خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
واحة القرآن - سورة الكافرون
الحلقة مفرغة
الشيخ محمد الخضيري: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
معنا اليوم سورة نقرؤها كل يوم، بل قد نقرؤها في اليوم أكثر من مرة، وهي سورة ذات موضوع واحد، وهي سورة الكافرون.
نقرؤها في رغيبة الفجر، ونقرؤها أيضاً في سنة الطواف، فهي تقرأ في مواطن متعددة، وهذا يدل على أهميتها وفضلها وعظم منزلتها، وأهمية الأمر الذي جاءت به، إنها سورة الكافرون، قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].
ومعي كما عودناكم في الحلقات الماضية أخي الشيخ الدكتور أبو عمر عبد الحي يوسف ، نتحدث معه في ظلال هذه السورة.
الشيخ عبد الحي يوسف: تأذن لي أن أذكر للناس شيئاً كان يمر بي في الصغر، ولعله يمر بهم الآن.
فقد كانت هذه السورة تغلبني، فكنت أخطئ في ترتيب الآيات، ولا أدري ماذا أصنع، فجلست عند شيخ مصري، فقال: يا بني! أعدد ستاً فلن تخطئ، يعني: من حين تبدأ قراءة السورة فعد بيدك ستاً فلن تخطئ، لكن إذا تركت العدد فإنك مرة تقول: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2]، ومرة وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ [الكافرون:4]، ومرة وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:5]، فتستمر في دوامة، ولا تدري هل انتهيت منها أو لا، وبعض الناس رأيتهم يقولون: نعد لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2] أربعاً، ثم ننتهي، ونعرف أننا أصبنا، وكنت إماماً في مسجد، فكنت إذا أخطأت بها لا أرضى أن يرد أحد علي، بل أبدأ من الأول؛ لأن الناس واحد منهم يقول: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2]، والثاني يقول: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3]. فيزيدون الإمام رهقاً.
وهذا الذي شكوت منه أبا عبد الله لعله وقع فيه بعض الصحابة رضي الله عنهم، في سبب نزول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، ذكروا من الصحابة من صلى بإخوانه فقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد.
الشيخ محمد الخضيري: هذا قلب المعنى تماماً، ونحن نخشى من زيادة الآيات وتكرارها.
الشيخ عبد الحي يوسف: والذي يمكن ذكره في بداية هذه السورة المباركة بأنها إحدى سورتي الإخلاص؛ لأن موضوعهما واحد في توحيد الله جل جلاله، والبراءة من الشرك وأهله، وذكروا في سبب نزولها -والعلم عند الله تعالى- بأن المشركين عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ثمة تبادل ووثاق في العقيدة والملة، فقالوا: يا محمد نعبد إلهك سنةً، وتعبد آلهتنا سنةً، فأنزل الله عز وجل هذه السورة، التي فيها التكرار والذي من معانيه التأكيد، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-5]، ثم الختام الذي يلخص الأمر كله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6].
الشيخ عبد الحي يوسف: وكلمة (الدين) نقول بأنها في القرآن تطلق بمعنى الجزاء، كما في قول الله عز وجل: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وقد فسرت بقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار:17-19]، وهذا أيضاً هو المقصود في قول الله عز وجل: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6].
والمشركون قالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53]، أي: مجازون ومحاسبون، وكما تقول العرب: كما تدين تدان. وكما قال الشاعر:
حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن
واعلم يقيناً أن ملكك زائلواعلم بأن كما تدين تدان
وفي هذه السورة المباركة التي ختمت بهذه الآية المقصود بالدين الملة والمعتقد، هذا هو الدين المراد ذكره في هذه الآية المباركة.
الشيخ عبد الحي يوسف: والسؤال الذي يطرح نفسه: هذه السورة المباركة هي إحدى سور أربع بدأت بهذا الأمر (قل)، والخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما دلالة ذلك؟
الشيخ محمد الخضيري: من يتتبع الآيات في القرآن التي افتتحت بـ (قل) يجد أن كل ما افتتح بـ (قل) له من الميزة والأهمية والفضل والعظمة ما يستدعي أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بـ (قل)، فكلما جاءت أخي القارئ كلمة (قل) في آية أو في جواب يؤمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو للدلالة على أهمية هذا القول الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم به، ولا أدل على ذلك من هذه السور الأربع، ( فسورة (قل يا أيها الكافرون) تعدل ربع القرآن ) كما ورد في بعض الأحاديث، و( (سورة قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن )، والمعوذتان قال فيها صلى الله عليه وسلم: ( نزل علي سورتان لم يتعوذ متعوذ بمثلهما قط )، فهي أفضل ما يتعوذ به الإنسان من جميع ما يستعاذ منه، وهذا يؤكد هذا المعنى.
الشيخ عبد الحي يوسف: وكذلك قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ [الجن:1]، أو غيرها من السور، نعم.
الشيخ محمد الخضيري: وأيضاً فيها دلالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبد يؤمر وينهى عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله يأمره في كتابه ويقول: قل.
وفيها دلالة على أن القرآن ليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كلام الله، ورسول الله يؤمر بأن يبلغ، وأن يؤدي الرسالة كما بلغ، اللهم صل وسلم عليه.
الشيخ محمد الخضيري: وهنا سؤال لعل بعضهم عندما يتأمل في السورة يبدو له هذا السؤال: قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-3]، هل هذا حكم على هؤلاء الكافرين بأنهم لن يدخلوا في الإسلام؟
أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إنه حكم عليهم بهذا إذا بقوا على الكفر؛ لأنه ما قال: قل: يا أيها الناس! (لا أعبد ما تعبدون)، (ولا أنتم عابدون ما أعبد).
ومعنى قوله: يا من اتصفتم بهذا الوصف الشنيع وهو الكفر، ما دمتم على كفركم فلن يقبل منكم عبادة لله؛ لأن العبادة لا تكون عبادة لله حتى يؤمن صاحبها بأنه لا يوجد أحد يعبد إلا الله سبحانه وتعالى.
الشيخ عبد الحي يوسف: قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].
الشيخ محمد الخضيري: فلا يقبل منهم عمل؛ لأن الله عز وجل أغنى الشركاء عن الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )، تصور إذا عمل عملاً لله، ومع ذلك أدخل الشرك في ثناياه لم يقبل، فكيف بمن يعتقد أن هذا الصنم يحيي أو يرزق أو له حق في الإلهية أو أنه واسطة بينه وبين الله.
الشيخ عبد الحي يوسف: ونلاحظ بأن النداء بوصف الكفر (يا أيها الذين كفروا) ما حصل في القرآن إلا مرةً واحدة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم:7].
بينما (يا أيها الذين آمنوا) تكرر مراراً، و(يا أيها الإنسان) تكرر، و(يا أيها الناس)، و(يا بني آدم)، و(يا عبادي)، كلها تكررت، لكن هذا الوصف القبيح الشنيع الذي يذكره الله عز وجل ها هنا في معرض إظهار البراءة كأن الله يقول لنا جميعاً: بأن هذا الحكم القاطع في البراءة من هؤلاء الناس؛ لأنهم اتصفوا بأقبح الأوصاف، ووصف الكفر الذي فيه معنى الجحود، وفيه معنى التغطية والستر، وفيه معنى التبديل والتغيير، وهذا كله قد وقع فيه المشركون؛ لذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في واحد من أحاديثه ما أعده الله من العذاب لمن غير وبدل، فقال: ( رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه كان أول من سيب السوائب، وبدل دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام )، ولذلك ربنا جل جلاله يبدأ بهذا النداء الذي يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر به: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1].
الشيخ عبد الحي يوسف: ثم ما المقصود بـ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:2]؟
الشيخ محمد الخضيري: أي: ليس هناك التقاء بيني وبينكم، فأنا لا يمكن في حال من الأحوال أن أعبد معبوداتكم؛ لأن هذا يتعارض جملةً وتفصيلاً مع أصل الدين الذي بعثت به، وهو التوحيد الخالص لله رب العالمين، وأنتم لا يمكن أن تعبدوا إلهي ما دمتم مقرين لهذه الأصنام بأن لها حقاً في الألوهية.
ثم يعاد الخطاب مرةً ثانية وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:4-5].
طبعاً مثلما تفضلتم فضيلة الشيخ في أول الحديث، حيث قلتم: إن هذا التكرار لتأكيد الأمر، ولأجل أن يفهم المسلم أنه لا يوجد نقطة التقاء بين الشرك والتوحيد، وأنه لا يوجد علاقة بين هذا وهذا، بل كل منهما متجه في اتجاه، وهما دائماً متضادان متوازيان لا يلتقيان.
الشيخ محمد الخضيري: يأتي السؤال هنا: ما الفرق بين الآيتين الأوليين والآيتين الأخريين؟
شيخ الإسلام ابن تيمية وكثير من المفسرين تكلموا في هذا، وجملة الكلام أنها للتأكيد بلا شك، لكن كيف جاء هذا التأكيد؟
شيخ الإسلام قال: الأولى للحاضر والمستقبل، فلا أعبد الآن ولا فيما يستقبل للزمان ما تعبدونه أنتم، ولا أنتم عابدون ما أعبده، فلن يقع ذلك ما دمتم على هذا الكفر.
ولا أنا عابد فيما مضى، يعني: لم يحصل مني ذلك فيما مضى من الزمان، ولم يحصل منكم أنتم فيما مضى من الزمان، فتلك عبادة لا يعتد بها.
ومن المفسرين من قلب الأمر، فجعل الأوليين في الماضي، وجعل الأخريين في المستقبل، وشيخ الإسلام أفاض في التفصيل في بيان أن الأوليين في الحاضر والمستقبل، وبين أن ذلك هو المناسب لصيغة اسم الفاعل، وغيره من المفسرين يرون خلاف ذلك، لكن في النهاية هو تأكيد بأنه لا التقاء بين الشرك والتوحيد.
الشيخ عبد الحي يوسف: وهذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد عليه مراراً حين نهى عن الحلف بغير الله خاصةً، وعن الحلف بتلك الأصنام، فقال عليه الصلاة والسلام: ( من قال: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لأخيه: تعال أقامرك فليتصدق )، وكذلك لما سمع من يحلف بأبيه قال: ( إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم )، رغم أن هذا قد يجري على اللسان من غير اعتقاد، لكن من باب إظهار البراءة من تلك التي تعبد من دون الله، وأيضاً لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة أول ما توجه إليه اهتمامه أنه عمد إلى تلك الأصنام التي كانت منصوبةً عند الكعبة، وهو يتلو قول الله عز وجل: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81]، يقول أهل السير: فما أشار صلى الله عليه وسلم بقضيب في يده إلى صنم في وجهه إلا خر على قفاه، ولا أشار لصنم في قفاه إلا خر على وجهه، ثم عمد عليه الصلاة والسلام إلى إرسال أصحابه لهدم ما كان بعيداً، ولما جاءت ثقيف وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمهلهم سنةً في هدم صنمهم أبى عليه الصلاة والسلام، وأرسل معهم رجلاً منهم، وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه؛ ليهدم ذلك الصنم.
ثم ختم عز وجل هذه السورة المباركة بقوله: (لكم) أيها الكافرون (دينكم ولي دين)، قالوا: لا مانع من أن يسمى المعتقد الباطل ديناً، لأن بعض الناس الآن ينكر، فلو سمع إنساناً يقول: الأديان لأنكر عليه، فنقول: الله عز وجل سماها ديناً، وقال: وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً [الروم:31-32]، فسماه الله عز وجل ديناً رغم أنه دين شركي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان هديه البراءة من الشرك، وليس أن الإنسان يعمد إلى القتل، أو يعمد إلى التخريب بغير بينة، بل هناك أحكام مفصلة، فهناك المشرك الحربي، وهناك المعاهد، وهناك المستأمن، وهناك الذمي، ولكل من هؤلاء أحكام تخصه.
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يرزقنا الثبات واليقين، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى جميع المرسلين.