أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد.

وبعد:

أحبتي الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لقد بعث الله سبحانه وتعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ ليكون خاتم النبيين، فبعثه بشريعة غراء؛ ليقيم ويبعث أمة، وهذا المنهج وهذه الأمة هي خير الأمم كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، وهذه الخيرية ليست خيرية عرقية، ولا عنصرية، ولا جغرافية، وإنما هي خيرية مستمدة من تطبيقها لشريعة رب العالمين، ومتابعتها لسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام.

فقد جاء عند الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله اطلع على قلوب العباد، فلم ير قلباً أخضع له وأحب إليه من قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولذا اختاره لرسالته، وقد اختاره الله سبحانه لأنه كان متحملاً -بأبي هو وأمي- أذى الخلق، فكان في دعوته صابراً حكيماً، وفي توجيهاته سديداً، يحب أن يقدم لهذه البشرية الدعوة غضة طرية لا عوج فيها ولا أمتاً.

وقد روى البخاري و مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسي إلى ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام ، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، قال صلى الله عليه وسلم: فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً ).

وهذا الحنان، والعطف من الحبيب عليه الصلاة والسلام هو سبب حديثنا الليلة.

فقد روى البخاري و مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، و أبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل : أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على كتف محمد -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- ومن يضعه على كتف محمد إذا سجد؟ فقام أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على كتفيه وهو ساجد. يقول ابن مسعود : ولو كانت لي منعة لوضعته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة ، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وقال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً، فلما سمعوا صوته، ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: اللهم عليك بـأبي جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أمية بن خلف و عقبة بن أبي معيط، وذكر أسماء، قال ابن مسعود : فو الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قليب بدر )، وهذا كله من صبره عليه الصلاة والسلام وتفانيه، حتى تصل دعوته إلى الناس غضة طرية.

لقد كان صلى الله عليه وسلم رفيقاً بأمته رحيماً بهم، يحب لهم ما يحب لنفسه.

فقد روى ابن هشام في سيرته، أنه دخل عليه الصلاة والسلام ذات ليلة على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ( فلما رأته مسروراً جذلاناً قالت: يا رسول الله! لي إليك حاجة؟ قال: يا عائشة ! سليني، قالت: أو تستجيب لذلك؟ قال: نعم، قالت: ادع الله أن يغفر لي ذنوبي، قالت: فرفع عليه الصلاة والسلام يديه، ثم قال: اللهم اغفر لـعائشة ثلاثاً، فلما وضع يده -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- وجد عائشة مسرورة تبرق أسارير وجهها فقال: يا عائشة ! ما لك أسررت؟ قالت: وما لي لا أسر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لي بالمغفرة، ثم سكت هنيهة ثم قال: يا عائشة ! إني لأدعو كل ليلة لأمتي بالمغفرة والرحمة )، الله أكبر.

ويطيب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي لأنه الرحمة المهداة، والنعمة المبتغاة، عرف رحمته حتى الجمادات والحيوانات فأحبوه، ورغبوا في القرب منه، وبكوا من الابتعاد عنه؛ لأنه سار في الخلق بالعدل والرحمة مبتغٍ رضا الرحيم الرحمن.

فقد روى أبو داود و النسائي وغيرهما من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً للأنصار، فإذا جمل، فلما رأى الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه -وفي رواية: فجرجر وذرفت عيناه- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً حتى وضع رأسه على جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل يمسح رأسه بجسد الحبيب عليه الصلاة والسلام، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم دموعه فسكت، كأنه يصغي إلى شكواه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ فقام فتى من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه )، يعني: تتعبه.

وليس هذا مقتصراً على الحيوانات، بل لقد وصل إلى الجمادات، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يقوم إلى جذع في سارية المسجد فيتكئ عليه ويمسكه ويخطب الناس، فقال لامرأة من الأنصار: انظري غلامك النجار يصنع لي أعواداً أكلم الناس عليها. فصنع هذه الثلاث الدرجات، فلما علا عليه، سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فسكت )، وفي رواية: ( فصاحت النخلة كصياح الصبي )، وفي رواية عند النسائي : ( فاضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج )، والخلوج: التي انتزع منها ولدها، وفي رواية: ( فخار الجذع كما يخور الثور، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه، وهدهده كما يهدهد أحدكم صبيه. قال: فسكن، فقال عليه الصلاة والسلام: أما إني لو لم أصنع به هكذا لحن إلى يوم القيامة )، وكان الحسن البصري إذا روى هذا الحديث جثا على ركبتيه وبكى وقال: عباد الله! جذع يحن لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفلا نكون نحن أحق بذلك وأولى؟

يطيب لنا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ فقد عاش كثير من العظماء، ومن رجالات التاريخ والديانات، ونقلت أخبارهم، ودونت الكتب أوصافهم، وسجلت المدونات أحوالهم، غير أنه لا يوجد أحد من هؤلاء العظماء، ولا أحد من هؤلاء الرجال من نقلت لنا أخباره، ودونت صفاته، وحفظت سيرته، كما حفظت سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام.

إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أصح سيرة على وجه التاريخ، حتى قال أحد أعداء الدين من المستشرقين: إن محمداً فقط هو النبي الوحيد الذي ولد تحت ضوء الشمس، وهي إشارة من هذا المستشرق إلى دقة رواية سيرة الحبيب عليه الصلاة والسلام.

بل إننا نقول: إن من الظلم لنبينا صلى الله عليه وسلم، وإن من الظلم للحقيقة أن نقيسه بواحد من هؤلاء العظماء الذين لمعت سيرهم وأسماؤهم، وسطرت يراع المؤرخين آثارهم، فإن من العظماء، ومن القادة، ومن الساسة من كان عظيم العقل، ولكنه فقير العاطفة عقير اللسان، وإن من العظماء من كان كريم السجايا واسع العطاء، ولكنه قليل الحكمة سيئ الرأي، ومنهم من كان بليغ القلب، بليغ العقل والقول وثّاب الخيال، ولكنه بارد الشعور قليل الإرادة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو وحده -بأبي هو وأمي- من جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من البشر رئيساً أو مرءوساً، حاكماً أو محكوماً، عظيماً أو حقيراً إلا وكانت له أمور يحرص على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها، من أمور تتصل بسيرته، أو علاقته مع أهله، أو مع خلانه، أو مع أسرته، أو تدل على ضعفه أو قسوته، أما الحبيب عليه الصلاة والسلام فهو الطاهر المطهر -بأبي هو وأمي- الذي كشفت حياته للناس جميعاً، فكانت كتاباً مفتوحاً، ليس فيه صفحة مطوية، ولا ورقة منزوعة، ولا حقوق للطبع محفوظة، وهو وحده -بأبي هو وأمي- الذي أذن لأصحابه أن يكتبوا عنه كل شيء؛ لأنه لا يقول إلا الحق، سواء في ساعة السرور والصفاء، أو في أوقات الترح والشدة والعناء.

ولقد أخبرت أزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بكل ما يأتي ويذر في بيته حتى في معاشرتهن، وحدثن بما يقول ويفعل، حتى عرفنا كيف يأكل، وكيف يشرب، وكيف ينام، وكيف يستيقظ، بل لقد عرفنا كيف كان يقضي حاجته، فصلاة ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وفي السر والجهار، وصلى الله وسلم وبارك عليه كلما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون، وصلى الله عليه في الأولين والآخرين أفضل وأكثر وأزكى ما صلى على أحد من خلقه، وجزاه عنا أفضل ما جزى رسولاً عن أمته، فإنه أنقذنا به من الهلكة، ووقانا بسنته من التخبط والانحراف والعجلة، فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظاً في دين ودنيا، أو دفع بها عنا مكروه فيهما، أو في واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها، القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها، والذائد عن الهلكة والزيغ والعناد، الهادي إلى سبيل الرشاد، القائم بالنصيحة والإرشاد، كما ذكر هذا الإمام الشافعي رحمه الله في أول مقدمته لكتابه العظيم الرسالة.

أحبتي الكرام! إن الذين وصفوا سيرته عليه الصلاة والسلام أحبوه، واقتدوا به، فاجتمع في وصفهم وتدوينهم أمانة النقل مع محبتهم للموصوف، فهو عليه الصلاة والسلام أنموذج الإنسانية الكاملة، وملتقى الأخلاق الفاضلة، وحامل لواء الدعوة العالمية، أعطاه ربه وأكرمه، وأعلى قدره، ورفع ذكره، ووعده بالمزيد حتى يرضى، وولاه قبلة يرضاها. من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، ومن بايعه فإنما بايع الله، لا قدر لأحد من البشر يساوي قدره، فهو صفوة الخلق وأكرم الأكرمين على الله، وإذا كان موسى كليم الله قد قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] فإن الله تعالى قال لمحمد: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، وإذا كان موسى عليه السلام وهو النبي الوجيه قد سأل ربه فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26]، فإن الله قد قال لرسوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:1-2].

أكرم الله به هذه الأمة فأنزل عليه أفضل الكتب، وخير الشرائع، وجعل أمته خير الأمم، فلا تكاد ترى صحابياً ولا إماماً، ولا قائداً سطر التاريخ مآثره، إلا وسببه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أبو بكر رضي الله عنه؟ ومن عمر ؟ ومن الشافعي ؟ ومن مالك ؟ ومن النعمان ؟ ومن خالد ؟ ومن صلاح الدين؟ ومن الأئمة الذين جاءوا من بعده لولا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على كل نبي أنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فعليه أن يتبعه ويساير شريعته، ولهذا يقول القائل:

شهم تشيد به الدنيا برمتها على المنائر من عرب ومن عجم

أحيا بك الله أرواحاً قد اندثرت في تربة الوحل بين الكأس والصنم

نفضت عنها غبار الذل فاتقدت وأبدعت وروت ما قلت للأمم

ربيت جيلاً أبياً مؤمناً يقظاً حسوا شريعتك الغراء في نهم

فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم

من خالد من صلاح الدين قبلك من مالك ومن النعمان في القمم

من البخاري ومن أهل الصحاح ومن سفيان والشافعي الشهم ذو الحكم

من ابن حنبل فينا و ابن تيمية بل الملايين أهل الفضل والشمم

من نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا أنت الإمام لأهل الفضل كلهم

أحبتي الكرام! تلك بعض شمائل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة الذي يجب اتباعه في السراء والضراء، ولقد كان سلف هذه الأمة يتبعونه صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء، واقتدى بهم أتباعهم في ذلك.

فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله كان متبعاً لرسولنا صلى الله عليه وسلم في سرائه وفي ضرائه، ويوم أن وقعت المحنة اختبأ عند أحد أصحابه ثلاث ليال، فلما أراد أن يخرج قال له: يا شيخ! لماذا تخرج وأنت في مأمن لا يعلم بك فيه أحد، قال: نعم، ولكن لا ينبغي أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في السراء، ونترك سيرته واتباعه في الضراء، قال: وما ذاك؟ قال: اختبأ في الغار ثلاثاً ثم خرج، وأنا اختبأت ثلاثاً وسوف أخرج.

أحبتي الكرام! إن محمداً صلى الله عليه وسلم عصمه ربه، وحفظ سيرته وسنته، فما أحد من الخلق -صغر أم كبر عظم أم حقر- سب محمداً صلى الله عليه وسلم إلا وقد انتصر الله له منه، وهذه قصة ذكرها الشيخ أحمد شاكر في كلمة حق، وهي جميلة أن تذكر وتبين، يقول الشيخ أحمد شاكر : كان أحد خطباء مصر فصيحاً متكلماً مقتدراً، وأراد ذلك الخطيب أن يمدح أحد أمراء مصر عندما كرم هذا الأمير طه حسين وكان من الأدباء، فقال هذا الخطيب مادحاً للأمير في خطبته: جاءه الأعمى، يعني: طه حسين ، فما عبس ولا تولى، فما كان من الشيخ محمد شاكر والد الشيخ أحمد شاكر إلا أن قام بعد الصلاة يخبر الناس أن صلاتهم باطلة، وأمرهم بإعادة الصلاة؛ لأن الخطيب قد كفر بسبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد نقل أكثر من واحد من أهل العلم الإجماع على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة مرتد.

يقول الشيخ أحمد شاكر : ولكن لم يدع الله لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الآخرة، فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين، بعد أن كان عالياً منتفخاً بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة يتلقى نعال المصلين ويحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني -وأنا أعرفه وهو يعرفني- لا شفقة عليه، فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتة فيه، فالرجل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة، انتهى كلامه رحمه الله.

وقد سأل هارون الرشيد الإمام مالك بن أنس في رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له أن بعض المتفقهة أفتوا بجلده فقط، فغضب مالك رحمه الله، وقال: يا أمير المؤمنين! ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه العظيم الدرر الكامنة، عن إبراهيم بن محمد الطيبي أن بعض أمراء المغول تنصر، فحضر عنده جماعة من كبار النصارى، فجعل ينتقص من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع القوم كلب صيد مربوط، فلما أكثر هذا المتنصر من سبه للنبي صلى الله عليه وسلم وثب عليه الكلب فخمشه، فخلصوه منه، وقال بعض من حضر: هذا بكلامك في محمد، ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل المتنصر: لا، بل هذا الكلب عزيز نفس، وظن أني أشير إليه، وأنا أسب محمداً -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- فظن أني أريده، فقام ما قام، فلما عاد وسب النبي صلى الله عليه وسلم وثب عليه الكلب مرة أخرى، فقبض على سردمته، وهو موضع الابتلاع من الحلق، فقطعها فمات من حينه، فأسلم بسبب ذلك نحو من أربعين ألفاً.

فهذا هو الحبيب عليه الصلاة والسلام، وهذا بعض خلقه، وبعض شمائله، ومن أراد أن تنجح دعوته، وتستقيم سيرته، فعليه أن يقتدي بالمعلم الأول، وبالقدوة العظمى، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، وأن الحي كما يقول ابن مسعود : لا تؤمن عليه الفتنة.

والنبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم من كل خطأ، فهو -بأبي وأمي- أسوة في أخلاقه، وفي تعاملاته مع الخلق، وإن الأخوة لا تفرض بقوانين ولا بمراسيم، ولا بأحلام الحكماء، ولا بأقوال الشعراء، وإنما هي أثر من تخلص النفس من نوازع الأثرة والشح والأنانية، وحب الذات والرفاهية.

والأخلاق الحسنة لا تنبع إلا من نفوس طيبة، وطبائع كريمة تميز بين الأدب والملق، والصدق والكذب، ولقد جاءت رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنصيب وافر من الاهتمام بالأخلاق وحسن التعامل.

في رفقه ورحمته بالخلق

وصف الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وبقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وهل بعد طغيان فرعون من طغيان، ومع ذلك يقول الله لموسى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44]، فكان الحبيب عليه الصلاة والسلام أسوة في تعامله مع الخلق.

وقد روى البخاري و مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: ( بينما كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير، وعليه بردة نجرانية غليظة الحاشية، إذ جاء رجل أعرابي من خلفه فجبذه حتى رأيت أثر جبذته في عنقه، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم، فقال الأعرابي: أعطني من مال الله الذي عندك )، وفي بعض الروايات أنه قال: ( فإنه ليس من كدك ولا من كد أبيك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه وقال له: رضيت، قال: لا، فأعطاه، فقال: رضيت، قال: نعم ).

إن الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، وتطلب للناس الأعذار، والتمس لأغلاطهم المسوغات، وأخذهم بالأرفق من حالهم، وإنه يجب على كل مسلم أن يقتدي بسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة دعاة الإسلام، وطلبة العلم، وأهل الخير والصلاح حتى تتوفر فيهم الطبيعة الخيرة التي تجتمع عليها القلوب، وتتآلف حولها النفوس؛ لأن الناس وخاصة في هذا الزمان في حاجة إلى كنف رحيم، وبشاشة سمحة، وود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم وخطئهم.

فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن الحكم قال: ( بينما كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تبصرون إليّ، قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما سلم عليه الصلاة والسلام فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني ولا شتمني، غير أنه قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ).

وتأمل يا رعاك الله! إلى الأدب النبوي الذي عالج الخطأ برحمة وحنان، جعلت معاوية بن الحكم لا يقتصر على هذا الأدب وهذه التربية, بل حفزه ذلك لأن يزيل الجهل عن نفسه، فقال: ( يا رسول الله! إن منا أناساً يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك، قال: وإن منا أناساً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم، قال: يا رسول الله! وإن لي جارية ترعى لي غنماً بين أحد والجوانية -وهي أماكن معروفة-، فجاء الذئب فأخذ شاة من غنمها، وأنا بشر من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها، -يعني: ضربتها- فعظم ذلك عليّ، فقلت: أعتقها، قال: ائتني بها، قال: فجئته بها، فقال: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أين الله؟ فأشارت إليه في السماء، فقال: أعتقها، فإنها مؤمنة ).

وبال أعرابي في المسجد كما في الصحيحين من حديث أنس ، فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال عليه الصلاة والسلام: ( دعوه لا تزرموه، وأهريقوا على بوله ذنوباً من الماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، وسكنوا ولا تنفروا ).

ولو أن سائلاً سألك وقال لك: وقعت على امرأتي في نهار رمضان لعظمت هذا الأمر، ولربما قلت له: يجب عليك أن تصوم شهرين متتابعين، ولا تعتق؛ لأنه لا يوجد عتق في هذا الزمان، ولو قال: لا أستطيع أن أصوم لرأيت بعضنا يقول: يجب عليك أن تصوم.

وقد ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقال: يا رسول الله! هلكت وأهلكت )، وفي رواية: ( فعل الله بها ما فعل، قال: وما ذاك؟ قال: تجملت لي فوقعت عليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبة، قال: يا رسول الله! والله ما عندي ما أعتق به، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: يا رسول الله! وهل أوقعني فيما وقعت إلا الصوم -يعني: ما أستطيع أن أصبر-. قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: والله يا رسول الله! ما عندي ما أتصدق به، قال: فجلس، فأتي إليه بعرق فيه تمر، ثم قال: تصدق بهذا، فقال: أعلى أفقر منا؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: خذه وأطعمه أهلك ).

فالأعرابي حينما بال في المسجد لم يقطع عليه بوله؛ لأنه يخشى لو قطع بوله أن يؤثر ذلك في أماكن أخرى، وأن يؤثر أيضاً على ثيابه، فقال: لا تزرموه يعني: لا تقطعوا عليه بوله، فهذا الأعرابي حينما وجد هذا الحنان، وهذه الرأفة من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً أبداً، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حجرت واسعاً ).

ويأتي رجل اسمه عبد الله بن حمار وكان يشرب الخمر، ومع ذلك كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثيراً ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقيم عليه الحد، فرأى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فقال: ( لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعينوا الشيطان على أخيكم، فإنه يحب الله ورسوله ).

إن هذه الكلمة العظيمة: ( فإنه يحب الله ورسوله ) لها دلالات عظيمة، فإن الرجل مهما قصر في طاعة الله، ووقع في الذنب العظيم، فإنه يجب على الدعاة وعلى الناس أن يثيروا همته في أنه ما زال قريباً من طاعة الله، فإنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الخير الذي استقر في قلبه وهو محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب أكيد في أن يجعل هذا الرجل المذنب يترك الذنب، ويقبل على طاعة الله سبحانه وتعالى.

في تعامله مع أزواجه

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في تعامله مع أزواجه، فقد يكون الواحد منا سمحاً سهلاً حليماً، عفيف اللسان مع الخلق، حتى لربما تمنى الخلق أن يتصفوا بهذه الصفة غير أنه إذا دخل بيته كان أسداً مكشراً عن أنيابه، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال: ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي )، وهذه الخيرية دليل على أن الإنسان ربما يتصنع هذا الخلق مع الخلق، لكنه مع من يكثر الاحتكاك معه والخلطة يذهب هذا الخلق المصطنع، وتبقى الحقيقة، أما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتكلم على أحد من أصحابه، ولا من أزواجه الذين كان يكثر الاختلاط معهم بكلمة واحدة مسيئة إليهم، بل كان عليه الصلاة والسلام -بأبي هو وأمي- لا يعالج الخطأ في فورة غضب أزواجه.

فقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدني مسرورة فجعل يحدثها )، وأراد عليه الصلاة والسلام أن يعالج خطأ عائشة ولكن هذه المعالجة تحتاج إلى ترو، وإلى الوقت المناسب للمعالجة؛ غير أن بعضنا إذا رأى صاحب منكر ربما يغلظ عليه القول، ويشتد عليه، وربما رد هذا المخطئ الصاع صاعين، فقال الداعية: مشكلة فلان أنه لا يقبل الحق، والصحيح أنه ربما يقبل الحق، ولكنك أتيت بهذا الحق على غير وجهه.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان يعالج الخطأ في الوقت المناسب، تقول عائشة رضي الله عنها : ( دخل عليَّ فوجدني مسرورة، فقال: يا عائشة ! أما إني أعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عني غضبى. فسكت ثم قالت: وكيف تعرف ذاك يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام -وكأني أنظر إلى الحبيب وهو ينظر إليها بعين الشفقة والحنان والرحمة-، فقال: إذا كنت عني راضية قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت عني غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، فضحكت عائشة رضي الله عنها، وقالت: صدقت بأبي أنت وأمي، والله ما أهجر إلا اسمك، ولا أهجره بعد اليوم ).

فإنك قد تتحدث مع صاحب لك في بعض الأمور، وربما يكون في بعضها مناقشات فقهية يحصل فيها بعض الإلزامات من الخصوم، وربما قال كلمة ظاهرها فيه من الشناعة والغلظة، وعظيم القول ما لا يخفى، فيجب عليك أن تحمل هذه الكلمة محملها حسناً، فربما كان غضبان وقالها وهو لا يعلم.

وقد ورد في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت -وهذا يدل على خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه وصدقه ومعالجته للخطأ، وأنه لا يحمل الخطأ أكثر من محمله الحقيقي- : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي التي هو عندي فيها، وبينما أنا وإياه في مرط -يعني: على الفراش- متغطيين في لحاف إذ دخلت فاطمة رضي الله عنها، فوالله ما قام من مقامه -وهذا من صدقه، فما عنده شيء في السر يخالف العلن، ولا في العلن يخالف السر-، قالت: فوالله ما قام حتى إن قدميها بين رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليها عليه الصلاة والسلام، وقال: ما عندك يا بنية؟ فقالت: إن أزواجك اجتمعن يناشدنك العدل في بنت أبي قحافة ) وهذه كلمة خطيرة عظيمة، ولكن الحبيب عليه الصلاة والسلام يعرف غيرة النساء، وأن هذه الكلمة لم يقصد بها مدلولها، فضحك عليه الصلاة والسلام، ثم قال لـفاطمة يريد أن ينهي هذه الخصومة، وهذه الشفاعة: ( يا بنية! أو تحبين ما أحب؟! قالت: نعم، قالت: فابتسم وأشار إليّ وقال: فأحبي هذه -يعني: أحبي عائشة لأني أحبها- قالت: فسكتت فاطمة وخرجت، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعات، فقلن: يا فاطمة ! ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: قال لي: أو تحبين ما أحب؟ قلت: نعم، قال: فأحبي هذه. فقلن: ما صنعت شيئاً يا فاطمة ! ارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولي له: إن أزواجك يناشدنك العدل في بنت أبي قحافة ) وهذا من غيرة النساء، والعدل المقصود به هنا عدل القلب، وعدل القلب لا يؤاخذ الله عليه، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك ). والمرأة تريد من الرجل أن يعدل حتى في الحب، وهذا مما لا يتأتى.

( فقالت فاطمة : والله لا أراجعه في هذه -يعني: في عائشة -، قالت: فتشاور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فانتخين زينب بنت جحش . تقول عائشة -وهذا من صدقها-: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم-، قال شراح الحديث: (تساميني) يعني: تشاكلني وتشابهني في أمرين: أولاً في الجمال؛ لأن عائشة كانت جميلة، وزينب بنت جحش كانت جميلة، وأيضاً تساميني في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يحب زينب، ويحب عائشة .

قالت عائشة : وكنت لا أعلم في زينب نقصاً في دين ولا خلق غير أن فيها ثورة -يعني: حدة- سرعان ما ترجع فدخلت زينب بنت جحش بيت عائشة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع معها في مرط، فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك يناشدنك العدل في بنت أبي قحافة )، فلم يقل عليه الصلاة والسلام: يا زينب هذه كلمة عظيمة، أنا أعدل من في الأرض، وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء ليلاً ونهاراً، كما قال لـذي الخويصرة، بل سكت عليه الصلاة والسلام.

ومن الخلق العظيم أن تسكت أحياناً؛ لأن الزمن كفيل بحل كثير من مشاكلنا قالت: ( فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وزينب تحدثه في حبي. قالت عائشة: ثم التفتت إليّ فلاحتني -يعني: خاصمتني وأخذت تقول: عائشة فيها وفيها، قالت عائشة : وأنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساكت، فلما عرفت أنه لا يغضب أن أنتصر لنفسي، قمت فلاحيتها -يعني: خاصمتها- فضحك عليه الصلاة والسلام لحسن مخاصمة عائشة لـزينب ، وقال: إنها ابنة الصديق )، تصوروا أن هذه القضية وقعت عندنا ربما لم نجد لها حلاً إلا بشق الأنفس، ولكن الحبيب عليه الصلاة والسلام عالج القضية بأسمح أمر وأحلاه.

أيضاً ورد عن جابر رضي الله عنه كما في الصحيحين أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور على أزواجه كل عصر، ويقترب منهن غير أنه لا يمس، وكن يجتمعن في بيت الذي هو عندها، فإذا أراد أن يقوم أخذ بيد التي هو عندها، فإذا قامت قمن وتفرقن، فبينما هو عند عائشة قريباً من المغرب، قال: فمد يده فمدت زينب يدها فأراد أن يقيمها، فقالت عائشة : إنها زينب يا رسول الله! قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فتلاحتا -يعني: تغاضبتا وارتفعت أصواتهما- فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أذن المغرب وهن ما زلن يختصمن، فجاء أبو بكر رضي الله عنه إلى بيت عائشة ، و عائشة و زينب يختصمن فقال: يا رسول الله! بأبي أنت اخرج إلى صلاة المغرب ودعهن. فخافت عائشة قالت: الآن يصلي أبو بكر ثم يأتي فيعاتبني، فلما صلى أبو بكر دخل على عائشة وعاتبها وقال: كيف تقولين هذا؟! ).

فهذه بعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم، والحديث في أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وبناته حديث لا ينضب، ولعله يكون هناك حديث مستقل عن علاقته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه.

في صدقه

وانظر إلى صدقه عليه الصلاة والسلام، فهو الصادق المصدوق -بأبي هو وأمي- لا يحابي أحداً، يقول الصدق في قلبه وفي سره وفي علانيته، فـعمرو بن العاص لما أسلم كان كلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم تبسم له، فظن عمرو بن العاص أن هذه الحظوة والحب والعطف والابتسامة إنما كانت من محمد صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن العاص؛ لأنه كان أحبهم إليه.

فقد روى البخاري و مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ( أن عمرو بن العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما رآه تبسم له قال: فقال: يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟! قال: عائشة )، وأنت لو سئلت ولا أريد منك الجواب اجعله في سريرتك: من أحب الناس إليك؟ ربما تكون زوجتك ولكنك تتهرب، ولربما قلت كلاماً فجاً عظيماً، أو قلت: أحب فلاناً أو العالم الفلاني، أو الداعية الفلاني، أو والديّ، وربما لست بصادق.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فقال لـعمرو بن العاص وهو في زمن منع المرأة حقها، حتى جاء الإسلام فأعطاهن ما أعطى وقسم لهن ما قسم، قال له لما سأله: ( من أحب الناس إليك؟! قال: عائشة ، فقال عمرو : من الرجال؟ قال: أبوها ).

نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا

نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا

فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: عائشة وأبوها، ولم يقل: أبو بكر ، بل قال: أبوها؛ لأن حب أبي بكر زاد بحب عائشة رضي الله عنها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً )، قال: ( قال عمرو: ثم من؟ قال: عمر. قال عمرو في بعض الروايات: فسكت خشية أن يعد نفراً من أصحابه ولا يعدني ).

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متفانياً في خدمة الخلق، وفي بذل دعوة الإسلام غضة طرية.

في عبادته

وأيضاً يجب علينا أن نتأسى به عليه الصلاة والسلام في عبادته، فقد جاء في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فيسأل عن ذلك، فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً ).

وجاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فأطال الصلاة والقراءة، قال: فانتظرته فأطال، حتى هممت بأمر سوء )، هذا يقوله الكنيف الذي ملئ علماً ابن مسعود الذي أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه: ( من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد )، وها أنت يا رعاك الله! قد سمعت نزراً يسيراً عن خلق محمد صلى الله عليه وسلم في عبادته، وسمته ومعاملته مع أصحابه، ومع أزواجه، فحاول أن تتأسى به.

في تعامله مع مخالفيه وأعدائه

معاملته عليه الصلاة والسلام مع المخالفين منهج عظيم لمن اقتدى به، فهذا عبد الله بن أبي قال ما قال في محمد صلى الله عليه وسلم، وفي رسالته وفي منهجه، فقد ورد في الصحيحين من حديث أسامة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على نفر وفيهم أخلاط من اليهود والمنافقين والمسلمين، وهو على حمار، فقام عبد الله بن أبي فوضع ريطة على أنفه وقال: يا هذا! لا تغبر علينا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال: السلام على من اتبع الهدى، ثم دعاهم، فقال عبد الله بن أبي : يا هذا! ما أحسن ما تقول، ولكن لا تغشنا في مجالسنا، واجلس في رحلك، فمن أتاك فأرشده، أو قال: فعلمه، فقام عبد الله بن رواحة وقال: بل يا رسول الله! إننا نحب أن تغشانا في مجالسنا وتحدثنا، فتقاتل القوم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدئهم، ثم ذهب إلى سعد بن عبادة ، وقال: يا سعد ! أو ما سمعت ما قال أبو حباب ولم يقل: ابن أبي، أو هذا المنافق، أو غير ذلك، بل كان رحيماً بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ).

والباب في هذا الأمر يطول، لكني أحب أن أبين أن سلامة المنهج، وصحة العقيدة مع التعامل الأخوي الإيماني ركيزتان متلازمتان، وعينان نضاختان تسكبان خيراً لا ينضب، فيجب أن يقتدي دعاة الإسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الدعوة لن تؤتي ثمارها، ولن تنجح وتترعرع إلا بهذا المنهج الإيماني منهج العقيدة الصافية، ومعها نهر الخلق الذي لا ينضب، اقتداءً بمحمد صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكم الفقه في الدين، وأن يجعلنا متبعين لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مقتدين بمنهجه في السراء والضراء.

اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شركات المساهمة 2618 استماع
عبادة القلوب 2465 استماع
مسائل فقهية في النوازل 2447 استماع
التأصيل العلمي 2090 استماع
عبادة القلب 2046 استماع
البطاقات الائتمانية - بيع المرابحة للآمر بالشراء 1950 استماع
أعمال القلوب 1932 استماع
العبادة زمن الفتن 1928 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2] 1866 استماع
الرزق الحلال وآثاره 1809 استماع