ديوان الإفتاء [353]


الحلقة مفرغة

بسم الله, والحمد لله, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه, ثم أما بعد:

فمرحباً بكم في حلقة جديدة.

سبب وقوع الإسراء والمعراج

قد تقدم معنا الكلام في أن الإسراء والمعراج كان معجزة حسية, أكرم الله بها سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم, بعدما توفي عمه أبو طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها, وبعدما ضاق عليه الخناق في مكة, وساء أدب أهل الطائف معه, حتى رموه بالحجارة.

فجاءت هذه المعجزة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وتثبيتاً لفؤاده, وبياناً له من ربه جل جلاله أنه معه, يسدده ويؤازره ويناصره؛ مصداقاً لقوله سبحانه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]؛ ومصداقاً لقول ربنا جل جلاله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21], وقوله جل جلاله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].

تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...)

ذكرت معجزة الإسراء في القرآن صراحة, في صدر سورة بني إسرائيل, وذكرت معجزة المعراج ضمناً في صدر سورة النجم.

حول الإسراء يقول ربنا جل جلاله: بسم الله الرحمن الرحيم: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].

افتتحت هذه الآية بالتسبيح, ولا يكون التسبيح إلا من أمر عظيم, يستحق أن يتعجب منه, وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن كلمة (سبحان)؟ فقال: كلمة تنزيه أمرنا الله بها, فإذا سبحنا الله عز وجل فإنما نصفه بكل كمال, وننزهه عن كل نقص.

الَّذِي أَسْرَى[الإسراء:1], أي: سار بنبيه عليه الصلاة والسلام ليلاً, فالإسراء هو: السير بالليل, يقال: أسرى، ويقال: سرى؛ ولذلك قال ربنا جل جلاله لنبيه لوط عليه السلام: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ[هود:81], وفي قراءة: (فاسر بأهلك), من سرى, (فأسر) من أسرى.

بِعَبْدِهِ [الإسراء:1], أي: نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وقد وصفه الله عز وجل بالعبودية في هذا المقام؛ لئلا يختلط مقامه بمقام الألوهية؛ لأن رحلة الإسراء رحلة عجيبة, وفيها آيات كبرى, كما قال ربنا: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18].

فلربما يحمل الغلو بعض الناس على أن يصفوا محمداً صلى الله عليه وسلم بما لا يليق أن يوصف به إلا الإله الأعظم, رب العزة جل جلاله؛ ولذلك ما قال: سبحان الذي أسرى بنبيه, أو سبحان الذي أسرى برسوله, وإنما قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا[الإسراء:1].

(ليلاً) قال أهل التفسير: فائدة التنكير التقليل, يعني: فما استغرقت الرحلة الليل كله, من غروب الشمس إلى طلوع الفجر, وإنما استغرقت جزءاً من الليل.

فإن الملك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما مضى ثلث الليل الأول, ثم أعيد صلوات ربي وسلامه عليه إلى مكة قبل طلوع الفجر, قال أهل العلم: والإسراء كان بالليل؛ لأن الليل مظنة الفيوضات؛ ولذلك نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ[الدخان:3] , إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]. فالوحي كان ليلاً.

ونزول ربنا جل جلاله إلى سماء الدنيا يكون بالليل, والأجر العظيم ادخره الله لمن قام بالليل, إذا سكنت الحركات, وسكتت الأصوات, كونه مظنة لحصول الفيوضات الإلهية, والتجليات الرحمانية؛ ولذلك كانت هذه المعجزة بالليل لا بالنهار.

مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1], وهو الذي في مكة, وسمي المسجد الحرام؛ لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره, فلا ينفر صيده, ولا يعضد شجره, ولا يختلى خلاه, ولا تلتقط لقطته إلا لناشد بها, فكان الإسراء من المسجد الحرام إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى[الإسراء:1], الذي هو في بيت المقدس في إيلياء, وسمي: أقصى؛ لأنه بعيد عن المسجد الحرام.

وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قيل: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة ).

فالإسراء كان من المسجد الحرام -الذي هو القبلة الأعظم- إلى المسجد الأقصى, الذي كان القبلة الأولى, حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بعدما هاجر إلى المدينة, يستقبل بيت المقدس ستة عشر شهراً, أو سبعة عشر شهراً, حتى نزل قول ربنا: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144].

والمسجد الأقصى هو ثالث المساجد المعظمة عندنا معشر المسلمين, وتشد الرحال إليه مع المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة فيما سواه من المساجد, سوى المسجد الحرام والمسجد النبوي.

وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم: أن خير أجناد الأرض جند الشام, وحدد صلى الله عليه وسلم من كانوا في بيت المقدس, وفي أكناف بيت المقدس.

وفي هذه الأيام نجد إخواننا المجاهدين المرابطين في بيت المقدس, الذين يدافعون بصدورهم العارية, وأيديهم الخالية من كل سلاح إلا سلاح الإيمان, يدافعون الطغمة الباقية من اليهود اللئام, الذين يريدون أن يقتحموا المسجد الأقصى مرة بعد مرة, ويدنسوا حرمته, لكن الله عز وجل يصدهم ويدفعهم بعباده المؤمنين, أولئك الذين لا يجدون نصيراً إلا الله عز وجل.

ثم قال: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1], فالله عز وجل أسرى بنبيه صلى الله عليه وسلم ليريه تلك الآيات العظيمة, حيث سيلتقي بالأنبياء والمرسلين, ويرى صلوات ربي وسلامه عليه من آيات ربه الباهرة وقدرته الفائقة ما يزيده إيماناً ويقيناً, حيث ركب صلى الله عليه وسلم البراق, ( وهو فوق الحمار ودون البغل -كما وصفه عليه الصلاة والسلام- يضع حافره حيث ينتهي طرفه ).

ومر صلوات ربي وسلامه عليه بـموسى قائماً يصلي في قبره, وجمع له الأنبياء في بيت المقدس, وصلى بهم إماماً, صلوات ربي وسلامه عليه, ثم رفع إلى السموات العلى بواسطة المعراج, على وزن مفعال, وهي الآلة التي تستعملها الملائكة في الصعود إلى السموات العلى, وما زال صلوات ربي وسلامه عليه ينتقل من سماء إلى سماء, إلى أن رأى الجنة ونعيم أهلها, ورأى النار وشقاء أهلها، وعذابهم فيها, أجارنا الله منها.

ثم لم يزل صلوات ربي وسلامه عليه يرتقي إلى أن بلغ سدرة المنتهى, إلى أن كلمه ربه، وهذه الآيات ما كانت آيات معتادة, بل كانت آيات كبرى, كما قال ربنا: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18].

قال في آخر الآية: إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1], ختمت الآية بهذين الاسمين الحسنين, وهذين الوصفين العظيمين لربنا جل جلاله, فإنه سميع لكل مسموع, لا تختلط عليه الأصوات, ولا تشتبه عليه اللغات, ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, بل يسمع دبيب النملة السوداء, في الصخرة الصماء, في الليلة الظلماء.

وهو جل جلاله بصير بسائر المبصرات, وبصير بكل شيء سبحانه وتعالى, ومطلع عليه, وعالم بحاله: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].

بعض الدروس المستفادة من حادثة الإسراء والمعراج

وهذه المعجزة التي أيد بها نبينا صلى الله عليه وسلم لا بد أن نقول بأن درساً عظيماً يستفاد منها.

إنه لا ينبغي للإنسان العاقل أن ينكر ما عجز عقله عن استيعابه, وما ضاق عطنه عن فهمه.

فإن أبا جهل وأمثاله من الكفار الفجار كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورأوا بأن كلامه عن الإسراء محض افتراء؛ استدلالاً بالمحسوس, فإنهم يضربون أكباد الإبل شهراً, ويرجعون في شهر, فكيف يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذهب ورجع في جزء من الليل؟ وهذه هي حجة أبي جهل وأمثاله من الجهال.

لكننا الآن من نعيش في هذا القرن, وقد رأينا وسائل النقل التي اخترعها الإنسان, والتي تحملك في ساعات معدودة من بلد إلى بلد, ولربما في أقل من الساعة, تحملك من مكان إلى مكان, وما زال العلم والتقنية التي يتوصل إليها الإنسان يوماً بعد يوم, ما زالت تتطور, وتنتقل من حسن إلى أحسن مما ييسر حياة الناس.

إذا كان الناس الذين قال الله لهم: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85], وإذا كان الإنسان الذي وصفه الله عز وجل بالضعف: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28], ووصفه بالجهل والظلم: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72], وبغير ذلك من الصفات, إذا كان الإنسان النسي الجهول مستطيعاً أن يخترع هذه الآلات التي تنقل الإنسان في جزء من الزمان من مكان إلى مكان, فكيف يعجز رب العالمين جل جلاله؟!

فهذه المعجزة إذا كذب بها الأولون فليس للآخرين عذر في تكذيبها؛ لأننا نعتقد أن الله على كل شيء قدير, وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً, وأحصى كل شيء عدداً, وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء, سبحانه وتعالى, إذا كان الإنسان يستطيع أن يفعل ذلك فالله عز وجل قدير عظيم عليم غني, سبحانه وتعالى ولا يعجزه شيء.

كذلك من الدروس التي تستفاد من هذه الرحلة المباركة: أن كل من التمس طريقاً إلى الجنة غير طريق محمد صلى الله عليه وسلم فهو ضال عن سواء السبيل, ولن يصل إلى مبتغاه, فلا بد أن يكون الناس من خلفه, فهؤلاء الأنبياء -وهم أنبل خلق الله وأطيبهم وأتقاهم وأخشاهم وأفضلهم- لما رأوا محمداً صلى الله عليه وسلم قدموه إماماً, مقرين له بالنبوة, معترفين له بالفضل, مذعنين له بالإمامة, صلوات ربي وسلامه عليه, وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -يهودي أو نصراني- ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ).

أسأل الله عز وجل أن يرزقنا إيماناً صادقاً, ويقيناً ليس بعده كفر, ورحمة ننال بها شرف كرامته في الدنيا والآخرة.

قد تقدم معنا الكلام في أن الإسراء والمعراج كان معجزة حسية, أكرم الله بها سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم, بعدما توفي عمه أبو طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها, وبعدما ضاق عليه الخناق في مكة, وساء أدب أهل الطائف معه, حتى رموه بالحجارة.

فجاءت هذه المعجزة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وتثبيتاً لفؤاده, وبياناً له من ربه جل جلاله أنه معه, يسدده ويؤازره ويناصره؛ مصداقاً لقوله سبحانه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]؛ ومصداقاً لقول ربنا جل جلاله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21], وقوله جل جلاله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].