والوزن يومئذ الحق
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
والوزن يومئذ الحقالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد روى الحاكم بسند صحيح من حديث سلمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُوضَع الميزان يوم القيامة، فلو وُزِن فيه السموات والأرض لوَسِعتْ، فتقول الملائكة: يا رب، لمن يَزِن هذا؟ فيقول الله: لمن شئتُ من خَلْقي فيقولون: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك!)).
ميزان دقيق يُنصَب، وميزان عَدْل يُوضَع، وميزان عظيم لا يعلم حقيقته إلا الله، تَشهَده الخلائق: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
في شُعَب الإيمان للبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: "الميزان له لسان وكِفَّتان، يُوزَن فيه الحسنات والسيئات"، إنه دقيق يَزِن مِثقال الذرة وحبة الخردل.
ذكَر أهلُ التفسير أن داود - عليه السلام - سأل ربَّه أن يُريه الميزان، فلما رآه غُشي عليه، فلما أفاق قال: يا إلهي، مَن الذي يَقدِر أن يملأ كِفَّته حسنات؟! فقال: ((يا داود، إني إذا رضيتُ عن عبدي ملأتها بتمرة)).
ميزان خافه أنس رضي الله عنه؛ روى الترمذي بسند صحيح عنه، أنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: ((أنا فاعل))، قلت: يا رسول الله، فأين أطلبك؟ قال: ((اطلبني أول ما تَطلُبني على الصراط))، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: ((فاطلبني عند الميزان))، قلت: فإن لم أَلقك عند الميزان؟ قال: ((فاطلبني عند الحوض؛ فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن)).
فعند الميزان موقف تحتاج فيه الخلائق إلى شفيع، ومَحَل تحتاج فيه الخلائق إلى رحمة؛ لهول المشهد ودقة الميزان، والخوف من ردِّ الكثير من الأعمال وعدم قَبُولها: ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 8]، وهنا سؤال مهم، ما الذي يُوزَن؟ أهو العمل؟ أم الصحف التي كُتِبت فيها الأعمال؟ أم العامل نفسه؟
والذي يُرجِّحه علماؤنا - كابن كثير، والقرطبي...
وغيرهم - أن الميزان سيَزِن كلَّ شيء: الأعمال، والصحف التي كُتِبت فيها، والعامل الذي قدَّمها.
فأما الأعمال، فوزنها جاء في أحاديث كثيرة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أحمد وأبو داود بسندٍ صحيحٍ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: ((ما من شيء في الميزان أَثْقل من حُسْن الخُلُق))، وحُسْن الخُلُق عمل، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتَّفق عليه من رواية أبي هريرة: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده))، وقوله عليه الصلاة والسلام أيضًا: ((والحمد لله تملأ الميزان))، والذِّكر من الأعمال، وكذا تُوزَن الصلاة والصيام والصدقات...
وغيرها من الطاعات.
وأما صُحُف الأعمال فتُوزن؛ كما أخرج ابن ماجه وغيره بسند صحيح، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُصاح برجل من أُمَّتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فيُنشَر له تسعة وتسعون سِجِلاًّ، كلُّ سِجِلٍّ مدَّ البَصَر، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل تُنكِر مِن هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أظلمك كَتَبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، ثم يقول: ألك عُذْر، ألك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظُلْم عليك اليوم، فتُخرَج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السِّجِلات؟! فيقول: إنك لا تُظلَم، فتُوضَع السجلات في كِفَّة والبطاقة في كِفَّة، فطاشت السجلات، وثَقُلت البطاقة)).
وأما العامل: فيُوزَن أيضًا؛ كما أخرج البخاري ومسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنه ليأتي الرجلُ العظيم السمين يوم القيامة، لا يَزِن عند الله جَناح بعوضة))، قال: ((واقرؤوا إن شتم: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105])).
وقد أخرج الطبراني والبزَّار من حديث بريدة قال: كنا عند رسول الله، فأقبل رجلٌ من قريش فأدناه رسول الله وقرَّبه، فلما قام، قال: ((يا بريدة، أتعرف هذا؟))، قلت: نعم، هذا أوسط قريش حَسبًا وأكثرهم مالاً...
ثلاثًا، فقلت: يا رسول الله، أنبأتك بعِلْمي فيه، فأنت أعلم، فقال: ((هذا ممن لا يُقيم الله له يوم القيامة وزنًا)).
قارِن هذا مع ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما أخرج البيهقي في الدلائل بسندٍ صحيح، من حديث خالد بن معدان رضي الله عنه، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا له: أَخبِرنا عن نفسك، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أتاني رجلان عليهما ثيابُ بياض، معهما طِسْت من ذهب، مملوءة ثَلجًا، فأضجعاني، فشقَّا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقَّاه، فأخرجا منه عَلَقة سوداء، فألقياها، ثم غسَلا قلبي وبطني بذلك الثَّلج، حتى إذا أَنْقَيا ثم ردَّاه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه: زِنْه بعشرة من أمته، فوزنني بعشرة، فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنني بمائة، فوزنتهم، ثم قال: زِنه بألف من أمته، فوزنني بألف، فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنهم))، فهذا رسولك عليه الصلاة والسلام يُوزَن بأمة، وانظر فيما صَحَّ عند أحمد وغيره من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ((كنتُ أجتني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سِواكًا من الأراك، فكانت الريح تَكفؤه، وكان في ساقه دِقَّة، فضحِك القوم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يُضحِككم؟))، قالوا: من دقة ساقَيْه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لهما أَثْقلُ في الميزان من أُحُدٍ)).
والسؤال هنا..
ما وزنك عند الله؟
أخي المسلم..
أختي المسلمة..
إن أعظم ما يمكن أن تأتي به يوم القيامة عند الله، فيَثقُل به ميزان الحسنات هو توحيده - جل في علاه - فعن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن موسى عليه السلام قال: يا رب، علِّمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى، قل: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا أنت يا رب، إنما أريد شيئًا تَخُصني به قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كِفَّة، ولا إله إلا الله في كِفَّة، مالت بهن لا إله إلا الله)).
اللهم يَسِّر حسابَنا، ويَمِّن كتابَنا، وثَقِّل موازين أعمالنا الصالحات، واجعلنا عند الجزاء من الفائزين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا