خطب ومحاضرات
ديوان الإفتاء [293]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
أما بعد: إخوتي أخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله أن يرزقني وإياكم علماً نافعاً، وشفاء من كل داء.
تقدم معنا الكلام في الحلقة التي سبقت عن أعيان طاهرة ربما يشتبه أمرها على كثير من الناس، فمن ذلك: ميتة الحيوان البحري؛ فكل ما كان من دواب البحر فميتته طاهرة، وتقدم الكلام عن الحشرات وكل ما لا نفس له سائلة، وأنه لا ينجس المشروب أو المطعوم، ومثله الشعر والصوف والوبر وكل ما لا تحل فيه الحياة، والآدمي حياً كان أو ميتاً، وكل ما انفصل من الحي آدمي أو غيره سواء كان عرقاً أو ريقاً أو مخاطاً أو دمعاً؛ فهذا كله طاهر، ومثله اللبن والبيض، ومثله سؤر السباع التي ترد علينا ونرد عليها كما قال عمر بن الخطاب رضي لله عنه، فهذه كلها أعيان طاهرة.
اليسر في دين الإسلام
أيها الإخوة والأخوات! الواجب أن نعلم أن ديننا مبني على اليسر، كما قال ربنا جل جلاله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] ، وكما قال سبحانه في ختام آية الطهارة المفصلة في سورة المائدة: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، وكما قال سبحانه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( بعثت بالحنيفية السمحة )، قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: ديننا مبني على اليسر لا كما كان من قبلنا، فإن أديانهم مبنية على الشدائد والعزائم، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد بُعث بالحنيفية السمحة، ونحن دائماً ندعو الله سبحانه فنقول: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286].
المقدار المعفو عنه من النجاسة
ومن هنا جعل الفقهاء باباً في الفقه يقال له: باب المعفوات، فهناك أشياء عفت عنها الشريعة، فمن ذلك: أنه يعفى عن يسير الدم والقيح والصديد إذا أصاب البدن أو الثوب.
وقد تقدم معنا الكلام في أن الدم المسفوح وما تولد منه من قيح وصديد وسوداء فهذه كلها تُعد من الأعيان النجسة؛ لكن يعفى عن يسيرها، وعلماؤنا المالكية رحمهم الله يقدرون هذا اليسير بما كان دون الدرهم البغلي، أي: ما يوجد من تلك البقعة في ذراع البغل، فأحياناً الإنسان قد يحقن بمادة ما، فيخرج دم من عضوه الذي حُقن، فيصيب الثوب، وقد تكون قطرات يسيرة من الدم، فهذه لا حرج أن يصلي الإنسان بها، ولا تعد نجاسة مؤثرة.
ويعفى كذلك عن أثر القروح والدمامل، فربما الإنسان يكون في ثوبه قروح وبعض الجروح التي تصيب البدن، وكذلك البثور والدمامل التي تصيب الجسد، ولو أن الإنسان لم يعمد إلى تفجيرها أو تقشيرها، وانفجرت بنفسها فأصابت البدن أو الثوب بدم أو قيح أو صديد، فهذا أيضاً معفو عنه.
ويعفى كذلك عن أثر الذباب من النجاسة وغيرها، فربما الذبابة أو الحشرة تقف على شيء من النجاسة كالعذرة ونحوها، ثم تأتي فتقف على ثوب الإنسان أو على عمامته مثلاً، فهذا يعفى عنه لمشقة الاحتراز، كما قيل في المياه بأنه يعفى عما يتساقط فيها من ورق الشجر والتبن والعيدان ونحوها لمشقة الاحتراز، فها هنا يعفى عن أثر الذباب من النجاسة ونحوها لمشقة الاحتراز.
ومثله يعفى عما يصيب الثوب والبدن من المياه التي تكون في الطرقات في فصل الخريف ونحوه، فمعلوم أن هذه المياه غالباً لا تخلو من نجاسة؛ لكنها لو أصابت البدن أو الثوب فإنه يمكن للإنسان أن يدخل فيصلي بلا حرج، وما زال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخوضون في مياه الأمطار، ويصلون ولا يغسلون من ذلك شيئاً.
ومثله أيضاً يعفى عن ثوب مرضعة وزبال وجزار وكناس؛ لأن المرأة المرضعة في الغالب لا تسلم من بول صغيرها أو نجاسته، فلو أنها اجتهدت واحترزت قدر الإمكان وأصاب ثوبها شيء فإنها تصلي ولا حرج، ولو استطاعت أن تجعل لصلاتها ثوباً مخصوصاً فهذا هو الأفضل والأولى؛ لكن لو أنها ما استطاعت ذلك فـ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .
ومثله أيضاً الجزار فإنه لا يخلو غالباً من أن يتطاير على ثوبه بعض الدماء ونحوها.
ومثله أيضاً الطبيب والممرض والمحضر وأمثالهم ممن يشتغلون بمهنة الطبابة؛ فإنهم لا يسلمون من أن يصيب ثيابهم بعض ما يخرج من المريض، لكن هؤلاء جميعاً يعفى عنهم، وقد رأيت بعض من يمتهنون الجزارة يجعل الواحد منهم لنفسه ثوباً أبيض يلبسه حال عمله، ثم إذا أراد أن يصلي خلعه وطرحه، ولا شك أن هذا أولى كذلك في حق الطبيب، لكنه لو لم يستطع فإنه يعفى عنه.
ومثله أثر السلس إن لازم الإنسان ولو مرة في اليوم، فبعض الناس - عافانا الله وإياكم - قد يصاب بسلس البول، فيخرج منه البول لا إرادياً، بغير إرادة منه، فهذا الإنسان حكمه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها، وبعد ذلك لا يضره ما خرج منه، حتى لو أصاب ثوبه.
ومثله أيضاً دم الاستحاضة؛ فبعض النساء قد تصاب بالنزف، فتكون امرأة نزيفاً، فيخرج منها الدم وهو دم فساد وعلة، لا يترتب عليه ترك صلاة ولا صيام ولا غير ذلك من الأحكام التي تترتب على نزول دم الحيض، فدم الاستحاضة معفو عنه، إذا أصاب الثوب فإنه يعفى عنه لمشقة الاحتراز.
الأدلة على ما يعفى عنه من النجاسات
لو أن سائلاً سأل فقال: هذه المعفوات التي ذكرت أنه يعفى عن ثوب مرضعة وزبال وجزار وكناس، ويعفى عما يصيب الثوب من أثر القروح والدمامل، ويعفى كذلك للسلس وللمستحاضة، ويعفى كذلك عن يسير الدم والقيح والصديد، ويعفى كذلك عن أثر الذبابة مما تنقل من نجاسة وغيرها، وكذلك لو أن إنساناً خاض في مياه الأمطار ونحوها مما يكون في الطرقات يعفى عنه، فهذا كله ما الدليل عليه؟
نقول: الدليل ما مضى من الآيات والأحاديث التي قررت أن الدين مبني على اليسر؛ ولذلك قال علماؤنا في القواعد الفقهية المحكمة التي هي أشبه بالقوانين الكلية التي تندرج تحتها فروع كثيرة: المشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، ومثله ما قاله صاحب مراقي السعود:
قد أسس الدين على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر
بمعنى أن الشيء الذي يشق على الإنسان فإنه يجلب اليسر والسعة، فالأمر إذا ضاق اتسع.
الوسوسة بالنجاسة
وهنا رسالة أوجهها لإخواننا وأخواتنا ممن ابتلوا بالوسوسة؛ فأحياناً منهم من إذا أصابت يده بلل، أو جلس على مكان رطب فإنه سرعان ما يسبق إلى ذهنه أن في هذا المكان نجاسة، وأنه لا بد أن يذهب فيغسل ما أصاب بدنه أو أصاب ثوبه، فنقول لهم: يا عباد الله! الأصل في الأشياء الطهارة، وهذا الأصل لا ينتقل عنه إلا بيقين، والواجب علينا أن نحمل حال المسلمين على السلامة؛ لأن بعض الناس لو وقف إلى جوار إنسان في ثوبه بلل؛ فإنه يقول: هذا الإنسان لربما هذا البلل الذي في ثوبه يكون نجاسة؛ فنقول: الأصل الطهارة، والآدمي طاهر مؤمناً كان أو كافراً؛ ولذلك قرأنا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أكل من طعام يهودية، وأنه ( توضأ من مزادة مشركة )، وأنه صلوات ربي وسلامه عليه ما زال يخالط الكفار ويخالطونه، ولم يكن يغسل من ذلك جسداً ولا ثوباً.
وتقدم معنا الكلام في أن الإنسان لو تزوج كتابية يهودية أو نصرانية فإنه لا يسلم من عرقها، ولا يسلم من لعابها، ولا يسلم من ريقها، وهذا كله طاهر، فالله عز وجل لما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] المراد هنا نجاسة الاعتقاد، نجاسة القلب، وليس النجاسة الحسية التي يجب الاحتراز منها.
مقدار الأعيان النجسة
خلاصة القول بأن الأعيان النجسة يسيرة معدودة محدودة، وأما الأصل في الأشياء كلها بأنها طاهرة، وما ينبغي للإنسان أن يستجيب لوساوس الشيطان، ومع ذلك يجب على الإنسان المسلم أن يحرص دائماً على طهارة ثوبه، وعلى طهارة بدنه، وعلى طهارة مكانه، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ، وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:1-4]، وقال لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125] .
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التوابين، وأن يجعلنا من المتطهرين. وأعود لاستقبال أسئلتكم.
أيها الإخوة والأخوات! الواجب أن نعلم أن ديننا مبني على اليسر، كما قال ربنا جل جلاله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] ، وكما قال سبحانه في ختام آية الطهارة المفصلة في سورة المائدة: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، وكما قال سبحانه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( بعثت بالحنيفية السمحة )، قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: ديننا مبني على اليسر لا كما كان من قبلنا، فإن أديانهم مبنية على الشدائد والعزائم، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد بُعث بالحنيفية السمحة، ونحن دائماً ندعو الله سبحانه فنقول: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286].
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
ديوان الإفتاء [485] | 2824 استماع |
ديوان الإفتاء [377] | 2651 استماع |
ديوان الإفتاء [263] | 2536 استماع |
ديوان الإفتاء [277] | 2536 استماع |
ديوان الإفتاء [767] | 2509 استماع |
ديوان الإفتاء [242] | 2477 استماع |
ديوان الإفتاء [519] | 2467 استماع |
ديوان الإفتاء [332] | 2445 استماع |
ديوان الإفتاء [550] | 2408 استماع |
ديوان الإفتاء [303] | 2407 استماع |