خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
العدل
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى بنى شأن السموات والأرض على العدل، فبه قامت السموات والأرض، وقد اتصف به جل شأنه فهو الحكم العدل، وأمر به فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90]، وقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا[الأنعام:152] وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر به كما أمره الله بذلك، فقد أمره هو وأصحابه بالعدل حتى مع من ناوأهم وعاداهم في ذات الله، فقال الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8].
وركائز هذا العدل واضحة في التشريع كله، فإن الله سبحانه وتعالى بنى الكون جميعاً -أي: جميع المخلوقات- على الازدواجية، فالله تعالى هو الفرد الصمد، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، لكن كل من عداه وكل من دونه من الخلائق مبني على الازدواجية.
فقد جعل الله الزمن منقسماً إلى ليل ونهار، فالليل له آية والنهار له آية، وقد محا الله آية الليل وجعل آية النهار مبصرة؛ وذلك لأن الازدواجية إذا حصل فيها التكافؤ المطلق لم يمكن حصول العدل؛ لأنه لا بد من السبق في الترتيب، ولو كان الليل ذا آية غير ممحوة لكان سبق النهار عليه ظلماً وحيفاً، فلذلك احتيج إلى جانب من التفضيل في هذا الواقع، وكذلك في الخلائق جعل البشر من ذكر وأنثى، وجعل الذكر مديراً للبيت وصاحب القوامة فيه، وصاحب القرار، وجعل الأنثى تابعة له في البيت، ولو كانا ندّين في البيت لحصل فيه التنازع والتناقض، كما قال الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا[الأنبياء:22].
وقسم كذلك الأملاك على هذه القسمة، فقد خلق للبشر ما في الأرض جميعاً، كما قال تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً[البقرة:29]، وقسمه بين صنفي البشر، بين الذكور والإناث، وجعل ما في الأرض جميعاً ينقسم إلى نوعين: إلى ماديات ومعنويات، والمعنويات أشرف من الماديات، فلذلك خص الذكور من البشر بأشرف ما في المعنويات وهو القوامة والإمامة، وخص الإناث من البشر بأشرف ما في الماديات وهو الذهب والحرير، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه جعل في إحدى يديه ذهباً وفي الأخرى حريراً، فقال: إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ).
وهذا يقتضي العدل والمساواة بين الصنفين فيما يتعلق بحيازة ما خلق لهما مما في الأرض، وكذلك جعل النبات أيضاً مثل البشر من ذكر وأنثى، وجعل الحيوان كذلك مثل البشر من ذكر وأنثى، وجعل الخلائق جميعاً على هذه الازدواجية.
وقد شرع من التشريعات ما يضمن هذا العدل والإنصاف ويقطع الظلم ويمنعه، فكل تشريع جاء من عند الله تعالى فإنما هو لمصلحة البشر، فلو كفر الناس جميعاً وضلوا ولم يعبدوا الله تعالى لم يضره ذلك شيئاً، ولو آمنوا جميعاً وانقادوا لحكمه وأمره لم ينفعه ذلك شيئاً؛ ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ).
عدل الله في تشريع العقود بين الناس
وقد تولى الله سبحانه وتعالى تشريع ما لا تصل إليه العقول، فشرع العقود للبشر ونظم لهم علاقاتهم بربهم بالعبادات، فهذه العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله، والصدقة وقراءة القرآن والذكر وغيرها من أنواع الطاعات، كلها لمصلحة ابن آدم، وهي مجال للتنافس، فما لا منجاة دونه هو الفرائض العينية، وما فيه منجاة ولكن فيه زيادة فضل وربح جعله الله مجالاً للتنافس، وقال: فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، وقال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148].
فالفرائض العينية لا بد من أدائها وهي مطلوبة من الجميع، وما زاد على ذلك من الفرائض الكفائية ومن السنن والمندوبات مطلوب من الجميع أن ينافس فيها، وأن يبادر إليها، ومن المعلوم أن من نجح في الامتحان ونال السبق لن يكون جزاؤه بمقتضى العدل جزاء من كان في آخرة القائمة ومن تأخر في أداء مهماته، وأن من نقص من فرائضه وقصر فيها فإنه يستحق العقوبة بمقتضى العدل، ولكن الله سبحانه وتعالى هو العفو الرءوف الرحيم، فيغفر لمن شاء من عباده حقوقه المتمحضة ويعذب بها من شاء، فمن عفا عنه فبفضله ومن عذبه فبعدله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
عدل الله في تقسيم الأرزاق بين عباده
وكذلك قسم الأرزاق على حسب حكمته السابقة، فالذي يعلم أنه إذا جعل تحت يده من المال والأهل والأولاد شيء لن يطغى به أعطاه ذلك، ومن علم أن الحكمة في طغيانه أصلاً امتحنه بما يطغيه، ومن علم أن الأصلح له ألا ينال ذرية أصلاً جعله عقيماً، ومن علم أن المصلحة أن ينال نوعاً واحداً من أنواع الذرية من الذكور أو الإناث يسر له ذلك، ومنعه ما سواه، كما قال الله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50].
وفي الرزق يقول في نفس السورة قبل هذا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى:27]، فيجعل بعض الناس غنياً كي يمتحنه بالغنى، ويجعل بعض الناس فقيراً كي يمتحنه بالفقر، وفي بعض الأحيان يكون الشخص الواحد عرضةً للامتحان بالغنى في بعض الأوقات وبالفقر في بعض الأوقات فيكون اليوم غنياً وغداً فقيراً، أو العكس، وكل ذلك من عدله وحكمته وامتحانه؛ لأنه الأعلم بالمصلحة وبمآلات الأمور.
والعقود التي شرعها هي كلها داخلة في تشريع العدل، فلولا هذه العقود لكان من يريد شيئاً ويرغب فيه من الأقوياء وليس تحت يده أخذه بالغصب والإكراه، ولكان من يرغب في شيء وليس تحت يده وهو من الضعفاء لاحتال عليه بالسرقة أو غيرها، فلذلك شرع الله العقود لتنظم علاقات الناس بعدل وإنصاف، فإذا رأيت شيئاً أنت محتاج إليه وراغب فيه فإن الله جعل لك وجهاً لتملكه بقضية عقد صحيح، إما عقد بيع أو عقد إجارة أو عقد نكاح، وكلها عقود منظمة للعلاقات فيما بين العباد.
وهي من عدل الله سبحانه وتعالى، ولذلك هذه العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
منها: عقود معاوضات، الطرفان فيها مشاركان، كل يدفع ما تحت يده وما خصه الله به.
ومنها: عقود تبرعات ينال بها الإنسان المنزلة والمكانة ويرتفع بها قدره في الدنيا والآخرة، فـ ( اليد العليا خير من اليد السفلى )، وتزيده رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى وإيثاراً للدار الآخرة على الأولى.
ومنها: عقود توثقات؛ لأن المعاوض قد لا يكون تحت يده ما يكافئ رغبته وطلبه، فإذا رغب في سيارة لدى إنسان وليس لديه ما يشتريها به، أو رغب في شيء لدى إنسان وليس لديه ما يشتريه به، فإن الله جعل له ذمة وهي وعاء مقدر مع الإنسان يحوي ما يمكن أن تعجز عنه ذات يده حالاً، ولكنه يستطيع توفيره في المستقبل.
ولكن هذه الذمة راجعة إلى أمانة الإنسان والثقة به، والناس متفاوتون في هذا، فمنهم من هو موثوق به، آتاه الله ورعاً وخوفا ًمن الله سبحانه وتعالى يقتضي ثقة الناس به، فإذا تعاملوا معه علموا أنه لن يكذب ولن ينقض العهد، ولن يمنع الحق فيثقون به ويتعاملون معه على أساس هذه الثقة.
ومنهم من هو خرب الذمة، جرب في التعامل فكان تعامله سيئاً، ولم يكن وفياً، ولا صدوقاً في تعامله، ولكن مع ذلك هو محتاج، وهذا القسم الثاني يحتاج إلى تقوية لذمته فلذلك شرع الله عقود التوثقات لتقوية ذمم هذا النوع من الناس، وكذلك من كان من الناس مجهولاً غير معروف في التعامل ليس له سابقة في السوق، أو ليس من أهل البلد، أو لم تعامله بالدينار والدرهم فتحتاج إلى تقوية لذمته، فجعل الله تعالى عقود التوثقات مدعاة لحصول الثقة به، إما بالرهن وإما بالكفالة وإما بالضمان، وكلها عقود تحقق هذا المقصود.
ولذلك فحصول هذه العقود بأنواعها المختلفة وتوسعها لتشمل كل مجالات الحياة هو من تمام العدل.
عدل الله في اختيار من يلي أمر البشر وشروط اختياره
وكذلك من عدل الله سبحانه وتعالى: أن علم أن البشر لا يستطيعون جميعاً قيادة شئونهم، فلا يمكن أن يكون شعب مثلاً: فيه مليون مواطن أو مليونان أو ثلاثة، وكل إنسان منه رئيس أو كل إنسان منه وزير، أو كل إنسان منه وال أو حاكم؛ لأن هذا من المستحيلات، فلا بد أن يكون له إدارة؛ لأن مصالحه مشتركة وأملاكه مشتركة، فلا بد أن يتولى الأمر بعض هذا الشعب دون بعض.
ولذلك كان من عدله جل جلاله أن بين لنا الشروط التي إذا اتصف بها إنسان استحق أن ينال مقاليد الأمور، وإذا اختلت في إنسان استحق ألا يلي شيئاً من مقاليد الأمور.
وبين كذلك ما عليه من الواجبات وما له من الحقوق، فبين أن من ولاه الله أمر المسلمين فإنه يجب عليه رعاية العدل فيما بينهم، فهو بمثابة أبِ الأسرة، ووالد الأسرة يجب عليه العدل في شئونها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـبشير بن سعد عندما جاء بولده النعمان ليشهده على أنه قد نحله حديقته قال: ( أكل ولدك نحلت مثلها؟ قال: لا، قال: أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على زور )، وقال: ( اتقوا الله وساووا بين أولادكم )، وفي رواية: ( واعدلوا بين أولادكم ).
فلا بد من العدل بين الأولاد، والوالد لا بد من مراعاته لحقوق الأولاد جميعاً ولعدله فيما بينهم، وكذلك رب الأسرة لا بد من العدل أيضاً بين جميع أفرادها، إذا كان له زوجتان فلا بد من العدل بينهما.
وقد تولى الله سبحانه وتعالى تشريع ما لا تصل إليه العقول، فشرع العقود للبشر ونظم لهم علاقاتهم بربهم بالعبادات، فهذه العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد في سبيل الله، والصدقة وقراءة القرآن والذكر وغيرها من أنواع الطاعات، كلها لمصلحة ابن آدم، وهي مجال للتنافس، فما لا منجاة دونه هو الفرائض العينية، وما فيه منجاة ولكن فيه زيادة فضل وربح جعله الله مجالاً للتنافس، وقال: فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، وقال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة:148].
فالفرائض العينية لا بد من أدائها وهي مطلوبة من الجميع، وما زاد على ذلك من الفرائض الكفائية ومن السنن والمندوبات مطلوب من الجميع أن ينافس فيها، وأن يبادر إليها، ومن المعلوم أن من نجح في الامتحان ونال السبق لن يكون جزاؤه بمقتضى العدل جزاء من كان في آخرة القائمة ومن تأخر في أداء مهماته، وأن من نقص من فرائضه وقصر فيها فإنه يستحق العقوبة بمقتضى العدل، ولكن الله سبحانه وتعالى هو العفو الرءوف الرحيم، فيغفر لمن شاء من عباده حقوقه المتمحضة ويعذب بها من شاء، فمن عفا عنه فبفضله ومن عذبه فبعدله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
وكذلك قسم الأرزاق على حسب حكمته السابقة، فالذي يعلم أنه إذا جعل تحت يده من المال والأهل والأولاد شيء لن يطغى به أعطاه ذلك، ومن علم أن الحكمة في طغيانه أصلاً امتحنه بما يطغيه، ومن علم أن الأصلح له ألا ينال ذرية أصلاً جعله عقيماً، ومن علم أن المصلحة أن ينال نوعاً واحداً من أنواع الذرية من الذكور أو الإناث يسر له ذلك، ومنعه ما سواه، كما قال الله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50].
وفي الرزق يقول في نفس السورة قبل هذا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى:27]، فيجعل بعض الناس غنياً كي يمتحنه بالغنى، ويجعل بعض الناس فقيراً كي يمتحنه بالفقر، وفي بعض الأحيان يكون الشخص الواحد عرضةً للامتحان بالغنى في بعض الأوقات وبالفقر في بعض الأوقات فيكون اليوم غنياً وغداً فقيراً، أو العكس، وكل ذلك من عدله وحكمته وامتحانه؛ لأنه الأعلم بالمصلحة وبمآلات الأمور.
والعقود التي شرعها هي كلها داخلة في تشريع العدل، فلولا هذه العقود لكان من يريد شيئاً ويرغب فيه من الأقوياء وليس تحت يده أخذه بالغصب والإكراه، ولكان من يرغب في شيء وليس تحت يده وهو من الضعفاء لاحتال عليه بالسرقة أو غيرها، فلذلك شرع الله العقود لتنظم علاقات الناس بعدل وإنصاف، فإذا رأيت شيئاً أنت محتاج إليه وراغب فيه فإن الله جعل لك وجهاً لتملكه بقضية عقد صحيح، إما عقد بيع أو عقد إجارة أو عقد نكاح، وكلها عقود منظمة للعلاقات فيما بين العباد.
وهي من عدل الله سبحانه وتعالى، ولذلك هذه العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
منها: عقود معاوضات، الطرفان فيها مشاركان، كل يدفع ما تحت يده وما خصه الله به.
ومنها: عقود تبرعات ينال بها الإنسان المنزلة والمكانة ويرتفع بها قدره في الدنيا والآخرة، فـ ( اليد العليا خير من اليد السفلى )، وتزيده رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى وإيثاراً للدار الآخرة على الأولى.
ومنها: عقود توثقات؛ لأن المعاوض قد لا يكون تحت يده ما يكافئ رغبته وطلبه، فإذا رغب في سيارة لدى إنسان وليس لديه ما يشتريها به، أو رغب في شيء لدى إنسان وليس لديه ما يشتريه به، فإن الله جعل له ذمة وهي وعاء مقدر مع الإنسان يحوي ما يمكن أن تعجز عنه ذات يده حالاً، ولكنه يستطيع توفيره في المستقبل.
ولكن هذه الذمة راجعة إلى أمانة الإنسان والثقة به، والناس متفاوتون في هذا، فمنهم من هو موثوق به، آتاه الله ورعاً وخوفا ًمن الله سبحانه وتعالى يقتضي ثقة الناس به، فإذا تعاملوا معه علموا أنه لن يكذب ولن ينقض العهد، ولن يمنع الحق فيثقون به ويتعاملون معه على أساس هذه الثقة.
ومنهم من هو خرب الذمة، جرب في التعامل فكان تعامله سيئاً، ولم يكن وفياً، ولا صدوقاً في تعامله، ولكن مع ذلك هو محتاج، وهذا القسم الثاني يحتاج إلى تقوية لذمته فلذلك شرع الله عقود التوثقات لتقوية ذمم هذا النوع من الناس، وكذلك من كان من الناس مجهولاً غير معروف في التعامل ليس له سابقة في السوق، أو ليس من أهل البلد، أو لم تعامله بالدينار والدرهم فتحتاج إلى تقوية لذمته، فجعل الله تعالى عقود التوثقات مدعاة لحصول الثقة به، إما بالرهن وإما بالكفالة وإما بالضمان، وكلها عقود تحقق هذا المقصود.
ولذلك فحصول هذه العقود بأنواعها المختلفة وتوسعها لتشمل كل مجالات الحياة هو من تمام العدل.
وكذلك من عدل الله سبحانه وتعالى: أن علم أن البشر لا يستطيعون جميعاً قيادة شئونهم، فلا يمكن أن يكون شعب مثلاً: فيه مليون مواطن أو مليونان أو ثلاثة، وكل إنسان منه رئيس أو كل إنسان منه وزير، أو كل إنسان منه وال أو حاكم؛ لأن هذا من المستحيلات، فلا بد أن يكون له إدارة؛ لأن مصالحه مشتركة وأملاكه مشتركة، فلا بد أن يتولى الأمر بعض هذا الشعب دون بعض.
ولذلك كان من عدله جل جلاله أن بين لنا الشروط التي إذا اتصف بها إنسان استحق أن ينال مقاليد الأمور، وإذا اختلت في إنسان استحق ألا يلي شيئاً من مقاليد الأمور.
وبين كذلك ما عليه من الواجبات وما له من الحقوق، فبين أن من ولاه الله أمر المسلمين فإنه يجب عليه رعاية العدل فيما بينهم، فهو بمثابة أبِ الأسرة، ووالد الأسرة يجب عليه العدل في شئونها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـبشير بن سعد عندما جاء بولده النعمان ليشهده على أنه قد نحله حديقته قال: ( أكل ولدك نحلت مثلها؟ قال: لا، قال: أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على زور )، وقال: ( اتقوا الله وساووا بين أولادكم )، وفي رواية: ( واعدلوا بين أولادكم ).
فلا بد من العدل بين الأولاد، والوالد لا بد من مراعاته لحقوق الأولاد جميعاً ولعدله فيما بينهم، وكذلك رب الأسرة لا بد من العدل أيضاً بين جميع أفرادها، إذا كان له زوجتان فلا بد من العدل بينهما.
وقد أمر الله بذلك، وبين أن العدل المطلق صعب جداً: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ[النساء:129].
فالعدل المأمور به ليس هو المذكور هنا الذي يعجز الإنسان عنه؛ لأن الله لا يأمر الإنسان إلا بما يطيق، فميل القلب ليس داخلاً في العدل المأمور به؛ لأنه أمر فطري لا يستطيع الإنسان التحكم فيه، لكن العدل فيما يتعلق بالنفقة والقسمة في المبيت وغير ذلك، عدل مقدور عليه ويستطيعه الإنسان، وهو مكلف به ويجب عليه القيام به.
وكذلك العدل في الجيران، وبيان أن الأقرب أحق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : ( الجار أحق بسقبه -وفي رواية- بصقبه )، أي: بمن بقربه، وقال: ( جار الدار أحق بدار الجار )، ولما سئل عن أحق الجيران حقاً قال: ( أقربهم باباً )، فهذا عدل أيضاً لأن له مرجحاً، فالذي هو أقرب باباً إليك له مرجح؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الجار المسلم له حقان، والجار الكافر له حق واحد ).
فالجار المسلم له مرجح وهو إسلامه، فيستحق به زيادة في مقابل ذلك الحق.
وولي الأمر يجب عليه القيام بالعدل بين رعيته جميعاً، فيجعلهم بمثابة أولاده ويعدل بينهم، فلا يخص إلا بمخصص ولا يرجح إلا بمرجح، وهذا الذي تستقيم عليه الرعية وتنتظم عليه شئونها، وتلتئم عليه القلوب، وإذا خالف ذلك فحصلت الأثرة وتقريب بعض الناس دون بعض، وإعطاؤهم من الحق ما منعه الآخرون، فلا يمكن أن يستقيم أمر الرعية، بل يؤدي ذلك إلى الفتنة وإلى شهر السيوف بين الناس، وإلى حصول التخالف بين القلوب، وكل ذلك مقيت شرعاً ومذموم، فالشرع حث على الوحدة ولم يأت نبي قط إلا بالحث عليها، كما قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13]، فالتفرقة لم يأت نبي قط إلا بالنهي عنها ومدافعتها.
وهذا العدل يقتضي المساواة في الفرص وإتاحتها للجميع، فمثلاً من الأمور التي تتعهد بها الدول عادة وتقوم برعايتها للمواطنين: ضمان الحريات، أي: حرية التنقل وحرية التملك وحرية التعبير، وهذه لا بد من رعايتها ومساواة الجميع فيها، فكل مواطن مسلماً كان أو كافراً، براً كان أو فاجراً، له حرية التملك، فيمكن أن يملك داره، يمكن أن يملك أملاكه، وله الحق في الملك الخاص الذي ملكه الله سبحانه وتعالى إياه، وقد قسم الله الأرزاق بين المسلمين والكافرين، والأبرار والفاجرين، وجعل الجميع يملك ما جعل الله تحت يديه.
العدل في إعطاء الآخرين حرية التعبير وما يقابله من حرية القبول والرد
وكذلك حرية التعبير، فقد جعل الله في الجميع عقولاً ركبها وجعلها متفاوتة، وكل له مستوىً من العقل والتفكير، قد يكون فيه مصلحة، وقد يؤخذ منه نفع حتى لو كان كافراً، فلذلك له الحق في التعبير عن رأيه وعقله وما أداه إليه عقله، لكن لنا الحق ايضاً في أن نأخذ منه وأن نرد.
فحرية التعبير في مقابلها أيضاً حرية الأخذ والرد، فللإنسان أن يعبر عن رأيه مطلقاً صواباً كان أو خطأ، لكن للمتلقي والسامع الحرية أيضاً في أن يرد ما كان مردوداً منه، وأن يقبل ما كان صواباً، كما قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18]، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعرض آراء أهل الجاهلية وأقوالهم فقال: ( اعرضوا عليّ رقاكم )، أي: رقى الجاهلية، فما كان منها موافقاً للشرع أقره، وما كان مخالفاً للشرع رده.
وكذلك كان يستمع إلى أشعارهم، فيقبل منها ما كان مقبولاً، ويرد ما كان مردوداً، وقد استنشد شعر أمية بن أبي الصلت وسمعه فأقر أكثره.
وكذلك كان أصحابه الذين تربوا على منهجه يفعلون، فهذا عثمان رضي الله عنه لما أنشد قول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
فلما أنشد الشطر الأول، قال: صدق، فلما أنشد الشطر الثاني قال: كذب، فأخذ المقبول ورد المردود.
وكذلك في أفكار الناس، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أفكار الكفرة فيما يتعلق بمصالح الدنيا، ففكرة الخندق هي من أفكار فارس، وقد كان ملوكهم يفعلونها وقد أخبره سلمان بذلك فقال: كنا بفارس إذا خفنا خندقنا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفكرة. وكذلك اتخاذ الخاتم، فقد ثبت في الصحيح ( أنه ذكر له عن النصارى حين أرسل إليهم كتاباً إلى الروم أنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده ).
وكذلك المنبر الذي هو في الأصل من فكرة الحبشة، وقد انتشر في العرب وعرف فيما بينهم، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبراً من أعواد الغابة وصنعه له مولىً لامرأة من الأنصار، وكان من أهل الحبشة يعرف صناعة المنابر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل المنبر وذكر أن منبره على حوضه وأنه على ترعة من ترع الجنة، وقال: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي )، ونوه بشأن هذا المنبر، وكان أصحابه رضي الله عنهم ينوهون من شأنه من بعد، واتخذ الناس المنابر للجمعة وللخطب وللتعليم.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( أن الأعراب كانوا إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لم يعرفوه؛ لأنه بين أصحابه يلبس مثلما يلبسون، ويجلس كما يجلسون، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك دكة تجلس عليها حتى يعرفك الناس، فأذن لنا في ذلك فبنيناها من الطوب )، بنوا له دكة يجلس عليها من الطوب، أي: بمثابة الكرسي يجلس عليها صلى الله عليه وسلم حتى يرتفع ليراه الناس، وقد كان يرتفع على المنبر للتعليم، فصلى على المنبر يركع عليه ويسجد ويجلس ليرى الناس صلاته، وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
وهكذا فهذه الأفكار لولا التعبير عنها ووجودها لما أخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يسمع من أهل الجاهلية ولما أتاه عتبة بن ربيعة يعرض عليه أفكار قريش، سمع منه فلما انتهى قال: ( اسمع أبا الوليد )، وكذلك لما أتاه الوليد بن المغيرة سمع منه أيضاً وناقشه، وكذلك لما أتاه نصارى نجران ناقشهم أيضاً، وأنزل الله عليه في ذلك آيات من سورة آل عمران عندما أقام عليهم الحجة، فلم يقبلوا الرجوع إلى دينه، أنزل الله عليه آية المباهلة فدعاهم للمباهلة، فلم يقبلوا واجتمعوا فيما بينهم وقال لهم صاحب الرأي: لقد علمتم ما باهل قوم قط نبياً إلا هلكوا، ولقد علمتم إنه لنبي، فرضوا بالجزية ورجعوا.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يستشير جميع الناس ويسمع منهم، وإذا أعجبه الرأي أخذ به حتى لو كان ذلك الرأي صادراً من امرأة أو من صبي أو نحو ذلك، فقد سمع رأي أم سلمة وعدل إليه يوم الحديبية، وكذلك أخذ برأي بريرة فيما يتعلق بقضية الإفك وهكذا.
وكان صلى الله عليه وسلم يضمن للناس التعبير عن آرائهم، فكل من أتاه يستمع إليه ولو كان عدواً له وخصماً، كما حصل لـسهيل بن عمرو لما جاء يعقد معه صلح الحديبية، وكما حصل لـعروة بن مسعود عندما أتاه، وكما حصل قبله لـبديل بن ورقاء لما أتاه، بل إن أعداءه الذين جاءوا لا يريدون الصلح، بل يريدون فرض آرائهم سمع منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كـعامر بن الطفيل و أربد ، فقد أتياه وخاصماه فقال له عامر : ( لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: يأبى الله ذلك وابنا قيلة، فلما خرجا من عنده، قال: اللهم اكف عامراً و أربد بما شئت )، فأما عامر فأخذته غدة كغدة البعير ومات في بيت امرأة ابن سلول، وأما أربد فوقعت عليه صاعقة فأحرقته وجمله، فلم يرجعا إلى أهلما بعدما دعا عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
العدل في حرية التنقل والارتحال في الأرض
وكذلك حرية التنقل فإن الله سبحانه وتعالى أمر البشر بالتنقل في مناكب الأرض فقال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[الملك:15]، وهذا ضمان لحريات الناس في التنقل والارتحال، والعرب قد عرفوا أن الاستقرار في مكان ما قد يكون مضيعة للإنسان، وأن التنقل قد يكون فيه قضاء لبعض حوائجهم كما قال الشنفرى :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قومي سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل
وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف الخلى متعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
فالأرض هيأها الله سبحانه وتعالى وجعل فيها مسالك وطرقاً، فأي إنسانٍ ضاق عليه مكان أو ضاق عليه العيش في مكان فله في مكان آخر منأىً، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أثر ذلك فقال: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً[النساء:100].
وكذلك حرية التعبير، فقد جعل الله في الجميع عقولاً ركبها وجعلها متفاوتة، وكل له مستوىً من العقل والتفكير، قد يكون فيه مصلحة، وقد يؤخذ منه نفع حتى لو كان كافراً، فلذلك له الحق في التعبير عن رأيه وعقله وما أداه إليه عقله، لكن لنا الحق ايضاً في أن نأخذ منه وأن نرد.
فحرية التعبير في مقابلها أيضاً حرية الأخذ والرد، فللإنسان أن يعبر عن رأيه مطلقاً صواباً كان أو خطأ، لكن للمتلقي والسامع الحرية أيضاً في أن يرد ما كان مردوداً منه، وأن يقبل ما كان صواباً، كما قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18]، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعرض آراء أهل الجاهلية وأقوالهم فقال: ( اعرضوا عليّ رقاكم )، أي: رقى الجاهلية، فما كان منها موافقاً للشرع أقره، وما كان مخالفاً للشرع رده.
وكذلك كان يستمع إلى أشعارهم، فيقبل منها ما كان مقبولاً، ويرد ما كان مردوداً، وقد استنشد شعر أمية بن أبي الصلت وسمعه فأقر أكثره.
وكذلك كان أصحابه الذين تربوا على منهجه يفعلون، فهذا عثمان رضي الله عنه لما أنشد قول الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
فلما أنشد الشطر الأول، قال: صدق، فلما أنشد الشطر الثاني قال: كذب، فأخذ المقبول ورد المردود.
وكذلك في أفكار الناس، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أفكار الكفرة فيما يتعلق بمصالح الدنيا، ففكرة الخندق هي من أفكار فارس، وقد كان ملوكهم يفعلونها وقد أخبره سلمان بذلك فقال: كنا بفارس إذا خفنا خندقنا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفكرة. وكذلك اتخاذ الخاتم، فقد ثبت في الصحيح ( أنه ذكر له عن النصارى حين أرسل إليهم كتاباً إلى الروم أنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده ).
وكذلك المنبر الذي هو في الأصل من فكرة الحبشة، وقد انتشر في العرب وعرف فيما بينهم، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبراً من أعواد الغابة وصنعه له مولىً لامرأة من الأنصار، وكان من أهل الحبشة يعرف صناعة المنابر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل المنبر وذكر أن منبره على حوضه وأنه على ترعة من ترع الجنة، وقال: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي )، ونوه بشأن هذا المنبر، وكان أصحابه رضي الله عنهم ينوهون من شأنه من بعد، واتخذ الناس المنابر للجمعة وللخطب وللتعليم.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( أن الأعراب كانوا إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده لم يعرفوه؛ لأنه بين أصحابه يلبس مثلما يلبسون، ويجلس كما يجلسون، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك دكة تجلس عليها حتى يعرفك الناس، فأذن لنا في ذلك فبنيناها من الطوب )، بنوا له دكة يجلس عليها من الطوب، أي: بمثابة الكرسي يجلس عليها صلى الله عليه وسلم حتى يرتفع ليراه الناس، وقد كان يرتفع على المنبر للتعليم، فصلى على المنبر يركع عليه ويسجد ويجلس ليرى الناس صلاته، وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
وهكذا فهذه الأفكار لولا التعبير عنها ووجودها لما أخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يسمع من أهل الجاهلية ولما أتاه عتبة بن ربيعة يعرض عليه أفكار قريش، سمع منه فلما انتهى قال: ( اسمع أبا الوليد )، وكذلك لما أتاه الوليد بن المغيرة سمع منه أيضاً وناقشه، وكذلك لما أتاه نصارى نجران ناقشهم أيضاً، وأنزل الله عليه في ذلك آيات من سورة آل عمران عندما أقام عليهم الحجة، فلم يقبلوا الرجوع إلى دينه، أنزل الله عليه آية المباهلة فدعاهم للمباهلة، فلم يقبلوا واجتمعوا فيما بينهم وقال لهم صاحب الرأي: لقد علمتم ما باهل قوم قط نبياً إلا هلكوا، ولقد علمتم إنه لنبي، فرضوا بالجزية ورجعوا.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يستشير جميع الناس ويسمع منهم، وإذا أعجبه الرأي أخذ به حتى لو كان ذلك الرأي صادراً من امرأة أو من صبي أو نحو ذلك، فقد سمع رأي أم سلمة وعدل إليه يوم الحديبية، وكذلك أخذ برأي بريرة فيما يتعلق بقضية الإفك وهكذا.
وكان صلى الله عليه وسلم يضمن للناس التعبير عن آرائهم، فكل من أتاه يستمع إليه ولو كان عدواً له وخصماً، كما حصل لـسهيل بن عمرو لما جاء يعقد معه صلح الحديبية، وكما حصل لـعروة بن مسعود عندما أتاه، وكما حصل قبله لـبديل بن ورقاء لما أتاه، بل إن أعداءه الذين جاءوا لا يريدون الصلح، بل يريدون فرض آرائهم سمع منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كـعامر بن الطفيل و أربد ، فقد أتياه وخاصماه فقال له عامر : ( لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: يأبى الله ذلك وابنا قيلة، فلما خرجا من عنده، قال: اللهم اكف عامراً و أربد بما شئت )، فأما عامر فأخذته غدة كغدة البعير ومات في بيت امرأة ابن سلول، وأما أربد فوقعت عليه صاعقة فأحرقته وجمله، فلم يرجعا إلى أهلما بعدما دعا عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك حرية التنقل فإن الله سبحانه وتعالى أمر البشر بالتنقل في مناكب الأرض فقال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[الملك:15]، وهذا ضمان لحريات الناس في التنقل والارتحال، والعرب قد عرفوا أن الاستقرار في مكان ما قد يكون مضيعة للإنسان، وأن التنقل قد يكون فيه قضاء لبعض حوائجهم كما قال الشنفرى :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قومي سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر وشدت لطيات مطايا وأرحل
وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف الخلى متعزل
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
فالأرض هيأها الله سبحانه وتعالى وجعل فيها مسالك وطرقاً، فأي إنسانٍ ضاق عليه مكان أو ضاق عليه العيش في مكان فله في مكان آخر منأىً، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أثر ذلك فقال: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً[النساء:100].
ومن واجباته أيضاً ضمان المساواة فيما تقوم به الدولة من الخدمات، كالتعليم والصحة ورعاية الأمن والأمان، وتوفير الضروريات التي لا يستطيع المواطنون توفيرها لأنفسهم، فكل هذا من واجبات أولياء الأمور، ولما وضعوا أيديهم على المال العام الذي يملكه الجميع وجب عليهم أن يؤدوا منه الحق للجميع، وهذا الحق مقدم على ما سواه، فحق التعليم حق لجميع المواطنين ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً فيجب أن يكون له الأولوية في بيت مالهم، وأن يصرف على تعليمهم من بيت مالهم، وكذلك الصحة والعلاج فهو حق لجميع المواطنين أيضاً، ويجب أن يصرف عليهم من مالهم المشترك الذي هو بيت المال وموارد الدولة، وكذلك الأمن والأمان وتوفيره للجميع، حيث يأمن الإنسان على نفسه وأهله وماله، ويكون قادراً على التفكير وتدبير ما تحت يده والعيش الكريم، فتلك أمور مما تتعهد به الدولة وترعاه، ولا يمكن أن يوكل ذلك إلى الأسر أو إلى القبائل أو إلى المجتمعات، فهذه أمور لا يستطيعها إلا من كان ذا سلطان عام، ومن جعل الله يده نافذةً على أموال المجتمع، وهو الذي يستطيع توفير الأمن والأمان والتعليم والصحة، ولا تستطيع ذلك قبيلة ولا أسرة ولا عائلة، فلهذا كان من واجبات الدولة، ولا بد من العدل والمساواة فيه والإنصاف.
المساواة بين الرعية في أخذ الحقوق
ومثل ذلك أيضاً: المساواة في أخذ الحقوق، فإن المجتمع حتى لو صلحت قيادته وكانت كـعمر بن عبد العزيز أو كـعمر بن الخطاب فإنه مع ذلك لا بد أن يبقى فيه كثير من المخالفات، فنحن نعلم أنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع كثير من الناس في مخالفات، وأقيمت عليهم حدود، وفي زمان الخلفاء الراشدين المهديين كذلك وقع بعض الناس في مخالفات وأقيمت عليه حدود، وهكذا في الأزمنة كلها، فلا بد أن يقع الظلم ولا بد أن تقع المشكلات بين الناس، لكن الشرع أقام الحلول ورتبها، وبين الله سبحانه وتعالى الحل عند حصول البغي والظلم فقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات:9-10].
تدخل الدولة لرفع الظلم والأخذ على يد الظالم
وهذا يقتضي أن حصول الظلم مقتضٍ لتدخل الدولة لترفع الظلم عن كل مظلوم، فذلك من أولى أولوياتها وواجباتها، وإذا حصل الظلم من أي طرف، فلا بد أن تكون الدولة متعهدة برفع الظلم وإزالته، وقد ذكر ابن جرير الطبري في كتابه التبصير في العقائد أن إجماع المسلمين منعقد على أن الخليفة إذا ظلم إنساناً فعلى المسلمين جميعاً أن يقوموا معه حتى ينال النصفة من ظالمه، هذا إذا ظلمه الخليفة، أي: الحاكم العام أو الرئيس الأعلى فكيف بمن دونه؟!
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نوه بحلف الفضول الذي شهده بمكة وقال: ( لو دعيت به في الإسلام لأجبت )؛ لأن هذا الحلف كان يقتضي رفع الظلم ونفيه مطلقاً، ومنع حصوله، ومعالجته إذا حصل بإزالته.
ومن هنا فالإقرار على الظلم حتى لو لم يكن من صنيع الدولة، إذا لم تكن الدولة ظالمة، ولكن حصل الظلم تحت رايتها وتحت سلطانها، فإنها يجب عليها رفعه وإزالته بالكلية، ولا يمكن أن يقع التأخير في ذلك.
ومن هنا فالفقهاء ذكروا أولويات القاضي عندما ينصب قاضياً، فإنه لا بد أن ينظر أولاً في السجناء، فينظر من هو مسجون بحق، ومن هو مسجون بغير حق، فمن كان مسجوناً بغير حق فسجنه ولو لحظة واحدة مفسدة في الأرض، وظلم كبير وإفساد فيها، ومن كان مسجوناً بحق فلا بد أن ينظر هل تغيرت الظروف؟ وهل تقتضي تخفيفاً؟ هل تقتضي عفواً؟ هل أكمل مأموريته التي حكم عليه بها؟ وهكذا، حتى يزال ذلك الظلم؛ لأنه تقييد لحرية، ومن أولى الأولويات على السلطان ضمان حريات البشر.
وكذلك بعد هذا مال اليتامى والغيب والنظر فيه، وكذلك النظر فيما يتعلق بالشأن العام، كدعاوي الحسبة وهي الدعاوي المتعلقة بحق الله جل جلاله، كما يتعلق بالمساجد وإقامة الشعائر الدينية للناس، فهذه الدعوى فيها دعوى حسبة؛ لأنه ليس لإنسان فيها حق الاختصاص، فهي ملك عام لله جل جلاله، ولذلك لا بد من إصلاحها ورعايتها، وهي أول ما ينظر فيه القاضي بعدما ذكر من شأن السجناء وشأن مال اليتامى والغيب، ثم بعد ذلك ينظر في الأمر العام كدعاوي الحسبة.
ثم بعد ذلك ينظر في الدعاوي الفردية، أي: الدعاوي المدنية كدعوى مال بين إنسان وآخر، أو دعوى صداق أو دين أو نحو ذلك، فهذه آخر ما ينظر فيه القاضي من هذه الحقوق المرتبة كما يبينها الفقهاء؛ لأن العدل يقتضي البداءة بالأهم ثم الأهم، إلى أن ينتهي الإنسان إلى المهم، ثم بعد ذلك تنحل المشكلات بالتدريج والتقسيط ويزول الأثر، ولا يمكن أن يقع العدل إلا إذا حصلت الإرادة له، فالعدل قناعة لا بد فيها من إرادة، ومن ليست لديه إرادة العدل وقصده لا يمكن أن يكون عادلاً أصلاً، بل كثير من الناس يكون لديه نزعة الظلم التي هي متأصلة في كثير من أبناء البشر، ولا يريد العدل، فلذلك لا يسعى إليه أصلاً كما قال الحكيم:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
وبعد الإرادة لا بد كذلك من معرفة أقل ما يجزئ من أحكام الشرع؛ لأن الشرع هو العدل، ولا يمكن أن يعرف ما هو عدل إلا من تلقاء الشرع المنزل، فلا بد من أن يصرف الحاكم جزءاً من وقته لتعلم أحكام الشرع، ولا يمكن أن يصل إلى مقام يستغني فيه عن تعلم أحكام الشريعة.