كيف تكون فقيهاً ومحدثاً -2


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها الإخوة! نستكمل الموضوع السابق: كيف تكون فقيهاً.

نحن ذكرنا القواعد المنهجية للتفقه في الدين، وتبقى الممارسة العملية بحيث يختار طالب العلم متناً من متون الفقه على حسب كل مذهب، ولعل من أفضل كتب المختصرات للحنفية مختصر القدوري، أو الدر المختار، وفي المذهب المالكي مختصر خليل، أو مختصر المنهاج، أو المنهاج للنووي عند الشافعية، أو زاد المستقنع عند الحنابلة.

أما طريقة التتلمذ فيها فإننا سنوضح ذلك بذكر مثال، كتاب الزاد مثلاً أول باب منه باب المياه، يقرأ هذا الفصل الأول مرة، مرتين، ثلاثاً، أربعاً، خمساً، بحيث يسقط كل جملة، وإذا كان هناك شروط يحفظها، فإن استطاع أن يحفظ سريعاً فالحمد لله، وإلا فإن أهم شيء هو الفهم، بحيث لو أراد أن يعبر فإنما يعبر من كلام الفقهاء وليس من كلامه هو، فإن من الأخطاء أيها الإخوة أن شروح المشايخ تعبر لطالب العلم للفهم ثم يأتي الطلاب فتخرج على سبيل المذكرات، ثم على سبيل الكتاب، ثم يطبع الكتاب، وليس فيه الصيغة الفقهية التي تداولها الأئمة، وينبغي أن يكون الشرح شيئاً، والكتاب الذي يطبع شيء آخر، بحيث لا تذهب السليقة الفقهية لدى طلاب العلم جيلاً بعد جيل؛ ولهذا تجدون أن مشايخنا الكبار حينما كانوا يتعلمون ويقرءون على الشيخ، يشرح الشيخ شرحاً بسيطاً، وكان الطالب يمسك الكتاب الأصل ويذهب إلى الشيخ، أما الآن فأكثر اهتمام الطلاب بشروح المشايخ في الجامعات وغيرها، فتقل السليقة الفقهية، والعبارة الفقهية التي هي أمتن.

فإذا قرأ الطالب هذا المتن ينتقل بعد ذلك فيقرأ شرحاً لشيخ من المشايخ، وينبغي أن يكون هذا الشيخ ملماً بالدليل؛ لأن العبرة ليست أن نعرف مذهب فلان أو علان فقط، العبرة بأن نتربى على الدليل، ولعل من أفضل شروح الزاد الشرح الممتع لشيخنا محمد بن عثيمين ؛ لأنه يبين مراد المؤلف ودليل المؤلف، ثم بعد ذلك يبني في الطالب الملكة الفقهية في طريقة الاستنباط، فالشرح الممتع يعتبر أصلاً، فإذا قرأ كتاب الشرح الممتع حفظ دليل المؤلف، وحفظ دليل الشيخ إذا كان القول الراجح، ثم يمشي على هذه الطريقة، فإذا انتهى من كتاب الطهارة مثلاً يرجع مرة ثانية يتأمل فيه ويقرأ.

ثم يأتي للمرحلة الثانية وهي إذا بلغه عن ابن تيمية قولاً في هذه المسألة يذهب ويعلق على المسألة التي في باب المياه، ويقول: واختار ابن تيمية القول كذا، ويرجع إلى الأصل، أين اختاره ابن تيمية ؟ يقول: راجع الاختيارات راجع مجموع الفتاوى صفحة كذا، وإذا بلغه أن أبا عمر بن عبد البر يقول في المسألة كذا يذهب ويقول: وقال أبو عمر بن عبد البر ويضع قوساً وينقل الكلام، تجده بعد خمس سنوات يكون كتاب الطهارة عنده أغلى من كل شيء، ولو طلب أن يباع له بأعلى الأثمان لما باعه؛ لأنه صار عنده ثروة من أقوال الأئمة المحققين ممن يهتم بهم، إذا بلغه أن شيخنا ابن باز اختار كذا أو اللجنة الدائمة اختارت كذا ودليلهم كذا، فيكون قد عرف الدليل.

المرحلة الثالثة: وهذه تتأتى بعد سبع أو ثمان سنوات من هذه الممارسة، يبحث كل مسألة وينظر هذه المسألة من قال بها؟ ثم يذهب للمغني أو المجموع، أو البيان للعمراني، أو غير ذلك من كتب الخلاف، أو لأصحاب المذاهب، بحيث يعرف دليل مالك ودليل الشافعي ودليل أحمد فيتربى على أدلة الأئمة، فإذا انتهى من هذا الباب عرف ما أصل مالك في هذا القول، فيكون عنده دربة عشر سنوات فيعلم أن مالكاً يبني أصله في المياه على كذا؛ ولهذا تجدون النووي رحمه الله يختصر لك فيقول: هذا الباب مبني على خمسة أحاديث، مثل: باب سجود السهو مبني على خمسة أحاديث، باب الحيض مبني على كذا حديث، فيريد أن يؤصل لك هذه المسائل.

إذاً التربي على أدلة الأئمة وأقوالهم تعطي طالب العلم ملكة فقهية كبيرة جداً؛ ولهذا الذي يتربى على مذهب واحد خاصة من غير دليل ليس بفقيه، وقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على أن الذي لا يعرف أقوال الأئمة بدليله ليس بفقيه، فإذا تربى على هذا يكون كأنه تتلمذ على مشايخ كثر؛ ولهذا يقول إبراهيم الحربي وهو من أصحاب أحمد ومن تلاميذه: سمعت من أحمد مسائل دقاق، يعني: مسائل غريبة ما يعرفها أهل الحديث في وقتهم، فقلت: يا أبا عبد الله ! مم ذاك؟ يعني: من أين لك هذه المسائل؟ قال: قرأت كتب محمد بن الحسن، إذاً: الحنفية عرفوا بتفريعات المسائل، فإذا تربى طالب العلم على الدليل وعلى القياس وكيف يفرع المسائل شيئاً فشيئاً فإنه سيكون إماماً؛ ولهذا حينما درس الإمام الشافعي مع ذكاء حاد وفطنة وحفظ على مدارس الأئمة: مدرسة الرأي ومدرسة الحديث ألف كتاب الرسالة، فليست المسألة مسألة حضور دروس فقط، لا؛ بل لابد من جلد في المكتبة، وأنا إذا دخلت مكتبة طالب العلم ووجدتها مرتبة ومنمقة عرفت أنه لا يقرأ، وإذا وجدت مكتبة طالب العلم مرتبة وفتحت كتاباً منها فوجدته واضعاً ورقة وكتاباً آخر معلقاً عليه، عرفت أنه طالب علم متمكن، وإذا دخلت مكتبة طالب علم وجدت الكتب متناثرة فعرفت هذا كتاب جديد وهذا كتاب جديد، عرفت أن الطالب لا يحسن أن يجمع الكتب ولا يحسن أن يقرأ هذه الكتب، فالمسألة بحاجة إلى تروٍ وتأنٍ.

يقول الشافعي رحمه الله: كتبت بيدي من مسائل محمد بن الحسن حملي بعير، تعرفون البعير إذا صار فيه هذا المزود؟ هذا الذي هو حمل، فالذي كتبه الشافعي حمل من هنا ومن هنا حملي بعير أين هذه الكتب؟ هذه الكتب هي التي قرأها وأخرج لنا كتابه الأم.

يقول: كنت أكتب مسألة محمد بن الحسن وأجمع فيها ما جاء فيها من الآثار، وهذه نسميها نحن مسودات لطالب العلم، هذه تنمي طالب العلم بالكتابة؛ ولهذا شيخنا محمد بن عثيمين أخرج كتباً كثيرة، من كتبه مختصر زاد المعاد، مختارات مغني اللبيب، مختارات إعلام الموقعين، فيقرأ الكتاب ويعلق عليه ثم يتحفظ أقوال الأئمة، وشيئاً فشيئاً سيكون بإذن الله إماماً بعد فترة يشار إليه بالبنان، نسأل الله التوفيق والتسديد.

وبهذا يكون قد جمع مادة علمية، وعرف أقوال الأئمة.

وينبغي لمن أراد أن يبحث في الفقه ألا يفته كتاب المغني وكتاب المجموع، وكتاب المنتقى للباجي ، وكتاب الحاوي الكبير للماوردي ، وكتاب فتح الباري لـابن رجب و ابن حجر، ومجموع الفتاوى لـأبي العباس بن تيمية ، والاستذكار والتمهيد لـأبي عمر بن عبد البر ، وتحقيقات ابن القيم رحمه الله، والسنن الكبرى للإمام البيهقي ، وبدائع الصنائع للكاساني ، أو المبسوط للسرخسي، ولو لم يكن عندك إلا هذه المكتبة لكفتك بإذن الله؛ ولهذا يقول الإمام ابن عبد السلام: ما تجرأت للفتيا حتى كان عندي كتاب أبي محمد بن قدامة يعني المغني، فإذا كان عندك المغني، والتمهيد والاستذكار، والسنن الكبرى للبيهقي مع تنقيحات واختيارات وفقه ابن تيمية مجموع الفتاوى، و ابن حجر أو ابن رجب في فتح الباري لهما، والمجموع للنووي، والبيان للعمراني ، والحاوي للماوردي ، والمنتقى للباجي ، وبداية المجتهد لـابن رشد بحيث يعلمك طريقة معرفة سبب الخلاف وثمرة الخلاف، إذا اشتريت هذه الكتب وراجعتها شيئاً فشيئاً بإذن الله سوف تجد فائدة كبيرة جداً جداً أكثر من أن تجمع الكتب وربما لا تراجعها سنين عديدة.

هذا استكمال لموضوع كيف تكون فقيهاً، وهناك نقاط كثيرة، لكني قلت بدلاً من أن نذكر المنهجية يكفينا أن نذكر هذه المنهجية، ثم نبدأ بالطريقة العملية فيها.

أما الآن فإننا نتحدث عن كيف تكون محدثاً؟

التحديث لا يقوى عليه إلا فحول الرجال، كما قال الإمام الزهري : علم الحديث فحل لا يقوى عليه إلا فحول الرجال؛ ولهذا ليس المحدث الذي يحفظ مختصر البخاري و مسلم ، أو بلوغ المرام، أو المنتقى، ويستدل بذلك أو يجيد علم الرجال، ثم يقال عنه: أنه محدث، لا، فقد ذكر الإمام السبكي المحدث الشافعي المعروف في كتابه الماتع معيد النعم ومبيد النقم معاتباً بعض طلاب أهل زمانه حينما يقرأ الواحد منهم البخاري و مسلم ، والسنن لـأبي داود و الترمذي ، و النسائي و ابن ماجه ، ثم يقال عنه أنه محدث، يقول: ليس هذا بمحدث، فلابد أن يقرأ كتب المعاجم، وكتب المسانيد، وكتب المصنفات، ثم عد أكثر من ثلاثين مجلداً، ثم قال: ثم هذا يصلح أن يكون من أهل الحديث!

فهذا يدل على أن هذا العلم ليس بالسهل أن يتمكن منه الإنسان، وأنا أقول: ليس هذا الكلام نوعاً من التعجيز، ولكن أيضاً ليس قطف الثمرة بالأمر السهل، ففرق بين طالب العلم الذي يقول الناس عنه أنه طالب العلم وأنه يجيد الحديث، وبين أن يكون أهل الحديث يقولون عنه أنه محدث، هناك فرق كبير.

أنت لو ذهبت إلى رجل يلبس لباس الطب وعنده عيادة تقول: هذا طبيب، لكن الأطباء يعلمون حقيقته هل هو طبيب أم ليس بطبيب؟

نبدأ الآن بالطريقة العملية لأن يكون طالب العلم محدثاً. ‏

حفظ المتون الصغيرة في علم الحديث

الطريقة العملية: أن يأخذ متناً بسيطاً من متون المصطلح، وعلم الحديث نوعان: علم متون، وعلم دراية ورواية، علم المتون وهو القسم الأول: أن يحفظ متناً من متون الحديث، فإن كان قبل أن يتخرج من الجامعة، يعني: صغيراً، قبل أن ينتهي من واحد وعشرين، أو يكون بعد ذلك وهو قوي الحافظة، فيقول: عليك بمختصر البخاري و مسلم وليس هذا صعباً، واليوم يحفظ مختصر البخاري و مسلم عندنا في الرياض والقصيم ومكة والدمام وجدة أكثر من سبعة آلاف حافظ، وإن كانوا يتفاوتون في الاستحضار والاستذكار والمراجعة، كان بالأمس يقال: إن فلاناً قرأ صحيح البخاري وصحيح مسلم، والحمد لله اليوم صار الأمر ميسوراً، فالدورات التي يقيمها شيخنا يحيى بن عبد العزيز اليحيى في مكة والمدينة والرياض وغيرها من المدن منتشرة ولله الحمد، ولا تستشر من لم يحفظ صحيحي البخاري و مسلم ؛ لأن بعض طلاب العلم من أهل الحديث لم يحفظ، فإذا سألته عن علم الرجال قال: عليك بطريقة المتقدمين، وإذا قلت له: أريد أن أحفظ، قال: عليك بطريقة مشايخنا. سبحان الله العظيم! ولماذا لا يكون أيضاً على طريقة المتقدمين في الحفظ -يعني: غريب- ألأجل إظهار العجز لا ينبغي أن يحفظ صحيحي البخاري و مسلم يعني: متوناً يستفيد منها، ثم إذا أنهى صحيحي البخاري و مسلم وعنده همة بدأ يحفظ من بلوغ المرام ما زاد على البخاري و مسلم أو مختصر سنن أبي داود ينظر الزائد عليها، والحمد لله هي ميسورة، والدورات التي يقيمها المشايخ موجود فيها مختصرات الكتب الستة والحمد لله؛ أنا عندما أطالب طالب العلم أن يحفظ أعلم أنه سوف ينسى، لكن يعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة، حينما اهتم الفقهاء بحفظ البلوغ فقط، ربما إذا طلب منهم دليل وهدي نبوي، يضعف استدلالهم، لكن المحدث الفقيه يستطيع أن يستنتج الفقه من بيته صلى الله عليه وسلم، من تعامله مع أهله، من تعامله مع الطفل، من تعامله مع المرأة، ويستطيع أن يعرف كيف يكون هذا التعامل؟ بحيث يكون عنده إلمام كبير في السير والمغازي، وباب الإمامة والإمارة، وفضائل الصحابة، فيكون عنده إلمام كبير جداً جداً وهكذا كان الفقهاء المحدثون.

هذه المتون: مختصر الصحيحين، بلوغ المرام، زوائد المنتقى على هذه الكتب، وكلما حفظ يراجع، وطريقة الحفظ أيها الإخوة ليست حفظاً فقط -وهذه مهمة جداً لمن أراد أن يعود نفسه الاستحضار- فإذا حفظ حديثاً يقطعه على حسب المسائل، فإذا قرأ حديثاً يقول: أستخرج من هذا الحديث المسألة الفلانية، والمسألة الفلانية، هو يحفظ هذا الحديث ثم يستدل به في كذا، ويستدل به في كذا، ويستدل به في كذا، هو الذي يقول عن نفسه ثم يقرأ الحديث الآخر، وهذا الحديث يستخرج منه كذا وكذا وكذا، ثم يكون له وقت معين مع الشروح، هل وافق قوله الشروح أم لا، فإن لم يوافق يقول: لماذا؟ بحيث يعرف كيف فهم الأئمة مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه طريقة الحفظ الناجحة، وهذه الدربة على الحفظ وعلى الاستحضار، تجد أنه بعد زمن إذا سئل يقول: ودليل هذه المسألة هو حديث فلان، وحديث فلان، وحديث فلان، فهذا الاستحضار لم يأت عبثاً، إنما جاء من الدربة التي سار عليها؛ ولهذا الدارقطني الإمام الكبير يقول: ما رأينا أحفظ للمتون والاستشهاد بها من أبي بكر الإسماعيلي .

يقول: كنا في مجلس فقيل لنا: هل يتيمم بالغبار؟ أو ما ليس له غبار؟ قال: فلم نحر جواباً، فخرج الإسماعيلي وهو يتوضأ ويمسح الماء، فسئل فقال: نعم، أوما حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً )، والتربة لا بد أن يكون فيها غبار، قال: فعجبنا، من الذي عوده؟ هي الدربة والاستمرار.

هذا هو القسم الأول قسم الحفظ، أن يحفظ ويقطع الحديث من حفظه بناءً على المسائل، فإذا كان بينه وبين زميله لا يقول: سمع لي فقط؛ بل يقول: تعال نتذاكر العلم مثلما كان الأئمة يتذاكرون في الأبواب، يقول: هل تحفظ حديثاً في وجوب السواك؟ يقول: نعم، ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب )، يقول: لا، لكن هذا الاستدلال ما استدل به أهل العلم، فيستفيد فقهاً وحفظاً، ثم يقول: هل تحفظ حديثاً في أن المرأة إذا اغتسلت تنقض شعرها؟ قال: نعم ( أفأنقضه من غسل الجنابة؟ قال: نعم )، وفي رواية عند مسلم : ( والحيضة ).

إذاً: هو الآن يعود نفسه الحفظ والاستحضار؛ لأن الاستحضار فن وعلم يحتاج إلى دربة، كثيرون الذين يحفظون متوناً كثيرة لكنهم لا يستفيدون منها، فإذا قيل: من حدثك بهذا؟ قال: أنت؛ ولهذا ذكر الخطيب البغدادي قصة أبي حنيفة رحمه الله حينما كان الأعمش عند أبي حنيفة قال: فسأل رجل الأعمش ، فقال: ما عندك فيها يا نعمان ! قال أبو حنيفة النعمان : الحكم فيها كذا وكذا، قال: من أين لك هذا؟ قال أبو حنيفة : أو ما حدثتنا عن فلان بن فلان بن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، فضحك سليمان الأعمش وقال: نعم، حقاً يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، فهذا يدل على أن الإنسان لا بد أن يكون فقيهاً فاهماً للحديث، ففهم الحديث أولى من حفظه؛ ولهذا عيب على أهل الحديث عندما ظهر خلاف بين أهل الحديث والرأي أنهم مثل الأسفار، يحملون أسفاراً ولا يفهمونها؛ ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: كانت رقابنا بأيدي أهل الرأي حتى جاء الإمام الشافعي ؛ لأن الشافعي فهم النص وبدأ يناظرهم، والأمثلة في هذا كثيرة، لكن لا نريد أن نخرج عن هذا الموضوع.

الاهتمام بعلم مصطلح الحديث

القسم الثاني: علم الرواية، بعد أن يحفظ المتن ينبغي أن يكون عالماً بالمصطلح، وطريقة معرفة المصطلح أن يأخذ متناً من متون المصطلح ويكون شاملاً لأبواب المصطلح بالجملة، ولعل من أخصرها وأقصرها مع شمولها في الجملة نزهة النظر، أو شرح النخبة للحافظ ابن حجر أوجد المتن والشرح، ويوجد كتب للمعاصرين في شرح النخبة، ولعل أفضل شرح للنخبة لطالب العلم المبتدئ كتابان: كتاب لا أعلمه مطبوعاً ولكنه مذكرات وهو شرح للشيخ إبراهيم اللاحم الأستاذ المشارك في جامعة القصيم، فعنده اهتمام بعلم المتقدمين؛ لأن الحديث من حيث الرواية مر بمراحل كثيرة جداً جداً ولسنا بصدد البحث فيه، ومن أراد أن يعرف طريقة المتقدمين والمتأخرين، فليقرأ الموازنة بين أهل الحديث المتقدمين والمتأخرين للأستاذ الدكتور حمزة المليباري ، كذلك الاتصال للشيخ إبراهيم اللاحم ، وكتاب الحديث الحسن لغيره للدكتور خالد إدريس وغيرها من الكتب، خاصة الرسائل الجامعية عند بعض المشايخ وطلاب العلم.

الشرح الثاني للشيخ طارق عوض وهو شرح النخبة، ما فائدة هذين الشرحين؟ فائدتهما أن كل واحد يعطيك فهم مراد الحافظ وأمثلة على طريقة الأئمة، ويوضح الفرق بين المتأخرين والمتقدمين بأسلوب بسيط، هذا الكتاب شرح النخبة فيه مصطلح، فيه قواعد الأئمة، هذا المصطلح مبني على طريقة المتأخرين، وليس على طريقة المتقدمين، هذان الشرحان يبينا لك الفرق بين هذا وذاك بأسلوب بسيط، وهذان الشرحان لو قرأتهما على شيخ مدرك وبدأت تعرف وتميز شيئاً فشيئاً -يعني: تقرأ الشرح مرة مرتين ثلاث أربع عشر مرات- يكون عندك إدراك في فهم المصطلح.

وبعد انتهائك من هذا الشرح وفهمك له تبدأ بالطريقة الثانية، وهي طريقة البحث، ولا حاجة إلى أن تقرأ تدريب الراوي، أو شرح الألفية للعراقي، أو مقدمة ابن الصلاح؛ بل اجعلها بحثاً وإن كنت صاحب همة، فهذه من أفضل الكتب، ولا تنس فتح المغيث للإمام السخاوي؛ لكني أقول: إذا كنت لا تريد أن تقرأ، فلك طريقة أخرى وهي أنك إذا جعلت شرح الشيخ إبراهيم اللاحم ، أو شرح طارق عوض للنخبة في يدك فأمسك الكتاب كأنك أنت الذي تريد أن تشرح، فإذا جاءك الحديث الشاذ أو المنكر فراجع هذه الكتب على طريقة الأئمة، والآن الحمد لله هناك الرسائل الجامعية وهي كثيرة جداً جداً خاصة التي تعني بمعرفة طرق الأئمة المتقدمين، فإذا جاءك الشاذ فهناك رسائل ماجستير أو دكتوراة عن الحديث الشاذ وأمثلة في ذلك، فإذا قرأت أنت عن الشاذ اختصرت هذه الرسالة، ووضعتها في شرحك للنخبة المتمثلة في شرح طارق عوض والله ستضيف لنفسك معلومات وستميز الأحاديث.

وإذا جاءك الحديث المنكر فتعرف عليه عند المتقدمين وراجع شرح العلل للإمام ابن رجب ، فإن الإمام ابن رجب قد ذكر قواعد الأئمة في علم المصطلح التي يحتاج إليها المضعف والمرجح في معرفة ودراسة الأسانيد، بحيث إذا جاءتك مسألة من مسائل شرح النخبة فراجع شرح العلل لـابن رجب أو بعض الكتب التي تتحدث عن هذه النقطة بالذات على طريقة المتقدمين، وهي كتب مطبوعة الآن.

أقول: ما أعلم فناً من فنون علم الآلة خدم في هذا الوقت أفضل من علمين: علم النحو، وعلم المصطلح، أما علم الأصول فبحاجة إلى خدمة، أما هذان العلمان فقد خدما خدمة كثيرة وكبيرة من قبل الباحثين في الرسائل الجامعية.

فإذا قرأت أي كتاب يتحدث عن الجهالة وجدت الفرق بين الجهالة عند المتقدمين والجهالة عند المتأخرين، كذلك شرح الموقظة للشيخ عبد الله السعد شفاه الله، فهذا كتاب ماتع قد ذكر فيه أمثلة كثيرة لطريقة المتقدمين.

إذاً: أي كتاب يتحدث عن المنكر، أو عن الجهالة، أو عن الشذوذ، أو عن التدليس تشتريه، وتقرأ فيه بحيث تميز طريقة الأئمة، ولعل من أفضل الكتب التي تتحدث عن التدليس كتاب بسيط وجيد في بابه وهو: التدليس للشيخ ناصر الفهد فك الله أسره.

وعليك كذلك أن تعتمد على معرفة العلة من حيث ما هي العلة، وطريقة فهم الأئمة للعلة؟ ولعل أفضل من تحدث عن هذا هو الحافظ ابن رجب، فقد ذكر العلة وبينها بياناً تاماً لطالب العلم.

ولا تنس الاهتمام بطريقة السماع، وهل يشترط اللقيا والسماع أم اللقيا دون السماع، ولعل من أفضل من كتب فيها هو الشيخ إبراهيم اللاحم في كتاب الاتصال وهو رسالة مطبوعة وجيدة في بابها، وكتاب للدكتور خالد إدريس الأستاذ المشارك في جامعة الملك سعود في موقف البخاري و مسلم من الاتصال، والله أعلم.

وهناك كتب تتحدث عن القواعد عند الأئمة استُخلصت من كلامهم، ولعل من أفضلها ثلاثة كتب:

الكتاب الأول: كتاب قواعد حديثية مجموعة من كلام المحدث عبد الرحمن المعلمي رحمه الله، في ثلاثة مجلدات وهو ماتع في بابه، بحيث يعطيك طريقة الأئمة في هذا الباب.

الكتاب الثاني: قواعد في مصطلح الحديث، جمع للدكتور ماهر الفحل ، فقد أحسن وأجاد في جمعه لقواعد الأئمة في هذا الأمر؛ لأن غالب النكارة والجهالة والشذوذ والعلل والإرسال والتدليس والسماع قد جمعها في هذا الجمع، بعد ذلك إذا فهمت هذا الأمر وبطبيعة الحال سوف تكون عندك محفوظات لأمثلة الأئمة في المنكر، محفوظات لأمثلة الأئمة في الشاذ، فتحفظها وتحفظ أسانيدها، بحيث تستطيع تميز.

دراسة الأسانيد لمعرفة طرق التخريج

نأتي بعد ذلك إلى التطبيق، وهو ما يسمى بدراسة الأسانيد، وقبل دراسة الأسانيد لا بد من معرفة طرق التخريج، ويوجد الآن كتب تبين طرق التخريج، وطرق التخريج أنواع منها: طرق التخريج عن طريق الكلمة، وطرق التخريج عن طريق الموضوع، وطرق التخريج عن طريق الكتب التي اعتمدت على التخريج مثل: التلخيص الحبير، والبدر المنير، ونصب الراية، وغيرها من الكتب، وهذا مخدوم ولله الحمد، ولا أحب لطالب العلم المبتدئ أن يجعل معرفته لطرق التخريج عن طريق الموسوعة، أو المكتبة الشاملة؛ لأن المكتبة الشاملة بعد فهم طريقة التخريج وطريقة الأسانيد يعتمد عليها .

بعد هذا لابد لطالب العلم أن يقرأ كتاباً للأئمة في دراستهم للأسانيد، فإن دراسة الإسناد لابد فيها من جمع طرق الحديث، وقبل أن يشرع لابد أن يقرأ نصب الراية للإمام الزيلعي فإنه يعطي طالب العلم طريقة الأئمة في تعليل الأحاديث، وقارن بين تصحيحات الآخرين لحديث تكلم فيه الزيلعي ، وبين كلام الزيلعي تجد أن كلام الزيلعي مختصر مفيد حوى عبارات وجمل وقواعد الأئمة كما قد قرأتها ودرستها، بحيث تعرف طريقة المتأخرين، وطريقة المتقدمين.

المتأخرون إذا جاءهم إسناد فإنهم يفتحون بعض كتب المتأخرين مثل: تقريب التهذيب، فإذا جاءه مثلاً الأعرج نظر قول الحافظ ابن حجر فيه فإذا هو يقول: الأعرج من الطبقة الثانية ثقة، فيقول الباحث: إذاً ثقة، ويأتيه في السند مثلاً أبو الزناد فإذاً هو فلان بن فلان ثقة، ومحمد بن سيرين ثقة، وأبو هريرة صحابي، إذاً الحديث إسناده صحيح، ولذلك عندنا إشكالات كبيرة في الاختصار للسند، وأنت عند فهمك للرجل لا تختصره بطريقة الحافظ ابن حجر، فإن الأئمة -وهذا الذي سوف نذكره- ربما يضعفون هذا الثقة إذا روى عن راو، أو يصححون هذا الضعيف إذا روى عن راو، وعلى هذا فلابد من معرفة الطبقات والأسانيد؛ لأن معرفة الطبقات والأسانيد من الأهمية بمكان، ولابد لطالب العلم بعد ذلك أن يحفظ سلسلة الأسانيد، فإن كل صحابي له سلسلة أو سلسلتان مشهورتان في الحديث، فإذا قيل لك: ابن عمر فإن من أشهر الأسانيد عن ابن عمر : مالك عن نافع عن ابن عمر ، ومالك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.

وإذا قيل: أبو هريرة فإن من أشهر الأسانيد عنه: أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة .

وكذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة .

سعيد بن منصور عن أبي هريرة .

وبهذا يسهل على طالب العلم معرفة مدار الأحاديث بحيث لو جاءه حديث عن أبي هريرة يعلم أن هذا الحديث مداره عن فلان وفلان عن أبي هريرة ، وهذه الطريقة فيها كتب.

ولعل من أفضل الكتب في معرفة سلسلة الأسانيد إذا أراد أن يحفظها الطالب رسالة للشيخ الدكتور عادل الزرقي ، فإنه جمع أصح ما روي من الأسانيد عن ابن عمر وأصح ما روي عن أبي هريرة، وبين في هذه الرسالة أن ابن عمر يروى عنه كثر، ولكن الرواة المشاهير عنه اثنان: سالم بن عبد الله بن عمر ، و نافع ، وأصح الرواة عن نافع هم فلان وفلان وفلان، فإذا حفظت هذه السلاسل فإنها تنفعك إذا جاءك أحاديث متعارضة.

ولابد أن تعلم أن أصح الأسانيد عن قتادة ما جاء من طريق سعيد بن أبي عروبة و هشام بن حسان ، وهذا يسمى أصح الرجال عن الراوي، وهي مهمة جداً جداً لطالب العلم، بحيث يعرف ويعلم تصحيح الأحاديث، فأحياناً يكون الراوي ثقة لكنه إذا روى عن شيخ فهناك أوثق منه، فإذا اختلف الرواة نقول: أوثق الناس في الزهري مالك بن أنس ، و عقيل بن خالد ، و شعيب ، و يونس ، و الأوزاعي ، و ابن جرير ، وهم بالطبقة الثانية.

بعد زمن وأنت تبحث الأسانيد وتراجع تجد أنك قد حفظت أسانيد كثيرة، بحيث أنك لو قرأت مسند الإمام أحمد تعرف أن هذا الإسناد إسناد صحيح، وكلما كان الإسناد أقصر -وهو ما يسمونه إسناد عال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يكون بين المصنف والرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أو أربعة- كلما سهل عليك، وبهذا تعرف سلسلة الأسانيد.

بعد ذلك تحفظ المدارات يعني: هذا الحديث مداره على أبي هريرة عن طريق ثلاثة: أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، وقلت: إن من أفضل الكتب رسالة للدكتور عادل الزرقي ، وكتاباً لأخينا الشيخ فهد العمار وهو كتاب ماتع في هذا الباب قدم له الشيخ عبد الله السعد، يستطيع من خلاله طالب العلم أن يميز بين مدارات الأحاديث.

ثم بعد ذلك يمسك بلوغ المرام؛ لأنه مخدوم، ثم يأتي إلى الحديث الأول، فيرجع إلى المراجع الأمهات لهذا الحديث، فمثلاً يكون رواه مالك و أبو داود و الترمذي ، يرجع إلى هذه الكتب ثم يجمع، الترمذي رواه عن فلان عن فلان، و أبو داود روى عن فلان، فمداره عن فلان.

مثال: إذا روى أبو داود حديثاً قال: حدثنا علي بن حجر قال: حدثنا محمود بن غيلان ، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال الترمذي : حدثنا فلان بن فلان عن فلان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، إذاً: اتفق أبو داود و الترمذي عند محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، فنقول: مدار الحديث رواه فلان وفلان، كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، وندرس هذا الإسناد وهو ما يسمى بعلم المدار.

فبهذه الطريقة يصبح طالب العلم بعد زمن بإذن الله محدثاً مدركاً عالماً بالتصحيح والتضعيف.

وأنا أقول: يشين بطالب الفقه ألا يكون ملماً بدراسة الأسانيد؛ لأنه لا يحب التقليد في الفقه؛ لكنه يقلد في الحديث، وأقول أيضاً: يشين بطالب الحديث ألا يكون مدركاً فاهماً للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ربما يأتي بأقوال شاذة بسبب عدم معرفته للقياس وأقوال الأئمة؛ يقول بعض الناس: اقرأ صحيح البخاري ويكفي، لا، هذا لا يكفي، لابد أن يتتلمذ طالب العلم على كتب الفقهاء، بحيث يكون عنده الملكة الفقهية الأصولية.

قراءة الكتب التي احتوت على مقدمات مفيدة في علم الحديث

ثم ينتقل الطالب فيقرأ مقدمات الأئمة في كتبهم، ولعل من أفضلها أولاً: مقدمة مسلم رحمه الله، ولها شروح في هذا.

ثانياً: مقدمة المجروحين لـابن حبان ، ثالثاً: مقدمة الضعفاء للعقيلي ، رابعاً: مقدمة ميزان الاعتدال للذهبي ، خامساً: مقدمة الكامل لـابن عدي ، سادساً: مقدمة الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم ، سابعاً: مقدمة كتاب تلخيص البدر المنير لـابن الملقن ، هذه مقدمات كتب مهمة جداً جداً؛ لأنها فواتح يستفيد منها طالب العلم، ولا أنسى مقدمة السنن الكبرى فهناك شروح عليها، وبهذا إن شاء الله سوف يوفق طالب العلم أن يكون محدثاً وفقيهاً، ولا يدرك العلم براحة الجسد.

إذا كان يلهيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا

ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي: متى؟!

ولهذا يقال: إن جار الله الزمخشري كان يتتلمذ على شيخ هو وأحد أقرانه، وبعد أن كبرا في السن، قرينه انشغل بالتجارة، وكبرت تجارته وماله، أما جار الله الزمخشري كبر علمه ومحفوظاته، فاجتمعا يوماً في مجلس، فكان الناس يسألون الزمخشري فكان يتكلم كأنه سيل عارم، وكان زميله الذي يعرفه في زمن الطلب ينظر إليه بلهف، ويتمنى أن يكون هو في ذلك الموقع، فلما انتهى المجلس قال: والله لو كان لي أن أتمنى لتمنيت أن أبذل كل مالي لأكون في مثل هذا الموقف، فإن العلم شرف والله، فضحك الزمخشري وقال: غني صادق، فقال أبياته المعروفة، وهي ليست له، ولكنه أخذها:

أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي؟!

فالعلم لا ينال براحة الجسد، ولا ينال العلم بقراءة في كتاب من كتب المصطلح اليوم، وغداً كتاب فلان، وأذهب إلى المكتبة وأبحث عن الكتاب وأشتريه، ثم أقرأ به اليوم، فهذه القراءة قراءة غير مركزة، غير تفصيلية، لا بد أن يكون لطالب العلم جدول، هذا الجدول يكون مثل الجدول الدراسي، بدلاً من أن يكون السبت: الحصة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، يقول: السبت: الفجر، الظهر، العصر، المغرب، العشاء، الأحد كذلك، الإثنين كذلك، ثم يكون عنده العلوم كلها، علم الفقه، وعلم العقيدة وعلم التوحيد، وعلم النحو، وعلم المصطلح، وعلم الأصول، وعلم الحديث، وعلم التفسير، ويقسمها كلها ..، ويحفظ القرآن، ويحفظ المتون، فيجعل الفجر مثلاً للحفظ، والظهر يكون قد أتى من الجامعة وهو كليل الذهن فيجعله لقراءة كتاب في الأدب قبل أن ينام بحيث يستقيم لسانه؛ لأنه يعيب على طالب العلم ألا يكون عنده حصيلة ثرية من الألفاظ والعبارات بحيث يستطيع أن يعبر عما في نفسه؛ ولهذا يقول الإمام أحمد : كتبت بيدي أكثر مما كتب أبو عمرو بن العلاء ، و أبو عمرو بن العلاء متخصص بالعربية، وتعرفون طريقتهم، واليوم لو طلبت من طالب العلم أن يقرأ مختار الصحاح ما قرأه؛ بل إن بعض مشايخنا الفضلاء عندما ذكر بعض المشايخ أنه ينبغي لطالب العلم أن يقرأ القاموس المحيط للفيروزأبادي، قال: لا، هذا ليس للقراءة إنما هذا للبحث، فقد كان العلماء في السابق يقرءونه؛ لأن هذه القراءات تفيد وتنفع طالب العلم.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يمنحنا وإياكم رضاه والعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والتقوى، وأعتذر لأن هذا أقل ما يقال فيه، وإلا فإن موضوع (كيف تكون فقيهاً) لا يصلح إلا للفقهاء، ولكننا متطفلون على بابهم، ولعلنا أن نحشر معهم، ولعلي أن أدخل وإياكم في قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل: ( يا رسول الله! الرجل يحب القوم، ولما يعمل مثل عملهم، قال: المرء مع من أحب )، فإننا بإذن الله نحب أهل الفقه وأهل الحديث.

الطريقة العملية: أن يأخذ متناً بسيطاً من متون المصطلح، وعلم الحديث نوعان: علم متون، وعلم دراية ورواية، علم المتون وهو القسم الأول: أن يحفظ متناً من متون الحديث، فإن كان قبل أن يتخرج من الجامعة، يعني: صغيراً، قبل أن ينتهي من واحد وعشرين، أو يكون بعد ذلك وهو قوي الحافظة، فيقول: عليك بمختصر البخاري و مسلم وليس هذا صعباً، واليوم يحفظ مختصر البخاري و مسلم عندنا في الرياض والقصيم ومكة والدمام وجدة أكثر من سبعة آلاف حافظ، وإن كانوا يتفاوتون في الاستحضار والاستذكار والمراجعة، كان بالأمس يقال: إن فلاناً قرأ صحيح البخاري وصحيح مسلم، والحمد لله اليوم صار الأمر ميسوراً، فالدورات التي يقيمها شيخنا يحيى بن عبد العزيز اليحيى في مكة والمدينة والرياض وغيرها من المدن منتشرة ولله الحمد، ولا تستشر من لم يحفظ صحيحي البخاري و مسلم ؛ لأن بعض طلاب العلم من أهل الحديث لم يحفظ، فإذا سألته عن علم الرجال قال: عليك بطريقة المتقدمين، وإذا قلت له: أريد أن أحفظ، قال: عليك بطريقة مشايخنا. سبحان الله العظيم! ولماذا لا يكون أيضاً على طريقة المتقدمين في الحفظ -يعني: غريب- ألأجل إظهار العجز لا ينبغي أن يحفظ صحيحي البخاري و مسلم يعني: متوناً يستفيد منها، ثم إذا أنهى صحيحي البخاري و مسلم وعنده همة بدأ يحفظ من بلوغ المرام ما زاد على البخاري و مسلم أو مختصر سنن أبي داود ينظر الزائد عليها، والحمد لله هي ميسورة، والدورات التي يقيمها المشايخ موجود فيها مختصرات الكتب الستة والحمد لله؛ أنا عندما أطالب طالب العلم أن يحفظ أعلم أنه سوف ينسى، لكن يعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة، حينما اهتم الفقهاء بحفظ البلوغ فقط، ربما إذا طلب منهم دليل وهدي نبوي، يضعف استدلالهم، لكن المحدث الفقيه يستطيع أن يستنتج الفقه من بيته صلى الله عليه وسلم، من تعامله مع أهله، من تعامله مع الطفل، من تعامله مع المرأة، ويستطيع أن يعرف كيف يكون هذا التعامل؟ بحيث يكون عنده إلمام كبير في السير والمغازي، وباب الإمامة والإمارة، وفضائل الصحابة، فيكون عنده إلمام كبير جداً جداً وهكذا كان الفقهاء المحدثون.

هذه المتون: مختصر الصحيحين، بلوغ المرام، زوائد المنتقى على هذه الكتب، وكلما حفظ يراجع، وطريقة الحفظ أيها الإخوة ليست حفظاً فقط -وهذه مهمة جداً لمن أراد أن يعود نفسه الاستحضار- فإذا حفظ حديثاً يقطعه على حسب المسائل، فإذا قرأ حديثاً يقول: أستخرج من هذا الحديث المسألة الفلانية، والمسألة الفلانية، هو يحفظ هذا الحديث ثم يستدل به في كذا، ويستدل به في كذا، ويستدل به في كذا، هو الذي يقول عن نفسه ثم يقرأ الحديث الآخر، وهذا الحديث يستخرج منه كذا وكذا وكذا، ثم يكون له وقت معين مع الشروح، هل وافق قوله الشروح أم لا، فإن لم يوافق يقول: لماذا؟ بحيث يعرف كيف فهم الأئمة مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه طريقة الحفظ الناجحة، وهذه الدربة على الحفظ وعلى الاستحضار، تجد أنه بعد زمن إذا سئل يقول: ودليل هذه المسألة هو حديث فلان، وحديث فلان، وحديث فلان، فهذا الاستحضار لم يأت عبثاً، إنما جاء من الدربة التي سار عليها؛ ولهذا الدارقطني الإمام الكبير يقول: ما رأينا أحفظ للمتون والاستشهاد بها من أبي بكر الإسماعيلي .

يقول: كنا في مجلس فقيل لنا: هل يتيمم بالغبار؟ أو ما ليس له غبار؟ قال: فلم نحر جواباً، فخرج الإسماعيلي وهو يتوضأ ويمسح الماء، فسئل فقال: نعم، أوما حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً )، والتربة لا بد أن يكون فيها غبار، قال: فعجبنا، من الذي عوده؟ هي الدربة والاستمرار.

هذا هو القسم الأول قسم الحفظ، أن يحفظ ويقطع الحديث من حفظه بناءً على المسائل، فإذا كان بينه وبين زميله لا يقول: سمع لي فقط؛ بل يقول: تعال نتذاكر العلم مثلما كان الأئمة يتذاكرون في الأبواب، يقول: هل تحفظ حديثاً في وجوب السواك؟ يقول: نعم، ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من الطيب )، يقول: لا، لكن هذا الاستدلال ما استدل به أهل العلم، فيستفيد فقهاً وحفظاً، ثم يقول: هل تحفظ حديثاً في أن المرأة إذا اغتسلت تنقض شعرها؟ قال: نعم ( أفأنقضه من غسل الجنابة؟ قال: نعم )، وفي رواية عند مسلم : ( والحيضة ).

إذاً: هو الآن يعود نفسه الحفظ والاستحضار؛ لأن الاستحضار فن وعلم يحتاج إلى دربة، كثيرون الذين يحفظون متوناً كثيرة لكنهم لا يستفيدون منها، فإذا قيل: من حدثك بهذا؟ قال: أنت؛ ولهذا ذكر الخطيب البغدادي قصة أبي حنيفة رحمه الله حينما كان الأعمش عند أبي حنيفة قال: فسأل رجل الأعمش ، فقال: ما عندك فيها يا نعمان ! قال أبو حنيفة النعمان : الحكم فيها كذا وكذا، قال: من أين لك هذا؟ قال أبو حنيفة : أو ما حدثتنا عن فلان بن فلان بن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، فضحك سليمان الأعمش وقال: نعم، حقاً يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، فهذا يدل على أن الإنسان لا بد أن يكون فقيهاً فاهماً للحديث، ففهم الحديث أولى من حفظه؛ ولهذا عيب على أهل الحديث عندما ظهر خلاف بين أهل الحديث والرأي أنهم مثل الأسفار، يحملون أسفاراً ولا يفهمونها؛ ولهذا يقول الإمام أحمد رحمه الله: كانت رقابنا بأيدي أهل الرأي حتى جاء الإمام الشافعي ؛ لأن الشافعي فهم النص وبدأ يناظرهم، والأمثلة في هذا كثيرة، لكن لا نريد أن نخرج عن هذا الموضوع.

القسم الثاني: علم الرواية، بعد أن يحفظ المتن ينبغي أن يكون عالماً بالمصطلح، وطريقة معرفة المصطلح أن يأخذ متناً من متون المصطلح ويكون شاملاً لأبواب المصطلح بالجملة، ولعل من أخصرها وأقصرها مع شمولها في الجملة نزهة النظر، أو شرح النخبة للحافظ ابن حجر أوجد المتن والشرح، ويوجد كتب للمعاصرين في شرح النخبة، ولعل أفضل شرح للنخبة لطالب العلم المبتدئ كتابان: كتاب لا أعلمه مطبوعاً ولكنه مذكرات وهو شرح للشيخ إبراهيم اللاحم الأستاذ المشارك في جامعة القصيم، فعنده اهتمام بعلم المتقدمين؛ لأن الحديث من حيث الرواية مر بمراحل كثيرة جداً جداً ولسنا بصدد البحث فيه، ومن أراد أن يعرف طريقة المتقدمين والمتأخرين، فليقرأ الموازنة بين أهل الحديث المتقدمين والمتأخرين للأستاذ الدكتور حمزة المليباري ، كذلك الاتصال للشيخ إبراهيم اللاحم ، وكتاب الحديث الحسن لغيره للدكتور خالد إدريس وغيرها من الكتب، خاصة الرسائل الجامعية عند بعض المشايخ وطلاب العلم.

الشرح الثاني للشيخ طارق عوض وهو شرح النخبة، ما فائدة هذين الشرحين؟ فائدتهما أن كل واحد يعطيك فهم مراد الحافظ وأمثلة على طريقة الأئمة، ويوضح الفرق بين المتأخرين والمتقدمين بأسلوب بسيط، هذا الكتاب شرح النخبة فيه مصطلح، فيه قواعد الأئمة، هذا المصطلح مبني على طريقة المتأخرين، وليس على طريقة المتقدمين، هذان الشرحان يبينا لك الفرق بين هذا وذاك بأسلوب بسيط، وهذان الشرحان لو قرأتهما على شيخ مدرك وبدأت تعرف وتميز شيئاً فشيئاً -يعني: تقرأ الشرح مرة مرتين ثلاث أربع عشر مرات- يكون عندك إدراك في فهم المصطلح.

وبعد انتهائك من هذا الشرح وفهمك له تبدأ بالطريقة الثانية، وهي طريقة البحث، ولا حاجة إلى أن تقرأ تدريب الراوي، أو شرح الألفية للعراقي، أو مقدمة ابن الصلاح؛ بل اجعلها بحثاً وإن كنت صاحب همة، فهذه من أفضل الكتب، ولا تنس فتح المغيث للإمام السخاوي؛ لكني أقول: إذا كنت لا تريد أن تقرأ، فلك طريقة أخرى وهي أنك إذا جعلت شرح الشيخ إبراهيم اللاحم ، أو شرح طارق عوض للنخبة في يدك فأمسك الكتاب كأنك أنت الذي تريد أن تشرح، فإذا جاءك الحديث الشاذ أو المنكر فراجع هذه الكتب على طريقة الأئمة، والآن الحمد لله هناك الرسائل الجامعية وهي كثيرة جداً جداً خاصة التي تعني بمعرفة طرق الأئمة المتقدمين، فإذا جاءك الشاذ فهناك رسائل ماجستير أو دكتوراة عن الحديث الشاذ وأمثلة في ذلك، فإذا قرأت أنت عن الشاذ اختصرت هذه الرسالة، ووضعتها في شرحك للنخبة المتمثلة في شرح طارق عوض والله ستضيف لنفسك معلومات وستميز الأحاديث.

وإذا جاءك الحديث المنكر فتعرف عليه عند المتقدمين وراجع شرح العلل للإمام ابن رجب ، فإن الإمام ابن رجب قد ذكر قواعد الأئمة في علم المصطلح التي يحتاج إليها المضعف والمرجح في معرفة ودراسة الأسانيد، بحيث إذا جاءتك مسألة من مسائل شرح النخبة فراجع شرح العلل لـابن رجب أو بعض الكتب التي تتحدث عن هذه النقطة بالذات على طريقة المتقدمين، وهي كتب مطبوعة الآن.

أقول: ما أعلم فناً من فنون علم الآلة خدم في هذا الوقت أفضل من علمين: علم النحو، وعلم المصطلح، أما علم الأصول فبحاجة إلى خدمة، أما هذان العلمان فقد خدما خدمة كثيرة وكبيرة من قبل الباحثين في الرسائل الجامعية.

فإذا قرأت أي كتاب يتحدث عن الجهالة وجدت الفرق بين الجهالة عند المتقدمين والجهالة عند المتأخرين، كذلك شرح الموقظة للشيخ عبد الله السعد شفاه الله، فهذا كتاب ماتع قد ذكر فيه أمثلة كثيرة لطريقة المتقدمين.

إذاً: أي كتاب يتحدث عن المنكر، أو عن الجهالة، أو عن الشذوذ، أو عن التدليس تشتريه، وتقرأ فيه بحيث تميز طريقة الأئمة، ولعل من أفضل الكتب التي تتحدث عن التدليس كتاب بسيط وجيد في بابه وهو: التدليس للشيخ ناصر الفهد فك الله أسره.

وعليك كذلك أن تعتمد على معرفة العلة من حيث ما هي العلة، وطريقة فهم الأئمة للعلة؟ ولعل أفضل من تحدث عن هذا هو الحافظ ابن رجب، فقد ذكر العلة وبينها بياناً تاماً لطالب العلم.

ولا تنس الاهتمام بطريقة السماع، وهل يشترط اللقيا والسماع أم اللقيا دون السماع، ولعل من أفضل من كتب فيها هو الشيخ إبراهيم اللاحم في كتاب الاتصال وهو رسالة مطبوعة وجيدة في بابها، وكتاب للدكتور خالد إدريس الأستاذ المشارك في جامعة الملك سعود في موقف البخاري و مسلم من الاتصال، والله أعلم.

وهناك كتب تتحدث عن القواعد عند الأئمة استُخلصت من كلامهم، ولعل من أفضلها ثلاثة كتب:

الكتاب الأول: كتاب قواعد حديثية مجموعة من كلام المحدث عبد الرحمن المعلمي رحمه الله، في ثلاثة مجلدات وهو ماتع في بابه، بحيث يعطيك طريقة الأئمة في هذا الباب.

الكتاب الثاني: قواعد في مصطلح الحديث، جمع للدكتور ماهر الفحل ، فقد أحسن وأجاد في جمعه لقواعد الأئمة في هذا الأمر؛ لأن غالب النكارة والجهالة والشذوذ والعلل والإرسال والتدليس والسماع قد جمعها في هذا الجمع، بعد ذلك إذا فهمت هذا الأمر وبطبيعة الحال سوف تكون عندك محفوظات لأمثلة الأئمة في المنكر، محفوظات لأمثلة الأئمة في الشاذ، فتحفظها وتحفظ أسانيدها، بحيث تستطيع تميز.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شركات المساهمة 2615 استماع
عبادة القلوب 2462 استماع
مسائل فقهية في النوازل 2445 استماع
التأصيل العلمي 2088 استماع
عبادة القلب 2044 استماع
البطاقات الائتمانية - بيع المرابحة للآمر بالشراء 1948 استماع
أعمال القلوب 1930 استماع
العبادة زمن الفتن 1927 استماع
كتاب التوحيد - شرح مقدمة فتح المجيد [2] 1863 استماع
الرزق الحلال وآثاره 1807 استماع