ديوان الإفتاء [768]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد, البشير النذير، والسراج المنير, وعلى آله وصحبه أجمعين.

سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[البقرة:32], اللهم علمنا علماً نافعاً, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى, أما بعد:

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

قد سبق شيء من الكلام عن شروط المفتي وآدابه, وعرفنا أن من شروطه: الإسلام, والتكليف, والعدالة, فلا يفتي الناس من ليس بمسلم, ولا من ليس ببالغ ولا عاقل، ولا يفتي الناس فاسق.

ثم لابد أن تكون للمفتي نية, فمن ليست له نية فليس على كلامه نور، لا بد أن ينوي بفتواه تبصير المسلمين, وتعليم الجاهلين, وإرشاد الغافلين, وتذكير الناسين, وقطع الخلاف بين المتشاجرين.. وما إلى ذلك من المقاصد الشرعية العظيمة.

ثم لا بد أن يكون له علم وحلم ووقار, لا بد أن يفتي بعلم, ولا بد أن يحلم عن السائل, ولا بد أن يصبر حتى يفهم السؤال على وجهه, ومن ثم يكون جوابه مسدداً إن شاء الله.

ومن شروط المفتي كذلك: أن تكون له كفاية, وإلا مضغه الناس، يعني: لا ينوي بفتواه أن يتكفف الناس, ولا أن يطلب ما عندهم, ولا أن يتطلع إلى ما بأيديهم, وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[طه:131].

ومن شروط المفتي كذلك: أن يكون قوياً فيما هو فيه, فالمسألة التي يتناولها والموضوع الذي يطرحه والسؤال الذي يجيب عنه, لا بد أن يكون قوياً فيه وإلا يسعه أن يقول: لا أدري, ويسعه أن يقول كما قالت الملائكة: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[البقرة:32], ثم لا بد أن يكون للمفتي علم ودراية بحيل الناس وألاعيبهم؛ لئلا تنطلي عليه تلك الحيل، ولئلا تلتبس عليه الألفاظ.

ومن آداب المفتي: أن يحيل على من هو أعلم منه, ولا يستنكف من ذلك, ولما سئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين, قالت: ( سلوا علياً فإنه أعلم بهذا مني, وقد كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

ومن آدابه كذلك: أن يستشير إخوانه, مثلما كان يصنع عمر رضي الله عنه حين يجمع أهل بدر, ولربما جمع الأنصار, ولربما جمع مشيخة قريش من طلقاء الفتح, ويفعل ذلك عند النوازل العظيمة.

ومن آداب المفتي كذلك: أن يفتي بما يراه صواباً, رضي من رضي وغضب من غضب, ولا يبالي ولا تأخذه في الله لومة لائم.

ومن آداب المفتي كذلك: أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له, فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

ومن آدابه كذلك: أن يفتي بما يرى أنه الحق, دون نظر إلى شخص السائل, أضعيف هو أم شريف, غني أم فقير, رئيس أم مرءوس, أمير أم مأمور.. يفتي بما يراه صواباً, والإمام القرافي رحمه الله عد ما يصنعه بعض الناس من أنه إذا كان في المسألة قولان أنه يفتي العامة بالتشديد، ويفتي ولاة الأمور ونحوهم بما فيه رخصة وتخفيف؛ عد هذا تلاعباً بالدين, ودليل الفسق والخيانة, وخلو القلب من مراقبة الله عز وجل، ودليل على طلب الدنيا بالدين.

إخوتي وأخواتي! إذا كان المفتي يلزمه ذلك كله, فإن المستفتي كذلك له آداب:

عدم السؤال فيما لا يعنيه وما لا يترتب عليه عمل

أول هذه الآداب: ألا يسأل إلا فيما يعنيه, فلا يتعنت في السؤال، ولا يسأل عن قضايا لا يترتب عليها عمل, فإن الله عز وجل قد أدبنا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ[المائدة:101-102], وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: ( يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك حذافة, فقام آخر فقال: يا رسول الله! من أبي؟ فغضب صلوات ربي وسلامه عليه وقال: والذي نفسي بيده لا يسألني أحد عن أبيه إلا أخبرته ), يعني: سواء كان هو الأب المعروف المشهور بين الناس أو كان غيره, ( حتى جثا عمر على ركبتيه وقال: نتوب إلى الله يا رسول الله ).

وكذلك عمر رضي الله عنه ضرب الرجل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن, فيدخل مسجداً فيسأل ناساً عن قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا[الصافات:1], ثم يسألهم عن: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا[الذاريات:1], ثم يسألهم عن: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا[النازعات:1], ثم يسألهم عن: وَالمُرْسَلاتِ عُرْفًا[المرسلات:1], ثم يسألهم عن: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا[العاديات:1], فلما سمع به عمر قال: ( اللهم أمكني منه, فلما جاء إلى عمر وسأله عن قوله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا[الذاريات:1], قال: هي الرياح, ووالله الذي لا إله غيره لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها ما قلتها, قال له الرجل: فأخبرني عن قوله تعالى: فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا[الذاريات:2], قال: هي السحب تحمل المطر، ووالله الذي لا إله غيره لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ما قلته ). ولم ينتبه الرجل إلى أن عمر رضي الله عنه مغضب من تلك الأسئلة, فتمادى في أسئلته فأخرج عمر رضي الله عنه درته وضربه حتى أدماه, ثم أخرجه إلى الكوفة, وكتب إلى أبي موسى أن يقوم في الناس خطيباً بأن صبيغاً التميمي طلب العلم فأخطأه, فمر الناس ألا يكلموه ولا يجالسوه, إلى أن كتب إليه أبو موسى بعد حين: بأن صبيغاً قد جاء وزعم أنه قد أحدث توبة, فقال عمر رضي الله عنه: ما أراه إلا قد صدق, فمر الناس فليكلموه وليجالسوه.

فمن الآداب: ألا يسأل الإنسان إلا عن المسألة التي يترتب عليها عمل؛ ولذلك لما سأل بعض الناس الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله عن يأجوج ومأجوج: أمسلمون هم؟ قال له: أحكمت العلم كله وما بقي إلا هذا! ولما سأل بعض الناس عامراً الشعبي رضي الله عنه عن إبليس: أله زوجة؟ قال: نعم, قال: ما الدليل, قال: قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ[الكهف:50], ولا تكون الذرية إلا من تزاوج, قال له: ما اسمها؟ يعني: ما اسم زوجة إبليس؟ قال له: ذاك عرس ما حضرناه.

فبعض الناس يتعمد أن يطرح أسئلة لا يترتب عليها عمل, كمن يسأل عن لون كلب أصحاب الكهف؟ وعن عصا موسى من أي خشب كانت؟ وعن سفينة نوح على أي جبل استقرت؟ وعن الجزء الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل؟ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا[البقرة:73].. ونحو ذلك من الأسئلة.

ولما سأل بعض الناس الإمام أحمد عن ذراري المؤمنين أو ذراري المشركين, قال له أحمد رحمه الله: هذه أسئلة أهل الزندقة, ولما سأله بعض الناس: أنتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: لا أحب هذا, قال: أنتوضأ بماء الورد؟ قال: لا أحب هذا, فلما قام، يقول: أخذ أحمد بثوبي وقال: ما تقول إذا خرجت من المسجد؟ قلت: لا أدري, فقال له: اذهب فتعلم هذا, يعني: بدلاً من أن تشتغل بتفريع المسائل وتشتغل بكثرة السؤال، سل عن ما يترتب عليه عمل.

ولما قال له بعض الناس: أيفطر المريض؟ قال: نعم, قال له: أيأكل ويشرب؟ قال: نعم, قال: أيجامع امرأته؟ فأعرض عنه أحمد , وردد السائل قوله فما أجابه, فأحياناً المفتي قد يعرض عن السائل؛ لأنه يراه متنطعاً, ولأنه يراه في سؤاله متشدداً, وقد حكى ربنا جل جلاله عن بني إسرائيل: أن نبيهم موسى عليه السلام لما قال لهم: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً[البقرة:67], قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ[البقرة:68], ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا[البقرة:69], ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا[البقرة:70], فلما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم, و(أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، وفي الحديث: (وإن الله تعالى كره لكم القيل والقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال).

أما الإنسان الذي يسأل عن شيء قد اشتبه عليه, ويريد أن يعرف المسألة على وجهها فإنه لا يتناوله الذم, ولا حرج عليه في أن يردد السؤال حتى يتبين له الحق, فهذا هو الأدب الأول الذي يلزم المستفتي: ألا يسأل إلا عن ما ينفعه, وما يترتب عليه عمل.

استفتاء القلب ومراقبة الله عز وجل

الأدب الثاني: أن يستفتي قلبه, وإن أفتاه المفتون, بمعنى: أن يراقب ربه جل جلاله, فلو أنه سأل إنساناً سؤالاً, ثم بعد ذلك يعلم من قرارة نفسه أن هذا الأمر حرام, فإنه لا ينبغي له أن يتذرع بفتوى المفتي من أجل أن يتناول ذلك الحرام, وقد قرر علماؤنا رحمهم الله: أن فتوى المفتي وحكم القاضي لا يحلل الحرام, وأشار إلى هذا المعنى نبينا عليه الصلاة والسلام, لما قال لأصحابه: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض, وإنما أنا بشر، أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار, إن شاء فليأخذ وإن شاء فليدع), فنبينا صلى الله عليه وسلم -وهو هو- لو أنه قضى لإنسان بشيء ليس من حقه, فإنه عليه الصلاة والسلام يقول: (فإنما أقطع له قطعة من نار), فأحياناً بعض الناس يسأل وهو يعلم بأن هذا المال لا يحل له, أو أن هذه المعاملة محرمة, أو أن هذا الطلاق قد وقع وهو قد نواه, فلو أن المفتي اشتبه عليه الأمر، أو لم يتبين السؤال على وجهه، أو أخطأ في الجواب, فينبغي لهذا الإنسان أن يستفتي قلبه, وأن يراجع نفسه, وأن يراقب ربه؛ لئلا يقع فيما حرم الله, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين, وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه), أي: سلم دينه من الثلم، وسلم عرضه من الطعن, (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه, ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه, ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب).

سؤال من يثق في دينه وعلمه

الأدب الثالث: ألا يسأل إلا من يثق في دينه وعلمه, فقد جرت عادتنا معشر بني الإنسان أننا نحتاط لأمر دنيانا, فلو أن الإنسان أصيب بمرض فإنه يسأل عن الطبيب الحاذق الماهر المتخصص في هذا الذي يعاني منه, ولو أن الواحد أصيب بكسر، أو أصيب بداء في بطنه، أو بوجع في رأسه، أو خلل في سمعه أو بصره, فإنه يسأل عن الطبيب المتخصص الحاذق, الذي طارت سمعته في الآفاق وشهد له الناس بالمهارة, ففي أمر الدين لا ينبغي أن يطرح الإنسان سؤاله على كل من هب ودرج, بل لا بد أن يحتاط لدينه, وأن يتخير لاستفتائه من يتوافر فيه شرطان وهما: الدين والعلم, فلا بد أن يتخير، ولا يتنقل بين المفتين من أجل أن ينتقي من الأقوال أشهاها, ومن الفتاوى أطيبها, ومن كلام الناس ما يوافق هواه وما يحقق له مصلحته, ليس هذا صنع المؤمنين المتقين, وقد قال الصحابة رضوان الله عليهم: كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام.

فلا بد للإنسان إذا أراد أن يستفتي أن يتخير من يثق في دينه وعلمه فيطرح عليه مسألته ويتقي الله عز وجل في عرضها.

معرفة شروط الفتوى وقيودها وسماعها كاملة

الأدب الرابع: لابد للمستفتي أن يتبين الفتوى بكل قيودها وشروطها, ويتريث حتى يسمع الجواب كاملاً, لا يخطف الكلام خطفاً, كما ذكروا عن بعض الناس بأنه ذهب مع زوجه إلى بعض أهل العلم فقال له: إني طلقت هذه المرأة ثلاثاً، وأريد أن أعرف هل هذه الطلقات كلها واقعة، أم أن سبيلاً قد بقي للرجعة؟ قال له: طلقتها ثلاثاً؟ قال: نعم, فقال المفتي: إنا لله وإنا إليه راجعون, فقال الزوج لامرأته: سمعت! راجعون, هكذا قال المفتي.. هيا, يعني: خطف هذه الكلمة والمفتي يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون, يعني: يتحسر على حاله بأنه قد خرب بيته، وشرد أسرته، وفصم عرى الزوجية, وقد كان له في الأمر سعة, فبعض الناس يخطف كلمة ثم بعد ذلك يبني عليها قصوراً وعلالي, ويقول: هكذا قيل لي وبعد ذلك لن أسأل.

نقول له: يا عبد الله! خذ الكلام كله بسباقه ولحاقه وسياقه، وافهمه على وجهه من أجل أن تستخلص معنى صحيحاً, لكن بعض الناس على مذهب إبليس يقرأ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[الماعون:4], ويسكت, مثلما قال الماجن:

دع المساجد للعباد تسكنها وسر بنا حانة الخمار يسقينا

ما قال ربك ويل للألى سكروا وإنما قال ويل للمصلين

يقول: ربنا قال: وَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ[الماعون:4], فأنا لن أصلي، وإنما أذهب إلى الخمارة فأشرب الخمر.

فالإنسان في استفتائه لا ينبغي أن يكون هذا سبيله, بل يصبر حتى يسمع الجواب ويتبين المراد, ولا بأس أن يراجع المفتي حيناً بعد حين من أجل أن يفهم حقيقة الأمر, هذا هو المطلوب.

عدم الإلحاح في طلب الجواب وإضجار المفتي

خامساً: ينبغي للمستفتي أن لا يضجر المفتي وأن لا يلح عليه في طلب الجواب, يعني: أحياناً بعض الناس قد يسأل سؤالاً، ومن يسأل لا علم له, فيقول له: اصبر حتى أراجع إن شاء الله، أو حتى أسأل من هو أعلم وكذا, فيأتيك بعد ساعات, ويأتيك غداً، ويأتيك بعد غد، وقد تكون المسألة أعمق من ذلك, وقد سبق أن مالك بن أنس رحمه الله لما سئل في ثمان وأربعين مسألة قال في اثنتين وثلاثين: لا أدري، فإذا كان مالك رحمه الله العالم الذي تضرب إليه أكباد الإبل, والذي جمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقي من أهل العلم والدين من لقي, إذا كان يقول: لا أدري, فما ينبغي أن نستكثر على فقهاء عصرنا وعلماء زماننا أن يقول أحدهم: لا أدري، أو أن يقول للسائل: أمهلني حتى أبحث، أو حتى أسأل، أو حتى أراجع ما دونه أهل العلم في أسفارهم.. ونحو ذلك, فهذا الذي ينبغي أن يكون.

وهناك آداب أخرى إخوتي وأخواتي! يأتي الكلام عنها لاحقاً، أسأل الله أن ينفعني وإياكم.

أول هذه الآداب: ألا يسأل إلا فيما يعنيه, فلا يتعنت في السؤال، ولا يسأل عن قضايا لا يترتب عليها عمل, فإن الله عز وجل قد أدبنا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ[المائدة:101-102], وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن حذافة رضي الله عنه: ( يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك حذافة, فقام آخر فقال: يا رسول الله! من أبي؟ فغضب صلوات ربي وسلامه عليه وقال: والذي نفسي بيده لا يسألني أحد عن أبيه إلا أخبرته ), يعني: سواء كان هو الأب المعروف المشهور بين الناس أو كان غيره, ( حتى جثا عمر على ركبتيه وقال: نتوب إلى الله يا رسول الله ).

وكذلك عمر رضي الله عنه ضرب الرجل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن, فيدخل مسجداً فيسأل ناساً عن قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا[الصافات:1], ثم يسألهم عن: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا[الذاريات:1], ثم يسألهم عن: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا[النازعات:1], ثم يسألهم عن: وَالمُرْسَلاتِ عُرْفًا[المرسلات:1], ثم يسألهم عن: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا[العاديات:1], فلما سمع به عمر قال: ( اللهم أمكني منه, فلما جاء إلى عمر وسأله عن قوله تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا[الذاريات:1], قال: هي الرياح, ووالله الذي لا إله غيره لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها ما قلتها, قال له الرجل: فأخبرني عن قوله تعالى: فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا[الذاريات:2], قال: هي السحب تحمل المطر، ووالله الذي لا إله غيره لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ما قلته ). ولم ينتبه الرجل إلى أن عمر رضي الله عنه مغضب من تلك الأسئلة, فتمادى في أسئلته فأخرج عمر رضي الله عنه درته وضربه حتى أدماه, ثم أخرجه إلى الكوفة, وكتب إلى أبي موسى أن يقوم في الناس خطيباً بأن صبيغاً التميمي طلب العلم فأخطأه, فمر الناس ألا يكلموه ولا يجالسوه, إلى أن كتب إليه أبو موسى بعد حين: بأن صبيغاً قد جاء وزعم أنه قد أحدث توبة, فقال عمر رضي الله عنه: ما أراه إلا قد صدق, فمر الناس فليكلموه وليجالسوه.

فمن الآداب: ألا يسأل الإنسان إلا عن المسألة التي يترتب عليها عمل؛ ولذلك لما سأل بعض الناس الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله عن يأجوج ومأجوج: أمسلمون هم؟ قال له: أحكمت العلم كله وما بقي إلا هذا! ولما سأل بعض الناس عامراً الشعبي رضي الله عنه عن إبليس: أله زوجة؟ قال: نعم, قال: ما الدليل, قال: قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ[الكهف:50], ولا تكون الذرية إلا من تزاوج, قال له: ما اسمها؟ يعني: ما اسم زوجة إبليس؟ قال له: ذاك عرس ما حضرناه.

فبعض الناس يتعمد أن يطرح أسئلة لا يترتب عليها عمل, كمن يسأل عن لون كلب أصحاب الكهف؟ وعن عصا موسى من أي خشب كانت؟ وعن سفينة نوح على أي جبل استقرت؟ وعن الجزء الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل؟ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا[البقرة:73].. ونحو ذلك من الأسئلة.

ولما سأل بعض الناس الإمام أحمد عن ذراري المؤمنين أو ذراري المشركين, قال له أحمد رحمه الله: هذه أسئلة أهل الزندقة, ولما سأله بعض الناس: أنتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: لا أحب هذا, قال: أنتوضأ بماء الورد؟ قال: لا أحب هذا, فلما قام، يقول: أخذ أحمد بثوبي وقال: ما تقول إذا خرجت من المسجد؟ قلت: لا أدري, فقال له: اذهب فتعلم هذا, يعني: بدلاً من أن تشتغل بتفريع المسائل وتشتغل بكثرة السؤال، سل عن ما يترتب عليه عمل.

ولما قال له بعض الناس: أيفطر المريض؟ قال: نعم, قال له: أيأكل ويشرب؟ قال: نعم, قال: أيجامع امرأته؟ فأعرض عنه أحمد , وردد السائل قوله فما أجابه, فأحياناً المفتي قد يعرض عن السائل؛ لأنه يراه متنطعاً, ولأنه يراه في سؤاله متشدداً, وقد حكى ربنا جل جلاله عن بني إسرائيل: أن نبيهم موسى عليه السلام لما قال لهم: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً[البقرة:67], قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ[البقرة:68], ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا[البقرة:69], ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا[البقرة:70], فلما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم, و(أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، وفي الحديث: (وإن الله تعالى كره لكم القيل والقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال).

أما الإنسان الذي يسأل عن شيء قد اشتبه عليه, ويريد أن يعرف المسألة على وجهها فإنه لا يتناوله الذم, ولا حرج عليه في أن يردد السؤال حتى يتبين له الحق, فهذا هو الأدب الأول الذي يلزم المستفتي: ألا يسأل إلا عن ما ينفعه, وما يترتب عليه عمل.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2824 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2651 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2536 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2536 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2509 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2477 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2466 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2445 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2408 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2407 استماع