه منذ فطرهم عقلاء من تكليفٍ شرعي، واعتقادٍ ديني ينقادون لحكمِه، فلا تختلفُ بهم الآراء، ويستسلمون لأمرِه، فلا تتصرَّفُ بهم الأهواء"؛ أدب الدنيا والدين (161).
وسأضربُ مثالاً سهلاً لذلك: فنفوسُ البشر جُبِلت على حبِّ المال فلا تشبعُ منه أبدًا، فإذا خفَّ دينُ الرجل لم يعبأ هل أخذَه من حلالٍ أو حرام، ولن يردعَه أيُّ قانون؛ لأنَّه لا يراقِبُ السِّرَّ والعلانيةَ إلا الله، لا يهمُّه إن حصلَ على رشوةٍ وباع ضميرَه، لا يهمُّه الاحتكار ما دام سيربحُ هو، ولو تعطلتْ حياة الخلق، لا يهمُّه أن ينهبَ أو يسرق أموالَ الغير، لا يهمه سوى التكسب ولو بالرِّبا ومصِّ دماء النَّاس، فإذا انتشرتْ هذه الأوبئةُ في المجتمعِ وخربتْ ذممُ الأفرادِ، فسيؤدِّي ذلك لخرابِ المجتمع والتخلُّفِ الاقتصادي، أمَّا إذا كان للإنسانِ دينٌ يردعُ هذه النفسَ الأمَّارةَ وينهاها عن الرشوة والسرقة، والمحسوبية والاحتكار والرِّبا - فإنَّ في ذلك صلاح الفرد والجماعة وانتعاش الاقتصاد، فإذا أضفْنَا إلى ذلك التكافُلَ في الإسلامِ والأخوةَ في الله، والأمرَ بالزَّكاةِ والصَّدقة، وأن يجودَ مَنْ عنده مالٌ لمن لا مال له، وأن يعطيَ من له فائضُ طعامٍ من لا طعامَ عنده، ومن عنده فائضُ لباسٍ لمن لا لباسَ عنده، ومن عنده فائضُ مالٍ لمن لا مالَ عنده، باللهِ عليكم إذا طبَّقنا هذا، هل سيكونُ بيننا فقير؟ هل سيكونُ هناك أزمةٌ اقتصادية؟ فكيف إذا تحقَّقَ هذا بين الدول؟ فأعطتِ الدولُ الإسلامية الغنية إخوانَهم في الدولِ الفقيرة؟ هل ستبقى دولٌ فقيرة؟ نريدُ الطبيبَ الذي يداوي المرضى من أجلِ حفظِ صحةِ المسلمين وابتغاء وجهِ الله، لا لمصلحةٍ دنيوية من مالٍ وشهرةٍ ومتاجرةٍ بأرواحِ وآلامِ الناس، وهكذا نحتاجُ لجميعِ التخصُّصات.
واللهِ الذي لا إله إلا هو، لن تنصلحَ أحوالُ هذه الأمَّةِ وتنصلح دنياها إلا بصلاحِها وإصلاح دينِها؛ لأنَّ من خلق الدُّنيا هو الله، وهو الملكُ والمالكُ الحقيقي لها، وهو الذي يدبِّرُ شؤونَها، وهو الرزَّاقُ الذي يوزِّعُ الرِّزقَ فيها، وقد جعل عاقبةَ الإيمانِ والتقوى صلاح الدنيا، وعاقبةَ المعاصي والذنوب فساد الدُّنيا، فانظرْ ماذا يقولُ مَن بيدِه الأمر وتدبَّرْ بقلبك: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وتدبر: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]؛ أي: مَنْ آمن باللهِ ورسوله، وامتثل لدينِ الإسلامِ وأوامرِ الله، وانتهى عن الحرامِِ فقد وعده اللهُ بالحياةِ الطيبة في الدُّنيا، بالإضافةِ لأجرِه العظيمِ في الآخرة، بل إنَّ معصيةَ الله ورسوله هي سببُ الفسادِ في الأرضِ والهلاك في الدُّنيا: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]؛ ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾؛ أي: بطاعةِ الله وتوحيدِه، وتصديقِ رسلِه وأتباعهم فيما جاؤوا به، {فَفَسَقُواْ}؛ أي: خرجوا عن طاعةِ أمرِ ربِّهم، وعصوه وكذَّبوا رسلَه، ﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ﴾؛ أي: وجبَ عليها الوعيد، ﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾؛ أي: أهلكناها إهلاكًا مستأصلاً، وأكَّد فعلَ التدميرِ بمصدرِه للمبالغةِ في شدَّةِ الهلاك الواقع بهم.
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ [الروم: 41]؛ قال الإمام ابنُ قيم الجوزيَّة - رحمه الله - في "زاد المعاد" (4/ 362 - 364): "ومن له معرفةٌ بأحوالِ العالم ومبدئه يعرِفُ أنَّ جميعَ الفسادِ في جوِّه ونباتِه، وحيوانه وأحوالِ أهله - حادثٌ بعد خلقِه بأسبابٍ اقتضت حدوثه، ولم تزلْ أعمالُ بني آدم ومخالفتهم للرسلِ تُحدِثُ لهم من الفسادِ العام والخاص ما يجلبُ عليهم من الآلامِ والأمراض، والأسقامِ والطواعين، والقحوطِ والجدوب، وسلبِ بركات الأرض وثمارها ونباتها، وسلبِ منافعها أو نقصانها - أمورًا متتابعة يتلو بعضُها بعضًا، فإن لم يتسعْ علمُك لهذا فاكتفِ بقوله - تعالى -: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ [الروم: 41]، ونزِّل هذه الآيةَ على أحوالِ العالم، وطابِقْ بين الواقعِ وبينها، وأنت ترى كيف تحدثُ الآفاتُ والعِللُ كلَّ وقتٍ في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدثُ من تلك الآفاتِ آفاتٌ أخر متلازمة، بعضُها آخذٌ برقابِ بعض، وكلما أحدث النَّاسُ ظلمًا وفجورًا، أحدث لهم ربُّهم - تبارك وتعالى - من الآفاتِ والعلل في أغذيتِهم وفواكههم، وأهويتِهم ومياههم، وأبدانِهم وخلقهم، وصورِهم وأشكالهم، وأخلاقهم - من النَّقصِ والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم، ولقد كانت الحبوبُ من الحنطةِ وغيرها أكثر مما هي اليوم، كما كانت البركةُ فيها أعظم، فقد روى الإمام أحمد بإسنادِه: أنَّه وجد في خزائنِ بعضِ بني أمية صرةً فيها حنطةٌ أمثال نوى التمرِ؛ مكتوبٌ عليها هذا كان ينبتُ أيامَ العدل، وهذه القصةُ ذكرها في مسندِه، على أثرِ حديثٍ رواه.
وأكثرُ هذه الأمراضِ والآفاتِ العامَّةِ بقيةُ عذابٍ عُذِّبت به الأممُ السَّالفة، ثم بقيتْ منها بقيةٌ مرصدة لمن بقيتْ عليه بقيةٌ من أعمالِهم، حكمًا قِسطًا، وقضاءً عدلاً، وقد أشار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى هذا بقولِه في الطَّاعون بأنَّه: ((بقيةُ رجزٍ أو عذابٍ أُرسل على بني إسرائيل))، وكذلك سلَّطَ الله - سبحانه وتعالى - الريحَ على قومٍ سبعَ ليالٍ وثمانية أيام، ثم أبقى في العالَمِ منها بقية في تلك الأيام، وفي نظيرِها عظةٌ وعبرة، وقد جعل اللهُ - سبحانه - أعمالَ البَرِّ والفاجر مقتضياتٍ لآثارِها في هذا العالم اقتضاءً لا بدَّ منه، فجعلَ منعَ الإحسانِ والزكاة والصدقة سببًا لمنعِ الغيثِ من السَّماء والقحط والجدب، وجعل ظلمَ المساكين والبخس في المكاييل والموازين، وتعدِّي القويِّ على الضعيفِ سببًا لجورِ الملوكِ والولاة الذين لا يرحمون إن استُرحِموا، ولا يعطفون إن استُعطِفوا، وهم في الحقيقةِ أعمالُ الرَّعايا ظهرت في صورِ ولاتهم، فإنَّ الله - سبحانه - بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالبَ وصورٍ تناسبها، فتارة بقحطٍ وجدب، وتارة بعدوٍّ، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامَّة، وتارة بهمومٍ وآلام وغموم تحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركاتِ السَّماءِ والأرض عنهم، وتارة بتسليطِ الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزًّا، لتحقَّ عليهم الكلمة، وليصيرَ كل منهم إلى ما خُلِق له، والعاقلُ يسير بصيرته بين أقطارِ العالم فيشاهده، وينظر مواقعَ عدلِ الله وحكمته، وحينئذٍ يتبينُ له أنَّ الرسلَ وأتباعَهم خاصة على سبيل النَّجاة، وسائر الخلقِ على سبيل الهلاكِ سائرون، وإلى دارِ البوار صائرون، والله بالغٌ أمره، لا معقِّبَ لحكمه، ولا رادَّ لأمرِه، وبالله التوفيق".
هذا بعضُ ما جاء في كتابِ الله، أمَّا ما جاء في السنةِ فكثير، وسأكتفي بذكرِ القليل، فتدبروا قولَ من لا ينطق عن الهوى: ((يا معشرَ المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهنَّ، وأعوذُ بالله أن تدركوهنَّ: لم تظهر الفاحشةُ في قومٍ قط حتَّى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطَّاعون والأوجاعُ التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيالَ والميزان إلا أُخذوا بالسِّنين وشدةِ المؤونة وجورِ السُّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء؛ ولولا البهائم لم يُمطَروا، ولم ينقضوا عهدَ الله وعهدَ رسولِه إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرِهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتُهم بكتابِ الله، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل اللهُ بأسَهم بينهم))؛ حسنه الألباني.
لما فُتحت "قُبرص" بَكى أبو الدرداء - رضي الله عنه - فقيل له: ما يبكيك في يومٍ أعزَّ الله فيه الإسلامَ وأهلَه؟ فقال: "ما أهونَ الخلق على اللهِ إذا أضاعوا أمرَه، بينما هي أمَّةٌ قاهرة ظاهرة لهم الملكُ؛ تركوا أمرَ الله فصاروا إلى ما ترى".
جاء في المسند عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأممُ من كلِّ أفق، كما تتداعى الأكلةُ على قصعتِها))، قلنا: يا رسول الله، أمن قلَّةٍ يومئذٍ؟ قال: ((لا، وأنتم كثيرٌ ولكنَّكم غثاءٌ كغثاءِ السيل، تنزع المهابة من قلوبِ عدوِّكم، ويجعل في قلوبِكم الوَهْن))، قالوا: وما الوهنُ يا رسول الله؟ قال: ((حبُّ الدنيا، وكراهةُ الموت))؛ السلسلة الصحيحة (958).
نعم لقد نسينا الآخرةَ وملأ حبُّ الدنيا قلوبَنا، فأصبحنا ندفنُ موتانا ولا نتعظُ، وندخلُ القبورَ وننسى أنَّها بيوتنا، وفي المسند أيضًا وسنن أبي داود بسندٍ حسن عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((إذا تبايعتم بالعِينةِ، وأخذتم أذنابَ البقر، ورضيتُم بالزَّرع، وتركتم الجهادَ، سلَّط الله عليكم ذلاًّ، لا ينزعُهُ حتى ترجعوا إلى دينِكم))، وفي روايةٍ: ((أنزل اللهُ عليكم من السَّماءِ بلاءً، فلا يرفعُه عنكم حتى ترجعوا إلى دينِكم))؛ السلسلة الصحيحة (11).
فمتى سنرجعُ إلى ديننا لتنصلحَ أحوالُنا في الدنيا قبل الآخرة؟ قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "حتى الحُبارى لتموتُ في وكرِها من ظلمِ الظَّالم"، ويقول غيرُ واحد من السَّلف: "إنَّ البهائمَ تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدَّت السنة وأمسكَ المطر، تقول: هذا بشؤمِ معصيةِ ابن آدم"؛ ففي مسند أحمد عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وجُعلت الذِّلةُ والصَّغارُ على من خالفَ أمري))؛ صححه الألباني.
فالعزَّة إنما هي في تحقيقِ طاعة الله وطاعة رسولهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال - تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]، وكذلك النصر والتمكين: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، قال علي - رضي الله عنه -: "ما نزلَ بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفِع إلا بتوبة"، وعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسُولُ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -: ((من كانت الآخرةُ هَمَّهُ جعل اللهُ غناهُ في قلبِه، وجمعَ له شملَه وأتتهُ الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل اللهُ فقرَهُ بين عينيه، وفرَّق عليه شملَهُ ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدر لهُ))؛ السلسلة الصحيحة (2/ 670).
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]؛ فلا إصلاحَ للأمَّة بدون صلاحِها؛ قال عمرُ بن عبدالعزيز - رحمه الله -: "أيها النَّاسُ أصلحوا آخرتَكم تصلحْ لكم دنياكم، وأصلحوا سرائرَكم تصلحْ لكم علانيتُكم"؛ حلية الأولياء (5/ 266).
"ما ضَعُف المسلمون إلا لأنَّهم خالفوا كتابَ ربِّهم وسنةَ نبيه - عليه الصَّلاة والسَّلام - وتنكَّبوا السننَ الكونية التي جعلها الله بحكمتِه مادةً لحياة الأمم ورقيها في هذه الحياة، فإذا رجعوا إلى ما مهده لهم دينهم، وإلى تعاليمِه النافعة وإرشاداته العالية، فلا بد أن يصلوا إلى الغايةِ كلِّها أو بعضها"؛ وجوب التعاون بين المسلمين للسعدي (26).
وانظر إلى قولِه - تعالى - على لسانِ نبيه شعيب: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]، فأي إصلاحٍ كان يريدُ نبي الله شعيب، إنَّه إصلاحٌ ديني ودنيوي عقائدي واقتصادي؛ ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾ [هود: 84]، فكانت وسيلته في الإصلاحِ الدعوة برفقٍ ولين، وهذه وسيلةُ الإصلاحِ عند كلِّ الأنبياء؛ لم يكونوا طلابًا لأجرٍ، فأجرهم على الله، ولكن ماذا كان جوابُ قومِه؟
﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87]، الدين صلاةٌ وعبادة فما دخلُ الدينِ في الاقتصاد وفي أموالِنا، أليس من حقِّنا أن نفعلَ ما نريد بنقودِنا؟ فماذا كانت نتيجةُ فعلِهم؟
﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [هود: 94]، وهذا هو سبيلُ نبينا - عليه الصلاة والسلام -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]؛ جاء في "تفسير ابن كثير": "يقول الله - تعالى - لعبده ورسوله إلى الثقلين: الإنس والجن، آمرًا له أن يخبرَ الناس أنَّ هذه سبيلُه؛ أي: طريقه ومسلكه وسنته، وهي الدعوةُ إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، يدعو إلى اللهِ بها على بصيرةٍ من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكلُّ من اتبعَهُ، يدعو إلى ما دعا إليه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على بصيرةٍ ويقين وبرهان شرعي وعقلي".ا.هـ.
قال أبو جعفر: "يقول - تعالى - ذكرُه لنبيه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: قل يا محمد: هذه الدعوةُ التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدُّعاءِ إلى توحيد الله وإخلاصِ العبادة له دونَ الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعتِه، وترك معصيتِه - سبيلي وطريقتي ودعوتي، ﴿ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ﴾ وحدَه لا شريكَ له، ﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ بذلك، ويقينٍ عليم مني به أنا، ويدعو إليه على بصيرةٍ أيضًا من اتبعني وصدَّقَني وآمنَ بي ﴿ وَسُبْحَانَ اللَّهِ ﴾؛ يقول له - تعالى - ذكره: وقل تنزيهًا لله وتعظيمًا له من أن يكونَ له شريكٌ في ملكِه، أو معبود سواه في سلطانِه، ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ يقول: وأنا بريء من أهلِ الشرك به، لست منهم..."، ثم قال - رحمه الله -: "حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قولِه: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ...
﴾ قال: ﴿ هَذِهِ سَبِيلِي ﴾ هذا أمري وسنتي ومنهاجي، ﴿ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ قال: وحقٌّ واللهِ على من اتبعَه أن يدعوَ إلى ما دعا إليه، ويذكِّر بالقرآنِ والموعظة، وينهى عن معاصي الله"ا.هـ، انظر "تفسير الطبري".
ولكن ينبغي لمن يدعو أن يدعو على بصيرةٍ وعلمٍ، فيبدأ الفردُ بنفسِه ثم الأقرب فالأقرب، فإن تأهَّلَ تصدَّرَ لتعليمِ الخلق؛ "فصلاحُ النفسِ هو صلاحُ الفرد، وصلاح الفرد هو صلاح المجموع، والعنايةُ الشرعية متوجهة كلُّها إلى إصلاحِ النفوس، إمَّا مباشرةً وإمَّا بواسطة، فما من شيء مما شرعَهُ الله - تعالى - لعبادِه من الحقِّ والخير، والعدلِ والإحسان، إلاَّ وهو راجعٌ عليها بالصَّلاح، وما من شيءٍ نهى الله - تعالى - عنه من الباطلِ والشر، والظُّلمِ والسوء، إلا وهو عائدٌ عليها بالفساد، فتكميل النَّفسِ الإنسانية هو أعظمُ المقصود من إنزالِ الكتب، وإرسالِ الرسل، وشرع الشرائع"؛ آثار ابن باديس (1/ 232-233).
قال ابنُ تيمية - رحمه الله -: "فالمقصود الواجب بالولايات:
أ- إصلاحُ دينِ الخلق الذي متى فاتَهُم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعْهم ما نعموا به في الدُّنيا.
ب- إصلاحُ ما لا يقومُ الدِّينُ إلا به من أمرِ دنياهم"؛ السياسة الشرعية (ص:37).
قال الله لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾[الشعراء: 214]، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "جاء رجلٌ فقال: يا ابنَ عباس، إني أريدُ أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكر، قال: أو بلغتَ؟ (أي: تستطيع ذلك؟) - قال: أرجو، قال: فإنْ لم تخشَ أن تفتضحَ بثلاثةِ أحرفٍ في كتابِ الله - عزَّ وجل - فافعل، قال: وما هنَّ؟ قال: قوله - عزَّ وجل -: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرفُ الثاني؟ قال: قوله - عز وجل -: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فالحرفُ الثَّالث؟ قال: قولُ العبدِ الصَّالح شعيب - عليه السلام -: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88] أحكمت هذه الآية؟ قال: لا، قال: فابدأ بنفسِك؛ البيهقي في "شعبِ الإيمان".
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ
هَلاَّ لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى
كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
وَنَرَاكَ تُصْلِحُ بِالرَّشَادِ عَقُولَنَا
أَبَدًا وَأنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا
فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
ولذلك فلا حجةَ في تركِ الدعوةِ، فإنَّ الشيطانَ يقنِّطُ بعضَ الصَّالحين في الدعوةِ ويزهِّدُهم في أهميتِها، وأنَّها لا طائلَ منها، فالفسادُ قد وصل للنخاعِ من الرَّئيسِ إلى الغفير، ودول الغرب تتربَّصُ بنا وتقفُ في وجه الإصلاح، فنقول لهؤلاء الصَّالحين: إنَّ لكم في نبيِّكم أُسوة، ففي بلدِ الكفر وحيث لا يُوجد صلاحٌ على وجهِ الأرضِ بدأ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - دعوتَه في مكَّةَ في عصرِ الاستضعاف سرًّا ثم جهرًا، لم يخَفْ في اللهِ لومةَ لائم، أعلنها صراحةً؛ الدعوة إلى توحيدِ الله والإيمان باليوم الآخر، فلمَّا خاف الكفَّارُ من انتشارِ دعوتِه، وفشل الإيذاءُ والترهيب والتجويع والتعذيب، بدأ الإغراء، نعم، الإغراءُ بالْمُلكِ والسلطة والجاه والمال في أصعبِ الأوقات، وقهر الاستضعاف مقابل الْمُداهنة في الدِّين والتنازل القليل، حينما ذهبَ عتبةُ بنُ ربيعةَ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يصلِّي في المسجدِ وقال له: يا ابنَ أخي، إنَّك من خيارِنا حسبًا ونسبًا، وإنَّك قد أتيتَ قومَك بأمرٍ عظيم، فرَّقتَ به جماعتَهم، وسفَّهتَ به أحلامَهم، وعبتَ آلهتَهم ودينَهم ومَنْ مضى من آبائِهم، فإنْ كنتَ تريد بما جئتَ به من هذا الأمرِ مالاً جمعنا لك من أموالِنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنتَ تريدُ شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطعَ أمرًا دونك، وإن كنتَ تريدُ ملكًا ملَّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًّا؛ أي: مسًّا من الجنِّ لا تستطيعُ ردَّه عن نفسِك طلبنا لك الطبَّ، وبذلنا فيه أموالَنا حتى نبرئك منه، فرفضَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الفرصةَ الذهبية، ومضى في دعوتِه وإعدادِ جيل التمكين والقاعدة التي يبني عليها دولتَه، ولم تثنه الوسيلةُ عن الغايةِ ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 15 ، 16]، ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 73 - 77].
وبعد ثلاثة عشر عامًا من البناءِ والتربية في مكَّةَ تَمَّتِ الهجرةُ إلى المدينةِ، وتأسَّستِ الدولةُ الإسلامية على أكتافِ رجالٍ ربَّاهم النبي الأمين، فشموليةُ الإسلامِ لا تتنافي مع منهجيةِ وتدرجِ الدعوة، فعن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: "إنَّما أول ما نزلَ منه سورة من المفصَّلِ فيها ذكرُ الجنَّةِ والنَّار، حتى إذا أثاب النَّاس إلى الإسلامِ نزل الحلالُ والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمرَ، لقالوا: لا ندعُ الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندعُ الزِّنا أبدًا"، وقد استخدم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أسلوبَ التدرُّجِ عندما بعث معاذًا - رضي الله عنه - إلى اليمنِ فقال له: ((ادعُهم إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنِّي رسولُ الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعْلمهم أنَّ اللهَ افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنَّ اللهَ افترضَ عليهم صدقةً من أموالِهم تؤخذُ من أغنيائِهم وتردُّ على فقرائهم))، فكانت المرحلةُ المكية مرحلةَ التربيةِ وبناء العقيدة، وكانت المرحلةُ المدنية مرحلةَ التشريع والدولة.
فينبغي للدَّاعيةِ أن ينتهجَ نهجَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التدرجِ وتصحيحِ العقائد، وتهذيبِ الأرواح والعقول والأفكار، وليحذر من الشَّيطان، فإنَّ الشيطانَ وأعوانَه إن فشلوا في إغراءِ الداعية بحب الظهور والسُّلطةِ، والمال والعجب، والكبر والتيه والتعالم - سلَّطوا عليه السُّفهاءَ لينشغلَ بهم عن دعوتِه، فينبغي أن يكونَ فطنًا لا ينساقُ وراءَ ذلك ويضيع عمرَه ووقتَه وفكره وجهدَه مع هؤلاء، ولا ينتصر لنفسِه، وإنَّما ينتصرُ لمنهجِه ودعوتِه، ويحارِبُ ما يناقضُها دون التعرُّضِ للأشخاصِ وتضيع الوقتِ معهم.
فلا إصلاحَ بلا صلاح، ومن أراد الإصلاحَ فليدعُ النَّاسَ إلى الصَّلاحِ وعبوديةِ ربِّهم، وتحكيم شرعه في كلِّ حياتِهم، فبذلك تنصلحُ أمورُهم الدنيوية والدينية، نحتاجُ إلى التقدمِ العلمي والتكنولوجي بأعلى صورِه في كافَّةِ المجالاتِ والهيئات رفعةً لأمتنا لتكونَ قائدةَ الأمم.
وللحديث بقية - إن شاء الله.