حياة التائبين
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
حياة التائبينتأمل، ثم انظر إلى الفرحة واللذة والسرور التي تجدها في قلبك ونفسك والتي تحصل لك بعد التوبة النصوح.
الله رحيم بعباده يعلم ضعف العباد وعجزهم.
فليس بين من يسرف في المعصية ويتلوث بالذنوب وبين الرحمة الندية والمغفرة الإلهية إلا التوبة والأوبة إلى ربنا سبحانه وتعالى.
فالباب مشرع، ووراء الباب النعيم المقيم والفيء والظل والندى والرخاء.
والله يعلم التوبة الصادقة ويقبلها ويعلم ما أسلف العباد من السيئات فيغفرها.
قال الله تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مَريَم: 59].
جيل أضاع الصلاة وتركوها وجحدوها واستغرقوا في الشهوات، فكان المصير أن توعدهم الله بالعذاب الأليم وهو الغي، وهو واد في جهنم.
ولكنه سبحانه جعل التوبة حاجزًا منيعًا، وحصنًا حصينًا ليلوذ به هؤلاء العصاة، وليحتموا به من السقوط في ذلك الوادي الرهيب، وفتح لهم من خلال هذا الحصن المنيع بابًا إلى الإقامة الدائمة في جنات عدن وذلك متى ما تابوا وعادوا إلى الله، فانظر إلى حياة أولئك التائبين، حيث تتلقاهم نسمات الرحمة واللطف إلى جنات النعيم ومقام كريم.
قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مَريَم: 60].
إنها توبة تثمر الإيمان وصلاح العمل والتزام الهدى..
ثم سعادة الدنيا والآخرة.
فكما أن المعرضين عن الله ورسوله قرناء الشقاء والحسرة هناك خارج الأسوار يتجرعون سموم الذنوب المهلكة في الدنيا والآخرة فكذلك السعادة والطمأنينة والرضى.
والحياة الحقيقية - الحياة الطيبة النافعة - هي حياة من استجاب لله ورسوله في ظل الإسلام والقرآن، حيث الثقة واليقين والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى.
إنه ذلك العبد المبارك الذي أطاع مولاه، واستجاب لربه وأقبل على عبادته ومرضاته، وابتعد عن الذنوب والمعاصي، فهو ينعم برضوان الله وتوفيقه.
وهنا يذوق العبد التائب بركات رحمة الله من:
إقامة المروءة، وصون العرض، وحفظ الجاه، وصيانة المال- الذي جعله الله قوامًا لمصالح الدنيا والآخرة-، وينعمه بمحبة الخلق، وصلاح المعاش، وراحة البدن، وقوة القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفساق والفجار، وقلة الهم والغم والحزن.
بل وعز النفس عن احتمال الذل، وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على أهل العصيان، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب، وتيسير ما تعسر، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدعاء له.
والحلاوة التي يكتسبها وجهه، والمهابة التي تلقى له في قلوب الناس، وانتصارهم له وحميتهم له إذا أوذي أو ظلم، وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقرب الملائكة منه، وبعد شياطين الإنس والجن عنه، وتنافس الناس على خدمته، وخطبتهم لمودته وصحبته، وعدم خوفه من الموت، وصغر الدنيا في قلبه، وكبر الآخرة عنده.
وحرصه على الملك الكبير، والفوز العظيم فيها.
وذوق حلاوة الطاعة، ووجدان حلاوة الإيمان، ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرح الكاتبين له، ودعاءهم له في كل وقت، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحته بتوبته.
فهذه هي آثار التائبين في الدنيا..
فإذا مات تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة وبأنه لا خوف عليه ولا حزن، ثم ينتقل بعدها من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة.
فإذا كان يوم القيامة ، كان الناس في الحر والعرق وهو في ظل العرش ..
فإذا انصرفوا بين يدي الله أُخذ به ذات اليمين مع أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة".
بادر قبل أن تغادر
أخي يا رعاك الباري..
بادر بالتوبة إلى الله قبل تعذر المتاب..
وقبل طيى الصحائف وغلق الباب.
فقد قال المولى عز وجل محذرا عباده من لحظات الحسرة: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزُّمَر: 56].
نعم..
يا حسرتنا ويا حسرة على العباد حين نعصي الله ونحن نأكل من رزقه..
ونعيش فوق أرضه وتحت سمائه..
ونتمتع وننعم بنعمه، ونعرف قوته وقدرته.
ونرى قهره وسطوته..
ونعلم بأن الله يرى..
ونؤمن بأنه سبحانه: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غَافر: 19].
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
أخي الحبيب:
يا من تعصي الله وتجعله أهون الناظرين إليك وهو مطلع عليك..
اعلم بأن الله يعلم ما توسوس به نفسك وما جرحته يداك.
وإذا ما خلوت بريبة في ظلمة
والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها
إن الذي خلق الظلام يراني
فالسر عند الله علانية، ولا تخفى عليه خافية.
قال سبحانه وتعالى: ﴿ أَوَلاَ يعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [البَقَرَة: 77].
ولا تقل الصبا فيه امتهال
وفكر كم صبي قد دفنت
فالذي يسوف في التوبة ويؤخر التزامه بطاعة الله ولا يأتمر بأمر الله فإنه في الحقيقة يفوِّت عليه عمرًا إنتاجيًا ضخمًا ويقصِّر عمره في طاعة الله.
قدم لنفسك توبة مرجوة
قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها
ذخر وغنم للمنيب المحسن
قال الحسن البصري رحمه الله:
"لا يجعل الله عبدًا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه".
وكما أن الإيمان يزيد وينقص، والمستقبل والمصير إما إلى جنة أو نار، فإن العبد إما أن يتقدم بالأعمال الصالحة أو يتأخر بالسيئات.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
"وتوبة الخواص تكون من تضييع الوقت في لغو أو لهو، فإنه يفضي إلى درك النقيصة، ويطفئ نور المراقبة، وأما الحافظ لوقته فهو مترق على درجات الكمال فإذا أضاعه لم يقف موضعه، بل ينزل إلى درجات من النقص.
فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولابد".
قال الله تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ [المدَّثِّر: 37].
فجدير بنا أن نتقرب إلى الله بالعلم النافع والعمل الصالح، والثبات على الحق مع رفقة الخير والصلاح، وسؤال ربنا العون والسداد.
قال سبحانه ﴿ :يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
خذ من شبابك قبل الموت والهرم
وبادر التوب قبل الفوت والندم
واعلم بأنك مجزي ومرتهن
وراقب الله واحذر زلة القدم
ثم الحذر الحذر من طول الأمل..
أو الاغترار بطول البقاء في دار الفناء.
وإن الأجدر بنا، هو النظر في أحوال غيرنا؛ ممن صرعهم الأجل، وأفناهم الموت، ثم الاعتبار بهم وبحالهم، ومن ثم محاسبة النفس، ودفعها وحملها دومًا وأبدًا على التوبة النصوح، والعودة الصادقة إلى الله وإلى صراطه المستقيم.
إلى متى هذا الإعراض عن الله؟! ألم يأن لك أن تصحو من غفلتك؟!.
ألم يأن لهذا القلب القاسي أن يخشع ويلين لله رب العالمين .
قال عز من قائل: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحَديد: 16].
فالبدار..
البدار قبل الندم.
نـداء الختـام.
وختامًا أخي:
أما آن لنا أن نستجيب لنداء الرحمن، ونقلع عن الذنوب والعصيان، لنفوز بالرضى والغفران، وننعم بالرحمة والعتق من النيران، في ظل حياة طيبة كريمة، فيها حياتنا وحياة قلوبنا، قبل فناء العمر، وانقضاء الأجل.
فقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه، داعيًا عباده المؤمنين بنداء الإيمان إلى حياة السعادة والطمأنينة والراحة والاستقرار، وأنها بالاستجابة للحق والإذعان لتوجيهات القرآن: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفَال: 24].
ويقول عمر رضي الله عنه:
"بقية عمر المؤمن ذو قيمة له، يدرك فيه ما فات، ويحي فيه ما أمات، ويبدل الله سيئاته حسنات".
قال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى:
"الذي حَجَبَ الناسَ عن التَّوْبَةِ طُولُ الأَْمَلِ، وعَلاَمَةُ التَّائِبِ إِسْبَالُ الدَّمْعَةِ، وَحُبُّ الخَلْوَةِ، والمُحَاسَبَةُ لِلنَّفْسِ عِنْدَ كُلِّ هَمَّةٍ".
أقبل يا رعاك الله على مولاك وسابق إلى التوبة، وَارْبَأْ بنفسك عن الغفلة والعصيان، فإن العاقبة لأهل الطاعة، والحرمان لأهل المعصية.
أخي..
لا بدَّ من وقفة مع النفس..
ومحاسبتها على ما عملت، ومن ثَمَّ الندم والرجوع إلى الله..
فلا تكن - رعاك الله - أسير دنياك وعبد هواك..
لا تكن موطنًا للخطايا ومستودعًا للرَّزايا..
بل تذكَّرْ ما قدَّمت يداك..
وكن خائفًا من سيدك ومولاك.
فإذا أسأت فأحسن، وإذا أذنبت فاستغفر..
قاوم هواك..
واسْتَعْلِ على نزوات النفس والشيطان ..
وعليك أن تبادر بالتوبة والإحسان في القول والعمل، وأن تقلع عما كنت مُتَلَبِّسًا به من المعاصي، وأن تقوم بما فرَّطْتَ فيه من الواجبات.
ثُمَّ اسأل ربك قبول التوبة، فإن الله يتوب على من تاب.
يَا رَاكِضًا فِي مَيَادِينِ الْهَوَى مَرِحًا
وَرَافِلاً فِي ثِيَابِ الغَيِّ نَشْوَانَا
مَضَى الزَّمَانُ وَوَلَّى العُمْرُ فِي لَعِبٍ
يَكْفِيكَ مَا قَدْ مَضَى قَدْ كَانَ مَا كَانَا