ديوان الإفتاء [469]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في حلقة جديدة من ديوان الإفتاء، أسأل الله أن ينفعنا بما نقول ونسمع.

في بداية هذه الحلقة أذكر بعضاً من أحكام التعزية؛ لأنه ما من بيت إلا وهو مبتلىً بالموت آجلاً أو عاجلاً، وهذا حكم الله عز وجل على الخلائق أجمعين، كما قال سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

حكم التعزية وبعض أدلة مشروعيتها

إخوتي وأخواتي! التعزية عبادة من العبادات، وإن كان أكثر الناس يمارسونها على أنها عادة من العادات الحميدة التي توارثوها؛ لكنني أقول بأنها عبادة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلها، وحرص عليها، وبشر بما فيها من الأجر والثواب، ففي الحديث الوارد في سنن ابن ماجه قال صلوات ربي وسلامه عليه: ( من عزى أخاً له في مصيبة كساه الله يوم القيامة من حلل الكرامة ).

وهذه التعزية مشروعة كما في حديث قرة المزني رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس جلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من وراء ظهره، فيقعده بين يديه وينظر إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ قال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إن بنيه ذاك قد هلك، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما لي لا أرى فلاناً؟ -يعني سأل عن ذلك الرجل- فقال له الصحابة: يا رسول الله! بنيه ذاك الذي رأيته قد هلك؛ فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ابنه، ثم قال له: أيسرك أن تمتع به عمرك، أم يسرك ألا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته يفتح لك؟ فقال: بل الثانية يا رسول الله! قال: فهي لك؛ فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم ).

وثبت: ( أن امرأة مات لها ولد، فجزعت جزعاً شديداً، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بتقوى الله والصبر، ثم قال لها: بلغني أنك قد جزعت على ولدك جزعاً شديداً!، فقالت: يا رسول الله! وما لي لا أجزع، وأنا امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي ابن سواه، فقال لها صلوات ربي وسلامه عليه: ما من رجل مسلم، أو امرأة مسلمة يموت له ثلاثة من الولد فاحتسبهم إلا أدخله الله الجنة، فقال له عمر رضي الله عنه: واثنان يا رسول الله؟ قال: واثنان).

ألفاظ التعزية

فالتعزية مشروعة، وتكون بكل لفظ تحصل به التسلية، ويحصل به تخفيف المصاب عن أهل الميت، من ذلك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: ( إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب )، قال النووي رحمه الله في الأذكار: وهذا أحسن ما يعزى به.

ومن الألفاظ كذلك: ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عزى أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة رضي الله عنها في زوجها أبي سلمة، قال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اغفر لـأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم افسح له في قبره ونور له فيه)، وحين عزى عبد الله بن جعفر في أبيه، قال: ( اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ).

فليس للتعزية لفظ مخصوص لا يتعدى، وإنما كل ما يتأتى به التسلية، وكل ما يتأتى به أمر أهل الميت بالصبر وتقوى الله عز وجل، ويحصل به الدعاء للميت فهو مشروع إن شاء الله.

وقت التعزية ولمن تكون

ومن الذي يعزى؟

قال أهل العلم: يعزى أهل الميت جميعاً، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونساؤهم، قال الإمام الشافعي : إلا المرأة الشابة فإنه يعزيها محارمها، وتعزية الصلحاء والضعفاء على الصبر آكد، يعني: إذا كان الإنسان رجلاً من أهل الخير والصلاح فتعزيته آكد، وكذلك إذا كان إنسان يضعف عن احتمال المصيبة، ولربما يجزع ويتسخط على قضاء الله وقدره، أيضاً تكون آكد.

وهذه التعزية تكون قبل الدفن وبعده، يعني: مشروعة قبل الدفن، ومشروعة بعد الدفن، لكن استحب كثير من العلماء أن تكون بعد الدفن؛ لأن أهل الميت قبل الدفن مشغولون بتجهيزه، ثم إن وحشتهم بعد الدفن لفراقه أعظم؛ ولذلك لو كانت التعزية بعد الدفن لكان أفضل، إلا أن يكون إنسان قد أصابه جزع فيعزى قبل الدفن، ويؤمر بالصبر وتقوى الله عز وجل.

من فوائد التعزية

وللتعزية فوائد من هذه الفوائد العظيمة:

أولاً: تسلية أهل الميت وتخفيف مصابهم، فإن الإنسان لو فقد أباً، أو أماً، أو ولداً، فإنه ربما يدخل عليه من الوحشة، ويدخل عليه من الجزع شيء، فإذا جاءه الناس وذكروه بتقوى الله عز وجل، وأن المصيبة قد وقعت، وأن الأجر العظيم لمن صبر، وذكروه بقول الله عز وجل: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وذكروه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من امرئ مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها )، هذا يكون فيه خير، وفيه بر.

ثانياً: الدعاء للميت والترحم عليه، ولا بأس بذكر محاسنه التي فيه، مما علم من حاله من غير كذب ولا مبالغة ولا تهويل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر أصحابه الطيبين بما فيهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إن عرش الرحمن قد اهتز لموت سعد بن معاذ )، وكما قال: ( لمنديل من مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، وكما أثنى صلوات ربي وسلامه عليه على فاطمة بنت أسد رضي الله عنها- أم علي رضي الله عنه - قال: ( هي أمي بعد أمي )، وكما أثنى صلوات ربي وسلامه عليه على خديجة أم المؤمنين، فقال: ( والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أمواتاً بخير.

ولما أثنى الصحابة على جنازة ما نهاهم ولا زجرهم؛ بل قال: ( وجبت، وجبت، وجبت قالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ فقال: وجبت له الجنة، أنتم شهداء الله في الأرض )؛ فلا بأس لو علم الإنسان من حال الميت خيراً أن يذكر ذلك لأهله من باب التسلية، ومن باب تهوين المصيبة، يقول لهم: إن أباكم كان صالحاً، إن أباكم كان براً، إن أباكم تشهد له بيوت الله، ويشهد له القرآن، ويشهد له الأخيار ممن كان يصحبهم في مواطن الخير، وغير ذلك من أمور يحصل بها تهوين المصيبة.

ثالثاً: أمر أهل الميت بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، نأمرهم بالصبر والاحتساب، نأمرهم بالرضا بقضاء الله وقدره، نأمرهم باحتساب الأجر عند الله عز وجل، وننهاهم عن الجزع والتسخط، نذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية )، ونذكرهم بقوله صلى الله عليه وسلم: ( أنا بريء من الصالقة، والحالقة، والشاقة )، ونذكرهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت )، ونحو ذلك من منكرات قد تكون في بيوت العزاء، نذكرهم بهذا كله، ونأمرهم بالصبر والاحتساب، وهذا كله من فوائد التعزية.

ما ينبغي استشعاره عند التعزية

إخوتي وأخواتي! إذا عزينا مسلماً في ميت ينبغي أن نستحضر نية صالحة؛ لأننا نريد بذلك وجه الله، ما أعزي فلاناً لأنه عزاني، وأعرض عن فلان لأنه ما عزاني؛ بل أبذل التعزية لكل مسلمٍ، كما كان يفعل خير البشر صلوات ربي وسلامه عليه، وأجتهد في ذلك غاية الاجتهاد مبتغياً وجه الله عز وجل والدار الآخرة، بهذه الخطوات التي نقطعها، وهذه الجهود التي نبذلها. وهي من الأخلاق الطيبة التي جبل عليها المسلمون في هذه البلاد ولا ينبغي أن نفرط فيها، ولا أن نتكاسل عنها، وأذكر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من عزى أخاً له في مصيبة كساه الله يوم القيامة من حلل الكرامة ).

أسأل الله سبحانه أن يجبر كل مسلم في مصابه، وأن يخلف عليه بخير، وأن يرزقه صبراً جميلاً على فقده، والحمد لله في البدء والختام.

إخوتي وأخواتي! التعزية عبادة من العبادات، وإن كان أكثر الناس يمارسونها على أنها عادة من العادات الحميدة التي توارثوها؛ لكنني أقول بأنها عبادة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلها، وحرص عليها، وبشر بما فيها من الأجر والثواب، ففي الحديث الوارد في سنن ابن ماجه قال صلوات ربي وسلامه عليه: ( من عزى أخاً له في مصيبة كساه الله يوم القيامة من حلل الكرامة ).

وهذه التعزية مشروعة كما في حديث قرة المزني رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس جلس إليه نفر من أصحابه، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من وراء ظهره، فيقعده بين يديه وينظر إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ قال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إن بنيه ذاك قد هلك، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما لي لا أرى فلاناً؟ -يعني سأل عن ذلك الرجل- فقال له الصحابة: يا رسول الله! بنيه ذاك الذي رأيته قد هلك؛ فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ابنه، ثم قال له: أيسرك أن تمتع به عمرك، أم يسرك ألا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته يفتح لك؟ فقال: بل الثانية يا رسول الله! قال: فهي لك؛ فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم ).

وثبت: ( أن امرأة مات لها ولد، فجزعت جزعاً شديداً، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بتقوى الله والصبر، ثم قال لها: بلغني أنك قد جزعت على ولدك جزعاً شديداً!، فقالت: يا رسول الله! وما لي لا أجزع، وأنا امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي ابن سواه، فقال لها صلوات ربي وسلامه عليه: ما من رجل مسلم، أو امرأة مسلمة يموت له ثلاثة من الولد فاحتسبهم إلا أدخله الله الجنة، فقال له عمر رضي الله عنه: واثنان يا رسول الله؟ قال: واثنان).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2820 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2648 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2530 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2530 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2503 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2474 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2461 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2442 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2403 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2402 استماع