ديوان الإفتاء [324]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

أما بعد: إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة التي أبدؤها بالترحم على أخينا الحبيب، وشيخنا الفاضل الأستاذ أبي جعفر محمد سيد حاج رحمه الله وغفر له، وأعلى منزلته في الجنة، وألحقنا به على خير.

طلب الشيخ أبي جعفر للعلم

إذا كان من كلمة في هذا المقام فإنني أقول بأن هذا الشيخ المبارك رحمه الله قد صحبه توفيق ربه جل جلاله حين اختار هذا الطريق الطيب، طريق طلب العلم الشرعي الشريف، القائم على الدليل من الكتاب والسنة، ثم إن توفيق الله عز وجل صحبه حين رزقه تلك الحافظة الجيدة، والقريحة المتوقدة، فاستظهر النصوص، وأدمن الاطلاع على الكتب، وحفظ من أقوال أهل العلم مما جعله زاداً له.

محبة الناس لأبي جعفر وإقبالهم عليه

إن توفيق الله صحبه حين اختار طريق الدعوة، وبذل نفسه للمسلمين جميعاً، يذكرهم ويعلمهم، ويأمرهم وينهاهم، وهو في هذا كله متحل بدماثة الأخلاق، وكريم الطباع، فكان رحمه الله هاشاً باشاً، يلقى الناس بوجه باسم، ومحياً طيب، فكتب الله له القبول، وأجرى ألسنة الناس بالثناء عليه، فلا تجد من المسلمين شانئاً له، أو مبغضاً، ولا تجد من الطيبين من يذكره بالسوء، بل الناس جميعاً كانوا بفضله مقرين، وبعلمه منتفعين، ولحديثه مستمعين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، والقبول بين الناس ما يتأتى بمال يبذل، ولا بجاه يفرض، وإنما ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض ) ، وهو ما نحسب أن أخانا أبا جعفر رحمه الله قد نال منه شيئاً عظيماً.

جهود الشيخ أبي جعفر في الدعوة إلى الله

إن الشيخ وفقه الله كان يجوب البلاد طولاً وعرضاً، يدعو إلى الله عز وجل على بصيرة، ويذكر المسلمين بما يجب عليهم نحو ربهم، ونحو بعضهم وهو يستند على علم صافٍ من ينبوع الكتاب والسنة، وفهم واضح لأقوال أهل العلم ومآخذهم واستدلالاتهم، ثم هو بعد هذا كله قد رُزق تواضعاً وخفضاً للجناح، وقياماً بالحقوق، وعفة في اللسان، وترتيب للأولويات، إلى غير ذلك من أمور عظيمة.

وفاة الشيخ أبي جعفر

كانت وفاته رحمه الله على حداثة سن، فهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وهي السن التي قبض الله فيها الفقيه العظيم والصحابي الجليل أبا عبد الرحمن معاذ بن جبل الأوسي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، فقد قبض وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( أعلمكم بالحلال والحرام معاذ )، وكذلك الإمام العادل والخليفة الراشد والعبد الصالح عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي رحمه الله ورضي عنه، قبض وهو ابن اثنتين وأربعين سنة، ومثله الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله ورضي عنه، توفي في ذات السن، وهكذا كثير من الطيبين أفضوا إلى ربهم، وانتقلوا من هذه الفانية إلى الباقية في سن مبكرة، لكنهم تركوا آثاراً طيبة، وعلماً غزيراً، وعملاً صالحاً، وهكذا نحسب أن أخانا أبا جعفر رحمة الله عليه كان من هذا الصنف فما كان يهدأ له بال، ولا يقر له قرار، بل في كل يوم هو في بلد وفي إقليم، وفي ولاية، وتجده في المساجد وفي الجامعات وفي المدارس، وتجده في حلقات العلم يدرس الرجال والنساء، وفي خطبة الجمعة كان الناس يسعون إلى مسجده، ويتحلقون حوله، ويستمعون إليه، وقد رزقه الله عز وجل طرافة وخفة في كلامه، فما يمل السامع حديثه، ولا تمج الأسماع منطقه، بل رزقه الله عز وجل في ذلك كله حلاوة وطلاوة مما خلف له إقبالاً وقبولاً عند الناس، ونحسب أن الله عز وجل قد ختم له بالحسنى، إن شاء الله، هذا ظننا، فالشيخ كان في دعوة إلى الله عز وجل في سفر من الأسفار، وقدر الله عز وجل أن يحصل حادث للسيارة التي كان يركبها، وهشمت تلك السيارة، وأصيب الشيخ رحمه الله إصابة بالغة، وقدر الله عز وجل أن تكون منيته في ذلك، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشهداء سوى المعترك: ( الحريق شهيد، والغريق شهيد، والمهدوم شهيد، والمطعون شهيد، والمبطون شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة )، أي: التي تموت في الولادة، وقد قال بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله بأن هذه الميتات الستة التي عينها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاس عليها كل ميتة فيها شدة، فكل ميتة عانى صاحبها شدة، وأصيب في نفسه إصابة بالغة، أو عانى آلاماً مبرحة؛ فإنه يرجى أن يكون الله عز وجل قد كتب له الشهادة.

دلائل حسن خاتمة الشيخ أبي جعفر

إن حسن الخاتمة إن شاء الله ظاهر في أنه كان في سفر طاعة، وفي طريق دعوة، وعهدنا به رحمه الله عز وجل أنه بار بوالديه، وصول لإخوانه، حريص على أن يصلهم في أفراحهم، وفي أتراحهم، وفي ملماتهم، وأن يعمل على التخفيف عنهم، وقد كان حريصاً على قضاء حوائج الناس، والإجابة على أسئلتهم، هذا كله نرجو أن يكون الله عز وجل قد ادخره له في ميزان حسناته.

ثم إن الشيخ رحمه الله بعدما توفي كانت جنازته مشهداً مهيباً، جمع الله فيها الطيبين وأهل الخير، والصالحين، وطلبة العلم، وأهل القرآن، والمحبين للعلم وأهله، فكانوا ألوفاً مؤلفة، صلوا على جنازته، وشيعوه إلى المقبرة، وأجرى الله عز وجل الألسنة بالدعاء له، والترحم عليه، ولم يقدر لي أن أحضر تلك الجنازة، لكنني والحمد لله وفقت للصلاة عليه في قبره بعدما دفن؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا هذه السنة، لما ماتت المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد، سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن قبرها وقال: ( دلوني على قبرها، فصلى عليها بعدما قبرت، وقال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها بصلاتي عليهم ).

فأقول إخوتي وأخواتي بأن الشيخ قد أفضى إلى رب كريم حليم رءوف غفور سبحانه وتعالى، وظننا بأن الشيخ رحمه الله عاش من أجل لا إله إلا الله، ومات على لا إله إلا الله، وقد وعدنا ربنا جل جلاله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن حقنا عليه ( ألا يعذب بالنار من مات لا يشرك بالله شيئاً ).

واجبنا نحو الشيخ أبي جعفر رحمه الله

واجبنا نحو الشيخ رحمه الله أن نكثر من الدعاء له؛ فإنه قد خلف علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، مبثوثاً في أشرطته، وبرامجه، ومحاضراته، وخطب الجمعة التي ألقاها، وهذه القناة المباركة، ومن قبلها إذاعة طيبة المباركة وكان لهما قصب السبق في تسجيل تلك الدروس، وتدوين هذا العلم الذي خلفه الشيخ، والذي نرجو أن يكون صدقة جارية له بعد موته؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن ( ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) ، والشيخ رحمه الله قد خلف هذا العلم النافع، وخلف ذرية طيبة مباركة إن شاء الله مع والدين كريمين، أسأل الله عز وجل أن يجبر كسرهم، وأن يعظم أجرهم، وأن يعوضهم خيراً، وأن يرزقنا وإياهم صبراً جميلاً، وأن يعوض أمة الإسلام في السودان خيراً، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق طلبة العلم إلى السير على هذا الطريق السديد من بذل العلم، ونشره، والدأب في ذلك بالليل والنهار، والحمد لله في البدء والختام، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، وإنا لفراقك يا أبا جعفر لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اغفر لعبدك أبي جعفر ، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره، ونور له فيه، وجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفرانك، واسقه من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارزقه جواره في الجنة، واختم لنا جميعاً بخاتمة السعادة، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إذا كان من كلمة في هذا المقام فإنني أقول بأن هذا الشيخ المبارك رحمه الله قد صحبه توفيق ربه جل جلاله حين اختار هذا الطريق الطيب، طريق طلب العلم الشرعي الشريف، القائم على الدليل من الكتاب والسنة، ثم إن توفيق الله عز وجل صحبه حين رزقه تلك الحافظة الجيدة، والقريحة المتوقدة، فاستظهر النصوص، وأدمن الاطلاع على الكتب، وحفظ من أقوال أهل العلم مما جعله زاداً له.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2820 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2648 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2530 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2530 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2503 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2474 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2461 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2442 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2403 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2402 استماع